المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17607 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

المفاهيم الدينية
24-5-2017
التلوث من التسرب البترولي من الآبار البحرية
5-4-2016
ماهية واجبات الدولة
29-3-2017
دعاية مضادة
4-7-2019
الجغرافية التطبيقية العالمية والتعليمية بالمغرب وتهميش دور الجغرافيين
22-11-2017
إستصحاب عدم النسخ
8-9-2016


نوح شيخ الأنبياء  
  
3025   05:32 صباحاً   التاريخ: 30-4-2021
المؤلف : الشيخ جعفر السبحاني .
الكتاب أو المصدر : القصص القرآنية دراسة ومعطيات وأهداف
الجزء والصفحة : ج1 ، ص 97-135 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي نوح وقومه /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014 1429
التاريخ: 18-11-2014 1564
التاريخ: 10-10-2014 7316
التاريخ: 18-11-2014 1727

ذكر الله سبحانه اسم نوح في ثما نية وعشرين سورة ضمن ٤٣ آية شريفة (1) ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه من الأنبياء الكبار الذين كان لهم دور في الدعوة إلى التوحيد ومكافحة الوثنية ، كما أنه يعتبر الأب الثاني للمجتمع الإنسان في الحالي .

ويمكن تلخيص ما ذكر عن حياته في القرآن الكريم في محاور سبعة :

١. فضائله ومناقبه وسماته .

٢. إطلاق التهم وإثارة الشبهات حوله وحول أتباعه .

٣. رده (عليه السلام) على التهم و الاعتراضات ، ودحضه للشبهات .

٤. ثباته في طريق الدعوة ، وتمادي قومه في الظلم .

٥. دعاؤه على قومه ، واستئصالهم بالطوفان .

٦. حقيقة سؤاله عن ابنه .

٧. نكات وعبر .

وإليك دراسة هذه ا لمحاور واحداً بعد ا لآخر .

 

فضائل نوح ومناقبه وسماته

 

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 33] ، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى : 13] .

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء : 3] .

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات : 81] .

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات : 78] .

{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات : 79]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت : 14]

أضفى الله سبحانه على نوح (عليه السلام) - فيما تقدم من الآيات - أجمل الصفات وأسناها ، والتي ترفعه إلى أسمى المقامات وأبهاها ، إذ اصطفاه تعالى على العالمين ، وجعله من أولي العزم الذين حباهم بالشرائع (وشريعته (عليه السلام) : هي أولى الشرائع الإلهية) ، ونعته بالعبد الشكور ، والمؤمن المخلص في عبوديته لله تعالى ، وأبقى له ذكراً طيباً وثناء زاكياً بين الأجيال ، وخصّه بسلام تام تردّده الأمم على مرّ العصور .

ومن خصائصه (عليه السلام) لبثه في قومه ألف سنة إلا خسين عاما ، كما يعتبر (عليه السلام) الأب الثاني للمجتمع البشري .

 

التهم والشبهات المثارة حوله وحول أتباعه

 

لم يزل المصلحون وما زالوا في قفص الاتهام ، وعلى رأسهم الأنبياء العظام . فقد رمي كل نبي في عصره بتهم كاذبة تشهد حياة الأنبياء بكذبها وتفاهتها ، والتهمة بلا ريب سلاح الجاهل الذي يقعد به العجز عن مواجهة دعوة النبي وحججه الدامغة فيلجأ إلى إثارة التهم حتى يسقطه من أعين الناس . وكان هذا الخط حاكما طول التاريخ بين الجهلة والأنبياء . وقد ذكر القرآن الكريم شيئاً من التهم والاعتراضات التي وجهوها إلى ذلك النبي الكريم (عليه السلام) ، وإليك الآيات :

{فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر : 9] .

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون : 24 ، 25] .

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف : 60]

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود : 27] .

{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء : 111]

{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء : 116]

وهكذا تساق التهم جُزافاً :

١. الجنون

والتهمة بالجنون تهمة جاهزة يلصقها الطغاة والجاهلون بالأنبياء والمصلحين ولم يسلم منها حتى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) لأن النبي أو المصلح بمخالفته للرأي العام كمن يريد أن يسبح خلاف التيار ، ويلقي بنفسه في المهالك ، وهذا في تصورهم هو الجنون بعينه ، ولم يدر هؤلاء ان صاحب الأهداف السامية يمضي بعزم صارم ويقين ، ولا يستوحش في طريقه لقلة ناصريه .

٢. التفوّق والتفضّل

{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون : 24] وهذا اتهام آخر له (عليه السلام) : إنه يُضمر حبّ الرئاسة ، والاستئثار بغنائم الحياة . إنه - في زعمهم - يتخذ من دعوته غطاء لتحقيق مآربه الشخصية !!

٣. الضلالة

كان قوم نوح غارقين في الوثنية ومع ذلك يتهمون نوحاً بالضلال لدعوته إياهم إلى توحيد الله وإنقاذهم من الأوثان . وهذا هو دأب الجاهل الذي يصف الحكيم الضلال ونفسه بالهداية ، مجسداً المثل القائل : (رمتني بدائها وانسلّت) .

أما الاعتراضات الناجمة عن الأنانية والجهل بمبادئ الحق والحقيقة ، فإليك بيانها :

١. اجتماع الأراذل حولك

كان ملاك الفضل والحق والصواب عند قوم نوح (عليه السلام) : هو الثراء والجاه والقوة ، ومن هنا نفروا من دعوته (عليه السلام) ، لالتفاف الضعفاء والمحرومين حوله ، لأن أصحاب الثروة والمقدرة - حسب زعمهم الفاسد - هم أولى الناس باتباع الداعي لوكان محقا !! اما هؤلاء الأراذل والأخساء - في نظرهم - فقد أسرعوا إلى اتباعه من دون تفكر ولا تدبر (بادي الرأي) . وهل يعقل ونحن الأسياد والوجهاء - كما يتخيلون - أن نقف على قدم المساواة معهم ، وننضوي جميعاً تحت لواء دعوة واحدة ؟!

وهذا المنطق البائس - للأسف الشديد - لا يزال قائما في أكثر المجتمعات ، ويتحكم في مفاصل حياتها .

٢. ما أنت إلاّ بشر

غريب أمر هؤلاء الطغاة ، يخلقون من أهوائهم وتصوراتهم المريضة مقاييس ونظريات ، ثم يعجبون من جريان الأمور على خلاف مقاييسهم ونظرياتهما !

والقول بأنّ النبي ينبغي أن لا يكون من البشر ، يأتي في إطار هذا التحكم الناع من نزعتهم الاستعلائية .

٣. التهديد

العادة الجارية بين الأمم هو الايام أولاً والاعتراض ثانياً فإذا لم يتفع بالأمرين ، استعمل سلاح التهديد بالقتل والرجم : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء : 116] .

وهذه التهم والشبهات والاعتراضات لم تؤثر في عزيمة نوح ودعوته إلى التوحيد والهدى ، بل واصل العمل في تأدية رسالته دون كلل أو ملل ، ولم يألُ جهداً في رد تلك التهم والاعتراضات ويزيفها بأسلوب قائم على الحجج والبراهين ، ومفعم بروح الإيمان والحرص على هداية قومه وهذا هو المحور الثالث ، الذي نشرع الآن في بحثه .

