أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-8-2020
24787
التاريخ: 13-8-2020
6065
التاريخ: 5-8-2020
5722
التاريخ: 15-8-2020
5876
|
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوشَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 90 - 93]
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وهو الإنصاف بين الخلق والتعامل بالاعتدال الذي ليس فيه ميل ولا عوج { والإحسان } إلى الناس وهو التفضل ولفظ الإحسان جامع لكل خير والأغلب عليه استعماله في التبرع بإيتاء المال وبذل السعي الجميل وقيل العدل التوحيد والإحسان أداء الفرائض عن ابن عباس وعطاء وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل ولا يقول إلا ما هو حسن وقيل العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } أي: ويأمركم بإعطاء الأقارب حقهم بصلتهم وهذا عام وقيل المراد بذي القربى قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذين أرادهم الله بقوله فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى على ما مر تفسيره وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال نحن هم.
{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} إنما جمع بين الأوصاف الثلاثة في النهي مع أن الكل منكر فاحش ليبين بذلك تفصيل ما نهى عنه لأن الفحشاء قد يكون ما يفعله الإنسان في نفسه من القبيح مما لا يظهره والمنكر ما يظهره للناس مما يجب عليهم إنكاره والبغي ما يتطاول به من الظلم لغيره وقيل: إن الفحشاء الزنا والمنكر ما ينكره الشرع والبغي الظلم والكبر عن ابن عباس وقيل: إن العدل استواء السريرة والعلانية والإحسان أن تكون السريرة أحسن من العلانية والفحشاء والمنكر أن تكون العلانية أحسن من السريرة عن سفيان بن عيينة.
{ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} معناه: يعظكم بما تضمنت هذه الآية من مكارم الأخلاق لكي تتذكروا وتتفكروا وترجعوا إلى الحق قال عبد الله بن مسعود هذه الآية أجمع آية في كتاب الله للخير والشر قال قتادة أمر الله سبحانه بمكارم الأخلاق ونهاهم عن سفاسف الأخلاق(2) وجاءت الرواية أن عثمان بن مظعون قال كنت أسلمت استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام ولما يقر الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمله فشخص بصره نحوالسماء كأنه يستفهم شيئا فلما سرى عنه سألته عن حاله فقال نعم بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وقرأها علي إلى آخرها فقر الإسلام في قلبي وأتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال يا آل قريش اتبعوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ترشدوا فإنه لا يأمركم إلا بمكارم الأخلاق وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إن كان محمد قاله فنعم ما قال وإن قاله ربه فنعم ما قال فأنزل الله { أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى } يعني قوله فنعم ما قال ومعنى قوله وأكدى أنه لم يقم على ما قاله وقطعه وعن عكرمة قال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال يا ابن أخي أعد فأعاد فقال إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو قول البشر !!.
لما تقدم ذكر الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن المنكر والعدوان عقبه سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد والنهي عن نقض الأيمان فقال { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال ابن عباس الوعد من العهد وقال المفسرون العهد الذي يجب الوفاء به والوعد هو الذي يحسن فعله وعاهد الله ليفعلنه فإنه يصير واجبا عليه { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} هذا نهي منه سبحانه عن نكث الأيمان وهو أن ينقضها بمخالفة موجبها وارتكاب ما يخالف عقدها وقوله { بعد توكيدها } أي: بعد عقدها وإبرامها وتوثيقها باسم الله تعالى وقيل بعد تشديدها وتغليظها بالعزم والعقد على اليمين بخلاف لغواليمين عن أبي مسلم .
{ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} أي: حسيبا فيما عاهدتموه عليه وقيل كفيلا بالوفاء وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف وقيل: أنه قولهم الله علي كفيل أووكيل وقيل: أراد به أن الكفيل بالشيء يكون حفيظا له والإنسان إنما يؤكد الأمر على نفسه بذكر اسم الله تعالى على جهة اليمين ليحفظ سبحانه ذلك الأمر { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض العهد والوفاء به فإياكم أن تلقوه وقد نقضتم.
وهذه الآية نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الإسلام فقال سبحانه للمسلمين الذين بايعوه لا يحملنكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة فإن الله حافظكم أي أثبتوا على ما عاهدتم عليه الرسول وأكدتموه بالأيمان وقيل نزلت في قوم خالفوا قوما فجاءهم قوم وقالوا نحن أكثر منهم وأعز وأقوى فانقضوا ذلك العهد وخالفونا.
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} أي: لا تكونوا كالامرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفتل للغزل وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمروبن كعب بن سعد بن تميم بن مرة وكانت تسمى خرقاء مكة عن الكلبي وقيل أنه مثل ضربه الله تعالى شبه فيه حال ناقض العهد بمن كان كذلك { أنكاثا } جمع نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم ثم ينكث وينقض ليغزل ثانية { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} أي: دخلا وخيانة ومكرا وذلك أنهم كانوا يخلفون في عهودهم ويضمرون الخيانة وكان الناس يسكنون إلى عهدهم ثم ينقضون العهد فقد اتخذوا أيمانهم مكرا وخيانة { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي: لا تنقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم وأمة أعلى من أمة ولأجل ذلك وتقديره ولا تنكثوا أيمانكم متخذيها دغلا وغدرا وخديعة لمداراتكم قوما هم أكثر عددا ممن حلفتم له ولقلتكم وكثرتهم بل عليكم الوفاء بما حلفتم والحفظ لما عاهدتم عليه.
{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} أي: إنما يختبركم الله بالأمر بالوفاء والهاء في به عائدة على الأمر وتحقيقه أنه يعاملكم معاملة المختبر ليقع الجزاء بحسب العمل { وليبينن } أي: وليفصلن { لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ} أي: في صحته { تختلفون } وليظهرن لكم حكمه حتى يعرف الحق من الباطل { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لجعلكم مهتدين يعني به مشيئة القدرة كما قال ولو شاء الله لجمعهم على الهدى { وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} بالخذلان أوبالحكم عليه بالضلال { وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بالتوفيق وبالحكم عليه بالهداية وقد ذكرنا معاني الضلال والهدى في سورة البقرة { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الطاعات والمعاصي فستجازون على كل منهما بقدره.
___________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص190-195.
{ إِنَّ اللَّهً يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسانِ وإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ويَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . أمرت هذه الآية بثلاث خصال حميدة ، ونهت عن ثلاث خصال قبيحة ، أما الثلاث الحميدة فهي : العدل ، والإنسان العادل هو الذي ينصف الناس من نفسه ، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه .
والإحسان ، وهو جامع لكل خير ، والناس يفهمون من كلمة محسن من يتبرع بماله أوبسعيه في سبيل الخير .
وإيتاء ذي القربى ، وهو من الإحسان ، وخصه تعالى بالذكر تنويها بفضله وعظمته .
أما الخصال الثلاث القبيحة فهي الفحشاء كالزنا واللواط والخمر والميسر والكذب والبهتان ، وأظهرها الزنا ، قال تعالى : « ولا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا - 32 الاسراء » . والخصلة الثانية من الخصال القبيحة هي المنكر ، وهو كل ما ينكره العقل والشرع . والخصلة الثالثة البغي ، وهو الاعتداء على الناس بالفعل أوالقول ، وحكمه عند اللَّه غدا حكم الشرك باللَّه ، بل أشد ، لأن الشرك اعتداء على حق اللَّه فله إسقاطه ، أما البغي فهو اعتداء على حق اللَّه وحق الناس . ويطلق المنكر على الفحشاء ، والفحشاء على المنكر ، وهما معا على البغي .
{ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . المراد بوعظه سبحانه أمره بالخصال الحميدة الحسنة ، ونهيه عن الخصال القبيحة السيئة ، والغرض من هذا الوعظ أن نكون مؤمنين أتقياء ، وطيبين أصفياء . ونقل الرواة عن ابن مسعود ان هذه أجمع آية للخير والشر في كتاب اللَّه .
وقال عثمان بن مظعون : أسلمت استحياء من رسول اللَّه ، وما قرّ الإسلام في قلبي حتى نزلت هذه الآية ، فآمنت بمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) وأتيت عمه أبا طالب ، فأخبرته بأمري ، فقال : يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا ، فإنه لا يأمركم الا بمكارم الأخلاق .
{ وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ } . إعطاء العهد للَّه يكون على نحوين : الأول أن يقطع الإنسان على نفسه عهدا للَّه تعالى ان يفعل شيئا معينا أويتركه ، كما لوقال : أعاهد اللَّه أن أفعل كذا ، أوأترك كذا . النحوالثاني أن يؤمن باللَّه ، لأن من آمن به فقد أعطاه عهدا أن يأتمر بأمره ، وينتهي بنهيه ، وكل من العهدين يجب الوفاء به ، والمراد هنا بعهد اللَّه العهد الأول .
{ ولا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها } . الايمان جمع يمين ، والمراد بتوكيدها عقدها ، لأن اليمين تنعقد إذا لم تكن على معصية ، ولا تنعقد بحال إذا كانت على معصية . وقيل : ان المراد بتوكيدها تشديدها وتغليظها ، وهذا اشتباه ، حيث يصير المعنى على هذا ان اليمين التي لا تشدد فيها لا يجب الوفاء بها . . مع العلم بأن كل يمين متى تمت يجب الوفاء بها سواء أتشدد الحالف وأغلظ بيمينه وعزمه ، أم لم يتشدد ويغلظ .
{ وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهً عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } . كل من حلف باللَّه فقد جعل اللَّه كفيلا وضامنا الوفاء ، فإن أخلف فقد خان اللَّه بالذات ، واستحق العقاب والعذاب { إِنَّ اللَّهً يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ } فمن وفي بعهده ويمينه أثابه ثواب المطيعين ، ومن نكث وخان عاقبه عقاب العاصين .
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من العهد واليمين ينحل بطبعه إذا كان تركه خيرا من فعله ، فمن حلف باللَّه أوعاهده أن لا يأكل اللحم - مثلا - وكان في الترك منفعة صحية له ، إذا كان كذلك انعقد العهد واليمين ، فلو طرأ على صحته ما يستدعي أكل اللحم ينحل العهد واليمين ، ويأكل اللحم ولا شيء عليه ، وقد جاء في الحديث : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » .
{ ولا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً } . بعد قوة أي بعد ابرامه . . وكل شيء ينقض بعد فتله وإبرامه فهو نكث ، غزلا كان أوحبلا ، وقد شبه سبحانه ناقض العهد والايمان بناقضة الغزل بعد ابرامه . وقيل : كان بمكة امرأة حمقاء تغزل صوفها في الصباح ، وتنقضه في المساء ، وان اللَّه شبه بها ناقض اليمين ، ومهما يكن فإن الآية توكيد لقوله تعالى : { ولا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها } .
{ تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ } . حذف من الكلام همزة الاستفهام الانكاري ، والتقدير أتتخذون الخ . والدخل هو الشيء الفاسد والمفسد ، ومنه المكر والخديعة ، وأربى أي أكثر ، والمعنى لا تجعلوا ايمانكم وسيلة للغدر والخيانة ، وذلك بأن تحلفوا للذين هم أكثر منكم وأقوى ليطمئنوا إليكم ، ويثقوا بكم ، وأنتم في نفس الوقت تضمرون أن تنقضوا الايمان ، وتتركوا الذين حلفتم لهم متى رأيتم أقوى منهم عدة ، وأكثر عددا ، ويتلخص المعنى بكلمة واحدة : لا تغدروا .
{ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } . ضمير به يعود إلى أمره بالوفاء بالعهد واليمين ، والمعنى ان اللَّه تعالى يكلف العباد بتكاليف ليطيع من أطاع مختارا ، ويعصي من عصى مختارا ، ثم يجازي اللَّه كلا بما يستحق ، وتكلمنا مفصلا عن معنى الاختبار من اللَّه عند تفسير الآية 94 من سورة المائدة ج 3 ص 126 { ولَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . يعيد اللَّه العباد يوم القيامة ليتميز المبطل من المحق ، ويكافئ كلا بما يستحق .
{ ولَو شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً } . أي ان اللَّه سبحانه لو أراد أن يكره الإنسان على الايمان لكان الناس كلهم أمة واحدة ، ولكنه ترك الإنسان وما يختار ، إذ لوسلبه الحرية والاختيار لكان شأنه شأن الحيوانات والحشرات ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 118 من سورة هود ، والآية 34 من سورة الأنعام .
{ ولكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ ولَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . لا شك ولا ريب عند العقل ان اللَّه لا يضل ولا يهدي أحدا قهرا عنه ، ولو ألجأه ألجأه إلى الضلالة والهداية لما صح أن يسأله ويحاسبه ، مع أنه قال صراحة ، وبلا فاصل { ولَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، ومعنى الآية ان اللَّه سبحانه يعتبر الإنسان ضالا بعد ان يسلك مختارا طريق الضلال ، ويعتبره هاديا متى سلك سبيل الهداية ، تماما كما يميته إذا انتحر : وينجيه إذا لم يلق بيده إلى التهلكة . وسبق الكلام عن الهدى والضلال عند تفسير الآية 26 و272 من سورة البقرة ج 1 ص 70 و426 والآية 88 من سورة النساء ج 2 ص 399 .
_____________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 544-547.
تذكر الآيات عدة من الأحكام مما يلائم حال الإسلام قبل الهجرة مما يصلح به حال المجتمع العام كالأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وما يلحق بذلك كالأمر بإيتاء ذي القربى والنهي عن نقض العهد واليمين، وتذكر أمورا أخرى تناسب ذلك وتثبتها.
قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ابتدأ سبحانه بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني لما أن صلاح المجتمع العام أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه المصلحة فإن أهم الأشياء عند الإنسان في نظر الطبيعة وإن كان هو نفسه الفردية، لكن سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه، وما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كل جانب.
ولذلك اهتم في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك، كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته.
فقوله:{إن الله يأمر بالعدل} أمر بالعدل ويقابله الظلم قال في المفردات، العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة، ويستعمل باعتبار المضايفة، والعدل - بفتح - العين والعدل - بكسرها يتقاربان لكن العدل - بفتح العين - يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، وعلى ذلك قوله تعالى:{أوعدل ذلك صياما} والعدل - بكسر العين - والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعدل هو التقسيط على سواء.
قال: والعدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحوالإحسان إلى من أحسن إليك وكف الأذى عمن كف أذاه عنك، وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص وأروش الجنايات وأصل مال المرتد، ولذلك قال:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ }، وقال:{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } فسمي اعتداء وسيئة.
وهذا النحو هو المعني بقوله:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} فإن العدل هو المساواة في المكافاة إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه، انتهى موضع الحاجة.
وما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم إن العدل هو لزوم الوسط والاجتناب عن جانبي الإفراط والتفريط في الأمور وهو من قبيل التفسير بلازم المعنى فإن حقيقة العدل هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغي أن يعطاه فيتساوى في أن كلا منها واقع موضعه الذي يستحقه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق، والعدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس، والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أوفي الشرع أوفي العرف فيثاب المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وينتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعض في إقامة القانون ولا يستثنى.
ومن هنا يظهر أن العدل يساوق الحسن ويلازمه إذ لا نعني بالحسن إلا ما من طبعه أن تميل إليه النفس وتنجذب نحوه وإقرار الشيء في موضعه الذي ينبغي أن يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الإنسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان، وإن اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة.
ويظهر أيضا أن ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء والسيئة عدلا لا يخلوعن مسامحة، فإن الاعتداء والسيئة الذين يجازى بهما المعتدي والمسيء إنما هما اعتداء وسيئة بالنسبة إليهما وأما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال وخصلة الحسن لكونهما من وضع الشيء موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه.
وكيف كان فالعدل وإن كان منقسما إلى عدل الإنسان في نفسه وإلى عدله بالنسبة إلى غيره، وهما العدل الفردي والعدل الاجتماعي، واللفظ مطلق لكن ظاهر السياق أن المراد به في الآية العدل الاجتماعي وهو أن يعامل كل من أفراد المجتمع بما يستحقه ويوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، وهذا أمر بخصلة اجتماعية متوجه إلى أفراد المكلفين بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل، ولازمه أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع وتدبره.
وقوله:{والإحسان} الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الإحسان إلى الغير دون الإحسان بمعنى إتيان الفعل حسنا، وهو إيصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه ويقابل الشر بأقل منه - كما تقدم - ويوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء.
والإحسان على ما فيه من إصلاح حال من أذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته النوازل، وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة يعود محمود أثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع وجلب الأمن والسلامة بالتحبيب.
وقوله:{وإيتاء ذي القربى} أي إعطاء المال لذوي القرابة وهو من أفراد الإحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير كما أن مجتمع الازدواج الذي هو أصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة إنما ابتدأت من مجتمع بيتي عقده الازدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى عادت أمة عظيمة فالمراد بذي القربى الجنس دون الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه.
وفي التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بذي القربى الإمام من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد بالإيتاء إعطاء الخمس الذي فرضه الله سبحانه في قوله:{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} الآية،: الأنفال: 41 وقد تقدم تفسيرها.
ولعل التعبير بالإفراد حيث قيل:{ذي القربى} ولم يقل: ذوي القربى أوأولي القربى كما في قوله:{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ }: النساء: 8، وقوله:{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ}: البقرة: 177 يؤيد ذلك.
واحتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوي القربى أواليتامى والمساكين تقضي بالفرق.
على أن الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالإيتاء هو الإحسان ثم بالإحسان مطلق الإحسان. والله أعلم.
قوله تعالى:{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال في المفردات: الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.
انتهى ولعل الأصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغي يقال: غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل والصبر والسكوت.
والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أوإثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية.
والبغي الأصل في معناه الطلب وكثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء والاستكبار على الغير ظلما وعتوا، وربما كان بمعنى الزنا والمراد به في الآية هو التعدي على الغير ظلما.
وهذه الثلاثة أعني الفحشاء والمنكر والبغي وإن كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر، وغالب البغي فحشاء ومنكر لكن النهي إنما تعلق بها بما لها من العناوين لما أن وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض ويبطل الالتيام بينها ويفسد بذلك النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وإن كان على ساقه صورة وفي ذلك هلاك سعادة الأفراد.
فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي أمر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه وتتلاءم أعماله لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، ولا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه لا فحشاء ولا منكرا وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والألفة وترتكز فيهم القوة والشدة، وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل خصلة سيئة تؤدي إلى التفرق والتهلكة.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله:{يعظكم لعلكم تذكرون} أي تتذكرون فتعلمون أن الذي يدعوكم إليه فيه حياتكم وسعادتكم.
قوله تعالى:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} إلخ، قال في المفردات: العهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا.
قال: وعهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد وأوصاه بحفظه، انتهى.
وظاهر إضافة العهد إلى الله تعالى في قوله:{وأوفوا بعهد الله} أن المراد به هو العهد الذي يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد ويأتي نظير الكلام في نقض اليمين.
وقوله:{ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} نقض اليمين نكثه ومخالفة مقتضاه والمراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين والدليل عليه قوله بعد:{ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}.
والمراد بتوكيدها إحكامها بالقصد والعزم وكونها لأمر راجح بخلاف قولهم: لا والله وبلى والله وغيره من لغو الأيمان، فالتوكيد في هذه الآية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى:{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } المائدة: 89.
ونقض اليمين بحسب الاعتبار أشنع من نقض العهد وإن كان منهيا عنهما جميعا، على أن العناية بالحلف في الشرع الإسلامي أكثر كما في باب القضاء.
وتوضيح شناعة نقضه: أن حقيقة معنى اليمين إيجاد ربط خاص بين النسبة الكلامية من خبر أوإنشاء وبين أمر ذي بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه إن كان خبرا ومخالفة مقتضاه إن كان عزما أو أمرا أونهيا كقولنا: والله لأفعلن كذا وبالله عليك افعل أولا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة والعزة للمقسم به فيئول الأمر إلى أن المقسم به بما له من الكرامة والعزة هوالمسئول عن صحة النسبة الكلامية والمقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة على كرامته وعزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطي لمن عاقده أوتعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.
وبهذا يظهر معنى قوله تعالى:{وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} فإن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا أولأتركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق على الله سبحانه وجعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فإن نكث ولم يف كان لكفيله أن يؤديه إلى الجزاء والعقوبة، ففي نكث اليمين إهانة وإرزاء بساحة العزة والكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.
فقوله:{وقد جعلتم الله} إلخ، حال من ضمير الجمع في قوله:{ولا تنقضوا} وقوله:{إن الله يعلم ما تفعلون} في معنى تأكيد النهي بأن العمل مبغوض وهوبه عليم.
قوله تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} إلى آخر الآية، النقض ويقابله الإبرام إفساد ما أحكم من حبل أوغزل بالفتل فنقض الشيء المبرم كحل الشيء المعقود، والنكث النقض، قال في المجمع،: وكل شيء نقض بعد الفتل فهوأنكاث حبلا كان أوغزلا، والدخل بفتحتين في الأصل كل ما دخل الشيء وليس منه، ويكنى به عن الدغل والخدعة والخيانة، كما قيل: وأربى أفعل من الربا وهو الزيادة.
وقوله:{ لَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} في معنى التفسير لقوله في الآية السابقة:{ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وهو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوة وتجعله أنكاثا لا فتل فيه ولا إبرام.
ونقل عن الكلبي أنها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمروبن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وكانت تسمى خرقاء مكة.
وقوله:{ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي تتخذون أيمانكم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتخدعونهم بنقضها، وإنما يفعلون ذلك لتكون أمة - وهم الحالفون - أربى وأزيد سهما من زخارف الدنيا من أمة - وهم المحلوف لهم -.
فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب و{أن تكون أمة} مفعول له بتقدير اللام، والكلام نوع بيان لنقض اليمين أولكونهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ومحصل المعنى أنكم كمثلها إذ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه.
وذكر بعضهم أن قوله:{ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ} إلخ، جملة استفهامية محذوفة الأداة والاستفهام للإنكار.
وقوله:{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} إلخ، أي إن ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به وأقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدي.
قوله تعالى:{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } إلخ، لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان أن اختلافهم ليس بناقض للغرض الإلهي في خلقهم ولا أنهم معجزون له سبحانه ولو شاء لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف بينهم ولكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية والإضلال فهدى قوما وأضل آخرين.
وذلك أنه تعالى وضع سعادة الإنسان وشقاءه على أساس الاختيار وعرفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة والمعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية واجتاز للضلال جازاه الله ذلك، ومن ركب سبيل الطاعة واختار الهدى جازاه الله ذلك وسيسألهم جميعا عما عملوا واختاروا.
وبما تقدم يظهر أن المراد بجعلهم أمة واحدة رفع الاختلاف من بينهم وحملهم على الهدى والسعادة، وبالإضلال والهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال والهدى الابتدائيان فإن الجميع على هدى فطري فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع ولا ندم، والذي شاء الله هداه فهداه هو من بقي على هداه الفطري وجرى على الطاعة أوتاب ورجع عن المعصية صراطا مستقيما وسنة إلهية ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
وأن قوله:{ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لدفع ما يسبق إلى الوهم أن استناد الضلال والهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك وتبطل بذلك الرسالة وتلغو الدعوة فأجيب بأن السؤال باق على حاله لما أن اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمد لكم من الضلال والهدى ما أنتم تختارونه بالركون إلى معصيته أوبالإقبال إلى طاعته.
_____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج12،ص269-275.
أكمل برنامج إِجتماعي:
بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجاً من التعليمات الإِسلامية في شأن المسائل الإِجتماعية والإِنسانية والأخلاقية، وقد تضمّنت الآية ستة أُصول مهمّة، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إِيجابية ومأمور بالعمل بها، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها.
فتقول في البدء: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}.
وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من «العدل»؟!
فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل (بالعدل قامت السماوات والأرض)(2).
والمجتمع الإِنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أُسس العدل في جميع المجالات.
ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب، فالإِنحراف والإِفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين، ما هي إِلاّ صور لخلاف أصل العدل.
فالإِنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء، أو تقصيره في أداء وظيفته.
ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إِنسان واحد، فإِنّه سيمرض ويعتل إِنْ لم يُراع فيه العدل.
ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات ـ الطبيعية والإِستثنائية ـ في عملية بناء المجتمع السليم، إِلاّ أنّها، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة، ولذلك جاء الأمر بـ «الإِحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة.
وبعبارة أوضح: قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالإِستعانة بأصل العدالة فقط، وإِنّما تحتاج إِلى إِيثار وعفو وتضحية، وذلك ما يتحقق برعاية أصل «الإِحسان».
وعلى سبيل المثال: لو أنّ عدواً غدّاراً هجم على مجتمع ما، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لابدّ من تقديم التضحية والبذل والإِيثار لكل مَنْ يملك القدرة المالية، الجسمية، الفكرية، لمواجهة الخطر وإِزالته، وإِلاّ فالطريق مهيأ أمام العدو لإِهلاك المجتمع كله، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.
والأصلان يحكمان نظام بدن الإِنسان أيضاً بشكل طبيعي، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها، وكلُّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالإِستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).
ولكنْ.. عندما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته، فإِنَّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه، لأنّه توقف عن عمله، بل تستمر في تغذيته ودعمه... الخ، (وهذا هو الإِحسان).
وفي المجتمع كذلك، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.
وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإِحسان، لعل أغلبها يشير إِلى ما قلناه أعلاه.
فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «العدل: الإِنصاف، والإِحسان: التفضل»(3) وهذا ما أشرنا إِليه.
وقال البعض: إِنّ العدل: أداء الواجبات، والإِحسان: أداء المستحبات.
وقال آخرون: إِنّ العدل: هو التوحيد، والإِحسان: هو أداء الواجبات.
(وعلى هذا التّفسير يكون العدل إِشارة إِلى الإِعتقاد، والإِحسان إِشارة إلى العمل).
وقال بعض: العدالة: هي التوافق بين الظاهر والباطن، والإِحسان: هو أنْ يكون باطن الإِنسان أفضل من ظاهره.
واعتبر آخرون: أنّ العدالة ترتبط بالأُمور العمليّة، والإِحسان بالأُمور، الكلامية.
وكما قلنا فإِنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماماً مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه، وبما أَنَّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.
أمّا مسألة (إِيتاء ذي القربى) فتندرج ضمن مسألة «الإِحسان» حيث أن الإِحسان يشمل جميع المجتمع، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر، فإِنّ أثره سيظهر على كل المجتمع، والمسألة تعتبر تقسيماً صحيحاً للوظائف والمسؤوليات بين الناس، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمد يد العون إِلى أقربائها (بالدرجة الأُولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم.
وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود بـ «ذي القربى» هم أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته من الأئمّة(عليهم السلام)، والمقصود بـ {إِيتاء ذي القربى} هو أداء الخمس، فإِنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبداً، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة، ولا يمنع إِطلاقاً من شمول مفهوم الآية الواسع.
لو اعتبرنا مفهوم «ذي القربى» بمعنى مطلق الأقرباء، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب، أو أقرباء من وجوه أُخرى، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب).
ولإِعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية، إِضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.
وبعد ذكر القرآن الكريم للأُصول الإِيجابية الثلاثة يتطرق للأُصول المقابلة لها (السلبية) فيقول: { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}.
وتحدث المفسّرون كثيراً حول المصطلحات الثلاثة «الفحشاء»، «المنكر»، «البغي»، إِلاّ أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ «الفحشاء»: إِشارة إِلى الذنوب الخفية، و«المنكر»: إِشارة إِلى الذنوب العلنية، و«البغي»: إِشارة إِلى كل تجاوز عن حق الإِنسان، وظلم الآخرين والإِستعلاء عليهم.
قال بعض المفسّرون(4): إِنّ منشاء الإِنحرافات الأخلاقية ثلاث قوى: القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية، والقوة الوهمية الشيطانية.
أمّا القوّة الشهوانية فإِنما تُرَغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء، والقوة الغضبية تدفع الإِنسان إِلى فعل المنكرات وإِيذاء سائر الناس، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإِنسان الإِستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.
وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إِلى طغيان غرائز الإِنسان، ودعا إِلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الإِنحرافات الأخلاقية.
وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجدداً على أهمية هذه الأصول الستة: { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
أشمل آيات الخير والشر:
إِنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيراً من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم، وها هو «عثمان بن مظعون» أحد أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (كنت أسلمت استحياءً من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة ما كان يعرض عليَّ الإِسلام، ولم يقر الإِسلام في قلبي، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً، فلمّا سُرِّي عنه سألته عن حاله فقال: نعم، بيّنا أنا أحدثك إِذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وقرأها عليَّ إِلى آخرها، فقّر الإِسلام في قلبي. وأتيت عمّه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش، اتبعوا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) ترشدوا، فإِنّه لا يأمركم إِلاّ بمكارم الأخلاق، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إِنْ كان محمّد قاله فنعم ما قال، وإِن قاله ربّه فنعم ما قال)(5).
ونقرأ في حديث آخر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: (يا ابن أخي(6) أعد، فأعاد(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الوليد: إِنّ له لحلاوة، وإِنّ عليه لطلاوة، وإِنّ أعلاه لمثمر، وإِنّ أسلفه لمغدق، وما هو قول البشر)(7).
وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «جماع التقوى في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}(8).
ونستفيد من هذه الأحاديث ـ وأحاديث أُخرى أنّ الآية تعتبر دستور عمل إِسلامي عام، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإِسلام في كل زمان ومكان، حتى روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه كان يقرأ الآية المباركة قبل الإِنتهاء من خطبة الجمعة ثمّ يقول بعدها: «اللَّهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى»(9) ثمّ ينزل من على المنبر.
فإِحياء الأصول الثلاثة «العدل، والإِحسان، وإِيتاء ذي القربى»، ومكافحة الإِنحرافات الثلاث «الفحشاء والمنكر، والبغي» على صعيد العالم كفيل بأنْ يجعل الدنيا عامرّة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أي سوء وفساد، وإِذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله: (هذه الآية أجمع آية في كتاب اللّه للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.
ويذكرنا محتوى الآية المباركة بالحديث المروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «صنفان من أُمتي إِذا صلحا صلحت أُمتي، وإِذا فسدا فسدت أُمتي، فقيل: يا رسول اللّه، مَنْ هما؟ قال: الفقهاء والأمراء».
وذكر المحدَّث القمّي في (سفينة البحار) حديثاً بعد نقله لهذا الحديث مروياً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تكلم النّار يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروة من المال، فتقول للأمير: يا مَنْ وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما تزدرد الطير حبّ السمسم، وتقول للقاريء: يا مَنْ تزين للناس وبارز اللّه بالمعاصي، فتزدرده، وتقول للغني: يا مَنْ وهب اللّه له دنيا كثيرة واسعة فيضاً وسأله الحقير اليسير قرضاً، فأبى إلاّ بخلا، فتزدرده؟
وقد بحثنا موضوع العدالة باعتبارها ركناً إِسلامياً مهمّاً جدّاً ضمن تفسيرنا للآية (8) من سورة المائدة.
الوفاء بالعهد دليل الإِيمان:
بعد أن عرض القرآن الكريم في الآية السابقة بعض أصول الإِسلام الأساسية (العدل، والإِحسان، وما شابههما)، يتناول في هذه الآيات قسماً آخر من تعاليم الإِسلام المهمّة (الوفاء بالعهد والأيمان).
يقول أوّلاً: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}، ثمّ يضيف: { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
إِنّ ظاهر معنى «عهد اللّه» ـ مع كثرة ما قال المفسّرون فيه ـ هو: العهود التي يبرمها الناس مع اللّه تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النّبي عهد مع اللّه أيضاً)، وعليه فهو يشمل كل عهد إِلهي وبيعة في طريق الإِيمان والجهاد وغير ذلك.
بل إِنّ التكاليف الشرعية التي يعلنها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي من نوع من العهد الإِلهي الضمني، وكذا الحال بالنسبة للتكاليف العقلية، لأنّ إِعطاء العقل والإِدراك من اللّه عزَّ وجلّ للإِنسان إِنّما يرافقه عهد ضمني، وهكذا يدخل الجميع في المفهوم الواسع لعهد اللّه.
أمّا مسألة «الأيمان» (جمع يمين، أيّ: القسم) التي وردت في الآية ـ والتي عرض فيها المفسّرون آراء كثيرة ـ فلها معنى واسع، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث أنّه يشمل العهود التي يعقدها الإِنسان مع اللّه عزَّوجلّ، بالإِضافة إِلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق اللّه.
وبعبارة أُخرى: يدخل بين إِطار هذه الجملة كل عهد يبرم تحت اسم اللّه وباستعمال صيغة القسم، وما يؤكّد ذلك ما تبعها من عبارة تفسيرية تأكيدية { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}.
ونتيجة القول: أنّ جملة {أوفوا بعهد اللّه} خاصّة، وجملة {لا تنقضوا الأيمان} عامّة.
وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأُسس في ثبات أيّ مجتمع كان، تواصل الآية التالية ذكره بأُسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}(10).
والآية تشير إِلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا عرفت بين قومها بـ (الحمقاء).
فما كانت تقوم به (رايطة) لا يمثل عملا بالا ثمر ـ فحسب ـ بل هو الحماقة بعينها، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهداً مع اللّه وباسمه، ثمّ يعمل على نقضه، فهو ليس بعابث فقط، وإِنّما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.
ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}(11)، أي لا تنقضوا عهودكم مع اللّه بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.
وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع
المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.
واعلموا { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ }.
واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان، بل امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عدداً بأضعاف مضاعفة وأنتم قلّة.
وعلى أية حال.. ستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل: { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من هذا الأمر وغيره.
والآية التالية تجيب على توهم غالباً ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الإِمتحان الإِلهي والتأكيد على الإِلتزام بالعهود والوظائف، وخلاصته: هل أنّ اللّه لا يقدر على إِجبار الناس جميعاً على قبول الحق؟ فتقول: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }.
«أُمّة واحدة» من حيث الإِيمان والعمل على الحق بشكل إِجباري، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإِنسان في قبوله الحق، وعليه فقد جرت سُنّة اللّه بترك الناس أحراراً ليسيروا على طريق الحق مختارين.
ولا تعني هذه الحرية بأنّ اللّه سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإِنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جل شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الرّبانية، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا.
ولهذا يواصل القرآن الكريم القول بـ: { وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
ولكنّ الهداية الإِلهية أو الإِضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث أنّ الخطوات الأُولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وتشير هذه العبارة إِلى نسبة أعمال البشر إِلى أنفسهم، وتؤكّد على تحميلهم مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإِضلال الإلهيين وأن أيّاً منهما لا يستبطن صفة الإِجبار أبداً.
وقد بحثنا هذا الموضوع سابقاً (راجع تفسير الآية (26) من سورة البقرة).
________________
1- تفسير الامثل،الشيخ مكارم الشيرازي،ج7،ص147-156.
2- (عوائل اللئالي)،ج4،ص102.
4 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 231.
4 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج20، ص104.
5 ـ مجمع البيان، ذيل تفسير الآية مورد البحث.
6 ـ قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.
7 ـ مجمع البيان: ذيل تفسير الآية مورد البحث.
8 ـ نور الثقلين، ج3، ص78.
9 ـ الكافي على ما نقل عنه تفسير نور الثقلين، ج3، ص77.
10 ـ «أنكاث»: جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حل خيوطه الصوف والشعر بعد برمها، وتطلق أيضاً على اللباس الذي يصنع من الصوف والشعر، وأمّا محل إِعرابها في الآية فهو (حال) للتأكيد على قول البعض، فيما اعتبرها آخرون (مفعولا ثانياً) لفعل «نقضت» أيْ (جعلت غزلها أنكاثاً).
11 ـ «الدّخل»: (على وزن الدغل)، بمعنى الفساد والتقلب ومنها أُخذ معنى (الداخل)، وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جملة (تتخذون أيمانكم) ـ على ما قلناه من تفسير ـ جملة حاليّة، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين اعتبرها جملة استفهامية، والتّفسير الأوّل يوافق ظاهر الآية.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|