المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16924 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الكرينم (Crinum asiaticum)
2024-08-19
آثار وفضل زيارة الإمام الحسين (عليه ‌السلام)
2024-08-19
الحكمة من زيارة الإمام الحسين (عليه ‌السلام)
2024-08-19
السر في عدد الأربعين
2024-08-19
في معنى الزيارة ووظائفها
2024-08-19
كرامة الله لزوّار الحسين (عليه ‌السلام)
2024-08-19

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله  
  
2638   03:53 مساءاً   التاريخ: 10-10-2014
المؤلف : محمد هادي معرفة
الكتاب أو المصدر : شبهات وردود حول القرآن الكريم
الجزء والصفحة : ص34-50 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي نوح وقومه /

نعم ، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه .
كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة ، كان وجه
الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة ، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت
تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض .
وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر : 11، 12] ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال ، وتفجّر ينابيع الأرض المُشبعة بالأمطار ، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة ، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك ، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين .
وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة ؛ ولعلّه لتراكم الفساد
والشرّ في تلكم البقاع ، فمِن قدماء الفرس : أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود
كردستان ، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان ، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه
الجزيرة الهنديّة ، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم ،
ويُروى عن الكلدانييّن ـ وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم ـ :
أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل . فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) : أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم ـ ممّن كان يعيش هناك طبعاً ـ فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل ، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال .
وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح ، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك ، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين ( يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل ) .
ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده ( أفلاطون ) وهو : أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني ( سولون ) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً ، فهلك الناس ـ ممّن عمروا البلاد في المنطقة ـ وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف .
وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل ـ الذي كان بعد ( ميناس ) الأَوّل ـ ، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .
وهكذا جاء خبر الطوفان في ( اُوستا ) كتاب المجوس (2) .
وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة ، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43 ، في الباب الخامس ، وعنوانه ( برهمانا وأوبانبشاء ) :
وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان ، التي بُيّنت في ضمن الضحايا ، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة ، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة ، توجب الاهتمام ..
ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم ( مانو ) بدور نبيّ الله نوح ( عليه السلام ) في القرآن وفي
التوراة ، و ( مانو ) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين ، فهو : ابن الله ، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري .
وخلاصة القصّة : أنّه بينما كان ( مانو ) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة ، وممّا اندهش به ( مانو ) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم ، والخطر العظيم المُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات ؛ وعلى ذلك حَفَظ ( مانو ) السمكة في ( المرتبان ) ، فلمّا كَبُرت السمكة أخبرت ( مانو ) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة ، ويدخل فيها عند طغيان الماء ، قائلةً : أنا أُنقذك من الطوفان ، فمانو صنع السفينة ، والسمكة كبُرت أكثر من سعة ( المرتبان ) ؛ لذلك ألقاها ( مانو ) في البحر . ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة ، وحين دخل ( مانو ) السفينة ، عامت السمكة إليه ، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة ، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة ، وهنا ربط ( مانو ) السفينة بشجرة ، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي ( مانو ) بوحدته (3) .
فذلكة الكلام : إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة ، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات ، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً ، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول ، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف ، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس ، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان ، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة ، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر .
وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح ، عمّ المنطقة ودمّر وأباد ، هذا شيء لا مساغ لإنكاره ، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين .
أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه ، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً ، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] .
أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء ، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر .
لا شاهد على شمول الطوفان
لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان ، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل ! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً .
بقي ظاهر النصّ ( التعابير الواردة في القرآن الكريم ) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك ، فضلاً عن قرائن أخرى :
قال الشيخ مُحمّد عبده : وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان ، وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم .
أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال ؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات ، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (4) .
وقال السيّد الطباطبائي : الحقّ ، أنّ ظاهر القرآن الكريم ـ ظهوراً لا ينكر ـ أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض ، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً ...
ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى ـ حكايةً عن نوح ـ {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح : 26] وقوله : {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [هود: 43] وقوله : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] .
