أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-7-2019
1708
التاريخ: 23-7-2019
3426
التاريخ: 2023-06-25
1249
التاريخ: 16-11-2018
1885
|
غزوة أحد
يوم السبت لسبعٍ خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً. واستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على المدينة ابن أم مكتوم.
حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالح بن دينار، ومعاذ ابن محمد، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ويونس بن محمد الظفري، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وأبو معشر، في رجال لم أسم، فكلٌّ قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الذي لدثوني، قالوا: لما رجع من حضر بدراً من المشركين إلى مكة، والعير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة وكذلك كانوا يصنعون فلم يحركها أبو سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير، مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان بن حرب: الأسود بن المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وعبد الله ابن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزي، وحجير بن أبي إهاب، فقالوا: يا أبا سفيان، انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة ولطيمة قريش، وهم طيبو الأنفس، يجهزون بهذه العير جيشاً إلى محمد، وقد ترى من قتل من آبائنا، وأبنائنا، وعشائرنا. قال أبو سفيان: وقد طابت أنفس قريش بذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله الموتور الثائر، قد قتل ابن حنظلة ببدر وأشراف قومي. فلم تزل العير موقوفةً حتى تجهزوا للخروج إلى أحد، فباعوها وصارت ذهباً عيناً، فوقف عند أبي سفيان. ويقال إنما قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها. وكانت العير ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً، وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها. وكان أبو سفيان قد حبس عير زهرة لأنهم رجعوا من طريق بدر، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل ولبني أبيه وبني عبد مناف بن زهرة، فأبي مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعاً. وتكلم الأخنس فقال: ما لعير بني زهرة من بني عيرات قريش؟ قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا عن قريش. قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا في غير شيء، فرجعنا. فأخذت زهرة عيرها، وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف، لا عشائر لهم ولا منعة، كل ما كان لهم من العير. فهذا يبين أنما أخرج القوم أرباح العير. وفيهم نزلت: " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله الآية.
فلما أجمعوا على المسير قالوا: نسير في العرب فنستنصرهم فإن عب مناة غير متخلفين عنا، هم أوصل العرب لأرحامنا، ومن اتبعنا من الأحابيش.
فاجتمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب يدعونهم إلى نصرهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعري، وأبا عزة الجمحي، فأطاع النفر وأبي أبو عزة أن يسير، وقال: من علي محمدٌ يوم بدر ولم يمن على غيري، وحلفت لا أظاهر عليه عدواً أبداً. فمشى إليه صفوان بن أمية فقال: اخرج؟ فأبى فقال: عاهدت محمداً يوم بدر لا أظاهر عليه عدواً أبداً، وأنا أفي له بما عاهدته عليه من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء. فقال له صفوان: اخرج معنا، فإن تسلم أعطك من المال ما شئت، وإن تقتل كان عيالك مع عيالي. فأبى أبو عزة حتى كان الغد، وانصرف عنه صفوان بن أمية آيساً منه، فلما كان الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم، فقال له صفوان الكلام الأول فأبى، فقال جبير: ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو وهب في أمرٍ تأبى عليه! فأحفظه، فقال: فأنا أخرج! قال: فخرج في العرب يجمعها، وهو يقول:
يا بني عبد مناة الرزام ... أنتم حماةٌ وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام ... لا تعدوني نصركم بعد العام
قال: وخرج معه النفر فألبوا العرب وجمعوها، وبلغوا ثقيفاً فأوعبوا فلما أجمعوا المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا، اختلفت قريش في إخراج الظعن معهم.
فحدثني بكير بن مسمار، عن زياد مولى سعد، عن نسطاس، قال: قال صفوان بن أمية: اخرجوا بالظعن، فأنا أول من فعل، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه. فقال عكرمة بن أبي جهل: أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه. وقال عمرو بن العاص مثل ذلك، فمشى في ذلك نوفل بن معاوية الديلي فقال: يا معشر قريش هذا ليس برأي، أن تعرضوا حرمكم عدوكم، ولا آمن أن تكون الدائرة لهم، فتفتضحوا في نسائكم، فقال صفوان بن أمية: لا كان غير هذا أبداً! فجاء نوفل إلى أبي سفيان فقال له تلك المقالة، فصاحت هند بنت عتبة: إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم، نخرج فنشهد القتال، فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر فقتلت الأحبة يومئذٍ. قال أبو سفيان: لست أخالف قريشاً، أنا رجلٌ منها، ما فعلت فعلت، فخرجوا بالظعن.
قالوا: فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين هند بنت عتبة، وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة. وخرج صفوان بن أمية بامرأتين، برزة بنت مسعود الثقفي، وهي أمي عبد الله الأكبر، وبامرأته البغوم بنت المعذل بن كنانة، وهي أم عبد الله بن صفوان الأصغر. وخرج طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد، وهي من الأوس، وهي أم بني طلحة، أم مسافع، والحارث، وكلاب، وجلاس، بني طلحة. وخرج عكرمة بن أبي جهل بامرأته أم جهيم بنت الحارث بن هشام. وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة. وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب مع ابنها أبي عزيز بن عمير العبدري. وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت طارق بن علقمة. وخرج كنانة بن علي بن ربيعة ابن عبد العزي بامرأته أم حكيم بنت طارق. وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو بن هلال. وخرج النعمان وجابر ابنا مسك الذئب بأمهما الدغنية. وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة، وهي التي رفعت لواء قريش حين سقط حتى تراجعت قريش إلى لوائها. قالوا: وخرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده، وحشدت بنو كنانة. وكانت الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة ألوية عقدوها في دار الندوة لواء يحمله سفيان بن عويف، ولواء في الأحابيش يحمله رجل منهم، ولواء يحمله طلحة بن أبي طلحة. ويقال: خرجت قريش ولفها على لواءٍ واحدٍ يحمله طلحة بن أبي طلحة. قال ابن واقد: وهو أثبت عندنا.
وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدة وسلاحٍ كثيرٍ، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير. فلما أجمعوا المسير كتب العباس ابن عبد المطلب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يخبره أن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه. وقد توجهوا إليك، وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح. فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالمدينة ووجده بقباء، فخرج حتى يجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبياً ما فيه، فدخل منزل سعد بن الربيع فقال: في البيت أحد؟ فقال سعد: لا، فتكلم بحاجتك. فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب، وجعل سعد يقول: يا رسول الله ، إني لأرجو أن يكون في ذلك خيرٌ، وقد أرجعت يهود المدينة والمنافقون، وقالوا: ما جاء محمداً شيءٌ يحبه. فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة واستكتم سعداً الخبر. فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه فقالت: ما قال لك رسول الله؟ فقال: ما لك ولذلك، لا أم لك؟ قالت: قد كنت أسمع عليك. وأخبرت سعداً الخبر، فاسترجع سعد وقال: لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تكلم بحاجتك! ثم أخذ يجمع لبتها، ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالجسر وقد بلحت، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي سألتني عما قلت، فكتمتها فقالت قد سمعت قول رسول الله! فجاءت بالحديث كله، فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شيءٌ فتظن أني أفشيت سرك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): خل سبيلها. وشاع الخبر في الناس بمسير قريش، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفرٍ من خزاعة، ساروا من مكة أربعاً، فوافوا قريشاً وقد عسكروا بذي طوىً، فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الخبر، ثم انصرفوا فوجدوا قريشاً ببطن رابغ فنكبوا عن قريش ورابغ على ليالٍ من المدينة.
فحدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عمرو بن أبي حكيمة الأسلمي، قال: لما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو ابن سالم وأصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة، فقال أبو سفيان: أحلف بالله أنهم جاءوا محمداص فخبروه بمسيرنا، وحذروه، وأخبروه بعددنا، فهم الآن يلزمون صياصيهم، فما أرانا نصيب منهم شيئاً من وجهنا. فقال صفوان: إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبداً، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وترٍ عندهم ولا وتر لهم عندنا.
وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من أوس الله حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة، فأقام مع قريش وكان دعا قومه فقال لهم: إن محمداً ظاهرٌ فاخرجوا بنا إلى قومٍ نوازرهم.
فخرج إلى قريش يحرضها ويعلمها أنها على الحق، وما جاء به محمدٌ باطل، فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم رجلان، وهؤلاء معي نفرٌ من قومي وهم خمسون رجلاً. فصدقوه بما قال وطمعوا بنصره.
وخرج النساء معهن الدفوف، يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر في كل منزل، وجعلت قريش ينزلون كل منهل، ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العير ويتقوون به في مسيرهم، ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال. وكانت قريش لما مرت بالأبواء قالت: إنكم قد خرجتم بالظغن معكم، ونحن نخاف على نسائنا. فتعالوا ننبش قبر أم محمد، فإن النساء عورة، فإن يصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمة أمك، فإن كان برلً بأمه كما يزعم، فلعمري ليفادينكم برمة أمه، وإن لم يظفر بأحدٍ من نسائكم، فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثيرٍ إن كان بها براً. واستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك فقالوا: لا تذكر من هذا شيئاً، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا.
وكانت قريش يوم الخميس بذي الحليفة، صبيحة عشر من مخرجهم من مكة، لخمس ليالٍ مضين من ضوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ومعهم ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس. فلما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان فأنزلهم بالوطاء. وبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عينين له، أنساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء. فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبراه.
وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف، إلى العرصة، عرصة البقل اليوم وكان أهله بنو سلمة، وحارثة، وظفر، وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذٍ بالجرف أنشاطاً، لا يريم سائق الناضح مجلساً واحداً، ينفتل الجمل في ساعة، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفر معاوية بن أبي سفيان. فكانوا قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة، فقدم المشركون على زرعهم وخلوا فيه إبلهم وخيولهم وقد شرب الزرع في الدقيق، وكان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحاً يسقي شعيراً وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم. وكان المشركون يرعون يوم الخميس حتى أمسوا، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا عليها القصيل، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهورهم في الزرع وخيلهم حتى تركوا العرض ليس به خضراء.
فلما نزلوا وحلوا العقد واطمأنوا، بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم، فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد، وبعثه سراً وقال للحباب: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى قلة. فرجع إليه فأخبره خالياً، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): ما رأيت؟ قال: رأيت يا رسول الله عدداً، حزرتهم ثلاثة آلاف، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعاً ظاهرة، حزرتها سبعمائة درع. قال: هل رأيت ظعناً؟ قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار الأكبار يعني الطبول. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول.
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس، فركضوا في أثره فوقف لهم على نشرٍ من الحرة، فراشقهم بالنبل مرة وبالحجارة مرة حتى انكشفوا عنه. فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض، فاستخرج سيفاً كان له ودرع حديدٍ كانا دفنا في ناحية المزرعة، فخرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل فخبر قومه بما لقي منهم. وكان مقدمهم يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبعٍ خلون من شوال.
وباتت وجوه الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، في عدةٍ، ليلة الجمعة، عليهم السلاح، في المسجد بباب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خوفاً من بيات المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) واجتمع المسلمون خطب.
فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود ابن لبيد، قال: ظهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على المنبر، فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درعٍ حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورأيت بقراً تذبح، ورأيت كأني مردفٌ كبشاً. فقال الناس: يا رسول الله، فما أولتها؟ قال: أما الدروع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبةٌ في نفسي، وأما البقر المذبح، فقتلى في أصحابي، وأما مردفٌ كبشاص، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله، وحدثني عمر بن عقبة، عن سعيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): وأما انقصام سيفي، فقتل رجل من أهل بيتي.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ابن مخرمة، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): ورأيت في سيفي فلا فكرهته، فهو الذي أصاب وجهه الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): أشيروا علي! ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحب أن يوافق على مثل ما رأى وعلى ما عبر عليه الرؤيا. فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة. والله، لربما مكث الوالدان شهراً ينقلون الحجارة إعداداً لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله، إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدوٍ قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا رسول الله، فإنهم إن أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً. يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وكان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مع رأى ابن أبي، وكان ذلك رأى الأكابر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من المهاجريرن والأنصار. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والآطام. فكانوا قد شبكوا المدينة بالبنينان من كل ناحية فهي كالحصن. فقال فتيانٌ أحداٌ لم يشهدوا بدراً، وطلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا! وقال رجالٌ من أهل السن وأهل النية، منهم حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما يرى من إلحاحهم كارهٌ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم، يتسامون كأنهم الفحول. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري: يا رسول الله، نحن والله بين إحدى الحسنين إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأخرى يا رسول الله، يرزقنا الله الشهادة. والله يا رسول الله، ما أبالي أيهما كان، إن كلاً لفيه الخير! فلم يبلغنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) رجع إليه قولاً، وسكت. فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة. وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائماً، ويوم السبت صائماً، فلاقاهم وهو صائم.
