أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-05-2015
6449
التاريخ: 26-10-2014
5786
التاريخ: 9-05-2015
9363
التاريخ: 10-05-2015
32878
|
تأتي نظرية
لغة المثال في طليعة النتائج المترتبة على الظاهر والباطن، وإذا ما شئنا الدقّة
فإنّ هذه النظرية تأتي حصيلة للفهم الوجودي للقرآن برمّته كما مرّ علينا في الفصول
السابقة، خاصّة تصوّره لحقيقة القرآن وتعدّد مراتب الفهم وما يكتنف ذلك من أفكار.
تفيد
النظرية ببساطة أنّ القرآن يلجأ إلى أسلوب المثال واللغة الرمزية في تبيان مقاصده.
وهذا ما لا يكاد يختلف عليه أحد من المفسّرين أو المشتغلين بالشأن القرآني لا
سيّما مع وجود القرينة عليه من النص القرآني نفسه، كما في قوله سبحانه : {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ
كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[ الزمر : 27] ، وقوله : {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما
يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ} [ العنكبوت : 43]. كما من الحديث الشريف أيضا :
«إنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم» (1).
بيد أنّ ما
يختلف هو طبيعة فهم هذه الظاهرة في منهج الأداء القرآني وكيفية تفسيرها، حيث
يواجهنا على هذا الصعيد فهمان، يرى الأوّل في الأمثلة أنّها لا تزيد على وسائل
إيضاح مؤثّرة يلجأ إليها القرآن لبيان مقاصده وينتهي الأمر عند هذا الحد. أمّا
الفهم الثاني فيعتقد أنّ الأمثلة ما هي إلّا اطر وقوالب تومئ إلى حقائق كائنة
وراءها، ومن ثمّ فإنّ لغة المثال ليست وسائل إيضاح إشارية وتعبيرية الغرض منها
مماشاة الأفهام المختلفة والتأثير فيها وحسب، بل هي منظومة تترابط مع ما بعدها،
تجمع بين حقائقية الأشياء وواقعيتها وبين التعبير عنها بالمثال والرمز.
بإزاء هذا
الاختلاف بين الفهمين يتفق الاتجاهان كلاهما على أنّ القرآن الكريم نفسه هو الذي
أسّس لهذا النهج في الأداء وأرسى معالمه في ثنايا النص، كما يتفقان على أنّ ذلك هو
تعبير عن سنّة عقلائية مطّردة بين مختلف الأقوام والأمم ومنهجيات الأداء اللغوي
والفكري : «إيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعدّدة
والأمثال والأمثلة الكثيرة المتنوّعة، أمر دائر في جميع الألسنة واللغات من غير
اختصاص بقوم دون قوم، ولغة دون لغة» (2).
في نص مبكّر
لابن عربي يشير إلى وجهي المسألة، متمثلين في أنّ القرآن لجأ إلى لغة الرمز
والمثال ونبّه إلى ذلك، وأنّ الرموز ترتبط بما وراءها والمراد هو هذا «الماوراء»
وليس الرموز، جاء فيه : «اعلم أيّها الولي الحميم أيدك اللّه بروح القدس وفهّمك،
أنّ الرموز والألغاز ليست مراده لأنفسها وإنّما هي مرادة لما رمزت إليه ولما ألغز
فيها، ومواضعها من القرآن آيات الاعتبار كلها. والتنبيه على ذلك قوله تعالى : {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ}[ العنكبوت : 43]. فالأمثال ما جاءت مطلوبة لأنفسها
وإنّما جاءت ليعلم منها ما ضربت له وما نصبت من أجله مثلا، مثل قوله تعالى :
{أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ
فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الْحَقَّ والْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما
يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}[ الرعد : 17] فجعله كالباطل، كما قال : {وَزَهَقَ الْباطِلُ}[ الإسراء : 81].
ثمّ قال : {وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[ الرعد : 17] ضربه مثلا للحق :
{كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}[ الرعد : 17] ؟ . وقال : {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ}[ الحشر : 2] أي تعجّبوا وجوزوا واعبروا إلى ما أردته
بهذا التعريف، و{إِنَّ
فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ}[ آل عمران : 13] من عبرت الوادي إذ جزته» (3).