قال : ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين ، (5) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة ـ أرض العراق كما هو معروف ـ لم تكن حاجة إلى ذلك (6) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك .
آثار جيولوجيّة
لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها ؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة ، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه ، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض ، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً ، أو انغمر بعد ما كان عالياً ، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض .
قال الشيخ محمّد عبده : إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان ؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء . فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (7) .
 {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26].
أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها .
قال الشيخ محمّد عبده : ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها ، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم ، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون : {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس : 78] يعني أرض مصر ، وقوله : {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76] فالمراد بها مكّة ، وقوله : {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } [الإسراء: 4] والمراد ديار فلسطين ، والشواهد على ذلك كثيرة .
قال : وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه ـ ( وهو في أوّليات حياة البشر ) ـ وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان ، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته ، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها ، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة ؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها .
 فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض ( الجيولوجيّة ) يقولون : إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة ، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (8) .
وبذلك ظهر عدم دلالة الآية {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات : 77]
على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض ، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك ( في عهدٍ بعيد جدّاً ) وعدم الانتشار في أقطار الأرض ، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها .
{ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [هود: 43]
شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان .
قال تعالى : {بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42، 43] .
في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان :
1 ـ التعبير بالموج الهائل كالجبال ، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم .
2 ـ محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء ، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم ، ومعنى ذلك : أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه ، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين .
لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه ، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب ، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها ، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار ، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم ـ والذي في عرضة الطوفان ـ وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء .
 ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء ، وحينما كلّمه أبوه ـ وهو راكبٌ في السفينة ـ لمْ يعبأ بنُصح أبيه ، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال ، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق ، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين .
وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض .
وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان ( هضبة ما بين النهرين ) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً ، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (9) .
{ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود : 40].
شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عُموم الطوفان :
قال العلاّمة الطباطبائي : هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو مُعظمها الذي هو بمنزلة الجميع ، قال : ولو كان الطوفان خاصّاً بصُقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها ـ كالعراق على ما قيل ـ لم يكن أيّ حاجة إلى أنْ يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (10) .
وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حَمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان ؛ لعلّة استبقاء نسلها لئلاّ تنقرض ، قال صاحب المنار : والتقدير ـ على قراءة حفص [ بتنوينِ كلٍّ ] ـ : احمل فيها من كلّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً وأُنثى ؛ لأجل أنْ تبقى بعد غَرق سائر الأحياء ، فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض (11) .
وعامّة المفسّرين على ذلك ، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليّات بهذا المعنى ، جاء في سِفر التكوين : ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى ، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى ، ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى ؛ لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض (12) وهكذا ورد في الإسرائيليّات (13) .
ولكن ما قَدْر السفينة حتّى يُحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهليّة والوحشيّة والحشار والطيور ؛ لئلاّ ينقرض نسل الأحياء ، بل وفي هذه الروايات : حَمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب ، وهو من الغرابة بمكان !!
وبحقٍّ قال سيّد قطب : ومرّة أخرى تتفرّق الأقوال حول { مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليّات قويّة .
وتعقّبه بقوله : أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويَشتطّ حول النصّ { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ممّا يملك نوح أنْ يُمسك ، وأنْ يَستصحب من الأحياء ، وما وراء ذلك خبط عشواء (14) .
وهذا هو الرأي الصحيح ، فقد رخّص الله لنوح أنْ يَحمل معه ما يَملكه من الحيوانات الأهليّة بقَدر ما يحتاج إليه من زادٍ وراحلة ، ولا يُثقل حِملَه حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأُولى ، وأمّا سائر الأحياء الأهليّة والوحش فتتشرّد لوجهها ، ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث ، كما هو مألوف ، هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر .
والزوجان ـ في الآية ـ يراد به المتعدّد في تشاكل ، أي من كلّ جنس عدداً يفي لتأمين الحاجة بها .
وهذا نظير قوله تعالى : {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا ( في الأرض ) زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [الرعد: 3] أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة ، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها ، وهكذا الليمون والرّمان ، وسائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة ، كما قال تعالى : {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99] أي مُتشاكلاً وغير متشاكل .