 

رده على التهم والاعتراضات ، ودحضه للشبهات

 

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود : 31] .

{يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 61] .

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 62] .

{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود : 29] .

{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء : 114 ، 115] .

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف : 63] .

قد تعرفت على التهم الموجهة إلى نبي الله نوح (عليه السلام) والاعتراضات التي واجهها . وكان (عليه السلام) كسائر الأنبياء- يقابل ما أثير حوله بقوة المنطق والبرهان الواضح وبدفق العاطفة الصادقة عسى أن يفلح في التقليل من عنادهم وعدائهم وبالتالي فتح قلوبهم لتقبل دعوة التوحيد .

لم يشأ أن يردّ على اتهامه بالجنون (ولا كلُّ قوّالٍ لديّ يُجابُ) (2) ، فحياته (عليه السلام) بين ظهرانيهم أدلّ دليل على كمال عقله وسعة حلمه وحسن تصرّفه .

وأما الرغبة في التفوق فقد رد عليه السلام هذا الاتهام بقوله : {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود : 29] . فمن يرغب في التفوق ، يطمع بماً في أيدي الناس من الأموال ويسعى للاستحواذ عليها ، وأنى لهم أن يتهموه بذلك ، ولم يسألهم أجراً على إنذارهم وتبليغهم ؟

كما نفى (عليه السلام) : تهمة الضلالة عن نفسه بقوله : {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 61 ، 62] .

فهل يضلّ من اهتدى بهدي الله واتبع صراطه المستقيم واختاره الله لتبليغ رسالاته ؟ وهل يضل من حمّله ربُّ العالمين مسؤولية النصح لأمته وإنذارهم وتبشيرهم بما يعلمه من وحدانية الله وسننه وأحكامه ؟

ومعنى ذلك أن جهلكم برسالات ربكم صار سبباً لوصفي بالضلالة مع أني على الصراط المستقيم .

هذه هي ردوده عليه السلام ما أُكيل له من التهم . وهلم معي ندرس كيف واجه اعتراضات قومه .

 

ردوده على اعتراضات قومه

١. لقد أنكروا عليه التفات الفقراء والمستضعفين حوله ، ودعوه إلى إبعاد هؤلاء الأراذل - حسب تعبيرهم - الذين انقادوا له دون بصيرة وتدبّر .

إنّ هؤلاء المترفين الطغاة لم يستأثروا بالأموال ومتع الحياة فحسب ، بل جعلوا من أنفسهم أوصياء على الآخرين حتى في مجال التفكير والإيمان والاعتقاد! فحجروا عليهم هذا الحق ، وراحوا يهدرون إنسانيتهم بازدرائهم واستصغارهم .

لم يرفض نوح (عليه السلام) فقط دعوتهم الظالمة بإبعاد المستضعفين ، بل أسبغ عليهم حلل الكرامة الإلهية بوصفهم بالمؤمنين {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 114] ، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود : 29] ، وأخذ يكرس واقعاً اجتماعياً جديداً بعيداً عن الإيحاءات السلبية للغنى والترف {أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} . أجل حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، منحق له وحده يوم يلقونه {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حقيقة ذلك ، {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء : 115] هذه هي مسؤوليتي الملقاة على عاتقي ، ولم أكلف بمحاسبة الناس ومجازاتهم .

٢. أنكروا أيضا ان يكون (عليه السلام) بشراً مثلهم فردّ عليهم بقوله : {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف : 63] .

فقوله : {عَلَى رَجُلٍ} إشارة إلى ضرورة كون الرسول من جنس لمرسل ليهم وإلا لامتنع لتفاهم ينهما .

 

وقفة تأمل مهمة

إن التهم والاعتراضات التي أثارها قوم نوح في وجه نبيهم (عليه السلام) صدرت أيضاً من سائر الأمم تجاه انبيائهم ، ومنهم سيدهم وسيد الخلق أجمعين النبي الخاتم ، فقد كذبه قومه : {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر : 6] .

وكأن الأمم تواصت بهذه الأقوال الزائفة : {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات : 52 ، 53] .

كما أن طغاة قريش طالبوا النبي الأكرم بتنحية أصحابه المستضعفين ، أسوة بقوم نوح (عليه السلام) ، فقال سبحانه مخاطباً نبيه : {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام : 52-53] .

ولا نطيل الكلام حول التهم المتشابهة والتي وجهت إلى سائر الأنبياء (عليهم السلام) وجميعها يشير - بعد التأمل - إلى أمر مهم وهو ان النبي - كل نبي - قد بلغ من الطهارة والقداسة حداً لم يتمكن فيه أعداؤه من اتهامه بمساوئ الأخلاق ورذائل الأعمال ، ولكن عنادهم دفعهم إلى القول بأنه مجنون ، أو ساحر ، أو كاهن ، أو شاعر ، وغير ذلك من الأوصاف التي لا تمس قداسة النبي التي تفوح من سيرته العطرة . ومع ذلك فإن نفس هذه التهم تنفع العالم الاجتماعي الذي يسعى لدراسة حياة الأنبياء ومعرفة سلوكهم في مجتمعاتهم ، وهي خير وسيلة للوصول إلى قداستهم .

 

ثباته في طريق الدعوة ، وتمادي قومه في الظلم

 

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح : 5] .

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود : 32] .

{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح : 10 - 12] .

{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح : 13 - 16] .

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح : 17 ، 18] .

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح : 7] .

هذا الفصل من حياة النبي نوح (عليه السلام) يشتمل على أمور ثلاثة :

١. ثباته في طريق دعوته إلى التوحيد .

٢. أسلوبه في إرشاد قومه .

٣. عنادهم ولجاجهم أمام دعوته .

وإليك التفصيل .

١. ثباته في طريق دعوته

إن صبر نوح (عليه السلام) ؛ واستقامته وثباته في طريق دعوته ، لما يضرب به المثل ، إذ مكث في قومه تسعمائة وخسين عاما ، قضاها في طريق التبليغ والإرشاد من غير سأم ولا كلل رغم قلة المؤمنين به وإعراض جل قومه عنه .

وليس دأبه على التبليغ والنصح لقومه ليلاً ونهاراً وعدم الاستسلام لعنادهم وعتوهم إلا دليلاً على ثباته وعزمه على تحقيق رسالته ، وبلوغ أمنيته في هدا يتهم وإرشادهم إلى الحياة الكريمة .

ولم يزل لجلا يدعوهم ويحاورهم ويحاججهم بأبلغ حجة وأجمل بيان حتى ضاقت صدورهم به لبطلان كل حججهم وشبهاتهم ، وسقوط جميع تهمهم ، فضجوا قائلين : {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود : 32] معبّرين بذلك عن إصرارهم على التمسك بعقائدهم الباطلة وأفكارهم المنحرفة .

إن الاستقامة في طريق الدعوة هي شيمة الأنبياء ، ولهم في هذا المضمار مراتب وقد كان نوح في مرتبة متقدمة منه .