أمّا
الشيرازي ففي نصوصه وفرة كافية لبيان هذا الأصل في الأداء القرآني وتعليله. ففي
النص التالي يومئ إلى أنّ لغة المثال منهج قرآني- نبوي، يعلّله على ضوء اختلاف
مدارك الناس وتفاوتها بالقوّة والضعف، ويفسّره على وفق قاعدة مخاطبة الناس على قدر
عقولهم، حيث يقول : «و أكثر الخلق لا يدرك الحقائق الكلية واصول الموجودات إلّا
على سبيل التمثيل والتشبيه، والأنبياء مأمورون بدعوة الخلق والتكلّم معهم على مبلغ
عقولهم، لقوله : «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» (4) ، وعقول
أكثر الناس بمنزلة الخيال والوهم، ولذلك كان تعليمهم الحقائق الإيمانية على رتبة
التمثيلات التي تناسب طبائعهم الغليظة» (5).
عند هذه
النقطة التي ترجع لغة المثال إلى اختلاف المستويات الإدراكية أو أنّها وسيلة إيضاح
مؤثّرة، يلتقي الاتجاهان على ما يومئ إليه النص التالي للفخر الرازي (ت : 606 هـ)
: «إنّ المقصود من ضرب المثال أنّه يؤثّر في القلوب ما لا يؤثّره وصف الشيء في
نفسه ، وذلك لأنّ الغرض تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد فيتأكّد الوقوف على
ماهيته ويصير الحس مطابقا للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح. ألا ترى أنّ الترغيب
بالايمان والتزهيد عن الكفر مجردين عن ضرب الأمثال لا يتأكّد تأثيرهما في القلب،
وإذا مثّل الإيمان بالنور والكفر بالظلمة يتأكّد تأثير حسن الإيمان وقبح الكفر في
القلب؟» (6).
بيد أنّهما
يعودان للافتراق في التعليل ونظرية التفسير. فالغرض من المثال في المدرسة الوجودية
أو العرفانية ليس التأثير ومماشاة اختلاف مستويات الإدراك وحسب، وإنّما بيان حقيقة
الأمر بهذا الأسلوب، ومن ثمّ فإنّ وصف الإيمان بالنور
والكفر
بالظلمة ليسا وصفين تمثيليين بل هما حقيقة مشهودة تدلّ عليها الأحوال الباطنة
للمؤمنين والكافرين، وفعالهم الظاهرة وأحوالهم فيها مثال لها. يكتب الشيرازي
تعقيبا على كلام الرازي : «أقول : قد علمت أنّ حقيقة التمثيل ما هو، ودريت أنّ
الغرض ليس مجرّد التأثير والوقع في النفس، بل بيان حقيقة الأمر وملاكه وروحه. أو
لا ترى أنّ الألفاظ المذكورة في هذه الآية (7) ، من النار
والاستيقاد والإضاءة والنور والذهاب والظلمات وغيرها كلّها محمولة على الحقيقة،
مشهودة بنظر البصيرة، بل هي حقيقة أحوالهم الباطنة والتي هم عليها من الأحوال
والأفعال الظاهرة هي مثال لتلك الأحوال» (8).
ما يذهب
إليه هذا الاتجاه من أنّ التمثيل لا يعني التخييل على سبيل الإيضاح والتأثير، بل
هو تعبير عن حقيقة خاصّة بهذه اللغة، تسنده تصوّرات المدرسة الوجودية ورؤيتها
الكونية بعامّة، كما يعضده فهمها الخاص لحقيقة القرآن ومراتبه.
فقد مرّ
علينا ما ذهبت إليه في مرتكزاتها من أنّه ما من شيء في عالم الصورة إلّا وله نظير
في عالم المعنى (9) ، وأنّه ما من شيء في العالم إلّا وهو مثال لأمر
روحاني والمثال المادي مرقاة إلى المعنى الروحاني (10) ، وأنّ
للحقائق أمثالا في كلّ عالم (11) ، وما في هذا العالم أمثلة لما هو أعلى، وأنّ العوالم
متطابقة الأدنى مثال الأعلى، والأعلى حقيقة الأدنى وهكذا إلى حقيقة الحقائق (12). وبذلك
تسجّل المدرسة صراحة : «و لا يتصوّر شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلّا بضرب
الأمثال، ولذلك قال سبحانه : {وَتِلْكَ
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ}[العنكبوت : 43] » (13).
على هذا
كلّه يسجّل مفسّر معاصر منتم للمدرسة ذاتها، أنّ الأمثلة تشير من جهة : «إلى نفس
هذه الحوادث الخارجية والتكوّنات العينية» التي تتحدّث عنها الأمثلة وليس إلى
«القول». كما يسجّل من جهة اخرى بأنّ : «هذه الوقائع الكونية والحوادث الواقعة في
عالم الشهادة، أمثال مضروبة تهدي اولي النهى والبصيرة إلى ما في عالم الغيب من
الحقائق، كما أنّ ما في عالم الشهادة آيات دالّة على ما في عالم الغيب على ما
تكرّر ذكره في القرآن الكريم، ولا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة
أو آيات دالّة» (14).