وجاء في وصف فواكه الجنّة : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [الرحمن: 52] أي صنفان متشاكلان ، والمراد المتعدّد في أشكالٍ وأصناف ، كما قال : {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] أي متشاكلاً .
ومن الواضح أنّ الثمرة ـ وهي الفاكهة ـ ليس فيها ذكر ولا أُنثى ولا تزاوج لقاح ، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار .
على أنّها لغةٌ دارجة : أنْ يُراد بالمثنّى الشِّياع في الجنس لا الاثنان عدداً ، قال أبو علي : الزوجان في قوله : { مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يراد بهما الشِّياع ، وليس يراد بهما عدد الاثنين ، كما قال الشاعر :
فاعمَد لما يعلو فمالكَ بالذي            لا تستطيعُ مِن الأُمور يَدانِ
يريد : الأيدي والقُوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الأمور .
قال : ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق :
وكلُّ رَفيقَي كلِّ رَحلٍ وإنْ هُما          تَعاطى القَنا قوماهُما أَخَوانِ (15)
إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحَل ، وإنّما يُريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين .
وأمّا وصف الزوجين بالاثنين ؛ فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع ، كما قال تعالى : {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51] خطاباً مع المشركين ، نهى عن اتخاذ الآلهة ، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين ، زيادةً في المبالغة (16) ، ومِن ثَمّ عقّبه بقوله : {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } .
وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه ، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر ، والمعنى : النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى (17) وقد بحثنا عن إرادة الشِّياع من المثنّى بتفصيل فليُرجع إليه (18) .
{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود : 44]
يقال : إنّه تعريب ( جورداي ) اليونانيّة ، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا ، وبلاد أرمينيّة ذات قمّة رفيعة ( 5175 متراً ) عُرفت بـ ( آراراط ) شاع عند الأرامنة ـ القاطنين في المنطقة ـ أنّها مَرسى سفينة نوح ، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق .
ويرجع هذا الشِّياع إلى عهدٍ متأخّر ( منذ القرن العاشر بعد الميلاد ) حيث تُرجمت عبارة التوراة : ( رست السفينة على جبل الأكراد ) بجبل آراراط .
ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مَرسى متعيّناً للسفينة ، حتى شُوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة ، وجَعلت الأوهام تحيك حولها أساطير .
جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة : والمُحَقَّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم مِن الكُتّاب أنّ جبل ( آراراط ) لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان .
 فالرواية الأرمنيّة القديمة لا تَعرف ـ على التحقيق ـ شيئاً على جبل استقرّت عليه فلُك نوح ، فلمّا أن جاء ذِكرُ جبلٍ في المؤلّفات الأرمنيّة المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المُقدّس المتزايد في هذه المؤلّفات ، والكتاب المُقدّس هو الذي يقول : إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط ، وأعلى هذه الجبال وأشهرها جبل ( ماسك ) ( ماسيس ) ومِن ثَمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل .
أمّا المرحلة الثانية مِن نموّ هذه الرواية الأرمنيّة فَتُرَدُّ إلى الأوربيّين ، الّذين أطلقوا اسم آراراط ( بالأرمنيّة : إيراراط ) وهو اسم ناحية على جبل ماسك ، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسِفر التكوين (19) .
وإنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ ( ماسك ) هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة ، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنيّة في القرنَينِ الحادي عشر والثاني عشر ، وتذهب التفاسير الدينيّة السابقة على هذا في الزمن ، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل ( الجوديّ ) أو جبال ( جورديين ) ( بالسريانيّة : قردو ، وبالأرمنيّة : كُردُخ ) ـ كما تقول المصادر النصرانيّة ـ هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح .
والمُحقَّق أنّ هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة ـ وهو التحديد الذي ذُكِر حتّى في الترغوم ( الترجمة الكلدانيّة للعهد القديم ) ـ يُسنَد إلى الرواية البابليّة ، وقد نشأ من الاسم البابلي ( برسوس ) .
زد على ذلك أنّ جبل ( نصر ) الذي ذُكِر في قصّة الطوفان في الكتابات المسماريّة يصحّ أيضاً أنْ يُحدّد مكانه في جبال ( جورديين ) بالمدلول الواسع لهذا الاسم ، وقد أخذ النصارى بالرواية البابليّة اليهوديّة القديمة ، وعرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم ( بهستان ) ( بلاد أرمينيّة ) ، وأطلق العرب اسم الجودي ـ الوارد في القرآن ـ في غير تثبّتٍ على جبل ( قردو ) المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن .
وما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة ـ كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط ـ بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة (20) .
* * *
وهكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي ( ت 626 ) متأثّراً بتلكُم الأساطير المسطّرة ، يقول : الجوديّ جبل مُطلّ على جزيرة ( ابن عمر ) في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل ، عليه استوت سفينة نوح ( عليه السلام ) .
ثُمّ يَذكر نصّ التوراة ـ مُستشهِداً به ـ : (... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا ... ويقول : هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً ) (21) .
ما ندري ماذا كان الأصل حتّى ترجمه إلى ذلك ؛ ولعلّه لُقّن بذلك ـ وهو روميّ الأصل ـ من بعض الأرامنة المسيحيّين ، وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب !
هذا ، ومن ورائهم زَرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر ـ مع الأسف ـ من غير تريّث ولا تحقيق ، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير ، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين بالإسكندر الكبير !
ومِن مُضاعفات هذا الزعم ـ كما نبّه عليه المحقّق الشعراني ـ (22) القول بعموم الطوفان المستحيل (23) إذ لازمه أنْ يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات ، حيث رست السفينة ـ بعد ما أخذت المياه في النضوب ـ على قمّة جبلٍ ترتفع خمس كيلو مترات !
وممّا يجدر التنبّه له : أنّ القوم حسبوا من كلمة ( الجودي ) ـ باعتبارها اسم جبل ـ أنّها أعجميّة معرّبة ، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو ( جورداين ) أو (جورداي) أو ( قوردو ) أو غيرها ؟
لكن لا مُبرّر لهذا الحُسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص ، ولها سابق التعبير في جاهليّة العرب .
 قال أُميّة بن أبي الصلت :
سبحانه ثُمّ سبحاناً يعود له               وقبله سبّح الجوديُّ والجُمُدُ
الجودي ـ من الجود ـ : الرَّبوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابلٌ آتت أكلها ضعفين ، والجُمُدُ : الحَزِنة من الأرض تجمُد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابلٌ أو طلّ .
قال أبو مسلم الإصبهاني : الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صُلبة (24) ، في مقابلة الرَّخوة ، أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات وحلٍ ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها .
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود : 48] فأَوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ .
وأين هذا من حُسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السَّهلة بخمس كيلو مترات ؟!
وهل كان نزوله حينذاك بسلام وبركاتٍ أم بشقاء وعناء ؟!
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]
هذه العبارة ( وفار التّنور ) إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى : وثار غضبُ الربّ ، كما يقال : فار فائرة إذا اشتدّ غضبه ، وبنو فلان تفور علينا قِدْرهم أي يشتدّ غضبُهم علينا .
قال الشاعر :
تـفورُ عـلينا قِـدْرُهم فَنُديمها          ونفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا (25)
وهكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم ، فمعنى ( فار التنّور ) : حمى
غضبُ الربّ ، وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مَفْجَر الماء .
غير أنّ التنّور ـ في أصله ـ اسم لما يخبز فيه ، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا تحوير .
قال ابن دريد : التنّور فارسيّ معرّب . لا تعرف العرب له اسماً غير هذا ؛ فلذلك جاء في التنزيل ؛ لأنّهم خوطبوا بما يعرفون .
وقال ابن قتيبة : رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال : التنّور بكلّ لسان ، عربيّ وعجمي (26) .
واستعير لمَفْجَر الماء ، والتنانير : ينابيع الماء ، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار .
قال الفيروز آبادي : التنّور : كلّ مَفْجَر ماء ، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه ، وتنانير الوادي محافله ( مواضع تجتمع فيها المياه ) وهي الوِهاد والمستنقعات في البراري .
ومعنى الآية على ذلك : وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت .
وهكذا جاء التعبير في سورة القمر : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر: 11 - 13].
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [العنكبوت: 14]
وهل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل ؟ الأمر الذي لم يَكد يكون معروفاً وحتّى في القرون الماضية ، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن أعمارنا ، وقد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر ، فكيف يكون ذلك ؟
يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار : لا مانع من أنْ يعمِّر آدم ومن قُرب منه أعماراً طويلة ؛ لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يَحمل هموماً ، ولم تَعتوره الأمراض المختلفة ، ولم تُنهك قوّته الأطعمةُ التي لا يقدر على هضمها ، فكان من المعقول أنْ يعيش طويلاً ، وأمّا نحن وأمثالنا ـ ممّن كانوا قبل أربعين قرناً ـ فقد جئنا بعد أنْ أنهكت النوع
الإنساني الأمراضُ وطحنته الأدواء ، فالواحد منّا عُصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه وأُمّهاته ، فلم تعد قُوانا تتحمّل العمر الطويل .
وعند العلماء بالطبّ والأحوال الاجتماعيّة أنّ الإنسان قُواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها بسرعة ، بخلاف الحياة الضيّقة فإنّها تكون طويلة ؛ لقلّة ما يُستنفد من قُوى الأجسام بتلك الحياة ، فنحن الآن لا نعيش عيشةَ البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قُرب منه ، بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائد المعيشة بما يُنهك قُُوانا ، فلا غرابة أنْ تكون أعمارنا قصيرةً ، وقد اجتمعت عليها الأمراض المُتوارَثة والتبسيط في العيش .
ويقول بعض الأطبّاء الألمان : إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمِئة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً (27) .
وهكذا ذكر الشيخ مُحمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف ، والمعيشة على بساطتها الأُولى غير معقّدة الجوانب ، ولا كانت مُزدَحَم الأمراض والأدواء والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطريّة أسلم للأبدان (28) .
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]
دلّت الآية على أنّه لم يبقَ بعد الطوفان سوى نوح وَبنيه وذراريه ، وحتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به ونجوا من الغَرَق هلكوا وانقرضوا بلا عَقِب ، هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة ، قال الكلبي : ( لمّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم ) (29) ؛ ومِن ثَمّ كان نوح ( عليه السلام ) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم ( عليه السلام ) .
لكنّه يتنافى وقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل : {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] .
والموصول عامّ يشمل مَن رَكَب مع نوح من المؤمنين ، ولا يَخصّ وِلْدَ صُلبه ـ كما قيل ـ ؛ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ .
والقول بتشعّب البشر مِن وِلد نوح الثلاثة ( سام ، حام ، يافث ) رواية إسرائيليّة بحتة ذكرتها التوراة : ( ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض ) (30) .
غير أنّها ذَكرتْ أيضاً أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بَنوه وأزواجهم فحسب (31) ؛ ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جدّاً ، أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا ؛ ليكونوا مع المُغرَقِينَ ، وهذا أبعد وأغرب !
فالصحيح ما ذكره القرآن : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } [هود: 40] فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين ، وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً (32) .
فلابدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعاً بسلام {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48].
والتعبير بالأُمم ممّن معه يُعطي تناسل الأُمم منهم ، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون ، وهذا أيضاً مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام .
فالخطاب ـ مع بني إسرائيل ـ بأنّهم ذُرّيةُ مَن حملنا مع نوح ( يعني الذين آمنوا به ) يشمل الجميع .
ثمّ لو كان المراد ذُرّية وِلد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أَولى ، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم !
والوجه فيما ذكره الكلبي وغيره ؛ أنّه تأثّرٌ بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن .
بقي قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] يظهر منه أنّ البشريّة أصبحت جميعاً
من ذريّة نوح ولم يُعقّب الآخرون .
لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام مُحمّد بن علي الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى :
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال : ( الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عَقِبه ، قال : وليس كلّ مَن في الأرض مِن بني آدم ، مِن وِلد نوح ) واستشهد ( عليه السلام ) بالآية من سورة هود : {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] (33).
وهو تأويل وجيه يَدعمه قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [الحديد: 26] وهذا هو معنى البقاء {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] . يعني إبراهيم (عليه السلام) وقال تعالى : {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود : 116].
فالبقيّة الباقية في مصطلح القرآن هم الذين وَرِثوا الكتاب والنبوّة والإيمان ، يأمرون بالمعروف ويَنهون عن المنكر ، هذا هو البقاء وفي غيره الفناء ، الأمر الذي تحقّق في ذرّية نوح وإبراهيم ( عليهما السلام ) .
قال الحسن البصري : هلك المتمتّعون في الدنيا ؛ لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملاذّها ... (34)
قال الإمام أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين : ( هَلكَ خُزّانُ الأموالِ وهُم أحياءٌ والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ) (35).
_______________________________
1. راجع : تفسير المنار لمُحمّد عبده ، ج 12 ، ص 105 .
2. في ترجمتها الفرنسيّة . راجع : الميزان للطباطبائي ، ح 10 ، ص 267 .
3. راجع : قصص الأنبياء للنجّار ، ص 46 ـ 47 .
4. تفسير المنار ، ج 12 ، ص1 08 .
5. راجع : سورة هود 11 : 40 والمؤمنون 23 : 27 .
6. راجع : تفسير الميزان ، ج 10 ، ص 272 و274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان ، ج 12 ، ص 316 ـ 317 .
7. تفسير المنار ، ج 12 ، ص 108 .
8. نفس المصدر ، ج 12 ، ص 106 .
9. معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي ، ج 11 ، ص 144) .
10. تفسير الميزان ، ج 10 ، ص 274 .
11.  تفسير المنار ، ج 12 ، ص 76 .
12. سِفر التكوين ، إصحاح 7/ 2 ـ 3 .
13. راجع : الدرّ المنثور للسيوطي ، ج 4 ، ص 423 فما بعد .
14.  في ظِلال القرآن، ج 12 ، ص 62 ، مجلّد 4 ، ص 548 .
15. تعاطى مخفّف تعاطياً ، حذف اللام للضرورة ، جامع الشواهد ، ص 324 .
16. راجع : مجمع البيان للطبرسي ، ج 5 ، ص 161 .
17. المصدر : ج 6 ، ص 365 .
18.  فيما يأتي في البحث عن آية ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فيما توهّم من المخالفة مع العلم .
19. المصدر : 8 / 4 .
20.  راجع : دائرة المعارف الإسلاميّة المُترجمة إلى العربيّة ، ج 7 ، ص 161 ـ 163 (الجود )  .
21. معجم البلدان ، ج 2 ، ص 179 .
22. معجم لغات القرآن للشعراني ، ج 11 ، ص 144 .
23. عادةً في الطبيعة ، ولا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز !
24. مجمع البيان ، ج 5، ص 165
25.  أساس البلاغة للزمخشري ، ج 2 ، ص 217 . وفثأ القدر ـ بالثاء المثلّثة ـ : إذا صبّ عليه ماءاً بارداً ليفتر غليانه .
26.  المعرَّب لأبي منصور الجواليقي ، ص 213 ، وراجع : جمهرة اللغة لابن دريد ، ج 3 ، ص 502 ، و ج 2 ، ص 14 ، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، ص 384 .
27.  قصص الأنبياء للنجّار ، ص 48 .
28. تفسير المنار ، ج 12 ، ص 104 .
29.  مجمع البيان ، ج 7 ، ص 447 .
30. سِفر التكوين ، إصحاح 9 / 18 .
31. المصدر : 7 / 8 .
32. مجمع البيان ، ج5 ، ص 164 .
33. تفسير القُمي ، ج 2 ، ص 223 .
34. مجمع البيان ، ج 5، ص 168 .
35. نهج البلاغة ، قصار الكلم ، رقم 147 ، في كلامه ( عليه السلام ) مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة ، ص 496.



وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .