أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-7-2020
10252
التاريخ: 14-7-2020
15627
التاريخ: 16-7-2020
21458
التاريخ: 20-7-2020
3381
|
قال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوعَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُو رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَو أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوقُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَو يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 30، 31]
لما ذكر سبحانه النعمة على من تقدم ذكره بالثواب وحسن الم آب عقبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {كذلك أرسلناك} أي كما أنعمنا على المذكورين بالثواب في الجنة أنعمنا على المرسل إليهم بإرسالك وقيل إن معنى التشبيه أنا كما أرسلنا الأنبياء في الأمم قبلك أرسلناك {في أمة قد خلت من قبلها أمم} أي في جماعة قد مضت من قبلها قرون وجماعات {لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك} بين الغرض في إرساله وهو أن يقرأ عليهم القرآن ليتدبروا آياته ويتعظوا بها {وهم يكفرون بالرحمن} أي وقريش يكفرون بالرحمن أي ويقولون قد عرفنا الله ولا ندري ما الرحمن كما أخبر عنهم بأنهم قالوا وما الرحمن أ نسجد لما تأمرنا عن الحسن وقتادة وقيل معناه أنهم يجحدون بالوحدانية {قل} يا محمد {هو ربي} أي الرحمن الذي أنكرتموه ربي أي خالقي ومدبري {لا إله إلا هو عليه توكلت} أي إليه فوضت أمري متمسكا بطاعته راضيا بحكمه {وإليه متاب} أي مرجعي وقيل معناه إلى الرحمن توبتي {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} أي تجعل به الجبال سائرة فأذهبت من مواضعها وقلعت من أماكنها {أو قطعت به الأرض} أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا {أو كلم به الموتى} أي أحيي به الموتى حتى يعيشوا ويتكلموا وحذف جواب لولأن في الكلام دليلا عليه والتقدير لكان هذا القرآن لعظم محله وعلو أمره وجلالة قدره قال الزجاج والذي أتوهم وقد قاله بعضهم أن المعنى لوأن قرآنا سيرت به الجبال أوقطعت به الأرض أوكلم به الموتى لما آمنوا ودليله قوله {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} إلى قوله {ما كانوا ليؤمنوا} وحذف جواب لويكثر في الكلام قال امرؤ القيس :
فلو أنها نفس تموت سوية ولكنها نفس تساقط أنفسا(2)
وهو آخر القصيدة(3) وقال :
وجدك لوشيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (4)
{بل لله الأمر جميعا} معناه أن جميع ما ذكر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى وكل تدبير يجري هذا المجرى لله لأنه لا يملكه سواه ولا يقدر عليه غيره ولكنه لا يفعل لأن فيما أنزل من الآيات مقنعا وكفاية للمنصفين والأمر ما يصح أن يؤمر به وينهى عنه وهوعام وأصله الأمر نقيض النهي {أ فلم ييأس الذين آمنوا} أي أ فلم يعلموا ويتبينوا عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وأبي مسلم وقيل معناه أ فلم يعلم الذين آمنوا علما ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه عن الفراء وقيل معناه أ فلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يؤمنون عن الزجاج قال لأنه قال {أن لويشاء الله لهدى الناس جميعا} أي أن الله لوأراد أن يهدي الخلق كلهم إلى جنته لهداهم لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق وقيل أراد به مشيئة الإلجاء أي لوأراد أن يلجئهم إلى الاهتداء لقدر على ذلك لكنه ينافي التكليف ويبطل الغرض به {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا} من كفرهم وأعمالهم الخبيثة {قارعة} أي نازلة وداهية تقرعهم ومصيبة شديدة من الحرب والجدب والقتل والأسر عليهم على جهة العقوبة للتنبيه والزجر وقيل أراد بالقارعة سرايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يبعثها إليهم وقيل أراد بذلك ما مر ذكره من حديث أربد وعامر {أوتحل قريبا من دارهم} وقيل إن التاء في تحل للتأنيث والمعنى أوتحل تلك القارعة قريبا من دارهم فتجاورهم حتى يحصل لهم المخافة منه عن الحسن وقتادة وأبي مسلم والجبائي وقيل إن التاء للخطاب والمعنى أ وتحل أنت يا محمد بنفسك قريبا من دارهم {حتى يأتي وعد الله} أي ما وعد الله من فتح مكة عن ابن عباس قال وهذه الآية مدنية وقيل حتى يأتي يوم القيامة عن الحسن {إن الله لا يخلف الميعاد} ظاهر المعنى .
_________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي، ج6 ، ص40-42.
2- مر البيت بمعناه في الجزء الخامس فراجع.
3- اي ليس بعده بيت يكون فيه جواب لو،بل هذا اخر القصيدة .
4- أي لواتانا غيرك لدفعناه.
{ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ } . الخطاب موجه لمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وضمير عليهم يعود إلى الأمة التي أرسل إليهم . وقد أرسل اللَّه من قبله إلى الأمم الخالية رسلا مبشرين ومنذرين ، وللغاية نفسها أرسل محمدا ، فأي بدع في ذلك ؟ . فما هم بأول قوم أرسل اللَّه إليهم رسولا ، ولا هوبأول رسول يتلوعلى الناس ما أوحي إليه من ربه { قُلْ هُو رَبِّي لا إِلهً إِلَّا هُوعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ مَتابِ } . هذا هو إيمان محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وهذه هي دعوته : يؤمن باللَّه وحده ، ويلتجئ إليه في جميع أموره ، ولا يرى لغيره من سلطان ، ويدعوالناس جميعا إلى هذا الايمان ، وهي دعوة تدل على نفسها بنفسها .
تفكير الطغاة :
{ ولَوأَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوقُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً } . مر نظير هذه الآية في سورة الأنعام ، وتكلمنا حولها مفصلا بعنوان طراز من الناس في ج 3 ص 248 . وأيضا يأتي مثلها في الآية 90 وما بعدها من سورة الإسراء ، ونعطف على ما قدمناه ان هذه الآية تصور الطريقة التي يفكر بها الطغاة الذين تقوم حياتهم على استغلال الضعفاء واستعبادهم . . فلا الفطرة والعقل ، ولا الحس والمشاهدة ، ولا الخوارق والمعجزات ، ولا شيء يغير من عتوالطغاة المستغلين وضراوتهم . . والدافع الأول والأخير هوإخلاصهم لوجودهم وكيانهم الذي يقوم على السلب والنهب . . ومع هذا يريدهم محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) أن يعترفوا به وبالقرآن . . ولما ذا يعترفون ؟ . ألان الجبال تسير - بكتاب من السماء - بلا عجلات ، وتكلمهم الأموات ؟ . ثم ما ذا ؟ . وأية جدوى لهم في ذلك ، بل وفي رؤية اللَّه وجها لوجه ؟ . هل تزداد أرباحهم ، وتكثر أموالهم ؟ .
هذا هو تفكيرهم ، وهذه هي اللغة التي يفهمونها ويصغون إليها ، ولا يستمعون إلى غيرها . . لغة الكسب والربح الجنيه والدولار ، اما الحق والعدل ، اما المنطق والعقل فحديث خرافة يصدقه الأطفال ، ويؤمن به الجهال . . وهل بعد هذا يسأل سائل : كيف لم يؤمن الطغاة بمحمد ، ودعوته دعوة العدل والإحسان ؟ .
وأي ذنب أعظم من هذه الدعوة التي تستأصل الظلم والفساد من الجذور ؟ . وأي عاقل يوقع بيده الحكم بإعدامه ؟ .
بهذه الطريقة وحدها يفكر الذين تقوم حياتهم على السلب والنهب في كل زمان ومكان . . فكر بها أبوجهل وأبوسفيان في عهد محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وفكر بها في عصرنا هتلر وموسوليني ، وتفكر بها اليوم وفي عصر الفضاء الدول الاستعمارية بقيادة أمريكا ، وكفى دليلا على ذلك انها تضغط بكل قواها على أعضاء الأمم المتحدة كي يتجاهلوا أية قضية تمت إلى العدالة بسبب ، فإذا فشلت في هذا الميدان وقفت موقفا صريحا ومعاديا لكل شعب يطلب العدل والانصاف من المعتدين عليه ، وناصرت الظلم والطغيان أينما كان ويكون ، وسواء أجاء من إسرائيل أم البرتغال أم الحكومة العنصرية في روديسيا وجنوب إفريقيا ، أوغيرها . . والسر هو اخلاص الولايات المتحدة لطبيعتها أولنظامها كقائد للاستعمار الحديث في هذا العصر ، ومصير هذه القيادة تماما كمصير النازية الهتلرية وغيرها ، وقد ظهرت الدلائل في فيتنام ، أما الاستياء من سياسة المستعمرين فقد عم الشرق والغرب ولن يمر هذا الاستياء دون أن يترك أثره الفعال .
وكنت من قبل أعجب من بعض الناس كيف يستهينون بالطيبين المخلصين ، ولا يقدرونهم حق قدرهم ، وكيف يرونهم كغيرهم من الأناس العاديين ، حتى ولوأتوا بالعجب العجاب ، وضحوا بأعز ما يملكون من أجل إحقاق الحق ، عجبت من ذلك حتى وصلت بالتفسير إلى هذه الآية فأدركت ان هذا التفكير ليس مقصورا على من أفسد وطغى بالفعل ، فإن كثيرا من الناس قد أسقطوا من حسابهم جميع الفضائل والقيم ، ولم يقيموا وزنا الا للكسب والربح تماما كغيرهم من الذين حاربوا محمدا ، ووقفوا في هيئة الأمم ومجلس الأمن في جانب إسرائيل وعدوانها سوى ان هؤلاء تمهد لهم السبيل إلى الفساد والطغيان فسلكوه ، ولما عجز عنه الذين يستهينون بالخير وأهله وقفوا موقف الحياد .
{ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَويَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً } . قال الطبري :
اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله تعالى : أفلم ييئس . . ثم قال :
والصواب إن تأويل ذلك أفلم يتبين ، ونقل هذا التفسير عن جماعة كثر ، منهم الإمام علي ( عليه السلام ) . ونحن من الذين يؤمنون بأن أهل البيت أدرى بالذي فيه . ومهما يكن فإن المقصود بالذين آمنوا صحابة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) حيث تمنوا متلهفين ان يؤمن المشركون باللَّه ورسوله ، فقال لهم جلت عظمته : إلى متى تطمعون في إيمان المشركين ؟ . ألم تعلموا وتتبينوا انهم لا يؤمنون بحال حتى ولوكلمهم الموتى ، وسارت الجبال ؟ . . دعوهم وطغيانهم ، ولوشاء اللَّه أن يلجئهم إلى الايمان لفعل ، ولكن حكمته تعالى قضت بأن يترك الإنسان وما يختاره لنفسه حرصا على حريته وإنسانيته ، ولوسلبه الحرية والإرادة لم يكن شيئا مذكورا ، ولما استحق مدحا أوذما ، ولا ثوابا أوعقابا . . انظر تفسيرنا لقوله تعالى :
{ولَوشاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ - 118 هود} .
{ ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوتَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } . المراد بالذين كفروا من كذّب بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، والمعنى انه تعالى لا يترك في الدنيا هؤلاء المكذبين من غير تأديب ، بل ينزل عليهم الكوارث والبلايا الحين بعد الحين بسبب موقفهم من رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، أوينزل مصيبة من حولهم تملأ قلوبهم خوفا ورعبا ، ويتابع ذلك حتى ينجز اللَّه وعده لنبيه بالنصر { إِنَّ اللَّهً لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ } . كيف ؟ . ووعده أصدق الوعد ، والصحابة وكل مؤمن على ثقة بأن اللَّه منجز وعده ، وناصر جنده لا محالة .
___________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، صفحه 404-407.
قوله تعالى:{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ } إلى آخر الآية متاب مصدر ميمي للتوبة وهي الرجوع، والإشارة بقوله:{كذلك} إلى ما ذكره تعالى من سنته الجارية من دعوة الأمم إلى دين التوحيد ثم إضلال من يشاء وهداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله والإيمان به وسكون القلب بذكره وعدم الرجوع إليه.
والمعنى: وأرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالا يماثل هذه السنة الجارية ويجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلوعليهم الذي أوحينا إليك وتبلغهم ما يتضمنه هذا الكتاب وهم يكفرون، بالرحمن وإنما قيل بالرحمن، دون أن يقال:{بنا} على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنهم في ردهم هذا الوحي الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم وهو القرآن وعدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله:{لولا أنزل عليه آية من ربه} يكفرون برحمة إلهية عامة تضمن لهم سعادة دنياهم وأخراهم لو أخذوه وعملوا به.
ثم أمر تعالى: أن يصرح لهم القول في التوحيد فقال:{ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي هو وحده ربي من غير شريك كما تقولون ولربوبية لي وحده أتخذه القائم على جميع أموري وبها، وأرجع إليه في حوائجي وبذلك يظهر أن قوله:{عليه توكلت وإليه متاب} من آثار الربوبية المتفرعة عليها فإن الرب هو المالك المدبر فمحصل المعنى هو وكيلي وإليه أرجع.
وقيل: إن المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأول من لزوم كون{إليه متاب} تأكيدا لقوله:{عليه توكلت} وهو خلاف ظاهر.
وفيه منع رجوعه إلى التأكيد ثم منع كونه خلاف الظاهر وهو ظاهر.
وذكر بعضهم: أن المعنى إليه متابي ومتابكم.
وفيه أنه مستلزم لحذف وتقدير لا دليل عليه ومجرد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.
قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا } المراد بتسيير الجبال قلعها من أصولها وإذهابها من مكان إلى مكان وبتقطيع الأرض شقها وجعلها قطعة قطعة، وبتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عما جرى عليهم بعد الموت ليستدل على حقية الدار الآخرة فإن هذا هو الذي كانوا يقترحونه.
فهذه أمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثارا لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله:{ولو أن قرآنا} إلخ، وجزاء لومحذوف لدلالة الكلام عليه فإن الكلام معقب بقوله:{بل لله الأمر جميعا} والآيات - كما عرفت - مسوقة لبيان أن أمر الهداية ليس براجع إلى الآية التي يقترحونها بقولهم:{لولا أنزل عليه آية} بل الأمر إلى الله يضل من يشاء كما أضلهم ويهدي إليه من أناب.
وعلى هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد:{ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، وقوله:{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } الآية، وقوله:{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية إلى غير ذلك، وعلى مثله جرى سياق الآيات السابقة.
فجزاء لوالمحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله والمعنى ولو فرض أن قرآنا من شأنه أنه تسير به الجبال أوتقطع به الأرض أويحيا به الموتى فتكلم ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله بل الأمر كله لله ليس شيء منه لغيره حتى يتوهم متوهم أنه لوأنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا والهداية راجعة إلى مشيته.
وعلى هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}: الأنعام: 111.
وما قيل: إن جزاء لوالمحذوف نحومن قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، والمراد بيان عظم شأن القرآن وبلوغه الغاية القصوى في قوة البيان ونفوذ الأمر وجهالة الكفار حيث أعرضوا عنه واقترحوا آية غيره.
والمعنى: أن القرآن في رفعة القدر وعظمة الشأن بحيث لوفرض أن قرآنا سيرت به الجبال أوقطعت به الأرض أو كلم به الموتى - أوفي الموضعين لمنع الخلولا لمنع الجمع - لكان ذلك هذا القرآن لكن الله لم ينزل قرآنا كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }: الحشر: 21.
وفيه أن سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير ولا يلائمه قوله بعده:{بل لله الأمر جميعا} وكذا قوله بعده:{ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } كما سنشير إليه إن شاء الله ولذلك تكلفوا في قوله:{بل لله الأمر جميعا} بما لا يخلوعن تكلف.
فقيل: إن المعنى لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن ولكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده.
وقيل: إن حاصل الإضراب أنه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره مما أراده الله فإن جميع الأمر له تعالى وحده.
وقيل: إن الأحسن أن يكون قوله:{بل لله الأمر جميعا}.
معطوفا على محذوف والتقدير: ليس لك من الأمر شيء بل الأمر لله جميعا.
وأنت ترى أن السياق لا يساعد على شيء من هذه المعاني، وأن حق المعنى الذي يساعد عليه السياق أن يكون إضرابا عن نفس الشرطية السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله.
قوله تعالى:{ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } تفريع على سابقه.
ذكر بعضهم أن اليأس بمعنى العلم وهي لغة هوازن وقيل لغة حي من النخع وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني. أ لم تيأسوا أني ابن فارس زهدم.
وقول رباح بن عدي:
أ لم ييأس الأقوام أني أنا ابنه. إن كنت عن أرض العشيرة نائيا.
ومحصل التفريع على هذا أنه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئا حتى قرآن سيرت به الجبال أوقطعت به الأرض أوكلم به الموتى وأن الأمر لله جميعا فمن الواجب أن يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هداية الذين كفروا لويشاء الله لهدى الناس جميعا الذين آمنوا والذين كفروا لكنه لم يهد الذين كفروا فلم يهتدوا ولن يهتدوا.
وذكر بعضهم أن اليأس بمعناه المعروف وهو القنوط غير أن قوله:{أ فلم ييأس} مضمن معنى العلم والمراد بيان لزوم علمهم بأن الله لم يشأ هدايتهم ولوشاء ذلك لهدى الناس جميعا ولزوم قنوطهم عن اهتدائهم وإيمانهم.
فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هدايتهم ولويشاء لهدى الناس جميعا أولم ييأسوا من اهتدائهم وإيمانهم؟ ثم ضمن اليأس معنى العلم ونسب إليه من متعلق العلم الجملة الشرطية فقط أعني قوله:{لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} إيجازا وإيثارا للاختصار.
وذكر بعضهم: أن قوله{أ فلم ييأس} على ظاهر معناه من غير تضمين وقوله:{أن لو يشاء الله} إلخ، متعلق بقوله:{آمنوا} بتقدير الباء ومتعلق{ييأس} محذوف وتقدير الكلام أ فلم ييأس الذين آمنوا بأن لويشاء الله لهدى الناس جميعا من إيمانهم وذلك أن الذين آمنوا يرون أن الأمر لله جميعا ويؤمنون بأنه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعا ولو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد ولم يؤمنوا فليعلموا أنه لم يشأ وليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم ويوفقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.
وهذه وجوه ثلاثة لعل أعدلها أوسطها والآية على أي حال لا تخلومن إشارة إلى أن المؤمنين كانوا يودون أن يؤمن الكفار ولعلهم لمودتهم ذلك لما سمعوا قول الكفار:{لولا أنزل عليه آية من ربه} طمعوا في إيمانهم ورجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية أخرى غير القرآن فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، وفي آيات أخرى من كلامه مكية ومدنية كقوله في سورة يس وهي مكية:{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }: آية 10، وقوله في سورة البقرة وهي مدنية:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }: آية 6.
قوله تعالى:{ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} سياق الآيات يشهد أن المراد بقوله:{بما صنعوا} كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقة، والقارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنها تؤذنه بأشد من نفسها وفي الآية تهديد ووعيد قطعي للذين كفروا بعذاب غير مردود وذكر علائم وأشراط له تقرعهم مرة بعد مرة حتى يأتيهم العذاب الموعود.
والمعنى: ولا يزال هؤلاء الذين كفروا بدعوتك الحقة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أوتحل تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأن الله لا يخلف ميعاده ولا يبدل قوله.
والتأمل في كون السورة مكية على ما يشهد به مضامين آياتها ثم في الحوادث الواقعة بعد البعثة وقبل الهجرة وبعدها إلى فتح مكة يعطي أن المراد بالذين كفروا هم كفار العرب من أهل مكة وغيرهم الذين ردوا أول الدعوة وبالغوا في الجحود والعناد وألحوا على الفتنة والفساد.
والمراد بالذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب وشن الغارات، وبالذين تحل القارعة قريبا من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرتها وتنالهم وحشتها وهمها وسائر آثارها السيئة، والمراد بما وعدهم عذاب السيف الذي أخذهم في غزوة بدر وغيرها.
واعلم أن هذا العذاب الموعود للذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدم في سورة يونس في قوله تعالى:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ - إلى قوله ثانيا - وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }: يونس: 47 - 54 فإن الذي في سورة يونس وعيد عام للأمة، والذي في هذه الآيات وعيد خاص بالذين كفروا في أول الدعوة النبوية من قريش وغيرهم، وقد تقدم في قوله:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }: البقرة: 6 في الجزء الأول من الكتاب أن المراد بقوله:{الذين كفروا} في القرآن إذا أطلق إطلاقا المعاندون من مشركي العرب في أول الدعوة كما أن المراد بالذين آمنوا إذا أطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أول الدعوة.
واعلم أيضا أن للمفسرين في الآية أقوالا شتى تركنا إيرادها إذ لا طائل تحت أكثرها وفيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبر، وسيوافيك بعضها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
____________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص294-298.
لا أمل في إيمان أهل العناد:
تبحث هذه الآيات مرّةً ثانية مسألة النبوّة، والآيات أعلاه تكشف عن قسم آخر من جدال المشركين في النبوّة وجواب القرآن عليهم فيقول الآية: كما أنّنا أرسلنا رسلا إلى الأقوام السالفة لهدايتهم: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} والهدف من ذلك {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. في الوقت الذي {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} يكفرون بالله الذي عمّت رحمته كلّ مكان، وشمل فيضه المؤمن والكافر.
ثمّ قل لهم: إنّ الرحمن الذي عمّ فضله هو ربّي { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
ثمّ يجيب أُولئك الذين يتشبثّون دائماً بالحجج الواهية فيقول: لو أنّ الجبال تحرّكت من مكانها بواسطة القرآن: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}. فمع ذلك لا يؤمنون به.
ولكنّ كلّ هذه الأفعال بيد الله ويفعل ما يريد متى يشاء {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا}. ولكنّكم لا تطلبون الحقّ، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي صدرت من الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لإيمانكم.
ثمّ يضيف القرآن الكريم {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}(2) وهذه إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يجبر الناس وحتّى المعاندين على أن يؤمنوا، لأنّه القادر على كلّ شيء، ولكنّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنّ هذا الإيمان الإجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي يحتاجه الإنسان في حياته.
ثمّ تضيف الآية {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} وهذه مصائب تنزل عليهم بشكل إبتلاءات مختلفة أو على شكل هجوم المسلمين عليهم. وهذه المصائب إن لم تنزل في دارهم فهي {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ }لكي يعتبروا بها ويرجعوا إلى الله جلّ وعلا.
وهذا الإنذار مستمر {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}.
وهذا الوعد الأخير قد يشير إلى الموت، أو إلى يوم القيامة، أو على قول البعض إلى فتح مكّة التي سحقت آخر معقل للعدو.
وعلى أيّة حال فالوعد الإلهي أكيد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
_____________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي ،ج6،ص451-452.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|