أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-6-2020
7170
التاريخ: 4-5-2020
3562
التاريخ: 11-6-2020
2467
التاريخ: 4-5-2020
3306
|
قال تعالى:{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } [هود: 61، 63]
عطف سبحانه على ذلك قصة صالح فقال { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} وكان ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام وكان عاد باليمن عن الجبائي فـ{ قال } لهم صالح :{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} مضى تفسيره {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي ابتدأ خلقكم من الأرض لأنه خلق آدم من الأرض ومرجع نسبكم إليه { واستعمركم فيها } أي: جعلكم عمار الأرض بأن مكنكم من عمارتها وأحوجكم إلى السكنى فيها وقيل :معناه وأعمرها لكم مدة إعماركم من العمرى عن مجاهد وقيل: معناه وأطال فيها أعماركم عن الضحاك قال وكانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة وقيل:معناه أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه من المساكن والزراعات وغرس الأشجار وفي هذا دلالة على فساد قول من حرم المكاسب لأنه سبحانه امتن على عباده بأن مكنهم من عمارة الأرض ، ولو كان ذلك محرما لم يكن لذلك وجه { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي: فاستغفروه من الشرك والذنوب ثم دوموا على التوبة { إن ربي قريب} برحمته لمن وحده { مجيب} لمن دعاه { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أي: كنا نرجو منك الخير لما كنت عليه من الأحوال الجميلة قبل هذا القول فالآن يئسنا منك ومن خيرك بإبداعك ما أبدعت وقيل معناه كنا نرجوك ونظنك عونا لنا على ديننا { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} استفهام معناه الإنكار كأنهم أنكروا أن ينهى الإنسان عن عبادة ما عبده آباؤه { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه } من الدين {مريب} موجب للريبة والتهمة إذ لم يكن آباؤنا في جهالة وضلالة {قال} صالح لهم { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} مر بيانه فيما قبل {وآتاني منه رحمة} أي: وأعطاني الله منه نعمة وهي النبوة { فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} أي: فمن يمنع عذاب الله عني إن عصيته مع نعمته علي.
{فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي: ما تزيدونني بقولكم { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} غير نسبتي إياكم إلى الخسارة والتخسير: مثل التفسيق والتفجير قال ابن الأعرابي يريد غير تخسير لكم لا لي وقال ابن عباس: ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم وقيل:معناه إن أجبتكم إلى ما تدعونني إليه كنت بمنزلة من يزداد الخسران.
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص297-298.
{ وإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهً ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ } .
مر بالحرف الواحد في سورة الأعراف الآية 73 ج 3 ص 349 . ونظيره ما قاله هود في الآية 50 من سورته . وهذه هي دعوة جميع الأنبياء التي لا تتغير ولا تتعدل من عصر إلى عصر .
{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ } . ما من حي إنسانا كان أوحيوانا أو نباتا الا وينتمي في أصله إلى الأرض ، مباشرة أو بالواسطة ، واليها يعود { واسْتَعْمَرَكُمْ فِيها } استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة ، أي الاستعمار ، استعملها في احياء الأرض وتعميرها ، وهذا المعنى من أحسن المعاني وأكملها ، أما اليوم فإن هذه الكلمة تستعمل في الظلم والطغيان ، واستعباد الشعوب المستضعفة ، وهو من أقبح المعاني وأسوأها . . أنظر فقرة « اللَّه أصلح الأرض ، والإنسان أفسدها » ج 3 ص 340 { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } . هذا بالحرف ما قاله هود لقومه في الآية 52 من هذه السورة ، وعند تفسيرها بيّنا الفرق بين طلب الغفران والتوبة {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} قريب ممن أخلص في عمله ، مجيب لمن استجاب لدعوته .
{ قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا } النهي عن عبادة الأوثان ، أما الآن وبعد ان نهيتنا عن الأوثان فقد خاب فيك الظن { أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا } . . ان هذا لشيء عجاب . . لقد عبدوها أجيالا وقرونا ، وقرّبوا لها القرابين ، وما نهاهم أحد عنها ، فكيف يستجيبون لدعوته ؟ . . { وإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } . هذا هو منطق الجهل في كل زمان ومكان . . كل شيء الا العادات والتقاليد .
{قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} . قالوا لصالح ( عليه السلام ) : نحن في شك من أمرك . فقال لهم : أخبروني ما ذا أصنع ان كنت على يقين من أن اللَّه أرسلني إليكم ، وأمرني ان أدعوكم إلى التوحيد ، وزودني بالأدلة الكافية الوافية على هذه الرسالة ؟ فهل أعصي أمره لأجل مرضاتكم ؟ ومن الذي يمنعني من عذابه ان عصيت ؟ .
{فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} . قال جماعة من المفسرين : معناه ان أطعتكم جعلتموني خاسرا . وقال آخرون : بل معناه لا تزيدونني بإعراضكم عن دعوتي الا ان أنسبكم إلى الخسران . والذي نراه ان صالحا أراد بقوله هذا ان يفهم قومه انه لو أرضاهم لربح ثقتهم ، ولكنه يخسر مرضاة اللَّه ، وخسارته هذه تزيد كثيرا عن ربحه بثقتهم ومرضاتهم .
_________________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج،4 ،244-245.
تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي (عليه السلام) وقومه وهم ثمود، وهو (عليهما السلام) ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية.
دعا ثمود إلى التوحيد وتحمل الأذى والمحنة في جنب الله حتى قضي بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين.
قوله تعالى:{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.
قوله تعالى:{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} إلى آخر الآية.
قال الراغب الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال:{هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار}.
انتهى، وقال: العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال:{وعمارة المسجد الحرام} يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال:{وعمروها أكثر مما عمروها}{و البيت المعمور} وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال:{واستعمركم فيها} انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها والاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.
وعلى ما مر يكون معنى قوله:{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} - والكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا وأفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، ويرفع بها ما يتنبه له من الحاجة والنقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم وبقائكم إلا إليه تعالى وتقدس.
فقول صالح:{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} في مقام التعليل وحجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله:{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ولذلك جيء بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال: لأنه هوالذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.
وذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان ويتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون - على مزعمتهم - إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم وأرفع وأبعد من أن تناله عبادة أوترتفع إليه مسألة، ولا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي وتدبير النظام الجاري فيه ونتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، ولا يسخط علينا ونأمن بذلك الشرور، وهذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة ورب الأرباب، وإليه يرجع الأمر كله.
فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه وبين الإنسان واستقرارها بينه وبين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، وشفاعتها عند الله.
ولما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها فهو تعالى ذونسبة إلى الإنسان قريب منه، ولا استقلال لشيء من هذه الأسباب التي نظمها وأجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإرضاء أويترقب شر بالإسخاط.
فالله سبحانه هوالذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، ويتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإنسان ولكل شيء المدبر أمره وأمر كل شيء فقوله:{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} مسوق لتعليل سابقه والاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى وبين الإنسان ونفي الاستقلال من الأسباب.
ولذلك عقبه بقوله:{ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه وتتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، وارجعوا إليه بالإيمان به وعبادته. إنه قريب مجيب.
وقد علل قوله:{فاستغفروه} إلخ، بقوله:{ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان وتربيته وتدبير أمر حياته، وأنه لا استقلال لشيء من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا، ويصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان وبين حوائجه وجميع الأسباب العمالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم ولا يناله عبادة وقربان، وإذا كان قريبا فهو مجيب، وإذا كان قريبا مجيبا وهو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.
قوله تعالى:{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} إلخ، الرجاء إنما يتعلق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله وآثاره، ولا يرجى منها إلا الخير والنفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد وكمال في شخصه وبيته فيستهل منه الخير ويترقب منه النفع، وقوله:{قد كنت فينا} دليل على كونه مرجوا لعامتهم وجمهورهم.
فقولهم:{ يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ} معناه أن ثمود كانت ترجومنك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم وتحمل الأمة على صراط الترقي والتعالي لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد والكمال لكنهم يئسوا منك ومن رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول وأقمت من الدعوة.
وقولهم:{ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} استفهام إنكاري بداعي المذمة والملامة، والاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت، ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإرادة.
والدليل على ما ذكرنا قوله:{ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء ولم يقل: أ تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ والفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.
ومن هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار وغيره قوله:{أن نعبد ما يعبد آباؤنا} بقولهم:{أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا} من الخطإ.
وقوله:{ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح (عليه السلام)، وحجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية ومحصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة وتهدم بنيان مليتهم، وتميت ذكرهم فعلينا أن نرده، والثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما تدعو إليه تورث اليقين وتميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه وليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.
والإرابة الاتهام وإساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك وأرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه وسوء الظن به.
قوله تعالى:{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} إلى آخر الآية. المراد بالبينة الآية المعجزة وبالرحمة النبوة، وقد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح (عليه السلام) في السورة.
وقوله:{ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} جواب الشرط، وحاصل المعنى: أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبىء عن صحة دعوتي وأعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله ويدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه مني وهو ترك الدعوة.
ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم واعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.
وقوله:{ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين والاعتذار عن مخالفتهم والقيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة والرجوع إليكم واللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.
وقيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة.
وقيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم والوجه الأول أوجه.
__________________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج10،ص244-247.
قصّة ثمود :
انتهت قصّة «عاد قوم هود» بجميع دروسها بشكل مضغوط ، وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح» وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام ، حسب ما تنقله التواريخ عنهم .
ونرى هنا أيضاً أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيهم «صالح» يذكره على أنّه أخوهم ، وأي تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسماً من محتواه في الآيات المتقدمة ، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلاّ الخير لجماعته { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} .
ونجد أيضاً أنّ منهج الأنبياء جميعاً يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمّة التي استوعبت جميع وجودهم فقال : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .
فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له ، وأين هذا الوجود العالي والخلقة البديعة ؟ ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم ، ثمّ يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير السخرية .
ثمّ يُذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أُخرى موجودة في الأرض حيث قال : { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} .
وأصل «الإستعمار» و «الإعمار» في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان، وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه!
هذا ما قاله أرباب اللغة ، كالراغب في المفردات ، وكثير من المفسّرين في تفسير الآية المتقدمة .
ويَرِدُ احتمال آخر ، وهو أنّ الله منحكم عمراً طويلاً في هذه الأرض ، وبديهي أنّ المعنى الأوّل وبملاحظة مصادر اللغة هو الأقرب والأصح كما يبدو .
وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود ، حيث كانت لديهم أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات ، وكانوا يبذلون في الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة ، وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة وأجسامهم قويّة وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت ، كما يقول القرآن الكريم : {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 82] .
الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل : إنّ الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم،وإنّما قال : وفوّض إليكم إعمار الأرض {واستعمركم فيها} وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شيء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها . وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة.
كما يستفاد ضمناً أنّه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطي المجال لأُمّة معينة في العمل، وتجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها .
فإذا كان الأمر كذلك { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} لدعواتكم.
الإستعمار في القرآن وفي عصرنا الحاضر:
لاحظنا في الآيات المتقدمة أنّ نبي الله «صالحاً» من أجل هداية وتربية قومه الضالين «ثمود» ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب .. وتفويض إعمار الأرض إليهم إذ قال : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...} .
لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجذابيتها التي تعني العمران وتفويض الإختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيأتها ، تبدّلت هذه الكلمة في عصرنا إلى درجة أنّها مُسخت وأصبحت تعطي معنىً معاكساً لمفهوم القرآن تماماً .
وليست كلمة الإستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم ، فهناك كلمات كثيرة في العربية وفي لغات أُخرى مسخت وحُرّفت وتبدّلت وانقلبت رأساً على عقب ، مثل كلمات «الحضارة» و«الثقافة» و «الحرية» وفي ظلال هذه التحريفات تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرّب والبعد عن معناها ، وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى ذلك .
وعلى كل حال ، فإنّ معنى «الإستعمار» في عصرنا ومفهومه الواقعي هو «استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة ، بحيث تكون نتيجة هذا «الإستيلاء» وهذه «الغارة» امتصاص دمائهم وسلب خيراتهم ومصادرة حياتهم .
هذا الإستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة ، يتجسم مرّة بشكل «ثقافي» وأُخرى بوجه «فكري» وثالثة بوجه «إقتصادي» ورابعة بوجه «سياسي» وقد يبدو بوجه «عسكري» أيضاً ، وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة ، فالأقلية في هذه الدنيا لديهم كل شيء ، والأكثرية العظمى فاقدة لكل شيء هذا الإستعمار هو السبب في الحروب والدمار والإنحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي يقصم الظهر .
القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة «الإستضعاف» التي تنطبق تماماً على هذا المعنى أي «جعل الشيء ضعيفاً» بالمعنى الواسع والشامل للكلمة ، جعل الفكر ضعيفاً ، وجعل الإقتصاد ضعيفاً ، وجعل السياسة ضعيفة .. الخ ..
وقد اتسع مجال الإستعمار إلى درجة بحيث أصبحت كلمة الإستعمار «إستعمارية» أيضاً ، وذلك لأنّ مفهومها اللغوي قد انقلب رأساً على عقب تماماً.
وعلى كل حال ، فإن الإستعمار من القَصَصِ الطويلة المثيرة للحزن والألم ، بحيث يمكن أن يقال أنّه يستوعب تاريخ البشرية أجمع وإن تغيّر وجهه دائماً ، ولكن من غير المعلوم أنّه متى يزول من المجتمعات الإنسانية ، وتقوم حياة البشر على أساس التعاون والإحترام المتبادل بين الناس والمساعدة ليتقدم الواحد بعد الآخر في جميع المجالات ... ؟!
والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ الله «صالح(عليه السلام)» إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق .
لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النّبي «صالح» أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس ، وبالتعبير العاميّ الدارج : أرادوا أن يضعوا البطيخ تحت إبطه ، فقالوا : { يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في أُمورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك ، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا ، لكن رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح ، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا ، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} والحقيقة أننا نشكُّ في دعوتك للواحد الأحد {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
نجد هنا أن القوم الضّالين يلتجؤون تحت غطاء الاسلاف والآباء الذين تحيط بهم هالة من القدسية لتوجيه أخطائهم وأعمالهم وأفكارهم غير الصحيحة ، وهو ذلك المنطق القديم الذي كان يتذرع به المنحرفون وما زالوا يتذرعون به في عصر الذّرة والفضاء أيضاً .
لكن هذا النّبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في روحه الكبيرة فأجابهم قائلاً : {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة الله ولا أواجه المنحرفين {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} .. ولكن اعلموا أن كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج السلف والآباء لا يزيدني إلاّ إيماناً بضلالتكم وخسرانكم : {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ..} .
_______________________
1- تفسير الامثل ،الشيخ مكارم الشيرازي،ج6،ص109-113.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|