أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-8-2020
2185
التاريخ: 25-9-2020
2956
التاريخ: 14-8-2020
1955
التاريخ: 14-8-2020
2179
|
في غزوة الخندق(1)
الذي عليه أكثر المؤرخين أن سلمان لم يشارك في غزوات النبي الأولى كبدرٍ وأحد، لأنه كان لا يزال في حينها قيد الرق، أما بعد أن أعتقه الإسلام من رقه فانه لم ينفك عن مصاحبته (صلى الله عليه وآله) ومواكبته له في غزواته وحروبه، واسداء الرأي والنصيحة حينما يتطلب الأمر ذلك، فكان له مواقف خالدة في هذا المضمار إحتفظ لنا التأريخ ببعض منها نظراً لما كان ترتب عليها من أهمية تتصل بالحفاظ على قوة المسلمين العسكرية.
وأهم هذه المواقف وأعظمها ما أشار به على المسلمين في حربهم ضد الشرك فيما يسمى بغزوة « الخندق ». ، وغزوة الخندق هذه إشتملت على مشاهد مثيرة يعيشها القارئ من خلال ما سجلته أقلام المؤرخين حولها ، ففيها إلتقت الكثافة العددية لجيش العدو بالقلة العددية لجيش المسلمين ، مع ما دبر من مكائد تجمعها كلمة « الحرب خدعة » بين الطرفين ، وتدخل العنصر الغيبي « الإلهي » لحسم الموقف ، مما يدعو القارئ والكاتب إلى ضرورة الإلمام بها وبظروفها ولو بنحو الإجمال.
لقد بدأت هذه الحرب في شوال من السنة الخامسة للهجرة بتحريض جماعة من اليهود وذلك : أن نفراً من يهود بني النضير قرروا فيما بينهم أن يقوموا بحملة تستهدف تجميع القوى المناهضة للرسول (صلى الله عليه وآله) ولرسالته الإسلامية ومن ثم مهاجمته في المدينة والقضاء عليه وعلى من يكون معه ، فقدموا على قريش بمكة ودعوهم إلى ذلك وقالوا نكون معكم حتى نستأصله. وكان من هؤلاء اليهود سلام ابن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي وغيرهم.
فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود؟ إنكم أهل الكتاب الأول، وتعلمون بما أصبحنا عليه نحن ومحمد، ونحن نسألكم أديننا خير أم دينه.؟
فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه!
وبهذه المناسبة نزلت الآية الكريمة: « ألم ترَ إلى الذين أُتُوا نَصيباً مِن الكِتاب يؤمنون بالجِبتِ والطاغوت ويقولون للذين كفروا هَؤُلاء أَهدى من الذين آمنوا سَبِيلا أولئكَ الذين لعنهم اللهُ ومَنْ يَلعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا. »
ولما سمعت قريش من اليهود ذلك استبشرت وطمعت في أن يحقق لها هذا التكتل النصر على محمد (صلى الله عليه وآله) فتواعدوا وإياهم على حربه عندما يتيسر لهم من العراب من يناصرهم عليه.
ولم يكتف اليهود بذلك، بل حرضوا بعض القبائل الأخرى على حربه (صلى الله عليه وآله) وأعدين إياهم النصر الأكيد، إذ لا طاقة لمحمد وأصحابه على مناجزتهم والثبات في وجههم ، وهم بهذا العدد الضخم من الأفراد والعدة الكاملة من السلاح ، فاستجابت لهم غطفان وكان قائدها عيينة بن حصن ، وبنو سليم بقيادة سفيان بن شمس ، وبنو أسد ، وفزارة ، وبعض قبيلة الأشجع وبنو مرة وغيرهم ، وكان أبو سفيان قائد قريش ، فبلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل وكان في قريش وحدها ثلاثة آلاف فارس ومعها ألف وخمسمائة بعير.
وبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك فجمع أصحابه وأمرهم بالاستعداد للمواجهة وحثهم على الجهاد واستشارهم في وضع خطة تمنع دخولهم إلى المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، قائلاً له :
«كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقا يحول بيننا وبين عدونا.. »
فاستحسن النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه هذا الرأي وأمر بحفره، وبهذه المناسبة صار المهاجرون والأنصار يبدون تقربهم لسلمان فاختلفوا فيما بينهم وكل يقول: سلمان منا، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) حزم الأمر بقوله: «سلمان منا أهل البيت» فكانت هذه الكلمة من الرسول في حقه أكبر وأعظم وسام يناله صحابي.
ثم أن النبي حدد لكل عشرة من المسلمين أن يحفروا أربعين ذراعاً، وكان هو كأحدهم يحفر بيديه مؤاساةً وتشجيعاً لهم، وكان المسلمون يحفرون وينشدون الأشعار، أما سلمان، فلا نشيد ولا كلمة على لسانه تلهب حماسه، لكنه مع ذلك كان من أنشطهم وأخلصهم في العمل ، وسر النبي (صلى الله عليه وآله) أن يسمع من سلمان شعراً كما يسمع من غيره ، فقال (صلى الله عليه وآله) اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيت من الشعر فأنشأ سلمان يقول :
مـا لي لسـان فـأقـول الشعـرا
أسـأل ربـي قــوةً ونـصـرا
عـلى عـدوي وعـدو الـطهـر
محمـد المختـار حـاز الـفخـرا
حتـى أنـال فـي الجنـان قصـرا
مع كل حـوراء تحاكـي البـدرا (2)
وبينما كان سلمان مع تسعة نفر يحفرون في المساحة المحددة لهم وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم ، فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئاً ، فقالوا لسلمان : إذهب إلى رسول الله وأخبره بذلك ، فلعله يأمرنا بالعدول عنها ، فإنا لا نريد أن نتخطى أمره.
فلما أخبره سلمان بذلك، أقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربةً صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم ـ على حد تعبير الراوي ـ فكبَّر رسول الله. ثم ضربها ضربةً ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول، وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية، ثم أخذ بيد سلمان وصعد خارج الخندق.
فقال له سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط!
فالتفت رسول الله إلى القوم وقال : هل رأيتم ما يقول سلمان؟
فقالوا: نعم يا رسول الله ، بأبينا أنت وأمنا ، لقد رأيناك تضرب ، فيخرج البرق كالموج ، فرأيناك تكبر فكبرنا ، ولم نرَ غير ذلك.
قال: صدقتم، لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها.، وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها.، فاستبشر المسلمون بذلك.
وأما المنافقون فحينما سمعوا ذلك قالوا: ألا تعجبون من محمد يحدثكم ويمنيكم ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وأنتم تحفرون خندقاً ليحول بينكم وبين أعدائكم، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب لقضاء حاجته!
فنزلت الآية: «وإذا يقولُ المنافقونَ والذينَ في قُلُوبِهِم مرضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ ورسولُهُ إلا غُرُورَا.»
والذي زاد الطين بلة، أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد عقد عهداً بينه وبين يهود بني قريظة وكان زعيمهم كعب بن أسد القرظي، فدس إليه أبو سفيان حي بن أخطب لينقض العهد مع النبي، وبعد حوار مثير وجدل بينهما نقض كعب العهد ـ فاشتد خوف المسلمين حيث أصبحوا وهم يواجهون عدوين داخلي ـ في نفس المدينة ـ وخارجي، وهم الغزاة.
وتوزع المشركون في ثلاث كتائب، كتيبة أقبلت من فوق الوادي وقائدها ابن الأعور السلمي. وكتيبة من الجنب وقائدها عيينة بن حصن، ووقف أبو سفيان ومن معه في كتيبة ازاء الناحية الثانية للخندق. وقد وصف الله سبحانه هذا المشهد وموقف المسلمين بقوله تعالى:
«وإذ جَاؤوكم مِنْ فوقِكم ومن أسفَلَ مِنكم وإذ زَاغَتِ الأبصارُ وبَلَغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظنونَ بالله الظنونَ هنالِكَ ابتُلي المؤمنون وزُلزِلوا زِلزَالاً شديداً وإذ يقولُ المنافِقون والذين في قُلوبهم مِرضٌ ما وعَدَنا الله ورسولُهُ إلا غُرورَاً.»
وطال الحصار على المسلمين واستمر الخوف بهم، وكان في الخندق ثغرة ضيقة مكنت ستة نفر من المشركين من عبوره وفيهم عمرو بن ود العامري وضرار بن الخطاب ونوفل بن عبد الله، وحاول بقية فرسان قريش عبورها إلا أن علياً (عليه السلام)، وبعض المسلمين رابطوا فيها وصدوهم عن ذلك.
وأقبل عمرو بن ود العامري يجول بفرسه داعياً الناس إلى المبارزة، ولكن المسلمين تحاموه لما يعرفونه من شجاعته وشدة بأسه، بل صاروا يرتعدون من الخوف، إلا علي (عليه السلام) فانه لما سمعه يدعو إلى البراز ترك مكانه وجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له : أنا له يا رسول الله فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : اجلس انه عمرو بن ود!
وكرر عمرو النداء، فلم يتحرك له أحد من المسلمين غير علي، والنبي (صلى الله عليه وآله) يأمره بالجلوس، ليرى مقدار التضحية والبذل من المسلمين لا رغبةً بعلي عن المخاطر.
ولما رأى عمرو أن أحداً لا يجيبه، جعل يتحداهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها ، أفلايبرز إلي أحد ، ثم أنشد:
ولقـد بُححـتُ مـن النـداءِ
بـجَمعِكـم هـل من مبـارز
إنـي كـذلـك لـم أزَل
متسـرِّعـاً نحـو الهَـزاهـزْ
إنَّ الشجـاعةَ في الـفتى
والجـودَ مِـنْ خيـر الغَرائـزْ
هذا والنبي (صلى الله عليه وآله) يصوب نظره نحو المسلمين يميناً وشمالاً ويدعوهم إلى مبارزته، فلم يستجب له أحد.
فقام علي (عليه السلام) إلى النبي وقال: أنا له يا رسول الله ، والنبي يقول له : اجلس انه عمرو. فقال علي: وإن كان. فأذن له (صلى الله عليه وآله) وأعطاه سيفه ذا الفقار، وألبسه درعه، وعممه بعمامته وقال:
« اللهم انك قد أخذت مني عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد. وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين. » ثم قال: « برز الإيمان كله إلى الشرك كله. »
فبرز إليه علي وهو يقول :
لا تـعـجـلـنَّ فقـد أتـاك
مجيـبُ صـوتِـكَ غير عاجـزْ
ذو نـيّــةٍ وبـصـيــرةٍ
والصـدقُ منجـي كـلَّ فـائـزْ
انـي لأرجـو أن أقـيــمَ
عـليـك نـائحـةَ الـجَنـائـز
من ضربـةٍ نجـلاءَ يبقـى
صِـيتُهـا بعـدَ الـهـزاهــز
ولما تقابلا قال له عمرو: من أنت.؟
قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال : يا بن أخي ، ليبرز إلي غيرك من أعمامك من هو أشد منك ، فاني أكره أن أقتلك لأن أباك كان صديقاً ونديماً لي في الجاهلية.
فقال علي (عليه السلام): إن قريشاً تتحدث عنك أنك تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث خلال إلا أجبت، ولو إلى واحدة منها.
قال: أجل.
فقال علي: فاني أدعوك إلى الإسلام.
قال : دع عنك هذه.
قال : فاني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة.
قال : إذن تتحدث عني نساء مكة أن غلاماً مثلك خدعني!
قال علي : فاني أدعوك إلى البراز.
قال : اني لا أحب أن أقتلك .. فقال له علي ((عليه السلام) : ولكني أحب أن أقتلك.
وحين سمع عمرو هذه المقالة. هاج به الغضب وأخذه الحماس. فاقتحم عن فرسه وعقره. ثم أقبل على علي (عليه السلام). فتنازلا وتجاولا. فضربه عمرو بسيفه. فاتقاه علي بدرقته. فاثبت فيها السيف وأصاب رأسه. فضربه علي على حبل عاتقه. فسقط يخور بدمه.
عن جابر عبد الله الأنصاري أنه قال: «كنت قد تبعت علياً لأنظر ما يكون من أمره. ولما ضربه علي ثارت غبرة شديدة حالت بيني وبينهما. غير أني سمعت تكبيراً فكبر المسلمون عند ذلك. فعلمنا أن علياً قد قتله. وانجلت الغبرة عنهما فإذا علي على صدره يحز رأسه» وفر أصحابه ليعبروا الخندق فطفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر به فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة. فقال يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه. فنزل إليه علي فقتله.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في قتل علي (عليه السلام) لعمرو: «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل أعمال أمتي إلى يوم القيامة.»
وفي هذه الغزوة كان حسان بن ثابت الشاعر قابعاً مع النساء والأطفال في حصن بعيداً عن ساحة القتال، وكانت صفية بنت عبد المطلب هناك، تقول صفية : فمر بنا رجل من اليهود وجعل يطوف بالحصن وقريظة قد قطعت ما بينها وبين رسول الله من العهد وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله والمسلمون في مقابل عدوهم ، وخافت صفيّة أن يكون ذلك الرجل عيناً لقومه بني قريظة يدلهم على ما يوصلهم إلى حصن النساء فقالت لحسان : يا حسان. إن هذا اليهودي كما ترى يطوف حول حصوننا واني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من رواءنا، ورسول الله في شغل عنا بمن أحاط به من المشركين، فإنزل إليه واقتله.
فقال حسان: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب. والله إنك لتعلمين أني لستُ بصاحب هذا الأمر.
قالت صفية: فلما سمعت منه ذلك ويئست من خيره. شددت وسطي بثوب كان عليَّ وأخذت عموداً ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن. وقلت له: يا حسان. إنزل إليه فاسلُبهُ. فإنه لا يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.
فقال: ما لي بسلبهِ من حاجة يا بنت عبد المطلب!
واستمر الحصار مضروبا حول المدينة، واستمر المؤمنون في ثباتهم وعزمهم مسلِّمين أمرهم إلى الله وإلى رسوله يحدوهم الأمل بالنصر كما وعدهم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنزل الله فيهم قوله : « ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا الله ورسُولُه وصدق الله ورسُولُه وما زادَهم إلا إيماناً وتسليما. ».
وبينما النبي (صلى الله عليه وآله) يُفكّر في حلّ لتلك الأزمة وإذا بنعيم بن عامر بن مسعود ينسلُّ من بين الغزاة متوجهاً صوب النبي ليعلمه أنه آمن به وبرسالته دون أن يعرف به قومه ، قائلاً للنبي : مرني بما شئت. وكان نعيم هذا مسموع الكلمة في قومه. وعلم النبي ذلك، فرأى أن أفضل عمل يقوم به هو بث روح التفرقة في جيش المشركين وبذلك يضمن تمزيقه، فقال له:
« إنما أنت رجلٌ واحد ، فخذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعةٌ.! »
فخرج نعيم حتى انتهى إلى بني قريظة وكان لهم نديماً من قبل، فقال لهم : يا
بني قريظة ، لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكم. فقالوا : قل ما تريد ، فلست عندنا بمُتّهَم.
فقال لهم : إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم وفيه أموالكم وأولادكم ونساؤكم ومن الصعب عليكم أن تتحولوا لغيره. ، أما قريش وغطفان فقد جاؤا لحرب محمّدٍ وتركوا نسائهم وأموالهم وأولادهم في بلدهم آمنين ، فان قُدِّرَ لهم أن يصيبوا محمداً وأصحابه فذاك ما يريدون ، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلُّوا بينكم وبينه ، ولا طاقة لكم به إن خلاَ بكم ، وأرى لكم أن لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونوا بأيديكم ، وعندها يضطرون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم.
واقتنعت قريظة بهذا الرأي وقالوا : أشرت بالصواب.
وأتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه : قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمر رأيتُ عليَّ حقاً أن أُبلغكموه فاكتموه عليّ. فقالوا : لك ذلك.
قال : بلغني أن معشر يهود قد ندِموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه بذلك وعرضوا عليه أن يأخذوا رجالاً منكم ومن غطفان ويسلّموه إياهم ليضرب أعناقهم ثم ينحازوا معه حتى يستأصلوكم ، فأجابهم هو لذلك ، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تسلموا لهم أحداً.
وخرج إلى غطفان وقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحبُّ الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني في شيء. فقالوا : أنت لست بمتهم عندنا. ثم قال لهم ما قاله لقريش وحذَّرهم من اليهود وغدرهم بهم.
واستطاع أن يعبىء نفوس قريش وغطفان بالشك والريب في يهود بني قريظة، وبذلك مزَّق وحدتهم.
وارسلت قريش وغطفان عكرمة بن أبي جهل ومعه جماعة إلى بني قريظة قائلين لهم : إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخُفُّ والحافر فإستعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغَ مما بيننا وبينه.
وصادف ذلك يوم السبت، فأرسلوا إليهم : أن اليوم يوم سبتٍ ونحن لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ، ولسنا ـ مع ذلك ـ نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً يكون بأيدينا لنطمأن بأنكم ستقاتلونه إلى النهاية ، فأنا نخشى إن ضرّستكُم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا.
فرجع عكرمة ومن معه إلى قريش وغطفان وأخبروهما بمقالة القوم، فقالوا عند ذلك : صَدَق نعيمٌ بما حدثنا به.
فأرسلوا إليهم: أنا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا لنقاتله غداً.
وأصرَّ كل من الطرفين على موقفه، ورفض اليهود أن يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن.
ولم يغير ذلك في موقف أبي سفيان من محاربة النبي، فصمم هو ومن معه أن يناجزوا محمداً في صبيحة يومهم التالي.
وهنا تدخلت العناية الإلهية لإنقاذ الموقف، ففي تلك الليلة عصفت ريحٌ شديدة هوجاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لأحدٍ منهم بها ظلت تشتد حتى اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم، ودَاخَلَهُم من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تأريخهم الطويل، وخُيّل إليهم أن المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثبة عليهم والتنكيل بهم.
فقام طلحة بن خويلد ونادى: إن محمداً قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة.. وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام لقد هلك الكُراعُ والخفُّ ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره ، وقد لقينا من شدة الريح ما ترون ، فإرتحلوا ، فاني راحلٌ الساعة.
وهكذا أسرع القوم بالرحيل تاركين وراءهم اشلاء خيامهم الممزقة، وبقايا من أحمالهم وأمتعتهم، وهم يتعثرون بأعتاب الرُعب والفشل.
وما ذلك، إلا بفضل دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) وتأييد الله له.
وبضربة علي (عليه السلام) لعمرو، وبإشارة سلمان بحفر الخندق، وتخذيل نعيم للمشركين.
« يا أيها الذينَ آمنوا إذكُروا نعمةَ الله عليكم إذ جَاءَتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيراً .. »
__________________
(1) راجع سيرة المصطفى / 493 وما بعدها. والكامل 2 / 178 وما بعدها بتصرف.
(2) الدرجات الرفيعه / 218.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|