٢. أسلوبه في الدعوة

يظهر من الآيات أن النبي نوحاً كان يتبع أسلوباً ذا اتجاهين :

أ. الترغيب بالنعم الدنيوية غبّ الإيمان .

إن حبّ المال والأولاد أمر فطري جعله الله سبحانه في خلقة الإنسان ، ولولا ذلك لما ربى بشر ولداً ولا حملت أم طفلاً ، وهكذا الأموال . وقد نبه النبي نوح إلى أن للإيمان بالله وطلب الغفران أثراً واضحاً في الدنيا . وفي مظاهر الحياة . فخاطب قومه بقوله : { .. فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} .

ويريد (عليه السلام) بهذا الخطاب توجيه نظرهم إلى أن للإيمان بالله أثراً واضحاً في رغادة العيش التي من مظاهرها الأموال والأولاد والجنات والأنهار ، وهي نتائج الإيمان بالله وطلب الغفران مما مضى من عبادة الأوثان .

إنه (عليه السلام) : يكشف بذلك عن وجود الصلة بين الإيمان بالله وسر إفاضة النعم على الإنسان المؤمن ، فإذا كان الإيمان سبباً لنزول النعم يكون الكفر سبباً لفقدانها وصيرورة العيش ضنكا .

وهذه الحقيقة الغيبية التي نبه عليها نوح في دعوته يؤيدها القرآن الكريم كما تؤيدها التجربة كذلك .

قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف : 96] ، فقد صرح سبحانه بأن التقوى سبب لهبوط البركات من السماء ونبوعها من الأرض . بل القرآن يصرح بأنّ العمل بالتوراة والإنجيل الواقعيين سبب لذلك أيضاً : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة : 66] .

فالعمل بالكتب السماوية غير المحرفة ، يكون موجباً لكسب رضا الله تبارك وتعالى الذي يتبعه نزول البركات .

ويشير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه إلى هذه الحقيقة فيقول : وقد جعل الله الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق . (٣)

وأما التجارب فتشهد بأن العصيان ونقض القوانين وهدر الحقوق يورث الفوضى في المجتمع ويصبح اللانظام حاكماً عليه . وفي مثل هذا المجتمع يسود القتل والبغي والسرقة وغيرها من الآثام التي هي من تداعيات فساده وتفككه .

ورب سائل يسأل : إن المجتمعات الغربية غارقة في العصيان والفساد الأخلاقي ، فكيف تتمتع بالازدهار والرخاء والإنتاج الوفير ؟

والجواب أن ثمة أسبابا طبيعية للحصول على خيرات الأرض ونعمها وثرواتها ، تتمثل في التخطيط والتنظيم والعمل الجاد في البناء والإعمار و الاستثمار . وبمقدار ما يأخذ المجتمع - أي مجتمع آمن أم لم يؤمن - بهذه الأسباب ، يتحدد مقدار ما يحوزه من ثروات وما يبلغه من رقي وازدهار ، والمجتمعات الغربية -كما هو واضح - قد حرصت على الأخذ بها ، فبلغت ما بلغت ، والفارق أن المجتمع الآخذ بتلك الوسائل إذا كان مؤمنا ، فإن الله تعالى سينمي خيراته أكثر ، ويفيض عليه المزيد من نعمه وآلائه ، ويفتح عليه بركات السماء والأرض .

ثم إن المجتمع المؤمن إذا راعى تلك الأسباب ، فإنه ينعم بسعادة الدنيا والآخرة ، بينما يحظى المجتمع غير المؤمن بلذات الدنيا فقط . (4)

 

إلفات نظر القوم إلى نظام لخلق

 

سعى نوح (عليه السلام) الى توجيه أنظارهم إلى ما أنعم الله سبحانه عليهم من النظام الذي خلق لسعادة الإنسان وبه تناط حياتهم فقال : {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح : 13 - 16] .

إن هذا الخلق المحكم المتقن يدل على خالق حكيم قدير ، فكيف تتوجهون إلى غيره بالعبادة والطاعة ؟

وما نُلفت إليه نظر القارئ ان الآية الكريمة وصفت الشمس بالسراج والقمر بالنور ، وما هذا إلا لأن القمر غارق في الظلمة مستنير بالشمس ، بينما تجد الشمس متوهجة بالنور ، فهي منيرة بذاتها وما سواها مستنير بها ، ولذا وصفت الشمس بالسراج الذي ينير بذاته ولا يقتبس النور من غيره .

ب. التنبيه على الحياة الأخروية

كان (عليه السلام) يوجه عقولهم إلى أن الحياة الدنيوية مقدمة للحياة الأخروية ، فليس الموت نهاية الحياة ، فعليهم أن يتزودوا للحياة الأخروية التي لا محيص للإنسان عنها وإلى ذلك يشير بقوله : {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح : 17 ، 18] .

إلى غير ذلك من الطرق التي سلكها نوح (عليه السلام) في دعوته لتليين قلوبهم وإلفات نظرهم إلى دلائل التوحيد .

٣. عنادهم ولجاجهم قبال دعوته

ذكر لله سبحانه من عناد قوم نوح وتمردهم على الحق ما يثير العجب العجاب ، فلقد دعاهم (عليه السلام) إلى ما فيه سعادتهم ومنجاتهم ، وهتف بهم بفنون الأساليب النابضة بالعطف والمحبة ، والساطعة بالبرهان والحجة ، وحذرهم وأنذرهم ، فلم يزدادوا إلا إصراراً على الظلم والعصيان ، وانقياداً إلى الأهواء والشيطان ، وكأنه (عليه السلام) كان يضرب في حديد بارد .

وقد بلغ الرّين على قلوبهم بما كسبوا ، أن راحوا يتمادون في الإعراض عن سماع الحكم البوالغ ، وعن رؤية الصادع المُبلِّغ ، حتى خاطب (عليه السلام) ربّه السميع البصير ، قائلاً : {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح : 7] .

ولم يكتف الطغاة المترفون بمناهضة دعوة نوح (عليه السلام) ، بل كانوا يصدون الناس عن اتباعها ، ويحرضونهم على التمسك بمعتقداتهم وعبادة أصنامهم ، للإبقاء على الأوضاع كما هي ، خوفا من رياح التغيير التي تأتي على نفوذهم ومصالحهم غير المشروعة : {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح : 23] .

أليس من حق الله سبحانه أن يصف هؤلاء المعاندين بالصفات التالية :

١. {كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف : 64] .

٢. {كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات : 46] .

٣. {كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم : 52] .

وأن يغرق هؤلاء الكفرة الفجرة الذين عموا عن رؤية الحقائق ، وتولوا عن طاعة الله ، واستكبروا استكباراً .

هذه نماذج من الآيات التي وردت حول هذا الموضوع ، ويمكن للقارئ الكريم أن يطالع ما لم نذكره في المقام مماً له صلة به .

دعاؤه على قومه ، واستئصالهم بالطوفان

 

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود 36-44] .

 

ان النبي نوحاً (عليه السلام) قد بذل جهده وافنى طاقاته في سبيل هداية قومه ولكنهم تولوا عنه ، إلى حد يئس فيه النبي المجاهد من هدايتهم ، وعند ذلك وافاه الوحي الإلهي بالخطاب بالتالي : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [هود : 36] ، فصار ذلك سبباً لتوجهه إلى الله تعالى والدعاء عليهم بقوله : {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح : 26 ، 27] .