قالوا: وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم: يا رسول الله، أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك وأني منهم، فلم تحرمنا الجنة؟ فو الذي لا إله إلا هو لأدخلنها. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): صدقت! فاستشهد يومئذٍ. وقال إياس بن أوس ابن عتيك: يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح، نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ويذبح فينا، فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها! فيكون هذا جرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا لم نزرع، وقد كنا يا رسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا، ولا يطعمون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا. وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترىء علينا العرب حولنا حتى يطعموا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا وعسى الله أن يظفرنا بهم فتلك عادة الله عندنا، أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخزرج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت حريصاً على الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً! وقد والله يا رسول الله أصحبت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، فقتل بأحد شهيداً.
وقالوا: قال أنس بن قتادةك يا رسول الله، هي إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر في قتلهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إني أخاف عليكم الهزيمة.
قالوا: فلما أبوا إلا الخروج صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الجمعة بالناس، ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا. ففرح الناس بذلك حيث أعلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشرٌ كثيرٌ من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وأمرهم بالتهيو لعدوهم. ثم صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) العصر بالناس، وقد حشد الناس وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام، فحضرت بنو عمرو بن عوف ولفها والنبيت ولفها وتلبسوا السلاح. فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه ولبساه، وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه، فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا: قلتم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه وما رأيتم له فيه هوًى أو رأى فأطيعوه. فبينا القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد! وبعضهم على البصيرة على الشخوص، وبعضهم للخروج كارهٌ، إذ خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، قد لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقةٍ من حمائل سيف من أدم، كانت عند آل أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد، واعتم، وتقلد السيف. فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ندموا جميعاً على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): ما كان لنا أن نلح على رسول الله في أمرٍ يهوى خلافه. وندمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام، فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك. فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: كان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة، فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلبس لأمته ثم خرج وهو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه، ثم دعا بدابته فركب إلى أحد.
حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه قال: قال له جعال بن سراقة وهو موجه إلى أحد: يا رسول الله، إنه قيل لي إنك تقتل غداً! وهو يتنفس مكروباً، فضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بيده في صدره وقال: أليس الدهر كله غداً.
ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ويقال إلى سعد بن عبادة، ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، ويقال إلى مصعب بن عمير. ثم دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بفرسه فركبه، وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) القوم وأخذ قناة بيده زج الرمح يومئذٍ من شبه والمسلمون متلبسون السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع. فلما ركب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ كل واحد منهما دارع، والناس عن يمينه وعن شماله حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى أتى الشيخين، وهم أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان، فسمي الأطمان الشيخين حتى انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبةٍ خشناء لها زجلٌ خلفه، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا رسول الله، هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك. ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى أتى الشيخين فعسكر به. وعرض عليه غلمانٌ: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديح، فردهم. قال رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع: يا رسول الله إنه رامٍ! وجعلت أتطاول وعلي خفان لي، فأجازني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبة، أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج. فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): تصارعا! فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكانت أمه امرأة من بني أسد.
وأقبل ابن أبي فنزل ناحيةً من العسكر، فجعل حفاؤه ومن معه من المنافقين يقولون لابن أبي: أشرت عليه بالرأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من مضى من آبائك، وكان ذلك رأيه مع رأيك فأني أن يقبله، وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه! فصادفوا من ابن أبي نفاقاً وغشاً.
فبات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالشيخين، وبات ابن أبي في صحابه، وفرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من عرض أصحابه وغابت الشمس فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأصحابه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نازل في بني النجار. واستعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الحرس محمد بن مسلمة بن خمسين رجلاً، يطوفون بالعسكر حتى أدلج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). وكان المشركون قد رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خيلهم وظهروا واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيلٍ من المشركين، وباتت صاهلةً خيلهم لا تهدأ، وتدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة، فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم، ويهابون موضع الحرة ومحمد بن مسلمة.
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال حين صلى العشاء: من يحفظنا الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من أنت؟ قال: ذكوان بن عبد قيس. قال: اجلس. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا فقال: من أنت.؟ قال: أنا أبو سبع. قال: اجلس. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا. فقال: ومن أنت؟ قال: ابن عبد قيس. قال: اجلس. ومكث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ساعةً ثم قال: قوموا ثلاثتكم. فقام ذكوان بن عبد قيس، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أين صاحباك؟ فقال ذكوان: أنا الذي كنت أجبتك الليلة. قال: فاذهب، حفظك الله! قال: فلبس درعه وأخذ درقته، وكان يطوف بالعسكر تلك الليلة، ويقال كان يحرس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يفارقه.
ونام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى أدلج، فلما كان في السحر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أين الأدلاء؟ من رجلٌ يدلنا على الطريق ويخرجنا على القوم من كثب؟ فقام أبو حثمة الحارثي فقال: أنا يا رسول الله. ويقال أوس بن قيظي، ويقال محيصة وأثبت ذلك عندنا أبو حثمة. قال: فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فركب فرسه، فسلك به في بني حارثة، ثم أخذ في الأموال حتى يمر بحائط مربع بن قيظي، وكان أعمى البصر منافقاً، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حائطه قام يحثى التراب في وجوههم وجعل يقول: إن كنت رسول الله، فلا تدخل حائطي. فيضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسٍ في يده، فشجه في رأسه فنزل الدم، فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه، فقال: هي عداوتكم يا بني عبد الأشهل، لا تدعونا أبداً لنا. فقال أسيد بن حضير: لا والله، ولكنه نفاقكم. والله، لولا أني لا أدري ما يوافق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك لضربت عنقه وعنق من هو على مثل رأيه! فأسكتوا.
ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه، فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها! وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحب الفأل ويكره الطيرة.
ولبس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الشيخين درعاً واحدةً، حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعاً أخرى، ومغفراً وبيضةً فوق المغفر. فلما نهض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الشيخين زحف المشركون على تعبيةٍ حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم. فلما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى أحد إلى موضع القنطرة اليوم جاء وقد حانت الصلاة، وهو يرى المشركين، أمر بلالاً فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفاً، وارتحل ابن أبي من ذلك المكان في كتيبة كأنه هيق يقدمهم، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم. فقال ابن أبي: ما أرى يكون بينهم قتال، ولئن أطعتني يا أبا جابر لترجعن، فإن أهل الرأي والحجى قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا وأشرت عليه بالرأي، فأبى إلا طواعية الغلمان. فلما أبى علي عبد الله أن يرجع ودخلوا أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله، إن الله سيغني النبي والمؤمنين عن نصركم! فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ وانصرف عبد الله بن عمرو بن حرام يعدو حتى لحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يسوي الصفوف. فلما أصيب أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سر ابن أبي، وأظهر الشماتة وقال: عصاني وأطاع من لا رأي له! وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يصف أصحابه، وجعل الرماة خمسين رجلاً على عينين، عليهم عبد الله بن جبير، وقيل عليهم سعد ابن أبي وقاص. قال ابن واقد: والثبت عندنا عبد الله بن جبير. وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يصف أصحابه، فجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وأقبل المشركون فاستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحداً. ويقال جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عينين خلف ظهره، واستدبر الشمس واستقبلها المشركون والقول الأول أثبت عندنا، أن أحداً خلف ظهره وهو مستقبل المدينة.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن الحصين عن عبد الرحمن بن عمرو، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: لما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى أحد، والقوم نزول بعينين، أتى أحداً حتى جعله خلف ظهره. قال: ونهى أن يقاتل أحدٌ حتى يأمره، فلما سمع بذلك عمارة بن يزيد بن السكن قال: أترى زروع بني قيلة، ولما نضارب؟
وأقبل المشركون، قد صفوا صفوفهم واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجتبتان مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية ويقال عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة، وكانوا مائة رامٍ. ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وصاح أبو سفيان يومئذٍ: يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا! إنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتي القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قومٌ مستميتون موتورون، نطلب ثأرا حديث العهد، وجعل أبو سفيان يقول: إذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها! فغضب بنو عبد الدار وقالوا: نحن نسلم لواءنا! لا كان هذا أبداً، فأما المحافظة عليه، فسترى! ثم أسندوا الرماح إليه، وأحدقت بنو عبد الدار باللواء، وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ. فقال أبو سفيان: فنجعل لواءً آخر؟ قالوا: نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا كان غير ذلك أبداً! وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فخطب الناس فقال: يا أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم إنكم اليوم بمنزل أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ، شديدٌ كربه، قليلٌ من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريصٌ على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس، جدد في صدري أن من كان على حرامٍ فرق الله بينه وبينه، ومن رغب له عنه غفر الله ذنبه، ومن صلى علي صلى الله عليه وملائكته عشراً، ومن أحسن من مسلم أو كافرٍ وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبياً أو امرأة أو مريضاً أو عبداً مملوكاً، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والل غني حميدٌ. ما أعلم من عملٍ يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عملٍ يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث في روعي الروح الأمين، أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيءٌ وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته. قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهاً من الأمر لم يعلمها كثيرٌ من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه. وليس ملكٌ إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد. والسلام عليكم! حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله، قال: إن أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش، فنادى أبو عامر، وهو عبد عمرو: يا آل أوس، أنا أبوعامر! فقالوا: لا مرحباً بك ولا أهلاً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى تراضخوا بها ساعة، حتى ولى أبو عامر وأصحابه، ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز. ويقال: إن العبيد لم يقاتلوا، وأمروهم بحفظ عسكرهم.
قال: وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالأكبار والدفاف والغرابيل، ثم يرجعن فيكن في مؤخر الصف، حتى إذا دنوا منا تأخر النساء يقمن خلف الصفوف، فجعلن كلما ولي رجلٌ حرضنه وذكرنه قتلاهم ببدر.
وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيره نساء بني ظفرٍ فقلن: يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت! يا قزمان ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار! فأحفظنه، فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه وكان يعرف بالشجاعة فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو يسوي صفوف المسلمين، فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه. وكان أول من رمى بسهم من المسلمين، فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت الجمل. ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا ذكره قال: من أهل النار. فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار! يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع! قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل، ثم يطلع ويقول: أنا الغلام الظفري! حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع. فمر بن قتاده بن النعمان فقال: أبا الغيداق! قال له قزمان: يا لبيك! قال: هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دينٍ، ما قاتلكت إلا على الحفاظ أن تسير قريشٌ إلينا حتى تطأ سعفنا. فذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) جراحته فقال: من أهل النار. فأندبته الجراحة، فقتل نفسه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
قالوا: وتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتي من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم، حتى ندخل عسكرهم، فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، اللهم، إني أشهدك عليهم! وارشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل. وكان للمشركين مجنبتان، ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. قالوا: وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ميمنة وميسرةً، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب. والرماة يحمون ظهورهم، يرشقون خيل المشركين بالنبل، فتولى هوارب. قال بعض الرماة: لق درمقت نبلنا، ما رأيت سهماً واحداً مما نرمي به خيلهم يقع بالأرض إلا في فرسٍ أو رجلٍ قالوا: ودنا القوم بعضهم من بعض، وقدموا صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بين أكتافهم يضربن بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرضن ويذمرن الرجال ويذكرون من أصيب ببدر ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وصاح طلحة بن أبي طلحة: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام: هل لك في البراز؟ قال طلحة: نعم. فبرزا بين الصفين. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) جالسٌ تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا فبدره علي فضربه على رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته حتى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة وانصرف علي عليه السلام. فقيل لعلي: ألا ذففت عليه؟ قال: إنه لما صرع استقبلتني عورته فعطفني عليه الرحم، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى سيقتله هو كبش الكتيبة.
ويقال حمل عليه طلحة، فاتقاه علي بالدرقة فلم يصنع سيفه شيئاً. وحمل عليه علي عليه السلام، وعلى طلحة درع مشمرة، فضرب ساقيه فقطع رجليه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله بالرحم فتركه علي فلم يذفف عليه، حتى مر به بعض المسلمين فذفف عليه. ويقال إن عليا ذفف عليه. فلما قتل طلحة سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأظهر التكبير، وكبر المسلمون. ثم شد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون حتى نقضت صفوفهم، وما قتل إلا طلحة. ثم حمل لواءهم بعد طلحة عثمان بن أبي طلحة، أبو شيبة، وهو أمام النسوة، يرتجز ويقول:
إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا
فتقدم باللواء، والنساء يحرضن ويضربن بالدفوف، وحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى مؤتزره حتى بدا سحره، ثم رجع وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج! ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته، وكان دارعاً وعليه مغفر لا رفرف له، فكانت حنجرته بادية، فأدلع لسانه إدلاع الكلب. ويقال: إن أبا سعد لما حمل اللواء قام النساء خلفه يقلن:
ضرباً بني عبد الدار ... ضرباً حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
فقال سعد بن أبي وقاص: فأضربه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى، فأحمل على يده اليسرى فضربتها فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعاً فضمه إلى صدره، ثم حنى عليه ظهره. قال سعد: فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره ثم ضربته حتى قتلته، ثم أخذت أسلبه درعه، فنهض إلى سبيع بن عبد عوف ونفرٌ معه فمنعوني سلبه. وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين درع فضفاضة، ومغفر، وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه. وهذا أثبت القولين، وهكذا اجتمع عليه، أن سعداً قتله.
ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وقال: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد وهي مع النساء، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! قالت سلافة: أقلحي والله! أي من رهطي.
ويقال قال: خذها وأنا ابن كسرة كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب. فقال لأمه حين سألته من قتلك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن كسرة! قالت سلافة: إحدى والله كسرى! تقل: إنه رجلٌ منا. فيومئذٍ نذرت أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر، وجعلت تقول: لمن جاء به مائة من الإبل.
ثم حمله كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله الزبير بن العوام، ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي عليه السلام، ثم حمله شريح بن قارظ، فلسنا ندري من قتله، ثم حمله صواب غلامهم، فاختلف في قتله، فقائل قال سعد بن أبي وقاص، وقائلق علي عليه السلام، وقائلٌ قزمان وكان أثبتهم عندنا قزمان. قال: انتهى إليه قزمان، فحمل عليه فقطع يده اليمنى، فاحتمل اللواء باليسرى، ثم قطع اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه، ثم حنى عليه ظهره، وقال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟ فحمل عليه قزمان فقتله.
وقالوا: ما ظفر الله نبيه في موطنٍ قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد، حتى عصوا الرسول وتنازعوا في الأمر. لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح حيث التقينا. قال الواقدي: وقد روي كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيءٌ لمن أراد ذلك. وكلما أتى خالد من قبل ميسرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليجوز حتى يأتي من قبل السفح فرده الرماة، حتى فعلوا ذلك مراراً، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أوعز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هذا، فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا لا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر،قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون ها هنا في غير شيءٍ؟ قد هزم الله العدو وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغتموا مع إخوانكم فقال: بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لكم: " احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا " ؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا، وقد أذل الله المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وكان يومئذٍ معلماً بثياب بيض فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وألا يخالف لرسول الله أمرٌ فعصوا وانطلقوا، فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا نفير ما يبلغون العشرة، فيهم الحارث بن أنس بن رافع، يقول: يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم. قال: فأبوا وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل وجعلوا ينتهبون، وانتقضت صفوف المشركين واستدارت رجالهم، وحالت الريح، وكانت أول النهار إلى أن رجعوا صباً، فصارت دبوارً حيث المشركون، بينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم.
قال نسطاس مولى صفوان بن أمية، وكان أسلم فحسن إسلامه: كنت مملوكاً فكنت فيمن خلف في العسكر، ولم يقاتل يومئذٍ مملوكٌ إلا وحشى، وصواب غلام بني عبد الدار. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، خلفوا غلمانكم على متاعكم يكونون هم الذين يقومون على رحالكم. فجمعنا بعضها إلى بعض، وعقلنا الإبل، وانطلق القوم على تعبيتهم ميمنةً وميسرةً، وألبسنا الرحال الأنطاع. ودنا القوم بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا ساعة ثم إذا أصحابنا منهزمون، فدخل أصحاب محمد عسكرنا ونحن في الرحال، فأحدقوا بنا، فكنت فيمن أسروا. وانتهبوا العسكر أقبح انتهاب، حتى إن رجلاً منهم قال: أين مال صفوان بن أمية؟ فقلت: ما حمل إلا نفقة، هي في الرحل. فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة خمسين ومائة مثقال. وقد ولي أصحابنا وأيسنا منهم، وانحاش النساء، فهن في حجرهن سلمٌ لمن أرادهن. وصار النهب في أيدي الرجال، فإنا لعلي ما نحن عليه من الاستسلام إلى أن نظرت إلى الجبل، فإذا الخيل مقبلة فدخلوا العسكر فلم يكن أحدٌ يردهم، قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا إلى النهب والرماة ينتهبون، وأنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم وجعابهم، كل رجل منهم في يديه أو حضنه شيءٌ قد أخذه، فلما دخلت خيلنا دخلت على قومٍ غارين آمنين، فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً. وتفرق المسلمون في كل وجهٍ، وتركوا ما انتهبوا وأجلوا عن عسكرنا، فرجعنا متاعنا بعد فما فقدنا منه شيئاً، وخلوا أسرانا، ووجدنا الذهب في المعرك. ولقد رأيت رجلاً من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننت أنه سيموت حتى أدركته به رمقٌ، فوجأته بخنجر معي فوق، فسألت عنه بعد فقيل: رجلٌ من بني ساعدة. ثم هداني الله عز وجل بعد للإسلام.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، قال: ما علمنا أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذين أغاروا على النهب، فأخذوا ما أخذوا من الذهب، بقي معه من ذلك شيءٌ رجع به حيث غشنا المشركون واختلطوا إلا رجلين: أحدهما عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح، جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون ديناراً، فشدها على حقويه من تحت ثيابه، وجاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالاً، ألقاها في جيب قميصه، وعليه قميص والدرع فوقها قد حزم وسطه. فأتيا بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد، فلم يخمسه ونفلهما إياه.
قال رافع بن خديج: فلما انصرف الرماة وبقي من بقي، نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم. فراموا القوم حتى أصيبوا، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وأقبل جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار، وكانا قد حضرا قتل عبد الله بن جبير، وهما آخر من انصرف من الجبل حتى لحقا القوم، وإن المشركين على متون الخيل، فانتقضت صفوفنا. ونادى إبليس وتصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل! ثلاث صرخات. فابتلي يومئذٍ جعال بن سراقة بيلية عظيمةٍ حين تصور إبليس في صورته، وإن جعال ليقاتل مع المسلمين أشد القتال، وإنه إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوات بن جبير، فوالله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا. وأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يريدون قتله يقولون: هذا الذي صاح إن محمداً قد قتل. فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة بن نيار أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح، وأن الصائح غيره. قال رافع: وشهدت له بعد.
يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً، ما يشعرون به من العجلة والدهش، ولقد جرح يومئذٍ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدري، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! قال: وكر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر إنه ليقول: خذها وأنا أبو زعنة! حتى عرفه بعد. فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بي. فيقول له أبو زعنة: أنت ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل الله. فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقل (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو في سبيل الله، يا أبا بردة، لك أجره حتى كأنه ضربك أحدٌ من المشركين، ومن قتل فهو شهيدٌ.
وكان اليمان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين، قد رفعا في الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك، ما نستبقي من أنفسنا، فوالله ما نحن إلا هامة اليوم أو غداً، فما بقي من أجلنا قد ظمء دابة. فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، نعل الله يرزقنا الشهادة قال: فلحقا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد من النهار. فأما رفاعة فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتقت عليه سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه، حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم! فزادته عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خيراً، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بديته أن تخرج. ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة بن اليمان بدمه على المسلمين.
وأقبل يومئذٍ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة! فأقبلوا عنقاً واحدةً: لبيك داعي الله! لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربةً في رأسه مثقلةً وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت! أمت! فكف بعضهم عن بعض.
فحدثني الزبير بن سعد، عن عبد الله بن الفضلن قال: أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مصعب بن عمير اللواء، فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب. فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لمصعب في آخر النهار: تقدم يا مصعب! فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب فعرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه ملك أيد به. وسمعت أبا معشر يقول مثل ذلك.
فحدثتني عبيدة بنت نائل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد ابن أبي وقاص، فال: لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذٍ فيرده علىّ رجلٌ أبيض حسن الوجه، لا أعرفه حتى كان بعد فظننت أنه ملك.
حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد رأيت رجلين عليهما ثياب بيض، أحدهما عن يمين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والآخر عن يساره، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
حدثني عبد الملك بن سليم، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. قال عبيد بن عمير: ولم تقاتل الملائكة يوم أحد.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الحميد بن سهيل، عن عمر بن الحكم قال: لم يمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد بملك واحد، إنما كانوا يوم بدر.
حدثني ابن خديج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مثله.
حدثني معمر بن راشد، عن ابن أبي لحيح، عن مجاهد، قال: حضرت الملائكة يومئذٍ ولم تقاتل.
حدثني سفيان بن سعيد، عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
حدثني ابن أبي سبرة، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: قد وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذٍ.
حدثني يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، عن أبي بشير المازني، قال: لما صاح الشيطان أزب العقبة إن محمداً قد قتل، لما أراد الله عز وجل من ذلك، سقط في أيدي المسلمين وتفرقوا في كل وجه، وأصعدوا في الجبل. فكان أول من بشرهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سالمٌ كعب بن مالك. قال كعب: فجعلت أصيح، ويشير إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بإصبعه على فيه أن اسكت.
فحدثني موسى بن شيبة بن عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أبيها، قال: لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وبشرت به المؤمنين حياً سوياً. قال كعب: وأنا في الشعب. فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كعباً بلامته وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ونزع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأمته فلبسها كعب. وقاتل كعب يومئذٍ قتالاً شديداً حتى جرح سبعة عشر جرحاً.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كنت أول من عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذٍ، فعرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت: يا معشر الأنصار، أبشروا! هذا رسول الله! فأشار إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن اصمت.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن الأعرج، قال: لما صاح الشيطان إن محمداً قد قتل، قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، إيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف. قال: ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابن عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت محمد بن مسلمة يقول: سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول يومئذٍ، وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه، وإنه ليقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله! فما عرج منهما واحدٌ عليه ومضيا.
حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول: الحمد لله الذي هداني للإسلام! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب رحمه الله حين جالوا وانهزموا يوم أحد، وما معه أحدٌ، وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحدٌ غيري، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه موجهاً إلى الشعب.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذٍ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا! وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى جنبه، ما معه أحدٌ، ثم جاوزه، ولقي عبد الله ابن شهاب صفوان بن أمية، فقال صفوان: ترحت، ألم يمكنك أن تضرب محمداً فتقطع هذه الشأفة، فقد أمكنك الله منه؟ قال: وهل رأيته؟ قال: نعم، أنت إلى جنبه. قال: والله ما رأيته. أحلف بالله إنه مناً ممنوعٌ، خرجنا أربعةً تعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة واسم أبي نملة عبد الله بن معاذ، وكان أبوه معاذ أخاً للبراء بن معرور لأمه فقال: لما نكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما معه أحدٌ إلا نفير، فأحدق به أصحابه من المهاجرين والأنصار وانطلقوا به إلى الشعب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ولا فئةٌ، ولا جمعٌ، وإن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلةً ومدبرةً في الوادي، يلتقون ويفترقون، ما يرون أحداً من الناس يردهم. فاتبعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنظر إليه وهو يوم أصحابه، ثم رجع المشركون نحو عسكرهم وتآمروا في المدينة وفي طلبنا، فالقوم على ما هم عليه من الاختلاف. وطلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى أصحابه، فكأنهم لم يصبهم شيءٌ حين رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سالماً.
حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه، قال: حمل مصعب اللواء فلما جال المسلمون ثبت به، فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها، وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل " . وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فقطع يده اليسرى، فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية. ثم حمل عليه الثالثة فأنفذه واندق الرمح، ووقع مصعب وسقط اللواء، وابتدره رجلان من بني عبد الدار، سويبط بن حرملة وأبو الروم، وأخذه أبو الروم فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، عن المقداد، قال: لما تصاففنا للقتال جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تحت راية مصعب بن عمير، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى، وأغار المسلمون على عسكرهم فانتهبوا، ثم كروا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرق الناس، ونادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أصحاب الألوية، فأخذ اللواء مصعب بن عمير ثم قتل. وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قائمٌ تحتها، وأصحابه محدقون به. ودفع لواء المهاجرين إلى أبي الروم العبدري آخر النهار، ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير، فناوشوهم ساعةً واقتتلوا على الاختلاط من الصفوف. ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزى، يا آل هبل! فأوجعوا والله فينا قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما نالوا. لا والذي بعثه بالحق، إن رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) زال شبراً واحداً، إنه لفي وجه العدو، وتثوب إليه طائفةٌ من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة، فربما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا. وثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما هو في عصابةٍ صبروا معه، أربعة عشر رجلاً، سبعةٌ من المهاجرين وسبعةٌ من الأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمد ابن مسلمة، فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ. وبايعه يومئذٍ ثمانيةٌ على الموت ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار: علي، والزبير، وطلحة عليهم السلام، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب ابن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحدٌ. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من المهراس.
وحدثني عتبة بن جبيرة، عن يعقوب بن عمرو بن قتادة، قال: ثبت بين يديه يومئذٍ ثلاثون رجلاً كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.
وقالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما لحمه القتال وخلص إليه، وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: من رجلٌ يشري نفسه؟ فوثب فئة من الأنصار خمسةٌ، منهم عمارة بن زياد بن السكن، فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئةٌ من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعمارة بن زياد: ادن مني! إلي، إلي! حتى وسده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قدمه وبه أربعة عشر جرحاً، حتى مات. وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذٍ يذمر الناس ويحضهم على القتال، وكان رجالٌ من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لسعد بن أبي وقاص: ارم، فداك أبي وأمي! ورمي حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وجاءت يومئذٍ تسقى الجرحى فعقلها وانكشف عنها، فاستغرب في الضحك، فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له فقال: ارم! فوقع السهم في ثغرة نحر حبان فوقع مستلقياً وبدت عورته. قال سعد: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صحك يومئذٍ وسدد رميتك! ورمي يومئذٍ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي، وكان هو وحبان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأكثرا فيهم القتل بالنبل، يتستران بالصخر ويرميان المسلمين. فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير وراء صخرة، قد رمى وأطلع رأسه، فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه، فنزا في السماء قامةً ثم رجع فسقط فقتله الله عز وجل.
ورمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذٍ عن قوسه حتى صارت شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده. وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقلت: أي رسول الله، إن تحتي امرأةً شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني. فأخذها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فردها فأبصرت وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعةً من ليلٍ ولا نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي والله أقوى عيني! وكانت أحسنهما.
وباشر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) القتال، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعةٌ تكون شبراً في سية القوس، وأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له، فقال: يا رسول الله، لا يبلغ الوتر. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): مده، يبلغ! قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمى القوم، وأبو طلحة أمامهم يستره مترساً عنه، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، فأخذها قتادة بن النعمان. وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثر كنانته بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكان رامياً وكان صيتاً. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من أربعين رجلاً. وكان في كنانته خمسون سهماً، فنثرها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ثم جعل يصيح: يا رسول الله، نفسي دون نفسك! فلم يزل يرمي بها سهماً سهماً، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يطلع رأسه خلف أبي طلحة بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول: نحرى دون نحرك، جعلني الله فداك! فإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم يا أبا طلحة! فيرمي بها سهماً جيداً.
وكان الرماة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المذكور منهم: سعد بن أبي وقاص، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمقداد بن عمرو، وزيد بن حارثة، وحاطب بن أبي بلتعة، وعتبة بن غزوان، وخراش بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وبشر بن البراء بن معرور، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، وأبو طلحة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقتادة بن النعمان.
ورمى يومئذٍ أبو رهم الغفاري بسهمٍ فوقع في نحره، فجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فبصق عليه فبرأ، وكان أبو رهم يسمى المنحور.
وكان أربعةٌ من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعرفهم المشركون بذلك عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأبي بن خلف. ورمى عتبة يومئذٍ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأربعة أحجارٍ وكسر رباعيته أشظى باطنها، اليمنى السفلى وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر في وجنته وأصيبت ركبتاه فجحشتا. وكانت حفرٌ حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) واقفاً على بعضها ولا يشعر به. والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ابن قميئة، والذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. وأقبل ابن قميئة وهو يقول: دلوني على محمد، فو الذي يحلف به، لئن رأيته لأقتلنه! فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه (صلى الله عليه وآله وسلّم) درعان، فوقع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في الحفرة التي أمامه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئاً إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وانتهض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وطلحة يحمله من ورائه، وعلى آخذٌ بيديه حتى استوى قائماً.
حدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، عن أبي بشير المازني، قال: حضرت يوم أحد وأنا غلامٌ، فرأيت ابن قميئة علا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقع على ركبتيه في حفرةٍ أمامه حتى توارى، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه. قال: فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذاً بحضنه حتى قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
ويقال إن الذي شج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في جبهته ابن شهاب، والذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص، والذي رمى وجنتيه حتى غاب الحلق في وجنتيه ابن قميئة، وسال الدم في شجته التي في جبهته حتى أخضل الدم لحيته (صلى الله عليه وآله وسلّم). وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم.. " الآية.
وقال سعد بن أبي وقاص: سمعته يقول: اشتد غضب الله على قومٍ أدموا فا رسول الله، اشتد غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله، اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله! قال سعد: فقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولقد حرصت على قتله حرصا ًما حرصته على شيء قط وإن كان ما علمته لعاقاً بالوالد سيىء الخلق. ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله، ولكن راغ مني روغان الثعلب، فلما كان الثالثة قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): يا عبد الله ما تريد؟ تريد أن تقتل نفسك؟ فكففت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): اللهم لا يحولن الحول على أحدٍ منهم! قال: والله، ما حال الحول على أحدٍ ممن رماه أو جرحه! مات عتبة، وأما ابن قميئة فإنه اختلف فيه. فقائل يقول قتل في المعرك، وقائل يقول إنه رمى يوم أحد بسعن. فأصاب مصعب بن عمير فقال: خذها وأنا ابن قميئة! فقتل مصعباً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أقمأه الله! فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته، فوجد ميتاً بين الجبال، لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). وكان عدو الله قد رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهو رجل من بني الأدرم من بني فهر.
ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على تلك الحال، يركض فرسه مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فو الله لأقتلنه أو لأموتتن دونه! فتعرض له أبو دجانة فقال: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه! فضرب فرسه فعرقبها، فاكتسعت الفرس، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة! ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينظر إليه يقول: اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راضٍ.
حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: لما كان يوم أحد ورمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإنسانٌ قد أقبل من قبل المشرق يطير طيراناً، فقلت: اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله! حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو عبيد ة بن الجراح، فبدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فأنزعه من وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). قال أبو بكر: فتركته. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): عليكم صاحبكم! يعني طلحة بن عبيد الله. فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر فنزعها، وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.
ويقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عقبة بن وهب بن كلدة، ويقال أبو اليسر وأثبت ذلك عندنا عقبة ابن وهب بن كلدة.
وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل مالك بن سنان يملج الدم بفيه ثم ازدرده، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم، أشرب دم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من مس دمه دمي، لم تصبه النار. قال أبو سعيد: فكنا ممن رد من الشيخين، لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار وبلغنا مصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتفرق الناس عنه، جئت مع غلمان من بني خدرة نعترض لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم، بأبي وأمي! فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه. ثم قال: آجرك الله في أبيك! ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجةٌ في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمي، وإذا رباعيته اليمنى شظية، فإذا على جرحه شيءٌ أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصيرٌ محرقٌ. وسألت: من دمي وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكىء على السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته. فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران يكمدون بها الجراح. ثم أذن بلالٌ بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وجلس بلالٌ عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه: الصلاة، يا رسول الله! فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر.
قالوا: وخرجت فاطمة في نساءٍ، وقد رأت الذي بوجهه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. فأتي بماءٍ في مجنه، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يشرب منه وكان قد عطش فلم يستطع، ووجد ريحاً من الماء كرهها فقال: هذا ماءٌ آجنٌ. فمضمض منه فاه للدم في فيه، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها. ولما أبصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سيف علي عليه السلام مختضباً قال: إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم. فلم يطق أن يشرب منه، فخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم.
وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل مالك بن سنان يملج الدم بفيه ثم ازدرده، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم، أشرب دم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من مس دمه دمي، لم تصبه النار. قال أبو سعيد: فكنا ممن رد من الشيخين، لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار وبلغنا مصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتفرق الناس عنه، جئت مع غلمان من بني خدرة نعترض لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم، بأبي وأمي! فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه. ثم قال: آجرك الله في أبيك! ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجةٌ في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمي، وإذا رباعيته اليمنى شظية، فإذا على جرحه شيءٌ أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصيرٌ محرقٌ. وسألت: من دمي وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكىء على السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته. فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران يكمدون بها الجراح. ثم أذن بلالٌ بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وجلس بلالٌ عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه: الصلاة، يا رسول الله! فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر.
قالوا: وخرجت فاطمة في نساءٍ، وقد رأت الذي بوجهه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. فأتي بماءٍ في مجنه، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يشرب منه وكان قد عطش فلم يستطع، ووجد ريحاً من الماء كرهها فقال: هذا ماءٌ آجنٌ. فمضمض منه فاه للدم في فيه، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها. ولما أبصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سيف علي عليه السلام مختضباً قال: إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم. فلم يطق أن يشرب منه، فخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم.
وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجج، فهبتها، وإذا رجلٌ يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجلٌ يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله، هذا أبي بن خلف. فقلت: ألا سحقاً! ويقال مات بسرف. ويقال لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير وجهه، وأبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فرجةً بين سابغة والبيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور. قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر فرساً له أبلق، يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وعليه لأمةٌ له كاملةٌ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) موجهٌ إلى الشعب، وهو يصيح: لا نجوت إن نجوت! فيقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويعثر به فرسه في بعض تلك الحفر التي كانت حفر أبو عامر، فيقع الفرس لوجهه، وخرج الفرس عائراً فأخذه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيعقرونه، ويمشي إليه الحارث بن الصمة فتضاربا ساعةً بسيفين، ثم يضرب الحارث رجله وكانت الدرع مشمرة فبرك وذفف عليه. وأخذ الحارث يومئذٍ درعاً جيدة ومغفراً وسيفاً جيداً، ولم يسمع بأحدٍ سلب يومئذٍ غيره. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينظر إلى قتالهما وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الرجل، فإذا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، فقال: الحمد لله الذي أحانه. وكان عبد الله بن جحش أسره ببطن نخلة حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتدى فرجع إلى قريش حتى غزا أحداً فقتل به. ويرى مصرعه عبيد بن حاجز العامري عامر بن لؤي فأقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب الحارث بن الصمة ضربةً جرحه على عاتقه، فوقع الحارث جريحاً حتى احتمله أصحابه. ويقبل أبو دجانة على عبيد فتناوشا ساعة من نهار، وكل واحد منهما يتقي بالدرقة ضرب السيف، ثم حمل عليه أبو دجانه فاحتضنه، ثم جلد على الأرض، ثم ذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف فلحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وقالوا: إن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): نبلوا سهلاً فإنه سهلٌ! ونظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى أبي الدرداء، والناس منهزمون كل وجه، فقال: نعم الفارس عويمر قال الواقدي: غير أنه يقال لم يشهد أحداً.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة، ولقي أحد بني عوف فاختلفا ضربات، كل ذلك يروغ أحدهما عن صاحبه. قال: فنظر إليهما كأنهما سبعان ضاريان، يقفان مرة ويقتتلان مرة، ثم تعانقا فضبط أحدهما صاحبه فوقعا للأرض، فعلاه أبو أسيرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة، ونهض عنه. ويقبل خالد بن الوليد، وهو على فرس أدهم أغر محجل، يجر قناة طويلة، فطعنه من خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره، ووقع أبو أسيرة ميتاً، وانصرف خالد بن الوليد يقول: أنا أبو سليمان! قالوا: وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذٍ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قتالاً شديداً، فكان طلحة يقول: لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين انهزم أصحابه، وكر المشركون وأحدقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كل ناحية، فما أدرى أقوم من بين يديه أو من ورائه، أو عن يمينه أو عن شماله، فأذب بالسيف من بين يديه مرة وأخرى من وراءه حتى انكشفوا. فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذٍ لطلحة: قد أنحب! وقال سعد بن أبي وقاص وذكر طلحة فقال: يرحمه الله، إنه كان أعظمنا غناءً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد! قيل: كيف يا أبا إسحاق؟ قال: لزم النبي صلى الله عليه وسلم وكنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه، لقد رأيته يدور حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يترس بنفسه.
وسئل طلحة: يا أبا محمد، ما أصاب إصبعك؟ قال: رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وكان لا تخطىء رميته، فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأصاب خنصري. فشك فشل إصبعه. وقال حين رماه. حس! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): لو قال بسم الله لدخل الجنة والناس ينظرون! من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، طلحة ممن قضى نحبه.
وقال طلحة: لما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا، أقبل رجلٌ من بني عامر بن لؤي بن مالك بن المضر يجر رمحاً له، على فرس كميت أغر، مدججاً في الحديد، يصيح: أنا أبو ذات الودع، دلوني على محمد! فأضرب عرقوب فرسه فانكسعت، ثم أتناول رمحه فوالله ما أخطأت به عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برحت به واضعاً رجلي على خده حتى أزرته شعوب. وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة، ضربه رجلٌ من المشركين ضربتين، ضربة وهو مقبل والأخرى وهو معرض عنه، وكان قد نزف منها الدم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جئت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد فقال: عليك بابن عمك! فأتي طلحة بن عبيد الله وقد نزف الدم، فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشيٌّ عليه، ثم أفاق فقال: ما فعل رسول الله؟ فقلت: خيراً، هو أرسلني إليك. قال: الحمد لله، كل مصيبةٍ بعده جللٌ.
وكان ضرار بن الخطاب الفهري يقول: نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرةٍ، فنظرت إلى المصلبة في رأسه. فقال ضرار: أنا والله ضربته هذه، استقبلني فضربته ثم أكر عليه وقد أعرض فأضربه أخرى.
وقالوا: لما كان يوم الجمل وقتل علي عليه السلام من قتل من الناس ودخل البصرة، جاءه رجلٌ من العرب فتكلم بين يديه، ونال من طلحة فزبره علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد وعظم غنائه في الإسلام مع مكانه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فانكسر الرجل وسكت، فقال رجلٌ من القوم: وما كان غناؤه وبلاوه يوم أحد يرحمه الله؟ فقال علي: نعم، يرحمه الله! فلقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإن السيوف لتغشاه والنبل من كل ناحية، وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فقال قائل: إن كان يوماً قد قتل فيه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وأصاب رسول الله فيه الجراحة. فقال علي عليه السلام: أشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل. قال ابن أبي الزناد: نحص الجبل أسفله. ثم قال علي عليه السلام: لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبهم في ناحية، وإن أبا دجانة لفي ناحيةٍ يذب طائفة منهم، وإن سعد بن أبي وقاص يذب طائفة منهم، حتى فرج الله ذلك كله. ولقد رأيتني وانفردت منهم يومئذٍ خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخلت وسطها بالسيف فضربت به واشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت، ولكن الأجل استأجر ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال الواقدي: وحدثني جابر بن سليم، عن عثمان بن صفوان، عن عمارة بن خزيمة، قال: حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم يومئذٍ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل. ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه إلى جمعٍ منهم، وصار الحباب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وكان الحباب يومئذٍ معلماً بعصابةٍ خضراء في مغفره.
وطلع يومئذٍ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس، مدججاً لا يرى منه إلا عيناه، فقال: من يبارز؟ أنا عبد الرحمن بن عتيق. قال: فنهض إليه أبو بكر فقال: يا رسول الل، أبارزه. وقد جر أبو بكر سيفه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): شم سيفك وراجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): ما وجدت لشماس بن عثمان شبهاً إلا الجنة يعني مما يقاتل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذ. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يرمي يميناً ولا شمالاً إلا رأى شماساً في ذلك الوجه يذب بسيفه. حتى غشي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فترس بنفسه دونه حتى قتل، فذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): ما وجدت لشماس شبهاً إلا الجنة.
وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار، وقد بلغوا بني حارثة فرجعو سراعاً، فصادفوا المشركين في كرتهم فدخلوا في حومتهم، وما أفلت منهم رجلٌ حتى قتلوا. ولقد ضاربهم قيس بن محرث وامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفراً، فما قتلوه إلا بالرماح، نظموه، ولقد وجد به أربع عشرة طعنةً قد جافته، وعشر ضربات في بدنه.
وكان عباس بن عبادة بن نضلة، وخارجة بن زيد بن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، وعباس رافع صوته يقول: يا معشر المسلمين، الله ونبيكم! هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم، فيوعدكم النصر فما صبرتم! ثم نزع مغفره عن رأسه وخلع درعه فقال لخارجة بن زيد: هل لك في درعي ومغفري؟ قال خارجة: لا، أنا أريد الذي تريد. فخالطوا القوم جميعاً، وعباس يقول: ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله ومنا عين تطرف؟ يقول خارجة: لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة. فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين فجرحه جرحين عظيمين، فارتث يومئذٍ جريحاً فمكث جريحاً سنةً ثم استبل. وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان ابن أمية فعرفه فقال: هذا من أكابر أصحاب محمد وبه رمقٌ! فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم.
وقال صفوان بن أمية: من رأى خبيب بن يساف؟ وهويطلبه ولا يقدر عليه. ومثل يومئذٍ بخارجة وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير: وقتلت أوس بن أرقم.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه؟ قال: يضرب به العدو. فقال عمر: أنا. فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ثم عرضه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك الشرط، فقام الزبير فقال: أنا. فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى وجد عمر والزبير في أنفسهما. ثم عرضه الثالثة، فقال أبو دجانة: أنا يا رسول الله آخذه بحقه. فدفعه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فصدق به حين لقي العدو، وأعطى السيف حقه. فقال أحد الرجلين إما عمر وإما الزبير: والله لأجعلن هذا الرجل من شأني، الذي أعطاه النبي السيف ومنعنيه. قال: فاتبعته. قال: فوالله ما رأيت أحداً قاتل أفضل من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه، ثم يضرب به في العدو حتى رده كأنه منجل. وكان حين أعطاه السيف مشى بين الصفين واختال في مشيته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين رآه يمشي تلك المشية: إن هذه لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وكان أربعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يعلمون في الزحوف، أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابةٍ حمراء، وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال، وكان علي عليه السلام يعلم بصوفةٍ بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابةٍ صفراء، وكان حمزة يعلم بريش نعامة.
قال أبو دجانة: إني لأنظر يومئذٍ إلى امرأةٍ تقذف الناس وتحوشهم حوشاً منكراً، فرفعت عليها السيوف وما أحسبها إلا رجلاً. قال: وأكره أن أضرب بسيف رسول الله امرأة! والمرأة عمرة بنت الحارث.
وكان كعب بن مالك يقول: أصابني الجراح يوم أحد، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين أشد المثلى وأقبحه، قمت فتجاوزت عن القتلى حتى تنحيت، فإني لفي موضعي، إذ أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللأمة يحوز المسلمين يقول: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم! مدججاً في الحديد يصيح: يا معشر قريش، لا تقتلوا محمداً، ائسروه أسيراً حتى نعرفه بما صنع. ويصمد له قزمان، فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره، ثم أخذ سيفه وانصرف. وطلع عليه آخر من المشركين ما رأى منه إلا عينيه، فضربه ضربةً واحدة حتى جزله باثنين. قال: قلنا من هو؟ قال: الوليد بن العاص بن هشام. ثم يقول كعب: إني لأنظر يومئذٍ وأقول: ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع بالسيف! ثم ختم له بما ختم له به. فيقول: ما هو وما ختم له به؟ فقال: من أهل النار، قتل نفسه يومئذٍ.
قال كعب: وإذا رجلٌ من المشركين جامع اللأمة يصيح: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم. وإذا رجلٌ من المسلمين عليه لأمته، فمشيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أكثرهما عدةً وأهبةً. فلم أزل أنظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه بالسيف، فمضى السيف حتى بلغ وركيه، وتفرق المشرك فرقتين. وكشف المسلم عن وجهه فقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
قال: وكان رشيد الفارسي مولى بني معاوية لقي رجلاً من المشركين من بني كنانة مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن عويم! فيعترض له سعدٌ مولى حاطب فضربه ضربةً جزله باثنين ويقبل عليه رشيد فيضربه على عاتقه، فقطع الدرع حتى جزله باثنين، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الفارسي! ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): ألا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري؟ فيعترض له أخوه، وأقبل يعدو كأنه كلب، يقول:أنا ابن عويم! ويضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر، ففلق رأسه، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال: أحسنت يا أبا عبد الله! فكناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذٍ ولا ولد له.
وقال أبو النمر الكناني: أقبلت يوم أحد فقد انكشف المسلمون، وأنا مع المشركين، وقد حضرت في عشرة من إخوتي، فقتل منهم أربعةٌ. وكانت الريح للمسلمين أول ما التقينا، فلقد رأيتني وانكشفنا مولين، وأقبل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على نهب العسكر، حتى بلغت على قدمي الجماء، ثم كرت خيلنا فقلنا: والله ما كرت الخيل إلا عن أمرٍ رأته. فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل، حتى نجد القوم قد أخذ بعضهم بعضاً، يقاتلون على غير صفوف، ما يدري بعضهم من يضرب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ومع رجل من بني عبد الدار لواءنا. وأسمع شعار أصحاب محمد بينهم: أمت! أمت! فأقول في نفسي: ما أمت! وإني لأنظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإن أصحابه محدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه وعن شماله وتقصر بين يديه وتخرج من ورائه، ولقد رميت يومئذٍ بخمسين مرماةً فأصبت منها بأسهمٍ بعض أصحابه. ثم هداني الله إلى الإسلام.
فكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكاً في الإسلام، فكان قومه يكلمونه في الإسلام فيقول: لو أعلم ما تقولون حقاً ما تأخرت عنه! حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد، فأسلم وأخذ سيفه فخرج حتى دخل في القوم، فقاتل حتى أثبت، فوجد في القتلى جريحاً ميتاً، فدنوا منه وهو بآخر رمقٍ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ قال: الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، ثم أخذت سيفي وحضرت، فرزقني الله الشهادة. ومات في أيديهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إنه لمن أهل الجنة.
قالوا: قال الواقدي: فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن داود ابن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، والناس حوله: أخبروني برجلٍ يدخل الجنة لم يصل لله سجدة قط! فيسكت الناص فيقول أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قالوا: وكان مخيريق اليهودي من أحبار اليهود، فقال يوم السبت ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد: يا معشر اليهود، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي، وأن نصره عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت! ثم أخذ سلاحه ثم حضر مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأصابه القتل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): مخيريق خير يهود. وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله! فهي عامة صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وكان حاطب بن أمية منافقاً، وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق، شهد أحداً مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فارتث جريحاً، فرجع به قومه إلى منزله فقال أبوه، وهو يرى أهل الدار يبكون عنده: أنتم والله صنعتم هذا به! قالوا: كيف؟ قال: غررتموه من نفسه حتى خرج فقتل، ثم صار منكم في شيءٍ آخر، تعدونه جنة يدخل فيها، جنة من حرمل! قالوا: قاتلك الله! قال: هو ذاك! ولم يقر بالإسلام.
قالوا: وكان قزمان عديداً في بني ظفر لا يدري ممن هو، وكان لهم حائطاً محباً، وكان مقلاً لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم، تلك التي كانت تكون بينهم. فشهد أحداً فقاتل قتالاً شديداً فقتل ستة أو سبعة، وأصابته الجراح فقيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد! قال: من أهل النار. فأتي إلى قزمان فقيل له: هنيئاً لك يا أبا الغيداق الشهادة! قال: بم تبشرون؟ والله ما قاتلنا إلا على الأحساب. قالوا: بشرناك بالجنة. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار، إنما قاتلنا على أحسابنا! فأخرج سهماً من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره. فذكر ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال: من أهل النار.
وكان عمرو بن الجموح رجلاً أعرجن فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المشاهد أمثال الأسد أراد بنوه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجلٌ أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم). قال: بخ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم! فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولياً، قد أخذ درقته، يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً! فخرج ولحقه بنوه يكلمونه في القعود، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله، إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أما أنت، فقد عذرك الله تعالى ولا جهاد عليك. فأبى فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لبنيه: لا عليكم أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. فخلوا عنه فقتل يومئذٍ شهيداً.
فقال أبو طلحة: نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلعه في رجله، يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة! ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً.
وكانت عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرجت في نسوة تستروح الخبر ولم يضرب الحجاب يومئذٍ، حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بني حارثة إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله بن عمرو ابن حرام تسوق بعيراً لها، عليها زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد ابن عمرو، وأخوها عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر. فقالت عائشة: عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت هند: خيراً، أما رسول الله فصالحٌ، وكل مصيبة بعده جلل. واتخذ الله من المؤمنين شهداء، " ورد الله للذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " . قالت: من هؤلاء؟ قالت: أخي، وابن خلاد، وزوجي عمرو بن الجموح. قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها...حل! تزجر بعيرخا، ثم برك بعيرها فقلت: لما عليه! قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعةً إلى أحد فأسرع. فرجعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبرتهبذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): فإن الجمل مأمور، هل قال شيئاً؟ قالت: إن عمراً لما وجه إلى أحد استقبل القبلة وقال: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً وارزقني الشهادة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): فلذلك الجمل لا يمضي! إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح. يا هند، ما زالت الملائكة مظلةً على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن. ثم مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى قبرهم، ثم قال: يا هند، قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرو بن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد الله. قالت هند: يا رسول الله، ادع الله، عسى أن يجعلني معهم.
قال جابر بن عبد الله: اصطبح ناسٌ الخمر يوم أحد، منهم أبي، فقتلوا شهداء.
قال جابر: كان أبي أول قتيلٍ قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهزيمة.
قال جابر: لما استشهد أبي جعلت عمتي تبكير، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): ما يبكيها؟ ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام وكأني رأيت مبشر بن عبد المنذر يقول: أنت قادمٌ علينا في أيام. فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة. نسرح منها حيث نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت. فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: هذه الشهادة يا أبا جابر.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد: ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد. ويقال إنهما وجدا وقد مثل بهما كل المثل، قطعت آرابهما يعني عضواً عضواً فلا تعرف أبدانهما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): ادفنوهما جميعاً في قبرٍ واحد. ويقال إنما أمر بدفنهما في قبرٍ واحد لما كان بينهما من الصفاء فقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبرٍ واحد. وكان عبد الله بن عمرو بن حرام رجلاً أحمر أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح طويلاً، فعرفا ودخل السيل عليهما، وكان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما، وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرحٌ في وجهه، فيده على وجهه، فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم.
قال جابر: فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم، وما تغير من حاله قليلٌ ولا كثير. فقيل له: أفرأيت أكفانه؟ فقال: إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه وعلى رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك وبين وقت دفنه ستة وأربعون سنة. فشاورهم جابر في أن يطيب بمسكٍ، فأبى ذلك أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا: لا تحدثوا فيهم شيئاً. ويقال إن معاوية لما أراد أن يجري كظامة والكظامة عينٌ أحدثها معاوية نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيلٌ بأحد فليشهد! فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنون، فأصابت المسحاة رجلاً منهم فثعب دماً. قال أبو سعيد الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً. ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد، ووجد خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع في قبرٍ واحد. فأما قبر عبد الله وعمرو بن الجموح فحول، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما، وأما قبر خارجة وسعد بن الربيع فتركا، وذلك لأن مكانهما كان معتزلاً، وسوى عليهما التراب، ولقد كانوا يحفرون التراب، فكلما حفروا فتراً من تراب فاح عليهم المسك.
وقالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لجابر: يا جابر، ألا أبشرك؟ قال، قلت: بلى بأبي وأمي؟ قال: فإن الله أحيا أباك. ثم كلمه كلاماً فقال: تمن على ربك ما شئت. فقال: أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك، ثم أحيا فأقتل مع نبيك. قال: إني قد قضيت أنهم لا يرجعون.
قالوا: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة، وهي امرأة غزية بن عمرو، وشهدت أحداً هي وزوجها وابناها، وخرجت، معها شنٌّ لها في أول النهار تريد أن تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنةٍ برمحٍ أو ضربةٍ بسيف.
فكانت أم سعد بنت سعد بن ربيع تقول: دخلت عليها فقالت لها: يا خالة، حدثني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاءٌ فيها ماءٌ، فانتهيت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فجعلت أباشر القتال وأدب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح. فرأيت على عاتقها جرحاً له غورٌ أجوف، فقلت: يا أم عمارة، من أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة، وقد ولي الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، يصيح: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا؟ فاعترض له مصعب بن عمير وأناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضرباتٍ، ولكن عدو الله كان عليه درعان. قلت: يدك، ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب ينهزمون بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدو الله مسيلمة، فيعترض لي رجلٌ منهم فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت لي ناهيةٌ ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عب الله بن زيد المازني يمسح سيفه بثيابه. فقلت: قتلته؟ قال: نعم. فسجدت شكراً لله.
وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وكان يراها تقاتل يومئذٍ أشد القتال، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً. فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر جرحاً. وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): إلى حمراء الأسد! فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم. ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك.
حدثنا عبد الجبار بن عمارة، عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله! فيقبل رجلٌ على فرسٍ فضربني، وترست له فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره. فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يصيح: يا ابن أم عمارة، أمك، أمك! قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: جرحت يومئذٍ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجلٌ كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): اعصب جرحك. فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) واقفٌ ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم. فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة.؟ قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): هذا ضارب ابنك. قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقدت يا أم عمارة! ثم أقبلنا إليه نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك.
حدثنا يعقوب بن محمد، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب، بمروط، فكان فيها مرطٌ واسع جيد، فقال بعضهم: إن هذا المرط لثمن كذا وكذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد وذلك حدثنا ما دخلت على ابن عمر. فقال: أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب. سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد يقول: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني.
فقال الواقدي: حدثني سعيد بن أبي زيد. عن مروان بن أبي سعيد ابن المعلى، قال: قيل لأم عمارة: هل كن نساء قريش يومئذٍ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد ابن عاصم يقول: شهدت أحداً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه، وأمي تذب عنه، فقال: يا ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينظر ويتبسم، فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال: أمك، أمك! اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيتٍ! مقام أمك خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك يعني زوج أمه خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقامك لخيرٌ من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت! قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. قال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
قالوا: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد. وكان قد استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة! فأشهدت عليه أنه قد دخل بها. وتعلق بعبد الله بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس.
وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد وهو يسوي الصفوف، قال: فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة ابن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس، ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجع يصيح: يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالاً لا يلتفتون إليه من الهزيمة حتى عاينه الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه، فمشى حنظلة إليه بالرمح وقد أثبته، ثم ضربه الثانية فقتله. وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش، فنزل عن صدر فرسه وردف وراء أبي سفيان فذلك قول أبي سفيان. فلما قتل حنظلة مر عليه أبوه، وهو مقتولٌ إلى جنب حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش، فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع، والله إن كنت لبراً بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم. وإن جزى الله هذا القتيل لحمزة خيراً ، أو أحداً من أصحاب محمد، فجزاك الله خيراً. ثم نادى: يا معشر قريش، حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيراً. فمثل بالناس وترك فلم يمثل به.
وكانت هند أول من مثل بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمرت النساء بالمثل جدع الأنوف والآذان فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان، ومثل بهم كلهم إلا حنظلة. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماءٍ المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماءً. قال أبو أسيد: فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنبٌ.
وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنمٍ لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوفاً فسألا: أين الناس؟ قفالوا: بأحد، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقاتل المشركين من قريش. فقالا: لا نبتغي أثراً بعد عين. فخرجا حتى أتيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد فيجدان القوم يقتتلون، والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال. فانفرقت فرقةٌ من المشركين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من لهذه الفرقة؟ فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله. فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع، فانفرقت فرقةٌ أخرى فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني. ثم طلعت كتيبةٌ أخرى فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقال: قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل. فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينظر إلى المسلمون، حتى خرج من أقصاهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: اللهم ارحمه! ثم يرجع فيهم فما زال كذلك، وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذٍ عشرون طعنةً برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذٍ. ثم قام ابن أخيه فقاتل كنحو قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتًى من آلل قابوس من مزينة، فجئت سعداً حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال! قال: مرحباً بك، من هذا معك؟ قلت: رجلٌ من قومي من آل قابوس. قال سعد: ما أنت يا فتًى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحباً وأهلاً، ونعم الله بك عيناً، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهداً ما شهدته من أحد. لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسطنا والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم يقول: من لهذه الكتيبة؟ كل ذلك يقول المازني: أنا يا رسول الله! كل ذلك يردها، فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): قم وأبشر بالجنة! قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذٍ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه رحمه الله، ووددت والله إني كنت أصبت يومئذٍ معه، ولكن أجلي استأخر.ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله وقال: اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك. فقال بلال: إنه يستحب الرجوع. فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) واقفاً عليه وهو مقتول، وهو يقول: رضي الله عنه فإني عنك راضٍ. ثم رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قام على قدميه وقد نال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) البردة على رأسه فخمره، وأدرجه فيها طولاً وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف. فما حالٌ أموت عليها أحب إلي من أن ألقى الله تعالى على حال المزني.
قالوا: ولما صاح إبليس، إن محمداص قد قتل تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخل المدينة يخبر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة. ثم ورد بعده رجالٌ حتى دخلوا على نسائهم، حتى جعل النساء يقلن: أعن رسول الله تفرون؟ قال: يقول ابن أم مكتوم: أعن رسول الله تفرون؟ ثم جعل يؤفف بهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خلفه بالمدينة، يصلي بالناس، ثم قال: اعدلوني على الطريق يعني طريق أحد فعدلوه على الطريق، فجعل يستخبر كل من لقي عن طريق أحد حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ثم رجع. وكان ممن ولى فلان، والحارث ابن حاطب، وثعلبة بن حاطب، وسواد بن غزية، وسعد بن عثمان، وعقبة ابن عثمان، وخارجة بن عامر، بلغ ملل، وأوس بن قيظي في نفرٍ من بني حارثة، بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثى في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك! فوجهت إلى أحد مع نسياتٍ معها.
وقد قال بعض من يروى الحديث: إن المسلمين لم يعدوا الجبل، وكانوا في سفحه، ولم يجاوزوه إلى غيره، وكان فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم).
ويقال: إنه كان بين عبد الرحمن وعثمان كلامٌ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال: اذهب إلى أخيك فبلغه عني ما أقول لك، فإني لا أعلم أحداً يبلغه غيرك. قال الوليد: أفعل. قال: قل، يقول لك عبد الرحمن: شهدت بدراً ولم تشهد، وثبت يوم أحد ووليت عنه، وشهدت بيعة الرضوان ولم تشهدها. فجاءه فأخبره فقال عثمان: صدق أخي! تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهي مريضة، فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بسهمي وأجرى فكنت بمنزلة من حضر. ووليت يوم أحد، فقد عفا الله ذلك عني، فأما بيعة الرضوان فإني خرجت إلى أهل مكة، بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إن عثمان في طاعة الله وطاعة رسوله. وبايع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إحدى يديه الأخرى، فكانت شمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خيراً من يميني. فقال عبد الرحمن حين جاءه الوليد بن عقبة: صدق أخي! ونظر عمر بن الخطاب إلى عثمان بن عفان فقال: هذا ممن عفا الله عنه، والله ما عفا الله عن شيءٍ فرده، وكان تولى يوم التقى الجمعان.
وسأل رجلٌ ابن عمر عن عثمان فقال: إنه أذنب يوم أحد ذنباً عظيماً، فعفا الله عنه، وهو ممن تولى يوم التقى الجمعان، وأذنب فيكم ذنباً صغيراً فقتلتموه!.
وقال علي: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في الحديد، ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يومٌ بيوم بدر. فيعترض له رجلٌ من المسلمين فيقتله أمية. قال علي عليه السلام: وأصمد له فأضربه بالسيف على هامته وعليه بيضةٌ وتحت البيضة مغفر فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً. ويضربني بسيفه فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، ووقع فجعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو باركٌ على ركبتيه، حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأخش بالسيف فيه، فمال ومات وانصرفت عنه.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومئذٍ: أنا ابن العواتك. وقال أيضاً: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب! وقالوا: أتينا عمر بن الخطاب في رهط من المسلمين قعوداً، ومر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك فقال: ما يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول الله: قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم جالد بسيفه حتى قتل. فقال عمر بن الخطاب: إني لأرجو أن يبعثه الله أمةً وحده يوم القيامة. ووجد به سبعون ضربةً في وجهه، ما عرف حتى عرفت أخته حسن بنانه، ويقال حسن ثناياه.
قالوا: ومر مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد بن أبي زهير، وهو قاعدٌ في حشوته، به ثلاثة عشر جرحاً، كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال: أما علمت أن محمداً قد قتل؟ قال خارجة: فإن كان قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقد بلغ محمد، فقاتل عن دينك! ومر على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحاً، كلها قد خلص إلى مقتلٍ، فقال: علمت أن محمداً قد قتل؟ قال سعد بن الربيع: أشهد أن محمداً قد بلغ رسالة ربه، فقاتل عن دينك، فإن الله حي لا يموت!
وقال منافق: إن رسول الله قد قتل فارجعوا إلى قومكم، فإنهم داخلوا البيوت.
حدثني عبد الله بن عمار، عن الحارث بن الفضيل الخطمي. قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذٍ والمسلمون أوزاعٌ، قد سقط في أيديهم، فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إلي! إلي! أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمدٌ قد قتل فإن الله حي لا يموت! فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفرٌ من الأنصار، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبةٌ خشناء، فهيا رؤساؤهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناوشونهم. وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح، فطعنه فأنفذه فوقع ميتاً. وقتل من كان معه من الأنصار. فيقال إن هؤلاء لآخر من قتل من المسلمين، ووصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى الشعب مع أصحابه، فلم يكن هناك قتالٌ.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل أحد قد خاصم إليه يتيمٌ من الأنصار أبا لبابة في عذقٍ بينهما، فقضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأبي لبابة، فجزع اليتيم على العذق، وطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) العذق إلى أبي لبابة لليتيم، فأبى أبو لبابة فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لأبي لبابة: لك به عذقٌ في الجنة. فأبى أبو لبابة، فقال ابن الدحداحة: يا رسول الله، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه، مالي؟ قال: عذقٌ في الجنة. قال: فذهب ثابت بن الدحداحة فاشترى من أبي لبابة ابن عبد المنذر ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد على الغلام العذق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): رب عذقٍ مذللٍ لابن الدحداحة في الجنة.
فكانت ترجى له الشهادة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى قتل بأحد.
ويقبل ضرار بن الخطاب فارساً، يجر قناة له طويلة، فيطعن عمرو ابن معاذ فأنفذه، ويمشي عمرو إليه حتى غلب، فوقع لوجهه. يقول ضرار: لا تعدمن رجلاً زوجك من الحور العين. وكان يقول: زوجت عشرة من أصحاب محمد. قال ابن واقد: سألت ابن جعفر، هل قتل عشرة؟ فقال: لم يبلغنا أنه قتل إلا ثلاثة. وقد ضرب يومئذٍ عمر بن الخطاب حيث جال المسلمون تلك الجولة بالقناة. قال: يا ابن الخطاب، إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك! وكان ضرار بن الخطاب يحدث ويذكر وقعة أحد، ويذكر الأنصار ويترحم عليهم، ويذكر غناءهم في الإسلام، وشجاعتهم، وتقدمهم على الموت، ثم يقول: لما قتل أشراف قومي ببدر جعلت أقول: من قتل أبا الحكم؟ يقال: ابن عفراء. من قتل أمية بن خلف؟ يقال: خبيب ابن يساف. من قتل فلاناً؟ فيسمي لي. من أسر سهيل بن عمرو؟ قالوا: مالك بن الدخشم. فلما خرجنا إلى أحد وأنا أقول: إن أقاموا في صياصيهم فهي منيعة، لا سبيل لنا إليهم، نقيم أياماً ثم ننصرف، وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم معنا عددٌ كثيرٌ أكثر من عددهم وقوم موتورون خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر، ومعنا كراعٌ ولا كراع معهم، ومعنا سلاح أكثر من سلاحهم. فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فوالله ما أقمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين، فقلت في نفسي: هذه أشد من وقعة بدر! وجعلت أقول لخالد بن الوليد: كر على القوم! فجعل يقول: وترى وجهاً نكر فيه؟ حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خالياً، فقلت: أبا سليمان، انظر وراءك! فعطف عنان فرسه، فكر وكررنا معه، فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحداً له بالٌ، وجدنا نفيراً فأصبناهم، ثم دخلنا العسكر، والقوم غارون ينتهبون العسكر، فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه، ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا. وجعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج قتلة الأحبة فلا أرى أحداً، قد هربوا، فما كان حلب ناقة حتى تداعيت الأنصار بينها، فأقبلت فخالطونا ونحن فرسان، فصبروا لنا، وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجلت، فقتلت منهم عشرة. ولقيت من رجلٍ منهم الموت الناقع حتى وجدت ريح الدم، وهو معانقي، ما يفارقني حتى أخذته الرماح من كل ناحية ووقع، فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي ولم يهني بأيديهم.
وقالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يوم أحد: من له علم بذكوان بن عبد قيس؟ قال علي عليه السلام: أنا رأيت يا رسول الله فارساً يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول: لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان راجلٌ، فضربه وهو يقول: خذها وأنا ابن علاج! فأهويت إليه وهو فارس، فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها عن نصف الفخذ، ثم طرحته من فرسه فذففت عليه، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ابن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي.
وحدثني صالح بن خوات، عن يزيد بن رومان، قال: قال خوات بن جبير: لما كر المشركون انتهوا إلى الجبل، وقد عرى من القوم، وبقي عبد الله بن جبير في عشرة نفرٍ، فهم على رأس عينين، فلما طلع خالد ابن الوليد وعكرمة في الخيل، قال لأصحابه: انبسطوا نشراً لئلا يجوز القوم! فصفوا وجه العدو، واستقبلوا الشمس، فقاتلوا ساعة حتى قتل أميرهم عبد الله بن جبير، وقد جرح عامتهم، فلما وقع جردوه ومثلوا به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته، فكانت حشوته قد خرجت منها، فلما جال المسلمون تلك الجولة مررت به على تلك الحال، فلقد ضحكت في موضعٍ ما ضحك فيه أحدٌ قط ونعست في موضعٍ ما نعس فيه أحدٌ، وبخلت في موضعٍ ما بخل فيه أحد. فقيل: ما هي؟ قال: حملته فأخذت بضبعيه، وأخذ أبو حنة برجليه، وأخذ أبو حنة برجليه، وقد شددت جرحه بعمامتي، فبينا نحن نحمله والمشركين ناحيةً إلى أن سقطت عمامتي من جرحه فخرجت حشوته، ففزع صاحبي وجعل يلتفت وراءه يظن أنه العدو، فضحكت. ولقد شرع لي رجلٌ برمح يستقبل به ثغرة نحري، فغلبني النوم وزال الرمح. ولقد رأيتني حين انتهيت إلى الحفر له، ومعي قوسي، وغلظ علينا الجبل فهبطنا به الوادي، فحفرت بسية القوس وفيها الوتر، فقلت: لا أفسد الوتر! فحللته ثم حفرت بسيتها حتى أنعمنا، ثم غيبناه وانصرفنا، والمشركون بعد ناحيةً، وقد تحاجزنا، فلم يلبثوا أن ولوا.
قالوا: وكان وحشيٌّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل ويقال كان لجبير بن مطعم فقالت ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر، إن قتلت محمداً، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤاً لأبي غيرهم. قال وحشي: أما رسول الله فقد علمت أني لا أقدر عليه، وأن أصحابه لن يسلموه. وأما حمزة فقلت: والله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأما علي فقد كنت ألتمسه. قال: فبينا أنا في الناس ألتمس علياً إلى أن طلع علي، فطلع رجلٌ حذرٌ مرسٌ، كثير الالتفات، فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس! إذ رأيت حمزة يفرى الناس فرياً، فكمنت إلى صخرة، وهو مكبسٌ، له كثيب، فاعترض له سباع ابن أم أنمار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا. هلم إلي! فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به، فبرك عليه فشحطه شحط الشاة. ثم أقبل إلى مكبسا حين رآني، فلما بلغ المسيل وطىء على جرفٍ فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاضرته حتى خرجت من مثانته. وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة! فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل! وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟. قالت: سلبى! فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير. ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت يكبده معها.
فحدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن الزهري، عن عرو، قال: حدثنا عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فمررنا بحمص بعد العصر، فقلنا: وحشى! فقالوا: لا تقدرون عليه، هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح. فبتنا من أجله وإنا لثمانون رجلاً، فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله، فإذا شيخٌ كبيرٌ، قد طرحت له زربية قدر مجلسه، فقلنا له: أخبرنا عن قتل حمزة وعن مسيلمة، فكره ذلك وأعرض عنه، فقلنا له: ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك. فقال: إني كنت عبداً لجبير بن مطعم بن عدي، فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال: قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر، فلم تزل نساؤنا في حزنٍ شديدٍ إلى يومي هذا، فإن قتلت حمزة فأنت حر. قال: فخرجت مع الناس ولي مزاريق، وكنت أمر بهند بنت عتبة فتقول: إيه أبا دسمة، اشف واشتف! فلما وردنا أحداً نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هداً فرآني وأنا قد كمنت له تحت شجرة، فأقبل نحوي ويعترض له سباع الخزاعي، فأقبل إليه فقال: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علنيا هلم إلي! قال: وأقبل حمزة فاحتمله حتى رأيت برقان رجليه، ثم ضرب به الأرض ثم قتله. وأقبل نحوي سريعاً حتى يعترض له جرفٌ فيقع فيه، وأزرقه بمزراقي فيقع في ثنته حتى خرج من بين رجليه، فقتلته، وأمر بهند بنت عتبة فأعطتني حليها وثيابها.
وأما مسيلمة، فإنا دخلنا حديقة الموت، فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه رجلٌ من الأنصار بالسيف، فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق الدير: قتله العبد الحبشي.
قال عبيد الله: فقلت: أتعرفني؟ قال: فأكر بصره علي، وقال: ابن عدي ولعاتكة بنت أبي العيص! قال: قلت: نعم. قال: أما والله ما لي بك عهدٌ بعد أن رفعتك إلى أمك في محفتها التي ترضعك فيها، ونظرت إلى برقان قدميك حتى كأن الآن.
وكان في ساقي هند خدمتان من جزع ظفار، ومسكتان من ورق، وخواتم من ورق، كن في أصابع رجليها، فأعطتني ذلك.
وكانت صفيه بنت عبد المطلب تقول: رفعنا في الآطام ومعنا حسان بن ثابت ونحن في فارع، فجاء نفرٌ من اليهود يرمون الأطم، فقلت: عندك يا ابن الفريعة! فقال: لا والله، ما أستطيع، ما يمنعني أن أخرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى أحد! ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت: شد على يدي السيف، ثم برئت! ففعل. قالت: فضربت عنقه، ثم رميت برأسه إليهم، فلما رأوه انكشفوا. قالت: وإني في فارع أول النهار مشرفة على الأطم، فرأيت المزراق يزرق به، فقلت: أومن سلاحهم المزاريق؟ أفلا أراه هوى إلى أخي ولا أشعر. قالت: ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وكانت تحدث تقول: كنت أعرف انكشاف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنا أعلم على الأطم، يرجع حسان إلى أقصى الأطم، فإذا رأى الدولة لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أقبل حتى يقف على جدار الأطم. قالت: ولقد خرجت والسيف في يد، حتى إذا كنت في بني حارثة أدركت نسوة من الأنصار وأم أيمن معهن، فكان الجمز منا حتى انتهينا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وأصحابه أوزاعٌ، فأول من لقيت علي ابن أخي، فقال: ارجعي يا عمة فإن في الناس تكشفاً فقلت: رسول الله؟ فقال: صالحٌ بحمد الله! قلت: ادللني عليه حتى أراه. فأشار لي إليه إشارةً خفيةً من المشركين، فانتهيت إليه وبه الجراحة. قال: وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ما فعل عمي؟ ما فعل عمي حمزة؟ فخرج الحارث بن الصمة فأبطأ، فخرج علي بن أبي طالب، وهو يرتجز ويقول:
يا رب إن الحارث بن الصمه ... كان رفيقاً وبنا ذا ذمه
قد ضل في مهامهٍ مهمه ... يلتمس الجنة فيما تمه
قال الواقدي: سمعتها من الأصبغ بن عبد العزيز وأنا غلام، وكان بسن أبي الزناد حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولاً، فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يمشي حتى وقف عليه، فقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلي من هذا الموقف! فطلعت صفية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): يا زبير أغن عني أمك، وحمزة يحفر له. فقال: يا أمه، إن في الناس تكشفاً فارجعي. فقالت: ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فلما رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قالت: يا رسول الله، أين ابن أمي حمزة؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه. قال الزبير: فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن حمزة. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): لولا أن يحزن ذلك نساءنا، لتركناه للعافية يعني السباع والطير حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
ونظر صفوان بن أمية إلى حمزة يومئذٍ وهو يهد الناس فقال: من هذا؟ قالوا: حمزة بن عبد المطلب. فقال: ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه وكان يومئذٍ معلماً بريشة نسر. ويقال: لما أصيب حمزة جاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه، فحالت بينها وبينه الأنصار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): دعوها! فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإذا نشجت ينشج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). وكانت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تبكي، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا بكت بكى، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: لن أصاب بمثلك أبداً! ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أبشرا! أتاني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوبٌ في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.
قال: ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثلاً شديداً فأحزنه ذلك المثل، ثم قال: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم! فنزلت هذه الآية: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين " . فعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يمثل بأحدٍ.
وجعل أبو قتادة يريد أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قتل حمزو وما مثل به، كل ذلك يشير إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن اجلس ثلاثاً وكان قائماً فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أحتسبك عند الله، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): يا أبا قتادة، إن قريشاً أهل أمانةٍ، من بغاهم العواثر كبه الله لفيه، وعسى إن طالت بك مدةٌ أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تبطر قريشٌ لأخبرتها بما لها عند الله. قال أبو قتادة: والله يا رسول الله، ما غضبت إلا لله ولرسوله حين نالوا منه ما نالوا! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم! وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله، إن هؤلاء قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت الله عز وجل ورسوله فقلت: اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غداً فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولاً قد صنع هذا بي، فتقول: فيم صنع بك هذا! فأقول: فيك! وأنا أسألك أخرى: أن تلى تركتي من بعدي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): نعم. فخرج عبد الله وقاتل حتى قتل، ومثل به كل المثل ودفن، ودفن هو وحمزة في قبرٍ واحد. وولى تركته رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاشترى لأمه مالاً بخيبر.
وأقبلت حمنة بنت جحش وهي أخته، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): يا حمن، احتسبي! قالت: من يا رسول الله! قال: خالك حمزة. قالت: إنا الله وإنا إلي راجعون، غفر اللله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الجنة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قالت: مصعب بن عمير. قالت: واحزناه! ويقال إنها قالت: واعقراه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إن للزوج من المرأة مكاناً ما هو لأحد. ثم قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): لم قلت هذا؟ قالت: يا رسول الله، ذكرت يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لولده أن يحسن عليهم من الخلف، فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولده. وكانت حمنة خرجت يومئذٍ إلى أحد مع النساء يسقين الماء.
وخرجت السميراء بنت قيس إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب ابناها مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأحد، النعمان بن عبد عمرو، وسليم بني الحارث، فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله صالحٌ على ما تحبين. قالت: أرونيه أنظر إليه! فأشاروا لها إليه فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جللٌ. وخرجت تسوق بابنيها بعيراً تردهما إلى المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها فقالت: ما وراءك؟ قالت: أما رسول الله، بحمد الله فبخير، لم يمت! واتخذ الله من المؤمنين شهداء " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال " . قالت: من هؤلاء معك؟ قالت: ابناي.....حل! حل! وقالوا: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من يأتيني بخبر سعد بن ربيع؟ فإني قد رأيته وأشار بيده إلى ناحيةٍ من الوادي وقد شرع فيه اثنا عشر سناناً. قال: فخرج محمد بن مسلمة ويقال أبي بن كعب فخرج نحو تلك الناحية. قال: وأنا وسط القتلى أتعرفهم، إذ مررت به صريعاً في الوادي، فناديته فلم يجب، ثم قلت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أرسلني إليك! فتنفس كما يتنفس الكير، ثم قال: وإن رسول الله لحيٌّ؟ قال: قلت: نعم، وقد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سناناً. قال: طعنت اثنتي عشرة طعنة، كلها أجافتني، أبلغ قومك الأنصار السلام وقل لهم: الله، والله! وما عاهدتم عليه رسول الله ليلة العقبة! والله ما لكم عذرٌ عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عينٌ تطرف! ولم أرم من عنده حتى مات. قال: فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبرته. قال: فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راضٍ! قالوا: ولما صاح إبليس إن محمداً قد قتل يحزنهم بذلك، تفرقوا في كل وجهٍ، وجعل الناس يمرون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، لا يلوى عليه أحد منهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى المهراس، ووجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يريد أصحابه في الشعب.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما صار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إليهم كانوا فئته.
وحدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، قال: لما انتهى إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانوا فئته، فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاعٌ، يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). قال كعب: وكنت أول من عرفه وعليه المغفر. قال: فجعلت أصيح: هذا رسول الله حياً سوياً! وأنا في الشعب، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يومىء إلى بيده على فيه أ اسكت، ثم دعا بلأمتي وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ونزع لأمته. قال: وطلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على أصحابه في الشعب بين السعدين، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، يتكفأ في الدرع، وكان إذا مشى تكفأ تكفؤاً (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله وكان رسو الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد جرح يومئذ، فما صلى الظهر إلا جالساً. قال: فقال له طلحة: يا رسول الله، إني بي قوة! فحمله حتى انتهى إلى الصخرة على طريق أحد من أراد شعب الجزارين لم يعدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى غيرها، ثم حمله طلحة حتى ارتفع عليها، ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه. فلما نظر المسلمون من معه جعلوا يولون في الشعب، ظنوا أنهم من المشركين، حتى جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامةٍ حمراء على رأسه، فعرفوه فرجعوا، أو بعضهم.
ويقال إنه لما طعل في النفر الذين ثبتوا معه، الأربعة عشر سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار وجعلوا يولون في الجبل، جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتبسم إلى أبي بكر وهو إلى جنبه، ويقول له: ألح إليهم! فجعل أبو بكر يليح، ولا يرجعون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه، فأوفى على الجبل فجعل يصيح ويليح، فوقفوا حتى تلاحق المسلمون. ولقد وضع أبو بردة بن نيار سهماً على كبد قوسه، فأراد أن يرمي به القوم، فلما تكلموا وناداهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكأنهم لم يصبوا في أنفسهم مصيبةٌ حين أبصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فبينا هم كذلك عرض الشيطان بوسوسته وتخزيته لهم حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم. قال رافع بن خديج: إني إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم، فيخبر برجال، منهم سعد بن ربيع وخارجة بن زهير، وهو يسترجع ويترحم عليهم، وبعضهم يسأل بعضاً عن حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضاً. فبيناهم على ذلك رد الله المشركين ليذهب بالحزن عنهم، فإذا عدوهم فوقهم قد علوا، وإذا كتائب المشركين. فنسوا ما كانوا يذكرون، وندبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحضنا على القتال، وإني لأنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدون.
فكان عمر يقول: لما صاح الشيطان قتل محمد أقبلت أرقى في الجبل كأني أرويةٌ، فانتهيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية، وأبو سفيان في سفح الجبل. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). اللهم ليس لهم أن يعلونا! فانكشفوا.
قال أبو أسيد الساعدي: لقد رأيتنا قبل أن يلقى علينا النعاس، وإنا لسلمٌ لمن أرادنا، لما بنا من الحزن، فألقى علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف، وفزعنا وكأنا لم يصبنا قبل ذلك نكبةٌ.
وقال طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان حجف القوم تناطح.
وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجلٌ إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير يقول وإني لكالحالم " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " فأنزل الله تعالى فيه: " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " .
قال أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذٍ في أربعة عشر رجلاً من قومي إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وقد أصابنا النعاس أمنةً منه، ما منهم رجلٌ إلا يغط غطيطاً حتى إن الحجف لتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به، وأخده بعد ما تثلم، وإن المشركين لتحتنا.
وقال أبو طلحة: ألقى علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي. وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذٍ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.
وقالوا: لما تحاجزوا أراد أبو سفيان الانصراف، وأقبل يسير على فرسٍ له حواء أنثى، فأشرف على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته: اعل هبل! ثم يصيح: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، وحنظلة بحنظلة! فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أجيبه؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): بلى، فأجبه! فقال أبو سفيان: اعل هبل! فقال عمر: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت، فعال عنها! ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك! لقد خبنا إذن وخسرنا! قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب، فعال عنها. ثم قال: قم إلي يا ابن الخطاب، أكلمك. فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدك بدينك، هل قتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة وكان ابن قميئة أخبرهم أنه قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم). ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عيثاً ومثلاً، ألا إن ذلك لم يكن عن رأى سراتنا. ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إذ كان ذلك فلم نكرهه. ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول! فوقف عمر وقفةً ينتظر ما يقول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): قل، نعم. فقال عمر: نعم! ثم انصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل، فأشفق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون فاشتدت شفقتهم من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لسعد بن أبي وقاص: ائتنا بخبر القوم، إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة على المدينة، والذي نفسي بيده، لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم.
قال سعد: فوجهت أسعى، وأرصدت في نفسي إن أفزعني شيءٌ رجعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فأنا أسعى، فبدأت بالسعي حين ابتدأت، فخرجت في آثارهم حتى إذا كانوا بالعقيق، وكنت حيث أراهم وأتأملهم، فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فقلت: إنه الظغن إلى بلادهم. فوقفوا وقفةً بالعقيق وتشاوروا في دخول المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: قد أصبتم القوم، فانصرفوا فلا تدخلوا عليهم وأنتم كالون، ولكم الظفر، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم. قد وليتم يوم بدر، والله ما تبعوكم الظفر لهم! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): نهاهم صفوان! فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين، قد دخلوا في المكيمين، رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهو كالمنكسر، فقال: وجه القوم يا رسول الله إلى مكة، امتطوا الإبل وجنبوا الخيل. فقال: ما تقول؟ فقلت ذلك، ثم خلا بي فقال: حقاً ما تقول؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقال: مالي رأيتك منكسراً؟ قال، فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرحاً بقفولهم إلى بلادهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إن سعداً لمجرب! ويقال إن سعداً لما رجع يرفع صوته بأن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يشير إلى سعد أن اخفض صوتك! قال: ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إن الحرب خدعةٌ! فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم، فإنما رجهم الله تبارك وتعالى.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك، ولا تفت أعضاد المسلمين. فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع، فما ملك أن جعل يصيح سروراً بانصرافهم.
فلما قدم أبو سفيان على قريش بمكة لم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه! وحلق رأسه.
وقيل لعمرو بن العاص: كيف كان افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد؟ فقال: ما تريد إلى ذلك؟ قد جاء الله بالإسلام ونفى الكفر وأهله. ثم قال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجهٍ. وفاءت لهم فئةٌ بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس، وقد تخلف ناسٌ من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا وفينا جراحٌ، وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل. فمضوا، فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها، ومضينا.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|