أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-9-2020
2218
التاريخ: 13-9-2020
1137
التاريخ: 13-9-2020
1118
التاريخ: 12-9-2020
1356
|
الجواب : سنذكر لكم بحثاً مفصّلاً حول الشيخية وعقائدهم , والذي حاولنا أن نلتزم فيه بالموضوعية الكاملة , ليكون مرجعاً إلى كُلّ من يريد معرفة حقيقة الأمر ، فنقول :
الشيخية : فرقة من الشيعة الإمامية ظهرت في أواخر النصف الأوّل من القرن الثالث عشر الهجري ـ التاسع عشر الميلادي ـ وسمّيت بذلك نسبة إلى زعيمها الأوّل شيخ أحمد الأحسائي ، المتوفّى 1241 هـ ـ 1825 م ، وتسمّى بالكشفية أيضاً لما يصرّح به زعيمها من الكشف والإلهام ، أو لأنّ الله سبحانه قد كشف غطاء الجهل وعدم البصيرة في الدين عن بصائرهم ، كمّا تسمّى بالركنية أيضاً لقولها بالركن الرابع ، والشيعي الكامل ، واعتباره من أُصول الدين ، كما سيأتي ، وهذه الأفكار التي أدّت إلى حوادث ونزاع بينها وبين الشيعة الأُصولية ، الذين أنكروا هذه المسائل.
وهذه المسائل التي طرحها الشيخ أحمد الأحسائي أدّت إلى البعض بتبنّيها ، وبالأخصّ تلميذه المقرّب السيّد كاظم الرشتي ، إذ بعد وفاة الشيخ أحمد عهد إليه بالخلافة لأُستاذه ، أو بالركنية والمرجعية لأُمور الدين ، واستمر أمر هذه الفرقة متبنّياً لأراء الأحسائي ، وتلميذه السيّد الرشتي إلى أن حصل الافتراق بينهما بعد حسن جوهر ، وهكذا برزت إلى الوجود مدرستان ، مدرسة تبريز والمسمّاة بشيخية تبريز ، ومشيخة كرمان ، ووقع نزاع بينهما.
وزعيم الشيخية التبريزية الآن عبد الله عبد الرسول الإحقاقي وموطنه الكويت ، وزعيم الشيخية الكرمانية الآن عبد الرضا خان الإبراهيمي ، وموطنه كرمان ، ولهم مركز واسع في العراق في البصرة ، وأكثرهم في منطقة التنّومة ، والمدينة ، وينوب عن الزعيم الخان السيّد علي الموسوي.
وقد بثّت هذه الطائفة بعض الآراء والأفكار التي أدّت إلى حدوث النزاع بينهم وبين الطرف الآخر ، وقد ذكروا عدّة فروق بينهم وبين الشيعة الأُصولية ، تزيد على ثلاثين فرقاً ، إلاّ أنّها في الحقيقة مسائل جزئية لا يمكن جعلها من الخصائص المكوّنة للفرقة الشيخية ، وأهمّ المسائل التي طُرحت ، وهي محلّ الخلاف بين الطرفين هي أربع : المعاد الجسماني ، والغلوّ والتفويض ، والمعراج ، والركن الرابع ، فإنّ هذه المسائل هي أهمّ نقاط الخلاف بين الشيخية وغيرهم.
وقد أدّت الأفكار التي طرحتها الشيخية إلى حصول نزاع شديد بينهم وبين خصومهم ، واتخاذ بعض المواقف من قبل ما تبنّونه من آراء وأفكار ، وعموماً فإنّ من يرجع إلى أفكار التي طرحها الجانبان الكرمانية والتبريزية يجدها تحتوي على أُمور غريبة ، لا تمتّ إلى الدين بصلة ؛ حيث جعلوا الفروع من الأُصول ، بل وأضافوا إلى الأُصول أشياء لم يقم عليها دليل قرآني أو روائي ، كمسألة الركن الرابع ، والتي جعلوها من أُصول الدين ، ومن لم يؤمن بها أو لم يعرفها ، فهو لم يعرف التوحيد ولا النبوّة ولا الإمامة.
وسندرس هذه النقاط الأربعة تباعاً ، ونطرح ما يؤمن به الشيخية فيها ، ثمّ التعقيب عليها بما أمكن.
النقطة الأُولى : المعاد الجسماني :
يعتقد الشيعة الإمامية كما يعتقد سائر المسلمين أنّ الله عزّ وجلّ يعيد الخلائق ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء ، وأنّ المعاد هو الشخص بعينه وجسده وروحه لو رآه الرائي لقال : هذا فلان ، فهم ممّن يقول بإتيان المعادين الجسماني والروحاني.
لكن الشيخية قالوا : إنّ الجسم جسمان ، والجسد جسدان : جسد عنصري دنيوي ، وهو مخلوق من عناصر هذه الدنيا التي تحت فلك القمر ، وهذه تفنى ويلحق كُلّ شيء إلى أصله ويعود إليه ، فيعود ماؤه إلى الماء ، وهواؤه إلى الهواء ، وناره إلى النار ، وترابه إلى التراب ، ولا يرجع ولا يعود ; لأنّه كالثوب يلقى من الشخص.
والثاني : جسد أصلي من عناصر « هورقليا » ، وهو كامن في هذا المحسوس ، وهو مركّب من الروح فيقوم للحساب ، وهو الجسد الذي يتألّم ويتنعّم ، وهو الباقي وبه يدخل الجنّة والنار.
وهكذا تلميذه كاظم الرشتي كما ذكر ذلك في كتابه « دليل المتحرين : 79 » ، والشيخ حسن جوهر في كتابه « المخازن : 123 ».
فالشيخ الأحسائي وتلامذته من بعده ومن اتبعهم يؤمنون بأنّ هذا الجسد لا يرجع في الآخرة ، وإنّما هناك مادّة « هورقليا » هي التي تعاد يوم القيامة ، وهي التي تنعم بعد الموت ، فقال يتأكّل حتّى لا يبقى منه إلاّ الطينة ، فقد فسّرها الأحسائي بـ « الهورقليا » إلى المادّة الأصلية الباقية التي لا تُفنى.
وهذا الكلام خلاف ما عليه الشيعة الإمامية الأُصولية ، وكذلك فلاسفتهم ومتكلّميهم ، فهم يؤمنون بما نطقت به الشريعة الحقّة ، من أنّ المعاد للروح والجسد معاً ; لأنّ ذلك ما أخبر به الصادق الأمين ، وكُلّ أخباره حقّ لا ريب فيها.
وعليه ، فيكون منكر ذلك منكر لأمر متّفق عليه بين الشيعة ، ومسلّم عندهم ، لكن على أيّ حال لا يمكن القول بأنّ الشيخ أحمد الأحسائي ينكر المعاد الجسماني ، وإنّما هو وقع في خطأ في فهم المعاد الجسماني ، وبعد ورود الإشكالات على مسألة المعاد الجسماني ، وإضافة إلى روايات الطينة وغيرها اخترع الشيخ أحمد للإنسان جسماً آخر سمّاه « هورقليا » ، وبيّن أنّه هو الجسم الحقيقي دون غيره ، وأنّه هو الذي يتألّم ويمرض وغير ذلك ، وأمّا هذا الجسم العنصري فلا قيمة له لا في ألم أو حسّ أو غير ذلك.
النقطة الثانية : المعراج النبوي :
اتفق المسلمون عموماً على أنّ النبيّ صلى الله عليه واله عرج إلى السماء ، وأُسري به من مكّة إلى المسجد الأقصى ، ومن هناك كان عروجه إلى السماء.
وقد اختلفوا في كيفية عروجه صلى الله عليه واله إلى ربّه ، فهل كان بجسده وروحه معاً ، أم كان بروحه دون جسده؟ ذهب عموم المسلمين إلاّ ما شذّ منهم إلى أنّ عروجه كان بروحه وجسده معاً ، وأنّ ذلك من المعجزات الإلهية التي تثبت نبوّة النبيّ صلى الله عليه واله ، وشذّ بعض إلى الذهاب بعروج روحه دون جسده فقط.
والشيعة الإمامية تؤمن بأنّ المعراج كان بالروح والجسد لقوله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [الإسراء: 1] ، فقد أطلق المعراج على الظاهر من النبيّ صلى الله عليه واله وهو هيكله المادّي والروحي ، وأيضاً لكون المعراج معجزة من المعاجز ، فلذلك كان بروحه وجسده معاً ، هذا ما تعتقده الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
وأمّا الشيخية فهم لا يعتقدون بالعروج الجسماني للنبي صلى الله عليه واله ، وينكرون كون النبيّ صلى الله عليه واله عرج بروحه وجسده المادّي الذي كان متلبّساً به ، وإنّما عرج بروحه وبمادّة.
قال الشيخ أحمد الأحسائي : « إنّ الصورة البشرية عند إرادة صعوده يجوز فيها احتمالان ، في الواقع هما سواء ، وفي الظاهر الأوّل أبعد من المعقول والآخر أقرب!!
فالأوّل : إنّ الصاعد كُلّما صعد ألقى منه عند كُلّ رتبة ما منها فيها ، مثلاً : إذا أراد تجاوز الهواء ألقى ما فيه من الهواء فيها ، وإذا أراد تجاوز كرة النار ألقى ما فيه منها فيها ، فإذا رجع أخذ ما له من كرة النار ، وإذا وصل الهواء أخذ ما له الهواء.
لا يقال على هذا : إنّ هذا قول بعروج الروح خاصّة ، لأنّه إذا ألقى ما فيه عند كُلّ رتبة لم يصل منه إلاّ الروح؟
لأنا نقول : إنّا لو قلنا بذلك ، فالمراد بها إعراض ذلك ؛ ذوات تلك لو ألقاها بطلت بنيّته بالكُلّية ، فيجب أن لا يكون ذلك موتاً ; لأنّ القائلين بعروج الروح يقولون : إنّ بنيّته باقية لا تتفكّك ، وإنّما مرادنا أنّ الجسم بالنسبة إلى عالم الفساد يتلطّف إذا صعد إلى عالم الكون ، وإلاّ فهو على ما هو عليه من التجسّد والتخطيط.
والثاني : إنّ الصورة البشرية التي هي المقدار والتخطيط تابعة للجسم في لطافته وكثافته ، وإنّ الأجساد اللطيفة النورانية تكون بحكم الأرواح لا تزاحم فيها ولا تضايق ، ولهذا يبلغ المعصوم من مشرق الدنيا إلى مغربها في أقل من طرفة عين » (1).
وهو هنا حاول التقسيم واللف والدوران ، لكن رأيه واضح في أنّ العروج لم يكن بهذا الجسد الكثيف ; لأنّ صعود العناصر تقضي الخرق والالتئام.
ولذلك ردّ عليه الشيخ محمّد رضا الهمداني بقوله : « وقالت الشيخية بما هو لفظ الشيخ في رسالته المسمّاة بالقطيفية قال : أنّه لمّا أراد العروج ألقى في كُلّ كرة ما منها ، فألقى ترابه في التراب ، وماءه في الماء ، وهواءه في الهواء ، وناره في النار ، وكُلّ قبضة في تلك السماء ، ثمّ لما رجع أخذ من كُلّ كرة ما ألقى فيها » (2) ، وقد خالف بذلك ما عليه الشيعة الإمامية ، من أن عروجه كان بهذا الجسم الكثيف ، وهو من معجزات النبوّة.
وأمّا مسألة الخرق والالتئام ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه واله عند عروجه ألقى كُلّ ما فيه من هواء وماء وحرارة وتراب في فلكها السماوي المخصوص به ، فهو كلا غير صحيح.
وذلك : أوّلاً : إنّ نظرية الأفلاك ، وإنّ هناك أفلاك نارية ، وأفلاك مائية ، وأفلاك ترابية وغير ذلك غير صحيحة ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الأفلاك تكتسب حرارتها من غيرها ، فهي غير نارية بالذات ، وإنّما النارية عارضة لها ، وكذلك المائية والهوائية.
ثانياً : إنّ نزع ذلك في حقيقته هو نزع للجسد ; لأنّه يؤمن أنّ الجسد مكوّن من هذه العناصر الأربع ، فإذا نزعها انتفت عنه وانتهت ».
النقطة الثالثة : الغلوّ :
الدين الإسلامي دين سماوي ، مبنيّ على أُصول شرعية وعقلائية ، جاء موافقاً للفطرة وللذوق العقلائي ، وجاء هادياً الناس إلى أنّ يعتقدون بأُلوهية الله سبحانه وتعالى ، ولا يشركون به شيئاً ، فهو الموجد للكون وخالقه ، ومجري حركاته وسكناته ، وهو رازق من فيه ، ومحي كُلّ حيّ ، ومميت كُلّ ميّت ، وهو الذي يشفي ، وهو الذي يمرض ، وبمشيئته يحصل كُلّ شيء ، قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84].
وبيّن أنّه القاهر فوق عباده فقال : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18] ، وبيّن أنّ كُلّ من في الأرض عبيده ، وكُلّ آتيه طوعاً أو كرهاً : {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] ، وصوّر للإنسان أنّه هو الخالق له ولكُلّ شيء فقال : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] .
وقال مبيّناً خلق الإنسان وكيفية إنشائه : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9].
وقد ذمّ الله سبحانه وتعالى غلوّ المسيحيين في عيسى فقال : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .
وبيّن الله سبحانه وتعالى أنّه المتفرّد بالعلم بالغيب فقال : {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] ، وقال : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] .
وبيّن الله سبحانه وتعالى اختصاصه بالرزق والإحياء والإماتة والإمراض والاشفاء ، وغيرها ممّا هي من شؤون ربوبية الله سبحانه وتعالى ، والتي أكّدها أئمّة أهل البيت عليهم السلام بشكل واضح وصريح.
فقد ورد في الاحتجاج ردّاً على المفترين الغلاة ، قال فيه الإمام المهدي عليه السلام : « يا محمّد بن علي تعالى الله عزّ وجلّ عمّا يصفون ، سبحانه وبحمده ، ليس نحن شركاؤه في علمه ولا في قدرته ، بل لا يعلم الغيب غيره ، كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه : {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] ، وأنا وجميع آبائي من الأوّلين : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين ، ومن الآخرين محمّد رسول الله وعلي بن أبي طالب وغيرهم ، ممّن مضى من الأئمّة عليهم السلام إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري عبيد الله عزّ وجلّ ، يقول الله عزّ وجلّ : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [طه: 124، 126] .
يا محمّد بن علي آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم ، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه ، فأشهد الله الذي لا إله إلاّ هو وكفى به شهيداً ، ورسوله محمّد صلى الله عليه واله وملائكته وأنبياؤه وأوّلياؤه عليهم السلام ، وأشهدك وأشهد كُلّ من سمع كتابي هذا أنّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول : إنّا نعلم الغيب ، ونشاركه في ملكه ، أو يحلّنا محلاً سوى المحلّ الذي رضيه الله لنا وخلقنا له ، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك وبيّنته في صدر كتابي.
وأشهدكم ؛ أنّ كُلّ من نبرأ منه ، فإنّ الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأوّلياؤه ، وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك ... » (3).
فعقيدة الإسلام والمتمثّلة بأهل البيت عليه السلام واضحة المعالم محدودة الأُصول والأطراف ، وهي موافقة لكتاب الله سبحانه وتعالى ، في نفي المشاركة له في الرزق والإحياء والإماتة والغيب وغيره ذلك ، وبهذا وغيره ينفى كُلّ شيء دخيل عليها أو شيء يوهم غير ذلك من نسبة أُمور لا واقع لها إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
إلاّ أنّ الشيخ أحمد الأحسائي نجده غير ذلك تماماً ، ففي كلماته تجد ما ينفي قول الأئمّة فيهم أنفسهم ، فهو ينسب إليهم الإحياء والإماتة والرزق ، وصفات مختصّة بالله سبحانه وتعالى ، قال في شرح الزيارة الجامعة : « ألا إلى الله تصير الأُمور : أنّها تصير إلى علي ، وبيان ذلك أنّ الأُمور حادثة مخلوقة ، والحادث المخلوق لا يصل إلى القديم ، ولا يرجع إليه سبحانه ; لأنّه تعالى متعال عن كُلّ شيء ، وإنّما المعنى أنّ الأُمور تصير وترجع إلى أمره تعالى ، وأمره تعالى جعله عند وليّه ، فالمصير إلى وليه مصير إلى الله ، والرادّ إليه رادّ إلى الله ، وقد قال تعالى : {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [الغاشية: 25، 26].
وقد دلّت الأدلّة القاطعة مع الإجماع!! على إياب الخلق إليهم وحسابهم عليهم ، فإنّ الأخبار متواترة بذلك ... » (4).
ويقول : « الأربعة عشر معصوماً هم صفات الله وأسماؤه والآؤه ونعمه ، ورحمته الواسعة ورحمته المكتوبة ، وهم معانيه ، وهم وجه الله الذي يتوجّه إلى الأولياء ، وهم اسم الله المبارك ذي الجلال والإكرام ، ووجهه الباقي بعد فناء كُلّ شيء ، والوجه الذي ينقلب في الأرض ، ومقصد كُلّ متوجّه ، وسائر من مطيع حيث يحبّ الله ، ومن عاص حيث يكره الله ، وهم أوعية غيبه ، وهم ظاهره في سائر المراتب ، وجميع المعاني والمقامات ، آياتهم ظاهرة في الآفاق ، وفي أنفس الخلق ، ومعجزاتهم باهرة ، وهم ملوك الدنيا والآخرة » (5).
وقال : « والطاعة حادثة وهم ذلك الحدث » (6).
وقال : « فانحصرت العبادة التي هي فعل ما يرضي والعبودية التي هي رضا ما يفعل فيهم وبهم عليهم السلام ، فإنّ التسبيح والتقديس والتحميد والتكبير والتهليل والخضوع والخشوع والركوع والسجود وجميع الطاعات وأقسام العبادات وكذلك العبودية ; كُلّ ذلك أسماء معانيها تلك الذوات القدسية والحقائق الإلهية » (7).
وقال : « ولله الأسماء الحسنى ، أي ملكه وخلقه ، فادعوه بها ، فتقول : يا كريم يا رحيم يا غفور إلى سائر أسمائه ، وهي هم ـ يعني أهل البيت ـ »!! (8).
وقال : « إنّ أهل البيت خلق فوق بني آدم وجسومهم لن ترى في الأبصار بل حتّى البصائر »!! (9).
وقال : « فإذا كان الله غنياً لم يرد شيئاً لنفسه ، وإنّما يريده لغيره وهم ـ يعني أهل البيت ـ ذلك الغير ، والطاعة حادثة ، وما تنسب لغير حادث ، وهم ذلك الحادث المنسوب إليه الحادث.
إنّ الله تعالى حصر شؤونه في أهل البيت ، وحصر حاجات خلقه عندهم » (10).
وقال : « وهم العلل الأربعة للمخلوقات ، فالعلّة الفاعلة بهم ، والعلّة المادّية منهم ، أي من شعاعهم وظلّهم ، والعلّة الصورية بهم على حسب قوابل الأشياء من خير أو شرّ ، والعلّة الغائية هم ; لأنّ الأشياء خُلقت لأجلهم » (11).
وقال : « وأمّا الرزق فهو ما ينتفع به الحيّ ، وليس لغيره منعه منه ، والمراد بالغير غير الله وغير رسوله وأهل بيته » (12).
ويذهب الشيخ أحمد الأحسائي إلى فوق ذلك فيقول : « بأنّ الخلق كُلّهم عبيد لأهل البيت عليهم السلام عبودية رقّية ملكية ، وليست عبودية طاعة ، قال : أمّا نسبة العبد إلى الله فلا توقّف لأحد في أنّه عبد رقّ وعبد طاعة لا يملك شيئاً من أمره ... وأمّا نسبتهم إلى الخلق ، فالمعروف عند كثير من العلماء ، ومن بعض الأخبار أنّهم عبيد طاعة لا عبيد رقّ.
والذي يدلّ عليه الدليل عقلاً ونقلاً أنّه ـ يعني الإمام ـ أولى بهم من أنفسهم بالأولوية التي كانت لرسول الله ، وهي إنّه سبحانه خلق الأشياء له ولأهل بيته الطاهرين ، وفي الحديث القدسي : «خلقتك لأجلي وخلقت الأشياء لأجلك ».
وقول علي عليه السلام : « نحن صنائع ربّنا ، والخلق بعد صنائع لنا » أي صنعهم الله لنا ، واللام في لنا للملك ، وهذا المعنى هو الذي تقيده أخبارهم إنارة ، لأنّ التصريح فيه فصحّ بالحكمة فوجب الإشارة للتقية » (13).
وهناك كلمات كثيرة ضربنا عنها صفحاً روماً للاختصار.
لكن نقول : إنّ علماء الشيخية في القديم والحديث قد تجاوزوا الحدّ في تقديس أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وغالوا في حبّهم كثيراً ، وفوّضوا إليهم بعض الأُمور ، مدّعياً في بعض الأحيان الإجماع على ما يعتقدونه!! وهو بعيد كُلّ البعد ، لأنّ زعماء الطائفة في القديم والحديث قد طرحت مذهب أهل البيت عليهم السلام وبيّنوه بشكل يلائم العقل والفطرة والوجدان ، وقاموا بالأخذ من منبع النبوّة الصافي ، الذي يعرض الدين الإسلامي الحنيف وأئمّته بشكل يحدّد لكُلّ شخص مقامه ووظائفه ، لا يتجاوزها ولا يحيد عنها ، والتحذير من الروايات الغريبة والضعيفة التي فيها كلام يخالف الأُصول الكُلّية ، والقواعد العامّة التي بيّنها الله تعالى ، وبيّنها أئمّة أهل البيت عليهم السلام في كلماتهم وأقوالهم وأفعالهم.