 

صنع الفُلك (السفينة) وسخرية قومه

 

لقد اقتضت إرادة الله سبحانه بإبادة الكافرين وإهلاكهم وتطهير الأرض منهم ، وبإنقاذ المؤمنين من الهلاك ، ولما كانوا جميعاً يعيشون في منطقة واحدة فقد اقتضى ذلك توجيه الأمر إلى نوح بأن يصنع الفلك ، ليحفظ به حياة المؤمنين .

بدأ نوح بعمله في البر بعيداً عن الماء ، ولم يكن ذلك مناسباً لصنع الفلك ، الذي ينبغي أن يصنع قرب الشواطئ ليسهل إلقاؤه في الماء ، ومن هنا أخذ قومه يهزأون به ويسخرون منه (وكانوا يقولون يتخذ سفينة في البر) (5) ، وهذا يدل على أن طبائعهم قد جبلت على العناد والجحود والسخرية .

قال الشاعر :

فلا تبتئس من نقد من ليس حظه من الدهر ، إلا أن يرى وهو ساخر (6)

إن الفلك الذي يحمل المؤمنين ، ومن كل جنس من أجناس الحيوانات زوجين اثنين ، والطعام الذي يحتاج إليه الركاب طول فترة الطوفان ، إن هذا الفلك لابد أن يكون عظيماً قوياً يقاوم الأمواج العاتية ، وأن يكون صنعه بتعليم من الله سبحان ه و تسديده ، لأن نوحاً وقومه لم يروا سفينة من قبل ، ولم يعرفوا كيفية صنعها .

هذا وقد اختلفت كلمات المؤرخين في خصوصيات هذا الفلك ، ومهما اختلفوا في عرضه وطوله وسعته فالآيات التي تشير إلى أنه حمل فيه كل ذلك ، تدل على سعته وكبره . روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال : إن طولها كان ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ثمانمائة ذراع وطولها في السماء ثمانون ذراعاً . (7) ونقل ابن كثير أقوال الباقين في خصوصيات الفلك بما لا حاجة إلى ذكرها هنا . ومن المعلوم أن ذلك الفلك كان مؤلفاً من طبقات بعضها للناس وبعضها للدواب وبعضها للوحوش وبعضها للطيور . (8)

 

علائم البلاء في السماء والأرض

 

اقترب الموعد الذي حدده الله سبحانه لابتداء الطوفان ، وجعل علامة ذلك أن ينبع الماء من التنور الذي يخبز فيه (9) : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} وعندئذ أمر الله نوحاً أن يحمل في الفلك أهله ومن آمن به ومن كلّ زوجين اثنين : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود : 40] .

ثم إنه دعا المؤمنين من أهله وأصحابه أن يركبوا فيها مبتدئاً بالتسمية : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود : 41] . أي ان جريها ومنتهى سيرها بيد الله تعالى ، والسفينة وسيلة أمر الله بالتمسك بها .

وبدأت الأرض تفيض بالماء دفاقا ، والسماء تهطل بالمطر تهطالا ، حتى امتلأت الوديان ، واختفت قمم الجبال الرواسي ، لتحل محلها جبال من أمواج متابعة ، تشمخ في أبحر ثائرة ، ولم يبق هناك إلا سفينة أتقن صنعها بوحي الله ، تجري في وسط ذلك العُباب الزاخر بعين الله .

إنه حقاً لمشهد مهول يأخذ بأكظام النفوس ، وتضطرب القلوب من تخيله {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر : 11 ، 12] ، ولكن القلوب تهدأ وتطمئن حين ترى يد الرحة تمتد في أعماق الشدائد والأهوال لتنقذ المؤمنين الصادقين وترعاهم {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر : 13 ، 14] .

 

استواء السفينة على الجودي

 

إن الفلك التي أقلت نوحاً ومن معه استقرت في نهاية الأمر على الجودي ، وهو-كما قيل-جبل بديار بكر من بلاد الجزيرة في جبال تتصل بجبال ارمينيا .

قال في القاموس المحيط : والجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح (عليه السلام) ويسمى في التوراة آراراط .

وقال في مراصد الاطلاع : جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل .

وجاء في تفسير القمي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : واستوت السفينة على جبل الجودي وهو بالموصل جبل عظيم . (10)

وكل ذلك أخبار آحاد لا يمكن الاعتماد عليها ، والعلم عند الله سبحانه وعند من علمهم من المعصومين .

 

نهاية قصة الطوفان

 

كانت الفلك تجري بنوح ومن معه ليالي وأياماً إلى أن أهلك الله سبحانه جميع الظالمين ثم جاء الأمر الإلهي بأن تبتلع الأرض ماءها وأن لمسك لسماء عن المطر فامتثلتا للأمر ، وغاض الماء ، وقضي الأمر الذي قدر .

ولما انتهى الطوفان ، خرج نوح ومن معه من الفلك سالمين ، قائلا (عليه السلام) : (بتعليم من الله سبحانه) : {... رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون : 29].

ثم من سبحانه على نوح بأن جعل عقبه باقياً دون الناس أجمعين ، كما قد توحي بذلك الآية الكريمة : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات : 77] ، وكما هو مشهور عند المفسرين والمؤرخين كابن عباس وقتادة والطبري الذي قال في تفسيره : ذرية نوح هم الباقون في الأرض بعد مهلك قومه ، والناس كلهم من بعده إلى اليوم إنما هم من ذرية نوح .

وشاء الله تعالى أن تستمر الحياة الإنسانية بعد انتهاء الطوفان ، وأن يفيض بنعمه وخيراته النامية على نوح وأصحابه المؤمنين ، ويهيئ مقومات العيش لكل البشر الذين سيملؤون الأرض من بعدهم : {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود : 48]

والمراد بـ{أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} هم الأمم الصالحون من أصحاب السفينة إذ كلهم سعداء ناجون . وهناك أمم أخرجهم اله من زمرة المخاطبين {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} وأخبر أنهم سيمتعون ثم يعذبون لتماديهم في الظلم والطغيان . ولذلك قالوا : إن النبي نوح هو الأب الثاني للإنسانية ، لما يظهر من القرآن أن الباقين في الأرض كلهم من ذرية نوح .

نعم يظهر من عدد من التفاسير أن الأمم اليوم ليسوا كلهم من ذرية نوح بلهم من ذريته وذرية من كان معه من المؤمنين ، وأن المراد بـ{أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} هم الأمم الصالحون من أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين . (11)

ولكن هذا لا ينسجم مع قول من فتر قوله سبحانه : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات : 77] بقاء ذرية نوح وحدهم .

 

هل كان الطوفان عالمياً ؟

 

اختلف العلماء في موقفهم من هذا الأمر ، ففريق رجح شمول الطوفان للأرض كلها ، وقد ذهب بعضهم إلى حد تبني هذا الرأي ، وفريق آخر رجح وقوعه في جزء من الأرض ، وقد مال بعضهم إلى تبنّي هذا الرأي ، وثالث لم يرجّح هذا ولا ذاك ، واعتبر إبداء الرأي في هذا المجال يدخل في إطار الظن ولا يستند إلى أدلة واضحة ، وان معرفته ليست بذات قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني .

ويعتمد الفريق الأول في ترجيحه على عدد من الشواهد والقرائن ، منها ظاهر الآيات الكريمة ، كإطلاق لفظ الأرض في قصة نوح {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود : 44] ، {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح : 26] ، والأمر بحمل زوجين اثنين من كل جنس من أجناس الحيوان ، فلو كان الطوفان-كما يقولون - خاصاً بناحية من نواحي الأرض لما كان ثمة حاجة إلى الأمر بحمل ذلك (12) ، ومنها وجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ، وهو دليل - كما يقولون-على أن الماء قد صعد إليها ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض .

وأجيب عن هذه الشواهد والقرائن بما يلي :

١. إنّ القرآن المجيد يذكر الأرض ويريد بها منطقة معينة ، كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون (عليه السلام) : {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس : 78] يعني أرض مصر وقوله : {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء : 76] والمراد بها مكة .

٢. إن حمل الأحياء في السفينة ، ربما يكون بهدف المحافظة على نسلها من الانقطاع في القسم الذي عمه الطوفان ، خصوصاً أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمراً هينا . (13)

ونقول : إن عالم الأحياء التي تعيش على الأرض عالم واسع جدا ، ويضم أنواعاً لا حصر لها ، تعد بعشرات أو مئات الآلاف من الأنواع ، ولا ندري كيف نتصور أن نوحا (عليه السلام) قد حمل جنسين من كل نوع من هذا الكم الهائل من الأنواع ، وأن السفينة قد استوعبت كل ذلك ؟!

٣. إن وجود الأصداف وغيرها في قلل الجبال قد يكون لأسباب أخرى غير طوفان نوح (عليه السلام) .

هذه الإجابات وبعض القرائن حدت بالفريق الثاني إلى ترجيح حدوث الطوفان فيجانب من الأرض .

ومن المسائل التي ذكرت لدعم القول بمحدودية الطوفان ، هي أن طوفان نوح كان بمثابة العقاب لقومه ، وليس هنا - كما يقولون - دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها ، وعادة فإن وصول دعوة نوح في مثل زمانه إلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد . (14)

ونقول : إذا سلمنا بافتقارنا إلى دليل يدل على شمول دعوة نوح ، واستبعدنا وصول دعوته إلى جميع نقاط الأرض ، فإن الدليل يعوزنا أيضاً في إثبات أن الأرض كلها كانت مأهولة بالسكان ، خصوصاً إذا لاحظنا هذين الأمرين :

١. قرب العهد بين نوح وآدم أبي البشر (عليهما السلام) . وإذا صح ما ذكره المؤرخون والنسّابون من وجود ثمانية آباء بينهما ، (15) أدركنا حجم المجتمع البشري آنذاك ، وعدم تفرقه في مناطق نائية جداً .

٢. ما اشتهر على ألسنة المؤرخين والمفسرين بأن جميع البشر-بعد حادثة الطوفان - هم من ذرية نوح ، ولذا اعتبروه الأب الثاني للبشر -كما مر وثمة من يقول بأنهم من ذريته (عليه السلام) ومن ذرية من كان معه في السفينة. وهذان القولان يستلزمان عدم وجود أمم (غير أمة نوح) في بعض الأقطار الشاسعة لم تبلغهم الدعوة ، فلم يستوجبوا الغرق.

 

حقيقة سؤال نوح عن ابنه

{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود : 42 ، 43] .

{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود : 45-47] .

ركب النبي نوح في السفينة ورأى ابنه (يقال إن اسمه كنعان) في معزل عنه ، فناداه بقلب لهيف : { يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } ، ولكنه أبى أن يلبي نداء الوالد المشفق ، معتذراً بأنه سيلجأ إلى جبل عال يحفظه من الماء .

وكان يتصور أن المياه مهما ماجت فلن تصل إلى سفح الجبل فضلاً عن قمته ثم لم تلبث أن تنحسر ، وأنه سينجو من الغرق بصعوده في الجبل .

فأجابه نوح البصير بعظمة الله وقدرته قائلا : { لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ } ولكن هذا المفتون بجهله وغروره لم يفهم مغزى هذا القول ، ولم يدرك أنه لن يفلت أحد من غضب الله إلا بالرجوع إلى الله ، وظل سادراً في غيه إلى أن حال بينه وبين أبيه الموج .

فلما رأى نوح فلذة كبده وثمرة حياته يتقلب بين الأمواج ، ويعاني صرعات الغرق و الموت ، أراد أن يستنجز وعد الله بنجاة ولده ، فقال : { إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } ولكن كلمة العذاب قد حقت عليه بعصيانه ، فكان من المغرقين .

وللتدبر والاستفادة من هذه القصة تجب دراسة المواضع الأربعة التالية :

١. ما هو المراد من قوله : { وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } ؟

٢. كيف دعا نوح ابنه إلى ركوب السفينة مع كونه كافرا ، وكان (عليه السلام) قد دعا الله سبحانه أن لا يبقي على الأرض من الكافرين دياراً ؟

٣. ما هو المراد من قوله سبحانه : {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ؟

٤. هل كان نداؤه لربه بشأن ابنه واقعاً في غير محله ؟

وإليك دراسة هذه المواضع واحداً بعد الآخر .

 

الأول : ما هو المراد من الوعد الحق ؟

الوعد الحق الذي ذكره نوح (عليه السلام) ، هو ما وعده الله من نجاة أهله من الغرق والهلاك ، وقد جاء في موضعين :

أحدهما ما مر من قوله : {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} .

وثانيهما قوله : {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت : 33]

ومن هنا نادى ربه مستنجزاً وعده في ابنه ، لأنه من أهله : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ولم يفصح (عليه السلام) عن طلبه بنجاة ابنه تأدباً أمام الله سبحانه ، وإلا كان يقتضي أن يقول : يلزم ألا يغرق ولدي لأنه من أهلي .

فأجابه سبحانه بقوله : {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود : 46].

الثاني : كيف دعا نوح ابنه إلى ركوب السفينة مع كونه كافراً ؟

كيف طلب من ابنه ركوب السفينة مع كونه كافراً ، وكان (عليه السلام) قد دعا الله سبحانه أن لا يبقي عل الأرض من الكافرين دياراً ؟!

والجواب : انه لا يظهر من الآيات أن النبي نوحاً كان يعلم كفر ابنه ، لأن من يدعو الله سبحانه بكل وجوده أن لا يترك على الأرض من الكافرين دياراً ، لا يقدم على إركاب الابن الكافر معه في السفينة ، وهذا يعرب عن أن ابنه كان مظهراً للإيمان ومبطنا للكفر .

ولعل في قوله لابنه : {وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} ما يشير إلى عدم وقوفه على كفر ابنه ، حيث يكون المعنى : لا تتخلف مع الكافرين فتغرف معهم ، (16) وإلاّ كان من المناسب أن يقول : ولا تكن من الكافرين . وهذا ما جعل نوحاً يسأل ربّه سبحانه عن وجه غرق ابنه مع كونه من أهله ولم يكن كافراً محكوماً بالغرق .

والشاهد على ذلك أنه لم يسأل الله عن امرأته مع أنها كانت من أهله من دون ريب ، وما ذلك إلا لأنه كان يعلم أنها كافرة ، ولذا تركها تغرق دون أن يسأل عنها .

وقد ذكر المفسرون في وجه السؤال أموراً غير تامة . (17) ولعل ما ذكرناه أوضح مما ذكر.

وعند ذلك وافاه الجواب بما نذكره في الموضع التالي .

الثالث : ما هو المراد من قوله : {إنه عمل غير صالح} ؟

يظهر مماً ذكرنا أن المراد من قوله : {إنه عمل غير صالح} ، هو أنه كان مبطناً للكفر ومظهراً للإيمان ، والمنافق أشد من الكافر. فهو إذاً قد بلغ من الفساد إلى حد صار عملاً غير صالح ، لا عاملاً غير صالح. وبتعبير آخر : صلته بنوح لما كانت صلة جسما نية لا صلة روحية ، ذكر سبحانه انه لا ينبغي لنوح أن يسأل ما ليس له به علم وما لم يطلع عليه ، كما يدل عليه قوله : (فلاً تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين).

الرابع : هل كان نداؤه لربه بشأن ابنه واقعاً في غير محله ؟

والجواب يعلم مما سبق ، إذ أن مناداته لربه في حق ولده بالنسبة إلى الظاهر لم تكن في غير موقعها ، لأنه كان غير مطلع على عدم صلاحه. وأما بالنسبة إلى الواقع فهي كانت في غير موقعها ، لأنها ستلزم استمرار حياة ابنه في الأرض مع أنه سأله سبحانه أن لا يبقي عليها كافراً .

 

قاعدة ربانية

رسخ القرآن الكريم من خلال قصة امرأة نوح (وامرأة لوط أيضاً) قاعدة ربانية ذات أثر كبير في حياة المجتمع وفي تقييم المواقف ، وهي إن تزكية الإنسان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإيما نه وإخلاصه وحسن سيرته وصدق سريرته ، وإن الرابطة الأسرية ، وآصرة القربى من أزكى الناس وأطهرهم ، لا مجدي شيئاً إذا ل تعززها العقيدة الصالحة والأعمال المثمرة والمسلك القويم.

إن أسوأ ما قام به المنتفعون والمتحجرون ، هو استغلال وشائج القربى وإيحاءاتها الباطلة في خلق مقامات زائفة لهم بين الناس ، وإضفاء صفة القدسية على أنفسهم وعلى آرائهم ومواقفهم .

والمثل الذي ضربه الله تعالى في هذا المجال ، مستوحى من امرأتي نوح ولوط ، فهما على صلتهما من نبيين كريمين ، كانتا رمزاً للكفر والخيانة ، ولم تنفعهما تلك الصلة في قليل ولا كثير {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم : 10] .

وفي قبال ذلك يعرض القرآن صورة لامرأة عاشت في قصر مليء بأسباب الراحة والترف والنعيم ، وقائم على الكفر والظلم والطغيان ، فلم ترهب هذا ، ولم تغتر بذاك ، بل آثرت العز الباقي والنعيم الدائم في جوار الله على العز الكاذب والنعيم الزائل في ظلال القصر ، فنالتهما ولم يضرها كفر وظلم صاحب القصر وأعوانه . {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم : 11] .

 

خلاصة قصة نوح (عليه السلام)

ارتكس المجتمع البشري في عهد نوح أيما ارتكاس ، وضل عن النهج القويم ، بسيادة الوثنية وقيمها ومفاهيمها في أوساطه ، فبعث الله تعالى إليهم نوحاً منذراً ومبلغاً : {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود : 25 ، 26] .

ونهض نوح بمهمته ، مبيناً بجلاء الهدف السامي من بعثته : وأبلغكم رسالات ري وأنصح لكم .

ولكن مُترفي قومه وكُبراءهم زهدوا في نصائحه ، وتجاهلوا إنذاره ، واستهانوا بالحق الذي جاء به ، وطفقوا يثيرون الشكوك والشبهات ، ويختلقون الأكاذيب والاتهامات ، بقصد التشويه ، والتنفير من دعوته ، فقالوا : {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} غير قادر على الاضطلاع بهذا الأمر ، الذي هو-بتصورهم الفاسد-من شأن الملائكة ، كما أنه يفتقر الى أية ميزة من الميزات التي يتطلّبها-كما يزعمون-مقام النبوة كامتلاك الثروات الطائلة ، والقدرة على الإخبار بالمغيبات ، وهو مع ذلك غير صادق في دعوته ، وإنما {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فيستأثر بالجاه والمال ، بل هو مجنون لا يفقه ما يقول .

ثم كيف يليق بنا الإيمان به ونحن أولو القوة والثروة والحنكة والتعقل وقد التف حوله {أرَاذلُنا} الذين يُسارعون إلى التصديق من دون تدبّر ولا تفكير ؟

تعاملَ نوح (عليه السلام) مع صدود قومه وجفوتهم بروح عالية ونفس كبيرة ، وأجاب عن شكوكهم واتهاماتهم بشفافية ووضوح ودقة ، فلم يدع شبهة من الشبه إلا ودحضها ، ولا تهمة من التهم إلا ونقضها ، كل ذلك بأسلوب محبب ومنطق رصين وحوار مفتوح ، بعيداً عن الادعاء والتلبيس ، والمهاترة والمتاجرة : { يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } ، { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } ، { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } فليس من حقي محاسبتهم ومجازاتهم ، وإنما أمرهم إلى اله يوم يرجعون إليه ، {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } . لله ما أزين هذا الصدق ! وما أجلى هذا البيان ! وما أشد هذا النكران للذات !

لقد بلغ (عليه السلام) رسالات ربه دون كلل أو ملل ، واجتهد في إرشاد قومه وبث المفاهيم الإلهية والقيم الإيمانية فيهم طيلة سنوات عمره المتمادية إذ لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، لافتاً أنظارهم إلى قدرة الله التي تتجلى في خلقهم أطواراً ، وفي خلق السماوت ونظامها المتقن ، وخلق الأرض وتيسيرها للحياة وتحصيل الأرزاق .

كما وعدهم إذا هم أنابوا إلى الله واستغفروه أن يكنفهم الله بغفرانه ، ويفيض عليهم من ضروب نعمه {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح : 11 ، 12].

لم يعبأ أكثر قومه بنصائحه ومواعظه ، ولم يستضيئوا بأنوار كلماته وحكمه ، وقد بلغ بهم الصلف إلى إعلان تبرمهم منه ، فخاطبوه بقولهم : {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود : 32] ، ووصل بهم الإيغال في رفض صوت الحق ورؤية من ينطق به إلى أن {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح : 7] ، ، وراحوا يستعملون معه أسلوب التهديد والوعيد ، قائلين : {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء : 116] .

لم يكترث نوح بتهديدهم لثقته بربه وبصيرته برسالته ، وتحداهم بقوله : {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس : 71] .

ولما يئس نوح منهم ، وأوحى إليه سبحانه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود : 36] دعا عليهم قائلا {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح : 26] ، فاقتضت إرادة الله استئصالهم وتطهير الأرض منهم ، وأمره بصنع سفينة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود : 37] ، فشرع في صنعها ، فكان قومه يسخرون منه ، فيرة عليهم قائلاً : {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود : 38 ، 39] .

فلما أتمها (عليه السلام) ، ورأى أمارة الطوفان ، حمَل فيها المؤمنين من أهله وأصحابه (وهم قليلون) ، ومن صنوف الأحياء والحيوانات زوجين : ذكراً وأنثى .

ثم بدأت الأرض تتفجر ماء ، والسماء تسحّ بالمطر سحّاً ، حتى تحولت الأرض إلى بحار متلاطمة ، ترتفع أمواجها كالجبال ، والسفينة تجري بأصحابها في ذلك السيل الجارف ، ترعاها عين الله .

وكان ابن نوح قد انتحى جانبا ، فناداه أبوه ليركب معهم في السفينة ، فأبى ، ظنا منه أنه ينجو من الغرق بارتقاء قمة جبل هناك ، فرد عليه أبوه بقوله : {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود : 43] ، فلم يستجب له ، فغرق ببؤسه وشقائه مع سائر الكافرين .

ثم غاض الماء وانحسر عن وجه الأرض ، واستقرت السفينة على الجودي ، و {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود : 48] .

وبذلك طهرت الأرض من الوثن والوثنيين ، والمترفين والمتكبرين العتاة .

 

نكات وعبر

قد سردنا لك قصة نوح مع قومه على ضوء ا لآيات الكريمة معرضين عما جاء حولها من القصص والحكايات التي ربما لا تنسجم مع القرآن الكريم والعقل الحصيف ، بقي الكلام في الوقفات التي يستفاد منها تعليمياً وتربوياً ، والعبر التي يمكن استلالها من خلال تدبر الآيات :

1. يظهر من كلام كثير من المفسرين أن نوحاً (عليه السلام) هو أول مرسل بشريعة شاملة لكل المجتمع البشري ، وقد بعث ومعه كتاب (سُمّي بصحيفة النور) ، وهو أول الكتب السماوية المشتملة على شريعة. وبما استدلوا به على ذلك ، قوله سبحانه : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى : 13] .

قال العلاّمة الطباطبائي عند تفسيره لهذه الآية : إنّ المراد مماً وصى به نوحاً ، شريعة نوح (عليه السلام) ، وإن شريعته كانت محدودة بما هو الأهم من العقائد والأعمال ، ولذا عبر عنها بالتوصية دون الإيحاء {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الذي اختصت به شريعة محمد (صلى الله عليه وآله) لكونها جامعة لكلّ ما جلّ ودقّ ، محتوية على الأهم وغيره . (18)

وقال أيضاً : إن الآية في مقام الامتنان على محمد (صلى الله عليه وآله) وهذا يقضي بأن الشرائع الإلهية المنزلة على البشر هي هذه التي ذكرت لا غير ، وأقل ما ذكر من الشرائع ، شريعة نوح . (19)

ومما يعزّز ذلك ، ما وره في تفسير قوله تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف : 35] حيث جاء في كثير من التفاسير أن المراد بأُولي العزم : من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدم من الأنبياء ، وهم خسة : أقلهم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم خاتم الرسل محمد (صلى الله عليه وآله) . وهو المروي عن أبي جعفر الباقر وابي عبد الله الصادق (عليه السلام) . (20)

روى سماعة بن مهران قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : قول الله عز وجل : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ} [الأحقاف : 35] فقال : (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم) ، قلت : كيف صاروا أولي العزم ؟ قال : (لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة ، وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به فكل نبي جاء بعد إبراهيم (عليه السلام) أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، وبعزيمة ترك الصحف وكل نبي جاء بعد موسى (عليه السلام) أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء المسيح (عليه السلام) : بالإنجيل ؛ وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتى جاء محمد (صلى الله عليه وآله) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولوا العزم من الرسل عليهم السلام » (21) .

2. قد اشتهر بين المفسرين وغيرهم أن رسالات أولي العزم من الرسل (وأولهم نوح) ، كانت عالمية . ولعل ظاهر رواية سماعة بن مهران يؤيد هذا الرأي ، حيث عطفت رسالة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) على رسالاتهم ، ولا شك ان رسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عالمية أولاً وخاتمة للرسالات ثانياً . فتكون رسالة من تقدمه عالمية مثلها .

لكن الظاهر من بعض الآيات أنه بعث إلى قومه ، يقول سبحانه : {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح : 1] ، وقال سبحانه مخاطباً نوحاً : {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود : 36] ؛ وإرساله إلى قومه وإن كان لا ينافي إرساله إلى غيرهم ، لكن الاقتصار على القوم دون أن يكون فيه خصوصية قد يدل على حصر رسالته بهداية قومه .

ومع ذلك يمكن أن يقال : إنه لم يكن في الأرض-حين بعث نوح- غير قومه وعشيرته ، وعندئذ تكون رسالته عالمية بهذا المعنى . وقد تقدم الحديث عن ذلك في مبحث (هل كان الطوفان عالمياً ؟) .

3. إلغاء الامتيازات الناجمة عن التقديس الزائف للثروة والجاه ، وخلقُ تصور جديد قائم على اعتبار الإيمان و التقوى ملاكاً للفضل و الفضيلة ، وتجسيده في الواقع باحتضان النبي نوح (عليه السلام) للمؤمنين المستضعفين والمحرومين والدفاع عنهم أمام دعوات المترفين الطغاة لطردهم وإبعادهم :

ما الفقر عار وإن كشفت عورته                  وإنما العار مال غير محمود (22)

4. انّ حياة النبي نوح على امتدادها كانت حياة حافلة بالجهاد والكفاح الدائبين ، وقد واجه كل عناد قومه وجهلهم وتمردهم وسماجتهم بصبر عجيب ، وعزم راسخ ، واستقامة لا تعرف الزيغ والانحراف .

وتعتبر حياته (عليه السلام) دروساً بليغة في الإيمان بالله والتسليم له والثبات والمضي على الحق ، حري بالعاملين من أجل تحقيق القيم والمبادئ الإلهية ، أن يستذكروها كلما ألم بهم ضعف أو ملل أو تعب من أهوال الطريق وشدائده .

5. إن انتهاز فرص الخير واستثمار ما أتيح من النعم وورود ينابيع الخير ، هي ضمانة الفوز والنجاة وسلامة المسيرة ، وإن الركون إلى النفس ، والانسياق وراء أهوائها يؤدي بها ويوردها موارد الهلكة .

ألا ترى ابن نوح مع قربه من منهل الخير ومصدر النور ، قد زل وهلك ، لماً غفل عنهما ، فلم يُصدر عن ذاك ، ولم يستضئ بهذا :

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره                إذا استوت عنده الأنوار والظلم (23)

6. إن زمام القوى المادية كلها بيد الله جلت قدرته ، وهي سرعان ما تنهار إذا شاءت إرادته ، فلا تنفع من يعتصم بها. وليس هذا دعوة إلى رفض الأسباب الطبيعية وعدم الأخذ بها ، بل دعوة إلى التمسك بها مع الإيمان بأنها غير مستقلة بذاتها ، بل خاضعة لإرادة الله وتعمل بمشيئته ، ولذا خاب ظن ابن نوح في النجاة من الهلاك بارتقاء جبل من الجبال ، لأن الله قضى بأن يقطع الأسباب جيعاً ، غير سبب واحد (الفلك) ، وأن لا يعصم إلا من يعتصم به .