هذا المفسّر
نفسه يلخّص وجهة المدرسة كاملة في بعديها، البعد الأوّل الذي يلتقي مع الاتجاه
السائد في تفسير لغة المثال على أساس مماشاة المستوى الإدراكي للناس ، ثمّ والأهمّ
من ذلك البعد الثاني الذي يجعل الأمثلة دالات لفظية على حقائق وليست وسائل إيضاح
مؤثّرة وحسب. يقول عن البعد الأوّل : «إنّ البيانات اللفظية القرآنية أمثال
للمعارف الحقة الإلهية، لأنّ البيان نزل في هذه
الآيات إلى
سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلّا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلّا في
قالب الجسمانيات» (15).
فيما يقول
عن البعد الثاني : «إنّ البيانات أمثال ، ولها ما وراءها حقائق ممثّلة ، وليست
مقاصدها ومراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس» (16).
حيث يكون
الأمر كذلك ، وأنّ لغة المثال القرآنية تعبير لفظي لمعان وجودية حقيقية، فلا معنى
لحمل ألفاظ القرآن ونصوصه على غير هذه المعاني والنزوع إلى التأويل، بما يستبطن
التعامل مع الألفاظ على أنّها ضرب من المجاز والاستعارة، إلّا ما استثنته الضرورة.
وهذه هي القاعدة التي لخّصها أحد رموز المدرسة بقوله : «إنّ ألفاظ القرآن يجب
حملها على المعاني الحقيقية، لا على المجاز والاستعارات البعيدة» (17).
وبذلك يتمّ
الجمع بين لغة المثال القرآنية، وبين أن تكون هذه الأمثلة صور وقوالب واطر لفظية
لحقائق فعلية. هذه القاعدة تحوّلت إلى نبض يرسل بحيويته على جميع نصوص الإمام
الخميني القرآنية ولمحاته التفسيرية، بحيث يصعب الاستشهاد عليها بمثال أو مثالين
لكثرة حضورها وكثافته (18).
تبقى مسألة
نوّهنا لها نهاية المحور الثالث من هذا الفصل ترتبط بلغة العرفان، إذ هناك ظاهرة
يرصدها المتابعون للأداء العرفاني تتمثّل بغموض اللغة وتعقيد الأسلوب، حيث يبدو
الفكر العرفاني مليئا بالطلاسم والشفرات بحيث يستدعي التعاطي معه إلى إنفاق جهد
استثنائي كبير.
أكثر من ذلك
تواجه هذه المدرسة تهما مكثّفة تنسب فكرها وأسلوبها الأدائي إلى تعمّد الغموض
والتعمية وعدم الالتزام، وأنّها تلجأ إلى الهمهمات والمواجيد بل وإلى اللغة
المراوغة عن قصد مسبق.
__________________
(1)- وسائل
الشيعة 27 : 190، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 38.
(2)-
الميزان في تفسير القرآن 3 : 63.
(3)-
الفتوحات المكّية 1 : 189.
(4)- الكافي
1 : 23/ 15.
(5)- تفسير
القرآن الكريم 7 : 380.
(6)-
التفسير الكبير 1 : 293.
(7)- يعني
قوله سبحانه : {مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ}. (البقرة
: 17)
(8)- تفسير
القرآن الكريم 2 : 15.
(9)- نفس
المصدر 4 : 166.
(10)- نفس
المصدر : 172.
(11)- نفس
المصدر : 415.
(12)- نفس
المصدر : 166.
(13)- تفسير
القرآن الكريم 2 : 5.
(14)-
الميزان في تفسير القرآن 11 : 337- 338، عند تفسير الآية العتيدة (17) من سورة
الرعد، أي آية : {كَذلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}.
(15)-
الميزان في تفسير القرآن 3 : 62.
(16)- نفس
المصدر : 63.
(17)- تفسير
القرآن الكريم 4 : 166.
(18)- يشهد
هذا المبدأ حضورا مكثفا في اللمحات التفسيرية التي انطوت عليها الكتب التالية
للإمام : سر الصلاة، آداب الصلاة، شرح دعاء السحر، الأربعون حديثا، وكتاب شرح حديث
جنود عقل وجهل، مضافا إلى تفسير سورة حمد.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|