ومثالاً على ذلك ما قال ياسر الخادم نقلاً عن الإمام الرضا عليه السلام حيث قال : قلت للرضا عليه السلام : ما تقول في التفويض؟ قال : « إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى نبيّه صلى الله عليه واله أمر دينه ، فقال : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فأمّا الخلق والرزق فلا ... » (14).
وما نقله آنفاً عن الإمام الحجّة عليه السلام حينما تبرّأ من نسبة بعض الأفعال إليهم ، كعلم الغيب ونحوه.
وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال والكلمات والاعتقاد بها جرّ على أئمّة أهل البيت وشيعتهم ويلات كثيرة ، وأدّت إلى طرح المذهب الشيعي المتمثّل بالإسلام الحقيقي بشكل مشوّه ، وبشكل ينفر منه الطبع الإنساني ، بل والمنبع الصافي للإسلام ، وأدّت إلى الطعن بأئمّة وشيعة أهل البيت ، ورميهم بالغلوّ والزندقة ، واتهامهم بأنّهم أهل باطن لا يعيرون للحياة الدنيا أيّ أهمّية ، فهم مذهب كهنوتي قنصوي أقرب من كونهم يطرحون الإسلام الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه واله وجاء به القرآن الكريم ، وهذا واضح لدى أبسط فرد احتكّ بشخص مسلم لم يطّلع إلاّ على هذه الآراء الشخصية التي شذّت عن علماء الطائفة ، وارتأت روايات خاصّة يرويها بعض الغنوصين كعلي بن حمزة البطائني وغيره.
لقد جاء الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، مبيّناً تفرّد الله سبحانه وتعالى بالأُلوهية ، وما يتبعها من شؤون من إحياء وإماتة ، ورزق وعلم كُلّ شيء وغير ذلك ، وإنّ هذا الرسول الذي أُرسل إليهم وظيفته تبليغ شرع الله تعالى ، ولا يملك من نفسه شيئاً ممّا أضافت إليه هذه الأفكار الكهنوتية القنوصية ، والإمام من بعده هو حافظ للشريعة عن الانحراف والانعطاف في المزالق والمهاوي المهلكة ، لا يملكون لأنفسهم شيئاً ولا رزق ولا إماتة وإحياء ولا غير ذلك ، وكُلّ هذا هو خروج عن تعاليم السماء ، والانعطاف بالرسالة من مسيرها الأصلي الذي جاءت به ، وهو أُلوهية الله تعالى وحاكميته على الكون كُلّه.
وعليه تتفرّع كُلّ الأُمور الأُخرى من عبودية له ، وتشريع مختصّ به وقدرة مختصّ بها ، وتصرّف بالشؤون ، وغير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى.
النقطة الرابعة : الركن الرابع :
إنّ الدين الإسلامي والمذهب الشيعي يقرّان بأنّ الله تعالى هو الإله المنفرد بالأُلوهية ، وأنّ الله سبحانه هو الذي تجب طاعته عقلاً وشرعاً ، وأنّ الله تعالى أرسل رسلاً مبشّرين ومنذرين ، وتجب طاعتهم لأنّهم رسل الله إلى البشر ، وكذلك الإمام بعد النبيّ تجب طاعته لأنّها طاعة لله وللنبي صلى الله عليه واله ، فهذه هي السلسلة الحقيقة التي يجب الارتباط بها : الله ، الرسول ، الإمام.
والله تعالى هو الإله المتفرّد بشؤون الخلق والرزق والحاكمية والأُلوهية.
والنبيّ والإمام قد عصمهم الله تعالى ، ولذلك وجبت طاعتهم لأنّهم يمثّلون الشريعة الإلهية الصادقة ، وأمّا غير النبيّ والإمام فهم بشر حالهم حال غيرهم ، لا تجب طاعة أحد لأحد ، ولا يجب الأخذ بكلام أحد دون أحد بل هم سواسية ، والفقيه يرجع إليه في الأُمور الفقهية الفرعية المرتبطة بأُمور الدين ، لأنّه من أهل الاختصاص ومن أصحاب هذا الشأن ، فارجع الإمام إليه في الحكم والفتوى في الدين ، وهو إنسان يخطئ ويصيب ليس معصوماً أو كاملاً تامّاً بحيث لا يخطأ ، وإنّما هو بشر فيجري ما يجري على البشر.
بعد أن عرفنا أنّ العصمة مختصّة بأربعة عشر معصوماً لا غير ، وهو وظيفته إرشاد الأُمّة إلى ما فيه الخير والصلاح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولزوم الرجوع إليه باعتباره متخصّصاً بالفقه ، واستنباط الأحكام الشرعية بعدما كان يعجز أيّ إنسان يمارس ذلك الفنون معرفة الحكم الشرعي.
هذه هي عقيدة الشيعة في العالم المجتهد الفقيه ، ولأجل ذلك جاز عندهم تعدّد الفقهاء ووجود أكثر من واحد منهم في زمن واحد.
إلاّ أنّا نجد الشيخية قد خالفوا ذلك ، وادعوا أنّ هناك ما يمكن تسميته بالنيابة الخاصّة ، وأنّ الفقيه هو النائب عن المعصوم الخاصّ ، ويكون عالماً بكُلّ ما يحتاج إليه الناس ، ويكون هو الواسطة بين الإمام والرعية ، ويجب دعوة الخلق إليه ، ولا يحقّ لغيره أن يتصدّى للأُمور العامّة إلاّ بإذنه ، ولأجل ذلك سمّوه بالناطق والنائب والقطب والركن الرابع ... وغير ذلك من التسميات ، وهو إنسان كامل تامّ.