7. إن الإصلاح والتغيير على نوعين تدريجي وجذري ، ولكل منهما مجال خاص ، فإذا ظهر الفساد في بعض جوانب المجتمع بشكل جزئي وكانت الأركان سالمة عن دبيب الفساد ، فالإصلاحات الجزئية التدريجية أفضل أسلوب لإصلاح هذا المجتمع .

وأما إذا دبّ الفساد في أركان المجتمع وانتشر فيه بصورة وسيعة فالإصلاحات الجزئية دواء لا ينتج إلا اداء ، فهذا المجتمع لا يصلح إلا بالتغيير الجذري الشامل . فإذا لم يوجد في المجتمع إلاّ الفساد ولم يكن هناك أي مناد للإصلاح فآخر الدواء الكي ، ولا يصلح إلا بإهلاكهم وإبادتهم . وهذا هو نظير مجتمع نوح فقد طهر الله هذه الأرض من هذه العناصر الفاسدة التي لا تلد إلا الكفر والفجور ، وهذه هي سيرة الله سبحانه الماضية في الأقوام التي تلتهم .

8. انّ مرافقة المؤمنين وصحبة الأولياء إنما يظهر أثرها إذا صادفت قلباً زاكياً ، وأما إذا اسود القلب وانسدت نوافذه ، فالصحبة لا تلد إلا وزراً ووبالا ، كما هو الحال في امرأة نوح التي لم تنفعها مصاحبة زوجها ليلاً ونهاراً في مسكنه ومضجعه .

9. قد يبلغ التحجر والجمود بالإنسان إلى درجة يرفض معها كل مناقشة وحوار ، ويغلق نوافذ عقله أمام كل منطق وحجة وبرهان ، فلا يقبل إلا ما يمليه عليه تفكيره واعتقاده ، وإن كان نتاج جهل وهوى وغرور . و (البصير من سمِع فتفكر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر ، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي ، والضلال في المغاوي) . (24)

10 . إن القرآن الكريم قدعرض من قصة نوح (كما هو الشأن في سائر القصص) ما هو موضع العبرة والعظة والفائدة مع مراعاة مقام النبي وسموه وعظمته اسجاماً مع دعوة القرآن إلى إعلاء شأن القيم والفضائل وأصحابها ، على خلاف التوراة المتداولة التي أساءت لساحته المقدسة ، استجابة لنزعة الحقد لدى اليهود وسعيهم إلى تحقير الإنسان وإهدار كرامته ونشر افساد في الأرض .

ومماً جاء في التوراة على سبيل المثال : وابتدأ نوح فلاحاً وغرس كرما ، وشرب من الخمر فسكر ، وتعرى في خبائه ، فأبصر حام .... (25)

وثمة أمور في قصة نوح خالف القرآن فيها التوراة التي تحدثت مثلا عن نجاة امرأة نوح ، ولم تتطرق إلى قصة ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة ، فكان من المغرقين .

والحق أن هذا الاختلاف يعد من الأدلة على صدق النبي وارتباطه بالغيب {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} [هود : 49] ، إذ لم تكن هذه المعلومات متداولة بين أبناء عصره ، كما أنها تثبت صدق القرآن وهيمنته على سائر الكتب السماوية {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة : 48] .

______________________

1. آل عمران : ٣٣ ؛ النساء : ١٦٣ ؛ الأعراف : 59 و٦٩ ؛ التوبة : ٧٠ ؛ يونس : ٧١ ؛ هود : 25 ، ٣٢ ، ٣٦ ، ٤٢ ، ٤٨ ، ٤٦ ، ٤٥ ، ٧٩ ؛ إبراهيم : ٩ ؛ الإسراء : ١٧ ، ٢ ؛ مريم : ٥٨ ؛ الأنبياء : ٧٦ ؛ الحج : ٤٢ ؛ المؤمنون : ٢٣ ؛ الفرقان : ٣٧ ؛ الشعراء : ١٠٦ ، ١٠٥ ، ١١٦ ؛ العنكبوت : ١٤ ؛ الأحزاب : ٧ ؛ الصافات : ٧٥ و ٧٩ ؛ ص : ١٢ ؛ غافر : 5 و ٣١ ؛ الشورى : ١٣ ؛ ق : ١٤ ؛ الذاريات : ٤٦ ؛ النجم : ٥٢ ؛ القمر : ٩ ؛ الحديد : ٢٦ ؛ التحريم : ١٠ ؛ نوح : ١ ، ٢١و٢٦ .

2. شطر بيت لأبي فراس الحمداني ، أوله : وما كل فعال يجازى بفعله .

٣. نهج البلاغة ، الخطبة : ١٤٣ .

4. انظر التفسير الكاشف : ٤٢٧/٧ .

5. روي هذا القول عن الإمام علي (عليه السلام) . انظر : انور المبين في صر الأنبياء والمرسلين ، للجزائري : ٧٣ .

6. البيت للسيد محمد جمال الدين الهاشمي .

7. النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين ، للجزائري : ٧٢ .

8. قصص الأنبياء لابن كثير : ٨٢ .

9. وقيل : المراد بالتنور وجه الأرض ، ذكره ابن عباس . التبيان : 5 /٤٨٦ .

10. النور المبين للجزائري : ٧٣ ؛ تفسير القمي : ١ / ٣٢٨ .

11. انظر الميزان في تفسير القرآن : ٢٣٩/١٠- ٢٤٠ .

12. الميزان في تفسير القرآن : ٢٦٤/١٠ .

13. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 501/6 .

14. الأمثل : ٥٠٢/٦ ؛ وانظر تفسير المراغي : ٦٧/٢٣(ط . دار إحياء التراث العربي) .

15. قالوا : هو نوح ن لامك بن متوشلخ بن إدريس بن لود (أو يارد) بن مهلائيل بن قينانبن أنوش بن شيث بن آدم .

16. مجمع البيان : 5/ 311

17. الميزان : 10/ 235

18. انظر الميزان : ٢٨/١٨. ولكن الظاهر ان المراد من (ما وصى به نوحاً) هو قوله : وأن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه» وكأنه بدل من ا لموصول في وما وصى به نوحاً» ولعله — رضوان الله عليه - أراد بالشريعة ما ذكرناه .

19. الميزان : ٢٦٣/١٠.

20. التبيان : ٢٨٧/٩ ؛ مجمع البيان : ٩٤/ ٥ (طبعة صيدا) ؛ تفسير البيضاوي : ٣٩٨/٢.

21. الكافي : ١٧/٢-١٨.

22. البيت للشريف الرضي .

23. البيت للمتنبي .

24. نهج البلاغة : ٢١٣ ، الخطبة ١٥٣. والمغاوي : جمع مغواه ، وهي الشبهة يذهب معها الإنسان إلى ما يخالف الحق .

25. الإصحاح التاسع من سفر لتكوين .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .