أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-8-2020
7043
التاريخ: 25-8-2020
11120
التاريخ: 24-8-2020
8079
التاريخ: 22-8-2020
6522
|
قال تعالى : {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُو الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء : 176 - 191] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
أخبر سبحانه عن شعيب فقال { كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وهم أهل مدين عن ابن عباس وقيل أنهم غيرهم عن قتادة وقال إن الله سبحانه أرسل شعيبا إلى أمتين {إذ قال لهم شعيب} ولم يقل أخوهم لأنه لم يكن من نسبهم وكان من أهل مدين فلذلك قال في ذلك الموضع {وإلى مدين أخاهم شعيبا} . {أ لا تتقون إني لكم رسول أمين} مفسر فيما قبل إلى قوله {رب العالمين} وإنما حكى الله سبحانه دعوة كل نبي بصيغة واحدة ولفظ واحد إشعارا بأن الحق الذي تأتي به الرسل ويدعون إليه واحد من اتقاء الله تعالى واجتناب معاصيه والإخلاص في عبادته وطاعة رسله وأن أنبياء الله تعالى لا يكونون إلا أمناء الله في عباده فإنه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الأجرة على رسالته لما في ذلك من التنفير عن قبولهم .
ثم قال {أوفوا الكيل} أي أعطوا الكيل وافيا غير ناقص ويدخل الوفاء في الكيل والوزن والذرع والعدد {ولا تكونوا من المخسرين} أي من الناقصين للكيل والوزن {وزنوا بالقسطاس المستقيم} أي بالعدل الذي لا حيف فيه يعني زنوا وزنا يجمع الإيفاء والاستيفاء وذكرنا الأقوال في القسطاس في سورة بني إسرائيل {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أي ولا تنقصوا الناس حقوقهم ولا تمنعوها {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تسعوا في الأرض بالفساد والعثي أشد الفساد والخراب عن أبي عبيدة {واتقوا الذي خلقكم} أي أوجدكم بعد العدم {والجبلة} أي الخليقة {الأولين} يعني وخلق الأمم المتقدمين .
{قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا} مر معناه {وإن نظنك لمن الكاذبين} أي وإنا نظنك كاذبا من جملة الكاذبين وإن هذه مخففة من الثقيلة ولذلك لزمها اللام في الخبر {فأسقط علينا كسفا من السماء} أي قطعا من السماء جمع كسفة عن ابن عباس {إن كنت من الصادقين} في دعواك {قال} شعيب {ربي أعلم بما تعملون} ومعناه أنه إن كان في معلومه أنه إن بقاكم تبتم أو تاب بعضكم لم يقتطعكم بالعذاب وإن كان في معلومه أنه لا يفلح واحد منكم فسيأتيكم عذاب الاستئصال .
ثم قال {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة} أصابهم حر شديد سبعة أيام وحبس عنهم الريح ثم غشيتهم سحابة فلما خرجوا إليها طلبا للبرد من شدة الحر الذي أصابهم أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم فكان من أعظم الأيام في الدنيا عذابا وذلك قوله {إنه كان عذاب يوم عظيم} ومعنى الظلة هاهنا السحابة التي قد أظلتهم {إن في ذلك لآية} مفسر إلى آخره .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص349-350 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
تقدمت قصة شعيب في سورة الأعراف الآية 85 - 93 ج 3 ص 355 - 364 وفي سورة هود الآية 84 - 95 ج 4 ص 256 - 264 .
{كَذَّبَ أَصْحابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} . قال المفسرون : أصحاب الأيكة طائفة من الناس كانوا يسكنون في مكان قريب من مدين ، فيه شجر كثير {إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} . لم يقل سبحانه أخوهم شعيب كما قال : أخوهم هود ، وأخوهم صالح لأن شعيبا ليس من مدين نسبا ، ولا صلة له بأصحاب الأيكة الا صلة الجوار ، وقد بعثه اللَّه إليهم كما بعثه إلى قومه أهل مدين {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهً وأَطِيعُونِ وما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} .
تقدم هذا بالحرف في الآيات السابقة على لسان نوح وهود وصالح ولوط ، وهو كلام كل نبي دون استثناء .
{أَوْفُوا الْكَيْلَ ولا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . تقدم مثله في الآية 85 من سورة الأعراف ج 3 ص 356 والآية 84 من سورة هود ج 4 ص 257 {واتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} والجبلة عطف على الضمير في خلقكم ، والمعنى خافوا عذاب اللَّه الذي أوجدكم وأوجد الذين من قبلكم .
{قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} . تقدم بالحرف في الآية 153 من هذه السورة . {وما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ} . أنت تتعمد الكذب في دعوى الرسالة بدليل انك بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، ولو نزل الوحي على البشر لكان جميع الناس أنبياء . . قال ابن هشام في كتاب المغني - إذا لم تخني الذاكرة - ان رجلا قال لآخر : ما ذا فعل أبوك بحماره ؟ فقال له : باعه بكسر العين . فقال السائل منكرا : لما ذا كسرت العين ؟
قال : لأنك كسرت الراء . . أتجر باؤك ، وبائي لا تجر ؟ والى هذا وأمثاله يؤدي القياس بأهله .
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . حذرهم من العذاب ، فسخروا منه ، وقالوا : أين هو هذا العذاب الذي تهددنا به ؟ أنزله علينا قطعا من السماء ان كنت صادقا في دعواك {قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} والأمر إليه وحده ، ان شاء عجل ، وان شاء أجل {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . لم يبين سبحانه ما هي هذه الظلة ، وقال المفسرون : انها سحابة استظلوا بها من حر أصابهم ، فأمطرتهم نارا أحرقتهم عن آخرهم .
------------------------------
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص٥١٥-516 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
إجمال قصة شعيب (عليه السلام) وهومن أنبياء العرب ، وهي آخر القصص السبع الموردة في السورة .
قوله تعالى : {كذب أصحاب الأيكة المرسلين - إلى قوله - رب العالمين} الأيكة الغيضة الملتف شجرها .
قيل : إنها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب (عليه السلام) ، وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل : {إذ قال لهم شعيب} ولم يقل : أخوهم شعيب بخلاف هود وصالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما وكذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة ولذا عبر عنهم بقوله : {أخوهم هود} {أخوهم صالح} {أخوهم لوط} .
وقد تقدم تفسير باقي الآيات .
قوله تعالى : {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم} الكيل ما يقدر به المتاع من جهة حجمه وإيفاؤه أن لا ينقص الحجم ، والقسطاس الميزان الذي يقدر به من جهة وزنه واستقامته أن يزن بالعدل ، والآيتان تأمران بالعدل في الأخذ والإعطاء بالكيل والوزن .
قوله تعالى : {ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} البخس النقص في الوزن والتقدير كما أن الإخسار النقص في رأس المال .
وظاهر السياق أن قوله : {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أي سلعهم وأمتعتهم قيد متمم لقوله : {وزنوا بالقسطاس المستقيم} كما أن قوله : {ولا تكونوا من المخسرين} قيد متمم لقوله : {أوفوا الكيل} وقوله : {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} تأكيد للنهيين جميعا أعني قوله : {لا تكونوا من المخسرين} وقوله : {لا تبخسوا} وبيان لتبعة التطفيف السيئة المشئومة .
وقوله : {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} العثي والعيث الإفساد ، فقوله : {مفسدين} حال مؤكد وقد تقدم في قصة شعيب من سورة هود وفي قوله : { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [الإسراء : 35] من سورة الإسراء كلام في كيفية إفساد التطفيف المجتمع الإنساني ، فراجع .
قوله تعالى : {واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين} قال في المجمع : ، الجبلة الخليقة التي طبع عليها الشيء . انتهى .
فالمراد بالجبلة ذوو الجبلة أي اتقوا الله الذي خلقكم وآباءكم الأولين الذين فطرهم وقرر في جبلتهم تقبيح الفساد والاعتراف بشؤمه .
ولعل هذا الذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلة بالذكر ، وفي الآية على أي حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنهم لم يكونوا يتقون الخالق الذي هورب العالمين .
قوله تعالى : {قالوا إنما أنت من المسحرين - إلى قوله : وإن نظنك لمن الكاذبين} تقدم تفسير الصدر ، و : {إن في قوله : {إن نظنك} مخففة من الثقيلة .
قوله تعالى : {فأسقط علينا كسفا من السماء} إلخ ، الكسف بالكسر فالفتح - على ما قيل - جمع كسفة وهي القطعة ، والأمر مبني على التعجيز والاستهزاء .
قوله تعالى : {قال ربي أعلم بما تعملون} جواب شعيب عن قولهم واقتراحهم منه إتيان العذاب ، وهو كناية عن أنه ليس له من الأمر شيء وإنما الأمر إلى الله لأنه أعلم بما يعملون وأن عملهم هل يستوجب عذابا ؟ وما هو العذاب الذي يستوجبه إذا استوجب؟ فهو كقول هود لقومه : { إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ } [الأحقاف : 23] .
قوله تعالى : {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة} إلخ ، يوم الظلة يوم عذب فيه قوم شعيب بظلة من الغمام ، وقد تقدم تفصيل قصتهم في سورة هود .
قوله تعالى : {إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم} : تقدم تفسيره .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص249-250 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
شعيب وأصحابُ الأيكة :
هذه هي القصّة السابعة ، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة . . . وهي قصة «شعيب»(عليه السلام) وقومه المعاندين .
كان هذا النّبي يقطن في «مدين» ، «وهي مدينة تقع جنوب الشامات» .
و«أيكة» على وزن (ليلة) «قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين» .
والآية (79) من سورة الحجر تدل على أن «أيكة» كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام .
تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث : {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} .
إنّهم لم يكذبوا نبيّهم شعيباً فحسب ، بل كذبوا جميع الأنبياء ، لأنّ دعوتهم واحدة . . . أو لأنّهم لم يصدقوا ويقبلوا بأيّ رسالة سماوية أبداً . . .
والأيكة معناها في الأصل محل مكتظ بالأشجار ، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من «مدين» ، سمّيت بذلك لأن فيها أشجاراً كثيرة وماءً وظلالا ! . . . والقرائن تشير إلى أنّهم كانوا منعّمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة ، وربّما كانوا لهذه الأُمور غرقى الغرور والغفلة ! . . .
ثمّ يتحدث القرآن إجمالا عن شعيب (عليه السلام) وعنهم فيقول : {إذ قال لهم شعيب ألا تتقون} .
وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب(عليه السلام) انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء ، وهي التقوى ومخافة الله التي تعدُّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والإِجتماعية جمعاء . . .
والجدير بالذكر أن التعبير «أخوهم» الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط(عليهم السلام) ، لم يُلاحظ هنا . ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن «شعيباً» كان من أهل مدين أصلا ـ وتربطه باهلها روابط نسبية ، وليس كذلك مع اصحاب الأيكة . . . ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى إرسال «شعيب» إلى قومه من أهل مدين يقول : (وإلى مدين أخاهم شعيباً) إلاّ أن الآية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب الأيكة ، وشعيب (عليه السلام) لا تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر التعبير «أخاهم» . . .
ثمّ أضاف شعيب قائلا : (إنّي لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) فطاعتكم لي طاعة لله .
واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين) .
وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر الأنبياء أُمَمهم ، فهي متحدة المآل ومدروسة ، إذ تدعوإلى التقوى ، وتؤكّد على سابقة أمانة النّبي بين قومه ، كما أنّها تؤكّد على أن الهدف من الدعوة إلى الله معنوي فحسب ، وليس ورائها هدف مادي ، ولا يطمع أيّ من الأنبياء بما في يد الآخرين ، ليكون مثاراً للشكوك وذريعةً للمتذرعين !
و«شعيب» كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة ، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة الله ، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والإجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات ، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الإضطراب الإقتصادي ، والإستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع ، والتطفيف في الكيل ، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها ، وقال لهم : (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس (2) المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) .
وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة ، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضاً ، إلاّ أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة ، أو بتعبير آخر : هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة ! . . .
ولكي يتّضح هذه الإختلاف أو التفاوت ، فإنه يلزم الإلتفات إلى هذه الحقيقة . . . وهي أن قوم شعيب {أهل مدين وأصحاب الأيكة} كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية ، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام ، أو العائدة من الشام إلى الحجاز ، ومن مناطق أُخَر .
ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أُمور كثيرة . . . وطالما يسيءُ أهل المنطقة الإستفادة من هذه الحالة ، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن . . . ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن «وينبغي الإلتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة» . . .
وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب ، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف ، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن ، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم ، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأُمور على كل حال ومضطر إليها ، فلا بد له من أن يقبلها ويسكت عليها ! . . .
وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم ، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين ، وليسوا بأحس حظاً من أصحاب القوافل أيضاً .
فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء . والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم ، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله !
ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً ، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة . . . فتارة يقول شعيب لقومه : أوفوا الكيل ، وفي مكان آخر يقول : زنوا بالقسطاس المستقيم ، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن ، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماماً خاصاً . . . لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس أشياءهم . . .
ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى ، فتارةً يكون الميزان صحيحاً إلاّ صاحبه لا يؤدي حقه ، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان . . . فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب ، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأُمور .
وبعد اتضاح هذين التعبيرين {وأوفوا الكيل . . . وزنوا القسطاس} نأتي الى معنى {لا تبخسوا} المأخوذة من «البخس» ، وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس . . . وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين . . . فبناءً على ما تقدم ، فإن الجملة الآنفة {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل ، والتلاعب في المعاملات ، وغمط حقوق الآخرين !
وأمّا جملة {ولا تكونوا من المخسرين} فمع ملاحظة أن «المخسر» هومن يوقع الآخر أو الشيء في الخسران . . . فمعناه واسع أيضاً ، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة !
وهكذا فإنّ جميع ما ذُكر من الإستغلال وسوء الإِستفادة والظلم ، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار ، سواءاً كان ذلك في الكمية أو الكيفية ، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر . . .
وحيث أن الإضطراب الإقتصادي ، أو الأزمة الإقتصادية ، أساس لا ضطراب المجتمع ، فإنّ شعيباً يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول : {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . فتجرّوا المجتمع الى هاوية الفساد والانحطاط ، فعليكم أن تضعوا حدّاً لأي نوع من الإستثمار والعدوان وتضييع حقوق الآخرين .
وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب ، بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان ، وداعية إلى العدالة الإقتصادية ! . . .
ثمّ إن «شعيباً» في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد اُخرى إلى تقوى الله فيقول : {واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين} .
فلستم أول قوم أو جماعة خُلقوا على هذه الأرض ، فآباؤكم والأمم الاُخرى جاءوا وذهبوا ، فلا تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه . . .
(الجبلة) مأخوذة من (الجبل) وهو معروف «ما ارتفع من الأرض كثيراً» ويسمى الطود أحياناً . . . فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة . . .
قال بعضهم : الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف !
كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية ، لأنّها لا تتغير ، كما أن الجبل لا يتغيّر عادةً . . .
والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيباً يقول : إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد ، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل ، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل ، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة . . .
إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ لم تؤثر كلمات هذا النّبي المشفق ، فأجابوه بمنطق «مُرّ وفظ» سنقرؤه في الآيات المقبلة . . .
وقوله تعالى : {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء : 185 - 191] .
عاقبة الحمقى :
لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أنّهم لا يملكون دليلا ليواجهوا به منطقه المتين . . . ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم ، رشقوه بسيل من التُهم والأكاذيب .
فالتهمة الأُولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماً والمجرمون بالأنبياء ، وهي السحر فاتّهموه بها و{قالوا إنّما أنت من المسحّرين} (3) ولا يُرى في كلامك ما هو منطقي !! وتظن أنّك بهذا الكلام تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء !!
ثمّ ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك ؟! ولا مزيّة لك علينا {وما أنت إلاّ بشر مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين} .
وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض ، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلا انتهازياً ، وتارةً يدعونه مجنوناً أومن المسحّرين ، وكان كلامهم الأخير هو : إن كنت نبيّاً {فاسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب .
و «كِسَف» على وزن (فِرَق) جمع (كِسْفَة) على وزن (قطعة) ومعناها قطعة أيضاً والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء . . .
وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة ، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور .
إلاّ أن شعيباً (عليه السلام) ، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب الله ، كان جوابه الوحيد لهم أن {قال ربّي أعلم بما تعملون} . . .
ويشير إلى أنّ الأمر خارج عن يدي ، وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غيرُ مخول بها ليطلب كل ذلك منّي . . . فالله يعرف أعمالكم ويعلم بها ، وما أنتم أهل له ، فمتى لم تنفع المواعظ وتمّت الحجّة اللازمة ، فإنّ عذابه لا مرد له وسيقطع دابركم لا محالة ! . . .
وهذا التعبير وأمثاله ممّا يردُ على لسان الأنبياء ، وما نلاحظهُ في آيات القرآن يدل على أنّهم كانوا يوكلون جميع الأُمور إلى الله ، وإنّها بإذنه وأمره ، ولم يدّعوا أنّهم قادرون على كل شيء ، أو أنّهم يفعلون ما يشاءون ! .
وعلى كل حال فإن عذاب الله أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلا : {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم} .
«الظلة» في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل : أي ذي الظل . . .
يقول أغلب المفسّرين في ذيل هذه الآية : إن حرّاً شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيّام ، ولم يهب نسيم بارد مطلقاً ، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أيّام ـ وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم ، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ .
وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل ، واحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعاً .
ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلاقح القوى أو «الطاقة» الموجبة والسالبة ، أو ما يعبر عنها بالشحنات الكهربائية وحين تتلاقح هذه الشحنات بين السحاب والأرض ينتج عنها صوت مرعب وشعلة موحشة ، وقد تهتز الأرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها . . . وهكذا يتّضح أن اختلاف التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب ، يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة الأعراف جاء التعبير بالرجفة (الآية (91) وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة (الآية 94) أمّا في الآيات محل البحث فقد جاء التعبير بـ (عذاب يوم الظلة) . . .
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين «كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم» يحتمل أن أصحاب الأيكة وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين ، وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص ، إلاّ أنه مع ملاحظة هذه الآيات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجلّى أن هذا الإِحتمال غير وارد ! . . .
وتُختتم القصّة هذه بما خُتمت القصص الست السابقة عن أنبياء الله الكرام ، إذ يقول القرآن : إن في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم ، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر {إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين} .
ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم ، فإذا تمادُوْا في الغي واستوجبوا عذاب الله ، أخذهم أخذ عزيز مقتدر .
أجل {وإن ربّك لهو العزيز الرحيم} .
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص356-363 .
2 ـ «القسطاس» ، «على وزن نِسناس» معناه «ميزان» . . . قال بعضهم : أصل هذه الكلمة روميّة ، وقال بعضهم . بل هي عربية ، ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير ، أما الميزان نفسه المستعمل في لغة العرب فهو الصغير ، وقالوا : إن للقسطاس مؤشراً ولساناً فهو لذلك دقيق الوزن ! . . .
3 ـ «المسحّر» كما أشرنا من قبل إليه ، هو المسحور . . . أو الذي يقع عليه السحر من قبل السَحَرة ، لينفذوا في عَقلِه ويبطلوا عمله !!
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|