قال الكرماني في رسالة أرسلها إلى السيّد كاظم الرشتي : « اعتقادي أنّ من لم يعرف السابق عليه ، والباب الذي تجري منه جميع الفيوض لم يعرف شيئاً من التوحيد والنبوّة والإمامة ، وأنا عبدك الأثيم!! محمّد كريم قد انقطعت من الدنيا كُلّها إليك.
إنّ الشيخ الأجل الأمجد كان قطب زمانه لتصريح النبيّ صلى الله عليه واله فيه : أنت قطب!! فالشيخ الأكبر هو الذي يعبد به الرحمن وتكتسب به الجنان ; لأنّه العقل.
وقد رأينا أنّ الأمر بعده رجع إليك ظاهراً ، فأنت نائبه بالنصّ الجلي منه ، فإذن أنت الذي يُعبد به الرحمن ويُكتسب به الجنان ، وأنت باب الله لا يؤتى إلاّ منه ، كما سمعت منك في الطيف!!
والآن يكون قرب ثلاث سنين إنّي جعلتك لوجهتي باب تجاهي في أوقات دعواتي وصلواتي ، وأقدّمك بين يدي حوائجي وإرادتي في كُلّ أحوالي وأُموري ، وأعتقد أنّ من لم يفعل هذا صلّى إلى غير القبلة والوجهة!!
فإن كان كائن عليك لا أرانا الله ذلك ، فمن ولي الأمر بعدك؟ ولو كان يجوز نبيّ بعد نبيّ وادعيتم النبوّة لم نطلب منكم معجزة ، بل والله مع ذلك لو ادعيت ذلك الآن لصدّقتك بلا معجزة»!! (15) ، وهذا كفر بعينه.
فانظر إلى هذا الكلام حيث أشار فيه :
1 ـ وجود الركن الرابع الذي هو خليفة الإمام ، وهو الذي يكون القبلة ، وهو الذي يعبد به الرحمن ، ومن لم يقرّ بذلك يكن غير مدركاً لله ولا لرسوله ولا للإمام!!
2 ـ إنّ الشيخ أحمد هو باب الإمام ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه واله نصّبه ذلك المنصب ، وقال له : أنت نائبي.
3 ـ إنّ كاظم الرشتي هو نائب الأحسائي ، وذلك رآه الكرماني في المنام « الطيف ».
4 ـ إنّ كاظم الرشتي لو ادّعى النبوّة لصدّقه الكرماني بلا حاجة إلى معجزة!! وأرى أنّ هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق ; لأنّه فاسد وباطل بأوضح البديهيات ، لكن النقطة الأخيرة منه خطيرة جدّاً ، حيث أنّ المعتقد بها يخرج عن الملّة لكونه غير معتقداً بختم النبوّة بمحمّد صلى الله عليه واله وحشرنا مع محبّيه ، وهو خلاف البديهي من الدين الإسلامي.
وإذا انتقلنا مع الكرماني في كتابه « إرشاد العوام » ـ باللغة الفارسية ـ نجده يصرّح بكلام خطير جدّاً لا يمكن لأيّ مسلم قبوله ، وخلاصة كلامه المثبت في الجزء الرابع هو : إنّ صاحب الزمان أو المهدي المنتظر عليه السلام قد مضى إلى حال سبيله ، وانتفى موضوعه بالموت وبالغيبة ، ولم يعد صالحاً للاستفادة منه بوجه من الوجوه ، وعلينا أن نسعى لمعرفة الإمام الناطق الحيّ الذي يجب أن يكون بيننا لنراه ونحادثه ، ونعرض عليه ما يحدث لنا من مشاكل ونطلب منه تلافيها ، وإيجاد الحلول لها ».
وقال : « فكيف أستطيع مع لساني الكليل ويدي القاصرة ونفسي الضعيفة ، أن أحمل هذا الأمر على رقاب هؤلاء الناس المنكوبين ، الذين عاشوا في جاهلية الغيبة ألفاً وعشر سنين ، ونشأوا على الهدى والخيالات ».
وقال : « إنّ حاكماً ـ يقصد الإمام المهدي عليه السلام ـ كان قبل ألف سنة لا يصلح اليوم ، ولا يمكن ضبط العالم والسيطرة عليه بحاكم قد ودّع الدنيا »!! فهنا يؤمن بأنّ المهدي عليه السلام قد ودّع الدنيا!!
وقال : « إنّ وجود الحاكم بين الخلق ضروري لكي يروه ويسمعوا منه ، وإذا كان في الإمكان أن لا يروه فالأجدر بهم أن يكتفوا بالله الذي لا يرونه ، وعليه فقد اختفت ثمرة الحكومة وفائدتها إذا لم يروه ويستمعوه ويشكوا إليه داؤهم ، ويطلبوا منه العلاج لها ، فما هو الفرق بين الإمام الغائب والله؟ فكلاهما غير مدرك.
وإذا استطاع الخلق اليوم أن يكتفوا بالله فقد استطاعوا الاكتفاء بالإمام الغائب ; لأنّه يتصرّف في الملك وراء الستار وفي ظهر الغيب ، والله كذلك فما الفرق بينهما؟
وإذا كان الحجّة على الخلق تتمّ بالإمام الغائب؟ فما هي الحاجة إلى إرسال الرسل وتعرّضهم للمشّاق؟ فليبقوا وراء الغيب ويتصرّفوا في العالم!! وقد علمت بأنّ الحجّة على الخلق لا تتمّ إلاّ بمشاهدة من يقيم عليهم الحجّة ، وأيّ حجّة تمكن إقامتها ، والإمام غائب في الوقت الذي يولد فيه الناس ويموتون والإمام غائب؟
وإذا كان التاريخ والخبر كافيين كان وجود النبيّ وحده كافياً ، ولم تكن هناك حاجة إلى أوصيائه الذين تحمّلوا في سبيل تأدية رسالته وحفظها ما لا يطاق من المصائب ، ومن هذا يظهر أنّ الأحاديث والكتب السالفة لا تكفي ».
وقال : « وقد اتّضح من هذا الفصل أنّ قوام بقاء هذا العالم ومداره هو الحاكم والمحكوم ، إذ لا يمكن أن يخلو إن ظاهراً وإن باطناً من حاكم إلهي يقوم مقامه تعالى وينوب عنه ، على أن يكون مشهوداً مرئياً ، وكان نابهاً للغاية وذكياً ، والتفت إلى أنّنا نوزّع المطالب في هذا الكتاب ونفرّقها على عدّة أماكن ، ونقول في كُلّ موضع شيئاً لئلا يحرم أهل الحكمة ، ولئلا يلتفت فاقدوا الأهلية ، وينتبهوا إلى جواهر وأسرار الحكمة الإلهية ، ويجدوا طريقاً إليها ، ولا قوّة إلاّ بالله ».
وقال : « وبديهي أنّ الأُستاذ الغائب والأُستاذ الميّت لا يعلم ولا يقبل تلاميذه ، وهم لا يستطيعون أن يحصلوا منه على معرفة شيء ، كما لم تجر عادة الله بأنّ يتعلّم أحد بهذا الشكل ، وإذن فالواجب أن يكون في كُلّ عصر أُستاذ حاضر موجود ».
وقال : « ولم يكن من طبيعة هذا العالم ولا جرى العادة فيه أن يحصل الإنسان على العلم من الأموات ، وأن يقنع بهم ويكتفي في التعليم ».
وقد صرّح في موطن بعدم ضرورة عصمة الإمام ، بينما يصرّح في مكان بأنّ الركن الرابع معصوم!!
قال مصرّحاً بعدم ضرورة عصمة الإمام : « وإذا لم يكن معصوماً فهو كأحد الناس ، ويجب أن يكون معصوماً في حفظ الدين على الأقلّ ، ولو بمساعدة الغير ، إذا لم يكن معصوماً في كُلّ شيء ».
وقال مصرّحاً بعصمة الركن الرابع : « وإذن فالإمام الغائب لا يجدي الناس نفعاً ، وهم يريدون إماماً حيّاً حاضراً معصوماً ».
وهذا الكلام لا يمكن أن يقرّ به إنسان مسلم شهد الشاهدتين ، وآمن بالله ورسوله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، إذ إنّ هذه المسألة ـ وهي القول بالركن الرابع ، واتباعها يسمّون الركنية وهي مختصّة بشيخية كرمان الموجودين في إيران والعراق في البصرة وكربلاء ـ لم يرد بها دليل ، ولم تقم عليها حجّة ، بل الدليل على خلافها ; لأنّه لا حاكمية لأحد بعد الله ورسوله ، ومن نصّبه الله ورسوله وجعله هادياً ومعتمداً ، ولم ينطق بها لسان الشرع أبداً ، فضلاً عن جعل الركن هو الباب إلى الله ورسوله وأئمّته ، بحيث من لم يعرفه فهو لم يعرف التوحيد ولا النبوّة ولا الإمامة ، فإنّ في ذلك رمي للقائلين بشهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه واله بالجهل وعدم الإيمان ; لأنّهم أخلّوا بالتوحيد ، وبالتالي هو إدخال شرط في التوحيد ، وأنّ المسلم لا يصحّ منه توحيده ما لم يقرّ بالركن الرابع ، ويعترف له بالوجيه والبابية وغير ذلك ، ويكون فاقداً للشهادة ما لم يقرّ بذلك!!
وهذا تحميل لشريعة السماء بما لم تجئ به أصلاً ، وإدخال شيء فيها لم يقله الله ورسوله ، وهذا يدخل ضمن المغالاة في الدين ، والانحراف عن المسار الحقيقي الذي رسمته شريعة السماء ، والتي بيّنته في تعاليمها من لزوم الإيمان بالله والاعتقاد بوحدانيته ، وأنّه لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له ، وأنّه أرسل رسله بالهدى مبشّرين ومنذرين ، وإنّ آخرهم النبيّ محمّد صلى الله عليه واله مبعوث للبشر كافّة ، يحمل تعاليم السماء المتمثّلة بالقرآن الكريم.
وقد شرح الرسول صلى الله عليه واله ما خفي منه وما أجمل وبيّنه للناس ، وعلى الناس اتباعه واقتفاء أثره ، وقد نصب لهم إماماً بعده ، وأنّه الذي يرشد الناس على الخير والصلاح ، ويحافظ على شريعة السماء من الانحراف ، ويوضّح ما خفي منهما وما أُجمل ، وعلى المسلم القيام بتعاليم الإسلام من واجبات ومحرّمات ، فمن التزم بذلك بالإيمان بالله ورسوله وعمل ما فرض عليه ، وانتهى عمّا نهي عنه ، عند ذلك يكون إنساناً مسلماً مؤمناً مستحقّاً لدخول الجنّة.
وبقية الأُمور مسائل مصطنعة لا تمتّ بصلة إلى الإسلام أصلاً ، كالإيمان بالركن الرابع ، وكالإيمان بأنّ الأئمّة هم وجه الله ، وأنّهم حملة العرش ، وأنّهم يوجّه إليهم المسلم في صلاته ، وأنّهم يرزقون ويخلقون وإلى غير ذلك من المسائل ، التي لا ارتباط لها بتعاليم الإسلام الحنيف ، وهي مسائل خارجة خروجاً تامّاً عن جوهر الإسلام وحقيقته.
هذا هو الذي ينبغي للإنسان المسلم الالتزام به والاعتقاد به ، وأن يعيش الإسلام حقيقة واقعية تمارس حياته العملية اليومية ، بحيث يراها يجري معه في العبادة الخاصّة ، وفي المصنع والمعمل وفي الشارع وفي الدائرة ، يراه يتعايش مع كافّة جوانب الحياة التي هي كنهر جار لا يقف عند حدّ ، فعليه جعل الإسلام كذلك بحراً عذباً جارياً لا يقف عند حدّ وحدود ، ولا يجعلوه طقوس كهنوتية تتعايش بالرموز أو الألغاز أو المنامات الليلة ، والأحلام الخيالية ، وحصر الإسلام العظيم الذي فيه الخير للبشرية دنياً وآخرة حصره بمفاهيم وألغاز أقرب للشعوذة منها إلى الواقعية ، والتعامل معه كدين يعالج الروح أو يتعامل بعوالم الملكوت واللاهوت ، وما شابه ذلك من كلام لم ينزل به سلطاناً.
الإسلام دين الفطرة السليمة والوجدان الصافي ، والروح المعتدلة التي تعرف حقّها ، وحقّ الجسد الذي هويّتها التي تعيش فيه ; جاء الإسلام ورسالته لخير الاثنين معاً لا واحداً منها.
وأيضاً جاء بتعاليم كُلّها سمحاء ، كما قال النبيّ صلى الله عليه واله : « بعثت بالشريعة السهلة السمحاء » (16) ، التي تعاليمها واضحة لكُلّ أحد ، لا تتاح إلى عناء وتكلّف ، وتعاليمها فيها مرونة كاملة بحيث تسهّل الأمر على العاجز والضعيف وصاحب الحاجة ، لا تكلّف الإنسان ما هو فوق طاقته {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286] ، ولا يحمل الجريرة والتبعة على غير مرتكبها { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] ، ولها حقوق وكيان واحترام ، وعليها حقوق وأُمور يجب أن تؤدّيها حفظاً لكيانها ، وحفظاً للكيان الاجتماعي الذي تعيش فيه ، ليتعايش المسلمون فيما بينهم بودّ واحترام وكينونة ، ذات بناء محكم وشامخ ; فلأجل ذلك جاءت تعاليم تنسجم مع الفطرة ، وتنسجم مع العقل الإنساني هذا الكيان العظيم ، فمن الظلم بعد ذلك تحميل رسالة السماء مسائل وأشياء لم ينزل الله بها سلطاناً ، أو حصرها بيد أُناس هم بشر يخطؤون ويصيبون ، ولا عصمة لهم بقول أو بفعل ، وجعلهم مقياساً يقاس به تعاليم السماء ، بدل عكس الأُمور ومقايسة أفعالهم إلى الشرع المبين.
ومن الأُمور المهمّة التي تفتقدها الشيخية بقسميها مسألة التقليد ؛ حيث إنّهم لا يرجعون في الفروع إلى فقيه يقلّدونه ويأخذون منه أحكام دينهم ، وإنّما يرجعون إلى أُناس ليس لهم أهلية الفتوى.
وفي الواقع أنّ هناك تلاعباً عند زعماء الشيخية يريدون الإقرار به الآن ، وإنّما أقرّ به الكرماني سابقاً حيث شجب مسألة التقليد ، واعتقد بأنّ الإنسان يرجع مباشرة إلى روايات أهل البيت عليهم السلام من دون حاجة إلى تقليد فقيه أو مجتهد ، وكانت الأدلّة عند الحاج محمّد كريم خان تقتصر على الكتاب والسنّة ويقول : « فالواجب تقليد آل محمّد » (17).
وكان يقول : « ليس ثمّة حاجة إلى الرسائل العملية ، فإنّ رسائل المشايخ الموجودة لديهم كافية ، وهي عين متون أخبار آل محمّد » (18).
وقال : « ينبغي أن يقلّص تجديد الرسائل والفتاوى المختلفة ; لأنّ الدنيا يجب أنّ تسير نحو الوحدة والتكامل وتوحيد الكلمة» (19).
____________
1 ـ الرسالة القطيفية ضمن كتاب جوامع الكلم 1 / 181.
2 ـ هدية النملة إلى مرجع الملّة : 23.
3 ـ الاحتجاج 2 / 288.
4 ـ شرح زيارة الجامعة
5 ـ المصدر السابق : 17.
6 ـ المصدر السابق : 36.
7 ـ المصدر السابق : 132.
8 ـ المصدر السابق : 289.
9 ـ المصدر السابق : 385.
10 ـ المصدر السابق : 438.
11 ـ المصدر السابق : 384.
12 ـ حياة النفس : 58.
13 ـ شرح الزيارة : 28.
14 ـ عيون أخبار الرضا 1 / 219.
15 ـ إحقاق الحقّ للأحسائي : 168.
16 ـ الحبل المتين : 90.
17 ـ فصل الخطاب للكرماني : 3.
18 ـ فهرست كتب مرحوم شيخ أحمد احسائي 1 / 24.
19 ـ المصدر السابق 1 / 5.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|