أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-10-2018
2062
التاريخ: 26-4-2019
1847
التاريخ: 2-5-2017
1849
التاريخ: 10-9-2016
1559
|
مجالات الإبداع العربي في علم التاريخ
إذن بين الحافز الديني ودوافع الحاجة والضرورة وفي ظل بيئة إبداعية مناسبة، تمكن العرب المسلمون من جعل التاريخ علما رصيناً ذو قواعد وأسس وله خصائصه ومميزاته، لكن ذلك لم يكن بالسهولة التي قد تتراءى للباحث، فإن سيرورة مسيرة علم التاريخ شهدت مخاضات عسيرة وصعوبات أنتجت هذه الإنجازات في مجال علم التاريخ، فما هي هذه المجالات التي أمكن للعرب المسلمون أن يبرزوا فيها والتي كان لهم فيها قصب السبق والريادة، وبالتالي جعلتهم في مقدمة الحضارات المبدعة في التاريخ. وهذا ما سيجعلنا نتتبع مسيرة علم التاريخ العربي وتحديد تطوراته في كل مرحلة من مراحله وذلك وفق تسلسل زمني شهد فيه حالات تقدم وتراجع إلى أن وصل إلى ذروة إنجازاته العلمية في نهاية العصر الوسط الإسلامي. وعلى ذلك فإن أهم مجالات الإبداع تكمن في الأمور التالية وفق مسيرة حياة الأمة الإسلامية:
أولاً: التقويم، الذي يعبر عن وعي بحركة التأريخ في ظل الأمة الجديدة، وهو إستحداث تقويم ثابت لتوقيت الحوادث يبدأ بهجرة النبي (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى يثرب، ويصبح هذا التقويم العمود الفقري للدراسات التاريخية(1). ومنذ ذلك الوقت أصبح توقيت الأحداث (أو تأريخها) هو الأساس للدراسات التاريخية. وقد إنفردوا بهذا الضبط عن مؤرخي اليونان والرومان وأوروبا في العصور الوسطى التي لم يظهر فيها هذا النظام للتوقيت (2) قبل العام 1597.
ثانيا: تحري الروايات والبحث في صدقيتها بما عرف بالجرح والتعديل” بالإستناد إلى علم الحديث النبوي الشريف، وذلك من خال نقد الرواة الذي يقوم على معرفة صفة من تقبل الرواية ومن تُرد روايته وما يتعلق بذلك من قدح وجرح وتوثيق وتعديل” (3).
ثالثاً: النظرة الفلسفية العميقة للتاريخ ومحاولة التعرف على علل الأحداث وأسباب قيام الدول وعوامل سقوطها ومظاهر العمران وأصول الإجتماع. وتفسير الحوادث التاريخية والنفاذ إلى باطنها ليستشف حقيقتها ويكشف عن أسبابها والقوانين التي تحكمها.
رابعا: الاهتمام بعلم التاريخ كعلم قائم بذاته له قوانينه وخصائصه وقواعده ودراسته بذاته لذاته، فكان محاً هو نفسه للبحث والدراسة والإستقصاء، حيث وضع العلماء المسلمون مصنفات في علم التاريخ كانت سابقة علمية أعطت هذا العلم الكثير من الأمور التي انفرد بها وتشكل أسساً وقواعد في تنظيم شؤونه وضبطه وتحديد آفاق مساراته ونظمه.
خامسا: الشمولية بحيث توسع المؤرخون العرب المسلمون بدراسة الحقبات التاريخية كما شملت دراساتهم جميع الحضارات وبلدان العالم بما عرف بالتاريخ الشامل الذي يبدأ منذ بدء الخليقة حتى تاريخه ويعرف بالتاريخ العالمي.
سادسا: إعتماد النظام الحولي، وهو ما سبق مدرسة الحوليات بزمن طويل، والذي يخضع لتعاقب السنين المفرده، وبرز مؤرخون كبار إعتمدوا هذا الأسلوب الذي يجعل (الحول) هو مناط التأسيس والتأريخ للوقائع والحوادث التاريخية.
سابعا: الإستقلالية، فقد ركز المؤرخون العرب المسلمون على ضرورة إستقلالية المؤرخ وعزله عن المؤثرات والمغريات والتبعية قدر الإمكان، كما أن كتابات هؤلاء المؤرخين لم تتأثر بالحضارات القديمة السابقة والمعاصرة. فكانت حركة التاريخ عريبة أصيلة، كما أن معظم المؤرخين لم يكونوا من الموظفين بل كانوا مستقلين عنوا بالتاريخ لمجرد الرغبة الشخصية وحباً بالعلم دون أن يكون للسلطة تأثير عليهم.
إن قيمة ما قدمه المؤرخون العرب من معلومات تاريخية هائلة إستفاد منها من جاء بعدهم من المهتمين بالتاريخ. وإن العلم الحديث كما يقول عبدالحميد العبادي” يسجل لهم أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد والتوقيت الكامل، وأنهم مدوا حدود البحث التاريخي ونوعوا التأليف فيه و أكثروا إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، وأنهم أول من كتب في فلسفة التاريخ والإجتماع وتاريخ التاريخ، وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقاتهم بأول واجب المؤرخ وآخره. وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم” ولقد انتقل منهجهم في كتابة التاريخ، القائم على الملاحظة المباشرة، وشهود العيان، وطريقتهم في كتابة الحوليات، والتراجم وغيرها من أشكال الكتابة والتأليف التاريخي، إلى غيرهم من الأمم ولا سيما أوروبا في القرون الوسطى(4).
إلى ذلك وعلى الرغم من إتساع رقعة التاريخ كمادة للكتابة وإهتماماته وحقوله ( بما يعني الأدب) خال العصر الوسيط، وعلى الرغم من غنى إنجازاته وتراكماته الضخمة، فإن التنظير لهذا العلم ) أي وضع نظرية وقواعد له( ظل دون المستوى الذي وصل إليه ابن خلدون قبل السخاوي بعشرات السنوات... كما ظل دون التعريف الذي أعطاه ابن خلدون لعلم التاريخ كعلم مستقل (5). وهكذا سبق العرب المسلمون العالم في مجال علم التاريخ، بل إن أفضالهم على هذا العلم تكرس بما أنجزوه من فتوحات علمية في سبيل ترسيخ قواعد وأصول علم التاريخ وترسيخ مكانته ودوره وأهميته في الحضارة الإنسانية ككل.
الإعتراف العالمي بفضل العرب المسلمين على علم التاريخ
إعترف العالم بفضل العرب المسلمين على الحضارة الإنسانية بما قدموه من إنجازات في مجالات مختلفة من العلوم والمعارف والإكتشافات، وفي أوج بروز الأمة العربية في أوائل العصر الوسيط، تربع العرب على قمة الإبداع الحضاري في العالم، وهذا ما يجمع عليه دون خاف القاصي والداني، ويقول دياس أولبري ) لو ازيل العرب من التاريخ لتأخرت النهضة الأوربية بضعة قرون، فقد علمت الأمة العربية الغرب بعد أن أيقظته خمسة قرون وحتى أواخر القرن التاسع عشر كانت مؤلفات ابن سينا في الطب لا تزال تناقش في جامعة كولومبيا بنيويورك وجامعة مونبليه في فرنسا (6).
وكان المؤرخ العربي ابن خلدون محط تقدير وإعجاب علماء الغرب، فيقول عنه نيكلسون: لم يسبقه أحد إلى إكتشاف الأسباب الخلقية والروحية التي تكمن خلف سطح الوقائع، أو إلى إكتشاف قوانين التقدم والتهور(7). ويقول فيه المؤرخ والفيلسوف أرنولد توينبي: إنه لم يستلهم أحدا من السابقين ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام، لدى تابعيه مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة التاريخ (أنه لا العالم الكلاسيكي ولا العالم المسيحي الوسيط قد أنجب مثياً له في فلسفة التاريخ، هناك من يتفوقون عليه كمؤرخ حتى بين المؤلفين العرب، أما كباحث نظري في التاريخ فليس له مثيل في أي عصر أو قطر(8). وقد نوه بقيمة بحوث ابن خلدون العلامة (دوزي) الذي يصف رواية ابن خلدون عن تاريخ النصارى في إسبانيا بأنها منقطعة النظير ولا يوجد في بحوث علماء الغرب المسيحيين في العصور الوسطى ما يستحق أن يقارن بها”(9) وشهادة المؤرخ البريطاني توينبي في ابن خلدون بارزة المعالم. إذ يقول عن فلسفته” إنها با ريب أعظم فلسفة تاريخ من نوعها أبدعها عقل بشري في أي زمان ومكان (10). ويقول روبرت فلينت عنه:” من وجهة نظر علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتجلى الأدب العربي بإسم من ألمع الأسماء، فا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى يستطيع أن يقدم إسما يضاهي لمعان ذلك الإسم، إذا نظرنا إلى ابن خلدون كمؤرخ فقط وجدنا من يتفوق عليه حتى بين كتاب العرب أنفسهم، وأما كواضع نظريات التاريخ، فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان حتى ظهور (فيكو) بعده بأكثر من ثلاثماية سنة. ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطين بأنداد له، أما البقية فا يستحقون حتى الذكر بجانبه... ولا يستطيع أحد إلا أن يعترف بأن حق ابن خلدون في إدعاء شرف – شرف التسمية بإسم مؤسس علم التاريخ وفلسفة التاريخ - أقوى وأثبت من حق كل كاتب آخر، سبق فيكو))). ويقدم كراتشوفسكي - أحد كبار المؤرخين المستشرقين الروس - المؤرخين العرب الذين كانوا في كثير من الأحيان جغرافيين أيضا، ويشهد لهم بالتفوق ويقتبس نصاً من مؤرخ الحروب الصليبية (بروتز) الذي قال: ليس في وسع الأدب الأوروبي لذلك العهد أن يقدم مثالاً بفضل مؤلفاتهم، ويكفي في هذا الشأن تصفح ما خلفه المؤرخون العرب ومقارنة ذلك بأحسن ما أنتجه فن التاريخ في أوروبا ليبدو لأول وهله ودون تردد، أين يكمن الفهم والإحساس التاريخي والوعي السياسي والذوق في الشكل والفن في العرض(11).
وقد أقر علماء الغرب الكبار، المنصفين منهم، بفضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الإنسانية، وخصوصاً ما أبدعته هذه الحضارة في مجالات معينة ومنها علم التاريخ، الذي أخذ سماته الأساسية بفضل مجهودات المؤرخين العرب وإنجازاتهم وإبداعاتهم، وقد تألقوا في تأصيل علم التاريخ و تنظيمه، بل وإعطائه شخصيته المتميزة المتفرده حين أبرزوا خصائصه الذاتيه وحصانته العلمية، ذلك من خال رحلة طويلة شاقة وعسيره، إنطلقت شرارتها الأولى منذ فجر الدعوة الإسلامية وبزوغ نجم الدولة العربية الإسلامية وسيادتها على العالم وتفوقها الحضاري في كل المجالات ووصلت إلى ذروتها مع ظهور المؤرخ العالمي المبدع ابن خلدون.
ولا بد من الإشارة إلى أهمية ما كتبه المستشرقون من الغرب والشرق حول فضل الحضارة الإسلامية ودورها في التطور الحضاري العالمي، وأنها هي التي حملت مشعل العلم والمعرفة والتقدم في كافة النواحي، خال قرون عديدة من الزمن وكان لها الفضل في إثراء النهضة الأوروبية الحديثة لما إختزنته من تراث ضخم في شتى مجالات العلوم العقلية، وكانت جامعات ومعاهد ومراكز العلم في الأندلس وشمالي أفريقيا إلى جوانب حواضر الشرق هي التي أسست للمنهجية العلمية التجريبية التي إستندت عليها أوروبا في نهضتها بعيد قرون من عصور الظلام والإنحطاط. وتألق المؤرخين العرب المسلمون في مجال علم التاريخ وتدوين الأحداث والإحاطة بالتاريخ العالمي، وبالتالي إستنباط فلسفة التاريخ التي أسست لعصر جديد في الدراسات التاريخية تلقفها علماء الغرب وطوروها وإستكملوا بناءها العلمي والفكري.
___________________
(1) حسين نصار، نشأة التدوين التاريخي عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ص 8
(2) عبدالحميد العبادي، إلمامه بالتاريخ عند العرب، فصل ضمن كتاب علم التاريخ تأليف هرنشو، القاهرة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1944 ،ص 44
(3) عثمان موافي، منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي، المؤسسة الثقافية الجامعية، الإسكندرية، ص 4،1976 ،ص 106.
(4) وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ، المرجع السابق، ص 98
(5) عثمان موافي، منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوربي، المرجع السابق، ص 273
(6) Reynold Niclson, Aliteray History of the arabs. P435..
(7) Arnold Toynbee, A study of history, VIII.
(8) Robert Flint, History of philosophy of history, p315
(9) علي عبد الواحد وافي، عبد الرحمن ابن خلدون.
(10) Encyclopedia britanica, vol6, p147, Ibn Kaldun
(11) ساطع الحصري، دراسات عن مقدمة ابن خلدون، نشر مكتبة الخانجي بمصر، 1961، ص 176
(12) كرتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القسم الأول إختارته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، لينينجراد، 1957، ص 21.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|