أقرأ أيضاً
التاريخ:
1146
التاريخ: 5-9-2016
1114
التاريخ: 5-9-2016
1712
التاريخ: 18-8-2016
1073
|
...ذهب جماعة من الأخباريين إلى عدم حجيّتها(ظواهر الكتاب)، وما يمكن أن يكون وجها لهم امور:
الأوّل وهو العمدة: الأخبار القريبة من التواتر الواردة على المنع عن تفسير القرآن والإفتاء به، وأنّ من فسّره بالرأي فليتبوّأ مقعده من النار.
والثاني: العلم الإجمالى بورود تخصيصات كثيرة على عمومات القرآن، وتقييدات كذلك على إطلاقاته، وتجوّزات كذلك على ظواهره، فكلّ آية أردنا التمسّك بها والعمل بظاهرها كانت طرفا للعلم الإجمالي، فليس بحجّة.
والثالث: أنّ في القرآن محكما ومتشابها، وورد المنع عن الأخذ بالمتشابه في الآية ولم يتبيّن لنا أنّ الآيات المتشابهة كم هي وما هي، فكلّ آية أخذنا بها يحتمل كونها من المتشابهات.
والرابع: حصول التحريف في القرآن كما يشهد به الأخبار، وإذن فكلّ آية محتملة لأن يكون غير قرآن، أو يكون قرآنا ولكن كانت متّصلة بقرينة فسقطت تلك القرينة، وبالجملة، فلا يحصل الوثوق بشيء من ظواهر الآيات؛ لاحتمال التحريف.
والجواب أمّا عن الأخبار المانعة عن التفسير والإفتاء بالقرآن فبأنّ هذه الأخبار ثلاث طوائف:
الاولى: ما يشتمل على التفسير بالرأي مثل النبوي «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
والثانية: ما يشتمل على التفسير بدون التقييد بكونه بالرأي، مثل قوله عليه السلام: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن».
والثالثة: الخبران الواردان في منع المفتين من العامّة وهما أبو حنيفة وقتادة عن الإفتاء بالقرآن.
أحدهما مرسلة شبيب (شعيب خ ل) بن أنس عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه «قال لأبي حنيفة: أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم، قال: فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال:
بكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلّى اللّه عليه وآله، قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم، قال عليه السلام: يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذي انزل إليهم، ويلك وما هو إلّا عند الخاصّ من ذريّة نبيّنا صلّى اللّه على وآله، وما ورثك اللّه من كتابه حرفا»
وثانيهما: رواية زيد الشحّام «قال: دخل قتادة على أبي جعفر عليه السلام، فقال له: أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال: بلغني أنّك تفسّر القرآن، قال: نعم، إلى أن قال: يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به»
أمّا الطائفة الاولى والثانية فلا دلالة فيهما على المنع، ووجه ذلك أنّ تقرير معنى الكلام عند غير أهل اللسان كتقرير الكلام العربي بلسان الفارسيّة عند أهل هذا اللسان لا يكون تفسيرا بل هو ترجمة.
وأمّا تقريره عند أهل اللسان مثل ما إذا قال مولى لعبده: أكرم العلماء، فقال هذا العبد لرفيقه أنّه قال لي مولاي: أكرم العلماء، أو نقل مطلب الغير بغير ألفاظه بما لا يتغيّر بسببه المطلب فليس هذا أيضا تفسيرا، بل يسمّى بنقل القول، فالتفسير إنّما يصدق إذا كان في المراد من الكلام محجوبيّة ومستوريّة واندماج، فرفع هذه المحجوبيّة وصنع له ظاهر بمعونة التّدبر وإعمال الفكر، فحينئذ يقال: إنّه فسّر الكلام وشرحه، أي كشف القناع والحجاب عن وجه معناه، وهذا ظاهر.
ثمّ لو سلّم كون حمل اللفظ على ظاهره من التفسير، فلا نسلّم كونه تفسيرا بالرأي، فإنّ المراد بالرأي الاعتبار الظنّي الذي لا اعتبار به، فيكون منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره، وحمل المجمل على محتمله لمساعدة الاعتبار، ولو سلّم شموله للحمل على الظاهر أيضا فلا محيص عن حمل هذه الأخبار على ما ذكر جمعا بينها وبين الأخبار الدالّة على جواز الرجوع إلى ظواهر القرآن.
فالعمدة هو الخبران الأخيران حيث إنّه توجّه الخطاب فيهما إلى أبي حنيفة وقتادة الذين كان شأنهما الفقاهة، ومعناها هو الذي نحن بصدده من الأخذ بالظواهر، لا الأخذ بالتوجيهات العرفانيّة ومموّهات المتصوّفة، فإنّه ربّما يقال بأنّه يستفاد منهما أنّ كلّ من هو حاله حال أبي حنيفة وقتادة في عدم المعرفة بالقرآن حقّ معرفته وعدم معرفة الناسخ من المنسوخ يشترك معهما في هذا الحكم.
والمفروض أنّ الإمام عليه السلام خصّ هذه المعرفة بالخاص من ذريّة نبيّنا ومن خوطب بالقرآن، فجميع الناس غيرهم حالهم حال هذين الشخصين، فيقال لكلّ مفت بالقرآن ومستخرج للحكم من ظواهره: هل تعرف القرآن حقّ معرفته والناسخ منه من منسوخه، فإن قال: لا، قلنا: فلم تفتون، وإن قال: نعم، قلنا في الجواب ما قاله الإمام في جواب أبي حنيفة وقتادة.
وبالجملة، موضوع كلام الإمام ومورده كلّ من فقد المعرفة المذكورة وهو عامّة الناس ممّن سواهم، فيدلّ على عدم جواز استخراج الأحكام من القرآن في حقّ من عداهم عليهم السلام واختصاصه بهم عليهم السلام.
فإن قيل: نختار الشقّ الثاني ولا يرد الجواب المذكور في حقّهما في حقّنا، فإنّا نميز ذلك ونحصّل المعرفة بضميمة الأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام، فنحن ندّعي المعرفة ببركة آثارهم وبياناتهم.
قلنا أوّلا: فهذا ليس عملا بالقرآن، بل بالأخبار، وثانيا: نفرض الكلام في آية لا توجد فيها هذه الضميمة؛ فإنّ جميع الآيات لم يرد فيها من الأئمّة عليهم السلام بيان، ولو ورد فليس جميعه واصلا إلينا، فبالنسبة إلى الآية الخالية عن هذه الضميمة يصير حالنا حالهما.
والجواب أنّ موضوع كلام الإمام عليه السلام هو هذا الشخصان ومن يحذو حذوهما، فإنّهما كانا يرجعان إلى القرآن والسنّة من دون رجوع إلى شيء آخر سواهما، ولم يكونا مراجعين إلى الأئمّة عليهم السلام، بل متى وصل إليهما حكم منهم عليهم السلام وكان مخالفا لظاهر القرآن كانا يردّانه به، فكانا في قبال الأئمّة لا من أتباعهم، فمقصود الإمام عليه السلام هو أنّ هذا الذي جعلتما شعاركما وصنعكما- من الرجوع في الأحكام إلى القرآن وحده بدون الرجوع إلى شيء- ليس إلّا شأن من كان عارفا بالقرآن حقّ معرفته وعارفا بناسخه ومنسوخه، وليس هذا لكما، فليس المنصب المذكور أيضا لكما، بل هو مخصوص بالخاص من أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه وآله (1) وبالجملة يدّل على أنّ شخصا يتصدّي هذا العمل وهو الرجوع بالقرآن بالاستقلال ووحده من دون نظر إلى شيء آخر لا بدّ وأن يكون واجدا للمعرفة المزبورة، فالإمام عليه السلام عالم بجميع ما في القرآن قبل الرجوع إلى القرآن، فما في القرآن- وهو علم ما كان وما يكون- ومعلومات الإمام متطابقان، لا أنّ الإمام يستخرج الأحكام من القرآن مع مجهوليّتها عنده قبل الرجوع.
فالحاصل أنّ المفتي بالقرآن يجب أن يكون عنده علم ما في القرآن، حتّى يضع القرآن بين يديه ويحكم بطبق ما فيه، من دون رجوع إلى خارج، وهذا ليس إلّا شأن من خوطب بالقرآن، فليس لأحد غيرهم عليهم السلام ذلك أعني: وضع القرآن بين يديه والحكم بما فيه بلا رجوع إلى شيء، وهذا غير ما نحن بصدده من الرجوع إلى ظواهر القرآن في بعض الأحكام مع استنباط أكثرها من الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام، والحاصل: لا إشكال في اختصاص فهم تمام القرآن بمحكماته ومتشابهاته بمن خوطب به، وهذا هو المراد من المعرفة المختصّة بهم عليهم السلام في الروايتين، ضرورة أنّ في القرآن ما لا يختصّ فهمه بهم عليهم السلام، مثلا فهم معنى آية أوفوا بالعقود.
وأمّا عن شبهة التحريف والمراد به الإسقاط والتصحيف فنقول: أوّلا أنكر جمع من الإماميّة وقوع التحريف، وثانيا: على فرض وقوعه لا علم بوقوعه في آيات الاحكام إذ لم يكن داعي التحريف بالنسبة إليها موجودا، فتكون هذه الآيات خارجة من أطراف العلم الإجمالي وإنّما فيها احتمال بدوي.
وثالثا: على تقدير تسليم ذلك أيضا- يعني كون هذه الآيات أيضا موردا للعلم، لكنّ الغاية كونها أحد طرفي العلم- فإنّ دعوى العلم بوقوع التحريف في خصوص هذه الآيات مكابرة، فغاية ما يمكن ادّعاؤه أنّ العلم حاصل بوقوع التحريف إمّا في آيات الفضيلة والطعن، وإمّا في آيات الأحكام.
وحينئذ نقول: قد تقرّر في باب الاصول العمليّة أنّه لو خرج أحد طرفي المعلوم إجمالا عن مورد الابتلاء فالأصل بالنسبة إلى الطرف المبتلى به جاريا بلا معارض، فلو علم بخمريّة هذا الإناء أو الإناء الموجود في الافرنج فأصالة الحلّ والطهارة بالنسبة إلى هذا الإناء جارية بلا معارضته بأصالتهما في الإناء الآخر؛ فإنّ الإناء الآخر ليس موردا للحكم أصلا.
فكما لا يضرّ العلم الإجمالي بخلاف أحد الأصلين الخارج مورد أحدهما عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلى الآخر الذي مورده مبتلى به فكذلك لا يضرّ العلم الإجمالي بطروّ الاختلال على أحد الطريقين والأمارتين الخارج أحدهما عن مورد الابتلاء بصحّة التمسّك بالآخر الباقي في محلّ الابتلاء كما في نحن فيه؛ فإنّ الآيات الواردة في باب الفضائل والمطاعن ليست محلا للابتلاء، فليس العلم الإجمالي بطروّ الاختلال إمّا على ظاهرها أو على ظاهر الآيات الواردة في الأحكام الشرعيّة العمليّة بقادح في الأخذ بظاهر الثانية التي هي محلّ الابتلاء.
فإن قلت: فرق في ذلك بين الاصول والطرق؛ فإنّ المناط في الاولى ليس هو الكشف عن الواقع ولم يؤخذ في موضوعها سوى الشكّ في الحكم الشرعي أو موضوعه، فإذا تعلّق العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين الخارج أحدهما عن مورد الابتلاء، فالإناء الآخر مشكوك الطهارة والنجاسة، فيشمله عموم دليل طهارة كلّ مشكوك.
وأمّا وجه عدم الجريان عند ثبوت كلا الطرفين في محلّ الابتلاء هو لزوم المحذور العقلي؛ فإنّه لو رخّص في ارتكاب كليهما بمقتضى الأصل يلزم الإذن في المخالفة القطعيّة، فعدم الجريان ليس لعدم الموضوع، بل لأجل المانع العقلي، فكلّما ارتفع هذا المانع كان الأصل جاريا.
ولهذا لو تعلّق العلم بالترخيص وكان مفاد الأصلين هو الإلزام كانا جاريين، فلو علم بنجاسة الإنائين تفصيلا ثمّ علم بطروّ الطهارة على أحدهما إجمالا، فاستصحاب النجاسة السابقة جار في كليهما، فإنّه لا يلزم من ذلك مخالفة قطعيّة وإن كان مخالفة أحدهما للواقع معلوما؛ فإنّ مجرّد ذلك بدون لزوم المخالفة العمليّة ليس بمانع عن جريان الأصل والتمسّك بعموم دليله.
وبالجملة الموضوع للأصل هو الشكّ وإنّما لم يحكم به مع العلم الإجمالي لأجل المانع العقلي، فعند خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء كان المانع مرتفعا، فيكون الأصل جاريا، لتحقّق موضوعه وفقدان المانع.
وهذا بخلاف الأمارات، فإنّ المعيار فيها ليس شكّ المكلّف حتّى يحكم فيها أيضا بذلك، بل المعيار فيها هو الكاشفيّة النوعيّة عن الواقع، ولا شكّ أنّ هذا المعيار يرتفع برأسه عند العلم الإجمالي، فلا يبقى الكشف النوعي أصلا، فيسقط عن الحجيّة لارتفاع موضوعه.
ألا ترى أنّه لو قال المولى: أكرم العلماء، وقال أيضا: لا تهن الفسّاق، وعلم العبد إجمالا بخروج زيد العالم عن العموم الأوّل، أو عمر الفاسق عن العموم الثاني فلا يبقى لهما بالنسبة إلى أحدهما ظهور، بل يصير مجملا في كليهما؟.
قلت: نعم في ما ذكرت من المثال ينتفي الكشف ويسقط بذلك عن الحجيّة، ولكن حيث إنّ المتّبع في باب الظهورات بناء العقلاء في محاوراتهم، فلا بدّ من الرجوع إليهم، وإذا راجعناهم نرى أنّهم يفرقون بين أمثال هذا المثال وبين ما إذا علم إجمالا بمخالفة الظاهر إمّا بالنسبة إلى ظاهر محلّ الابتلاء وإمّا بالنسبة إلى ظاهر خارج عنه، فنراهم يحكمون في الثاني بالنسبة إلى الظاهر المبتلى به بالحجيّة، ويعاملون معه معاملة الاحتمال البدوي، ولا يجعلونه مع الظاهر الآخر في عرض واحد، وأمّا وجه ذلك فلا نعلم، وثبوت بنائهم على ذلك مسلّم.
وإن شئت توضيحه لك بالمثال فنقول: لو قال مولى لعبده في أحد بلاد العجم:
أعلم جميع الطّلاب للضيافة، وقال مولى آخر ببلاد الهند لعبده: اقطع أشجار هذه الأجمة، وعلم بذلك العبد الأوّل، وحصل له العلم الإجمالي بأنّه إمّا أنّ مولاه لم يقصد من الطّلاب شخصا معيّنا، وإمّا أنّ مولى ذلك العبد لم يقصد من الأشجار الشجر الفلاني، فلم يخبر الشخص المعيّن لأجل ذلك فآخذه المولى فاعتذر بأنّي علمت إجمالا بأنّه إمّا أنّك غير قاصد لهذا الشخص من عامّك، وإمّا المولى الهندي غير قاصد للشجر المعيّن من عامّه الصادر بالنسبة إلى عبده، فلا شكّ في أنّ هذا الاعتذار يضحك منه العقلاء، فليس إلّا لأنّ الظاهر الخارج عن الابتلاء لا يحسبونه طرفا لما هو محلّ الابتلاء، بل يجعلونه منحازا عن هذا.
وحينئذ لو علمنا في مقامنا بوقوع التحريف إمّا في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وإمّا في آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [المائدة: 67]وأنّه كان الأصل «ما انزل اليك في على عليه السلام» فليس هذا مورثا للقدح في ظاهر الآية الاولى بعد كونها محلا للابتلاء وعدم كون الثانية كذلك.
وبالجملة، المستند في المقام بناء العقلاء على الفرق بين الابتلاء بكلا الطرفين، وبين الابتلاء بأحدهما، وهذا الوجه جار ولو علم أنّ الخلل المحتمل فيه أو في غيره سقوط قرينة متّصلة بأحدهما، ودعوى أنّ أصل وجود القرينة حينئذ معلوم، والشكّ في وجوده في هذا أو ذاك، ولم يعلم بنائهم على الأصل في هذا، وبالجملة، مورد الأصل ما إذا كان عروض الشكّ بعد استقرار ظهور الكلام وهنا لم يحرز استقرار الظهور، فلو علم إجمالا بوجود قيد فاسقطوه إمّا في آية أوفوا بالعقود، وإمّا في آية يا أيّها الرسول بلغ، الآية، فلا يبقى ظهور موثوق به للآية الاولى، مدفوعة بما عرفت، مع أنّ الخلل المحتمل في المقام يحتمل كونها من قبيل الجملة المستقلّة أو الجزء الغير المغيّر للمعنى، وهذا وجه آخر للتفصّي ولو اغمض عن خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.
وأمّا الجواب عن العلم الإجمالي بوجود مخصّصات ومقيّدات، فهو أنّ المقصود إن كان العلم بوجود مخصّصات ومقيّدات لعمومات الكتاب وإطلاقاته في ما بأيدينا من السنّة، فهذا واضح الدفع؛ فإنّه إذا تفحّصنا في السنّة ولم نجد لعموم خاصّ من عمومات الكتاب مخصّصا، فيخرج عن تحت العلم الإجمالي، نظير ما إذا كان الغنم الموطوء المردّد بين القطيعة أسود، فالأبيض خارج عن طرف العلم.
وإن كان المقصود العلم بوجود المخصّصات والمقيّدات في الواقع ولو لم يكن في ما بأيدينا فحينئذ نقول: تارة يدّعى هذا العلم في خصوص غير آيات الأحكام فهذا لا يضرّ بآياتها، واخرى يدّعى بالنسبة إلى مجموع الآيات فتكون آيات الأحكام أيضا طرفا للعلم.
فالجواب ما تقدّم في مسألة التحريف من أنّ أحد الطرفين خارج عن محلّ الابتلاء، فآيات القصص والحكايات مثل قصّة يوسف وحكاية نوح غير مبتلى بها لنا، فيكون الطرف المبتلى به ظاهره مأخوذا به على ما تقدّم من أنّ القاعدة في الاصول أنّه لو كانت الاصول ملزمة ومثبتة للتكليف والعلم حاصلا على الترخيص، فلا محذور في جريان الاصول والعمل بعموم دليلها، فيبنى بحسب الظاهر بحرمة الطرفين مع العلم بحليّة أحدهما واقعا.
ولو انعكس الأمر يعني كانت الاصول نافية للتكليف ومرخصة وكان العلم متعلّقا بالتكليف فحينئذ لا يجري الاصول؛ للمانع العقلي وهو المخالفة القطعيّة، هذا في الاصول.
وأمّا الأمارات فهي إذا كان العلم الإجمالي في قبالها فمطلقا يسقط عن الحجيّة، وإن كان العلم متعلّقا بالرخصة والأمارة حاصلة على إثبات التكليف، لارتفاع الكشف النوعي عن الواقع من البين، مثل العلم إجمالا بخروج واحد من زيد أو عمرو عن تحت «أكرم العلماء» بمعنى أنّ أحدهما لا يجب إكرامه، لا أنّه يحرم، فالعلم ليس إلّا بمجرّد عدم الوجوب، ولكن ظاهر أكرم العلماء بحسب عمومه مع قطع النظر عن هذا العلم هو الوجوب في كليهما، فيسقط هذا الظهور عن الحجيّة؛ لعدم بقائه بوصف الكشف عن الواقع نوعا وانقلابه إلى الإجمال.
ولكن فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن محلّ الابتلاء فحال الأمارة في خصوص هذا حال الأصل، فكما يجري الأصل في الطرف الآخر، فكذا الأمارة.
فقصص نوح ولوط وهود وإبراهيم غير مرتبطة بنا، فالعلم بورود تخصيص إمّا فيها وإمّا في ما هو محلّ ابتلائنا من آيات الأحكام لا يوجب عدم جواز الأخذ بظاهرها وسقوطها عن الحجيّة عند العقلاء كما ذكرنا.
وأمّا إن كان المقصود العلم الإجمالي بمخصّصات في الواقع بخصوص آيات الأحكام نقول: لا محالة يكون لهذا العلم قدر متيقّن، فالواحد معلوم والاثنان كذلك وهكذا يعدّ إلى عدد توقّف فيه وكان شاكّا فيه فنأخذ القدر المتيقّن. فنقول:
مع وجود هذا العلم وقبل فحص وتجسّس لا إشكال في عدم جواز الأخذ ونحن لا نفعل أيضا، ولكن نفحص فيما بأيدينا من الأخبار ونجد بقدر هذا القدر المتيقّن الذي يكون الزائد منه مشكوكا بدويّا.
مثلا مقدار العشرة قدر متيقّن، ومقدار عشرة آلاف محتملة، فبالنسبة إلى الزائد عن العشرة نجري أصالة البراءة، وأمّا العشرة، فإذا راجعنا الأخبار فوجدنا بالنسبة إلى عموم «أوفوا بالعقود» أنّه خصص بالبيع الغرري، وعموم آخر خصّص بفرد وهكذا وجدنا إلى عشرة عامّات وعشرة مخصّصات، فهذا العدد القدر المتيقّن وإن كان وقع متعلّقا للعلم بدون عنوان ما بأيدينا، لكن بعد هذا الفحص والوجدان ينطبق قهرا العشرة المعلومة على هذا العشرة الموجودة فيما بأيدينا التي ظفر بها بالفحص، فيكون العلم منحلا إلى العلم التفصيلي بهذه العشرة والاحتمال البدوي بغيرها، ويجري فيها أصالة البراءة بناء على ما تقرّر في محلّه من انحلال العلم الإجمالي بالطرق القائمة في بعض أطرافه، بل وبالاصول إمّا حقيقة وإمّا حكما.
وهذا الفحص والعلم في غاية السهولة في زماننا حيث قد بوّب الأخبار والأحاديث، وأيضا الكتب الفقهيّة المبسوطة تكون بأيدينا مثل الجواهر، ففي كلّ مسألة إذا روجع الجواهر ولم يذكر فيه مخصّصا يحصل العلم بأنّه ليس في الأخبار له مخصّص وإلّا لذكره.
فيعلم إجمالا أنّه بعدد المعلوم بالإجمال يكون المخصّص في أخبار الوسائل مثلا موجودا، فإذا ورد ما في باب الطهارة ولم نشهد خبرا في الوسائل في هذا الباب راجعا إلى المسألة المطلوبة نعلم بكونها خارجة عن مورد الطرق التي انحلّ العلم الإجمالي بسببها، فنعلم بكونها من موارد الشكوك البدويّة، فلا يقال: إنّه على هذا لا بدّ من الفحص والانحلال ثمّ استدلال.
ونحن علاوة على هذا الفحص نفحص زائدا على مقدار العلم أيضا بقاعدة اخرى غير قاعدة العلم الإجمالي، وهو أنّا فرضنا الفحص بمقدار العشرة المتيقّنة، وانحلّ العلم الإجمالي، لكن مع ذلك في كلّ آية نحتمل أن يكون له في الأخبار مخصّص لو فحصنا لوصلنا إليه وظفرنا به فنفحص بمقدار نطمئنّ بعدم هذا المخصّص أيضا وصار بحيث لو كان موجودا واقعا كان وجوده الواقعي بلا أثر.
وأمّا الجواب عن إجمال المتشابه فهو أنّ ذلك ممنوع، بل لا إجمال لا في مفهوم الظاهر ولا في مفهوم المتشابه، فإنّ المراد به المجمل، وهو مثل فواتح السور حيث ليس لها ظاهر أصلا، ومنه أيضا ما كان له ظاهر ولكن كان المقطوع عدم إرادته، وبعد الغضّ عنه لم يكن له ظاهر ثانوي، بل كان أمره دائرا بين محتملات لا مرجّح لأحدها، وإذن فمن المعلوم خروج الظواهر عن تحت المتشابه ودخولها تحت المحكم.
وحاصل الجواب أنّه أوّلا نمنع إجمال المتشابه، فإنّه مفهوم مبيّن كمفهوم المحكم والنصّ والظاهر، والمراد به ما ليس له ظاهر عرفا، ولو سلّمنا إجماله مفهوما فالمتيقّن من النهي عنه هو المجملات، فلا يكون دليلا على المنع في الظواهر، فيكون من قبيل المخصّص المجمل المفهومي بين الأقلّ والأكثر حيث نأخذ بالقدر المتيقّن منه، وفي غيره نرجع إلى العام، ففي المقام يبقى الظواهر بعد إجمال هذا النهي تحت عموم القاعدة الارتكازية من حجيّة الظواهر؛ فإنّه لم يعلّق الجواز في الأدلّة على عنوان المحكم حتّى يحتاج إلى إثبات المحكميّة، وإنّما ورد النهي عن العمل بالمتشابه، فجواز العمل بعد إجمال المتشابه ليس له حالة منتظرة.
ثمّ إنّك بعد ما عرفت فساد ما تمسّك به لعدم جواز التمسّك بظاهر الكتاب فلا حاجة إلى إقامة الدليل على جوازه في خصوص هذا الظاهر بعد إقامته على الجواز في مطلق الظواهر.
وما تمسّك به للجواز أيضا لا يخلو أكثره عن الخدشة؛ فإنّ منها خبر الثقلين، ويمكن الخدشة فيه بأن غاية ما يستفاد منه جواز التمسّك بالكتاب، وأمّا كيفيّة التمسّك فلا تعرّض لها فيه، فلعلّ المراد التمسّك بنصوصه وإن كانت قليلة، دون ظواهره.
ومنها قوله عليه السلام في بعض الروايات: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه» وظاهره توبيخ السائل على سؤاله مع إمكان الرجوع إلى الكتاب، ولو كان المقصود الرجوع إلى الظواهر لما كان وجه للتوبيخ، فإنّ العمل بالظواهر شرطه الفحص عن القرينة على خلافها، ولم يكن له طريق غير السؤال عن الإمام عليه السلام، فلم يكن السؤال عنه مع وجود ظاهر القرآن في البين للفحص عن بقائه بحاله أو ورود تجوّز أو تقييد عليه موردا للملامة والتوبيخ، فلا بدّ أن يكون كلام الإمام عليه السلام محمولا على وجوه أخر لا نعلمها.
ومنها الأخبار الدالّة على عرض الأخبار المتعارضة على كتاب اللّه والعمل بما وافقه والطرح لما خالفه، وهذا أيضا قابل للخدشة؛ فإنّ ما يستفاد من هذه الأخبار كون ظواهر الكتاب صالحة للمرجحيّة للخبرين المتعارضين، ولا ملازمة بين المرجحيّة وبين المرجعيّة والحجيّة، فيمكن كون الشيء مرجّحا مع عدم كونه مرجعا وحجّة كما يقوله الشيخ في الظنون المطلقة، حيث جعلها مرجّحة للخبرين المتعارضين مع عدم جعله إيّاها حجّة مستقلّة.
هذا ولكنّ الإنصاف وجود ما يصلح للدليليّة فيما بين هذه الأخبار على صحة الرجوع في الأحكام إلى الآيات ولو مثل الأمر بالتدبّر في القرآن الواقع في الأخبار؛ فإنّه سليم عن الخدشة.
_____________
(1) حاصل الجواب إسقاط الخبرين عن الظهور لا تسليمه ورفع اليد عنه بالأخبار المعارضة: وحاصل المحمل الذي يحمل عليه إمّا ابتداء وإمّا بملاحظة الجمع أنّ الافتاء بالقرآن منحصر في طائفتين لا ثالث لهما، الاولى: من كان عارفا بالقرآن حقّ معرفته، يعني كان عارفا بناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه، أعني عرف أنّ العمومات التي اريد منها العموم كم هي وما هي، والعمومات التي اريد منها الخصوص مع كونها بصورة العموم- كآية الارث حيث إنّها خاصة بغير الزوجة والحبوة- كم هي وما هي، فانّهما بهذا المعنى يصحّ جعلهما في رديف الناسخ والمنسوخ، وإلّا فالعام والخاص الاصطلاحيان فعرفهما كلّ أحد ولا يختصّ بشخص خاص.
والثانية من لم يكن له هذه المعرفة ولكنّه يتتبّع مظانّ معرفة ذلك ويتفحّص عنها أعني:
يرجع إلى الأئمّة عليهم السلام.
ثمّ نقول: عدم كون أبي حنيفة من الطائفة الثانية كان مفروغا عنه وما كان محتاجا إلى السؤال؛ لمعلوميّة عدم رجوعه إليهم عليهم السلام وكونه مدّعيا للمرتبة الاولى، ومن المعلوم أنّ الخطاب الصادر إلى هذا الموضوع المتحيّث بهذه الحيثيّة لا يصحّ إلّا على الوجه الذي أدّاه الإمام عليه السلام من سلب معرفة القرآن عنه وتوبيخه على الإفتاء مع عدم المعرفة.
والحاصل: خصوص المورد إنّما لا يخصّص الوارد إذا علم من الخارج بالغاء الخصوصيات، وأمّا مع احتمال دخلها فلا وجه للإلغاء، نظير ما ورد في قضاء الولد الأكبر حيث ورد الخبر بلفظ« الرجل» وإن احتملنا عدم سراية الحكم إلى المرأة الميّت فلا وجه للإسراء.-- فإن قلت: نعم، لكنّ العبرة بعموم العليّة وهي ما يستفاد من قوله عليه السلام: أ تعرف القرآن حقّ معرفته.
قلت: نمنع استفادة العليّة على وجه الاستقلال؛ لعدم ذكر اللام، والعليّة على وجه الجزئيّة لا يفيد المدّعى.
ثمّ لو سلّم عدم الظهور الأوّلي فيما ذكرنا فلا أقلّ من كونه حملا قريبا بملاحظة المعارض مثل أخبار عرض الأخبار المعارضة على القرآن، فإنّه يعلم منها أنّ لغيرهم أيضا معرفة القرآن، وإلّا فكيف يميز الموافق عن المخالف، وهكذا سائر الأخبار الواردة في الموارد الخاصّة التي احصاها شيخنا المرتضى في رسائله، فيكون ما ذكرنا بعد ملاحظة الجميع وجه جمع قريب، وعليه فلا يكون محلّ التعرّض في الخبر إلّا أبو حنيفة ونظرائه، فيكون الشيعة مسكوتا عنهم غير مشمولين للنهي، فهم باقون تحت الأصل الأوّلي. منه قدّس سرّه.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|