المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01



ابن قتيبة  
  
8248   05:18 مساءً   التاريخ: 14-7-2019
المؤلف : د .شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة : ص :612ـ623
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-08-2015 2259
التاريخ: 2-3-2018 2794
التاريخ: 29-06-2015 1854
التاريخ: 29-12-2015 12002

 

 ابن قتيبة (1)

هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ولد سنة 213 للهجرة ببغداد وقيل بالكوفة، أصله فارسي أو تركي من مرو بخراسان، ومن ثم نسب إليها، فقيل المروزي، اختلف في صباه إلى الكتّاب، فحفظ شيئا من القرآن الكريم والحديث النبوي والأشعار وشدا شيئا من الفقه والنحو والحساب، ولم يكد يشبّ عن الطرق حتى أخذ يختلف إلى المساجد الجامعة بموطنه بغداد يأخذ عن علمائها كل ما عندهم من علوم اللغة والشريعة والحديث، وعكف على المترجمات يقرأ فيها ويستوعب، وخاصة ما ترجم عن الفارسية، ولمع اسمه في بيئة الفقهاء، فتولّى القضاء بدينور، ولذلك يقال له الدّينوري. وعاد إلى بغداد مؤثرا الاشتغال بالتدريس والتعليم حتى توفى سنة 276 للهجرة. وقد أكبّ على كتب الجاحظ يدرسها ويتمثلها، مع أنهما كانا على طرفي نقيض، فقد كان الجاحظ معتزليّا كما مرّ بنا، وكان ابن قتيبة سنّيّا، وله كتابان: مشكل القرآن وتأويل مختلف الحديث، وفيهما وخاصة في الثاني يحمل على الجاحظ والمعتزلة حملات شعواء، وهما منشوران. وله بجانبهما كتب كثيرة منها كتاب في الفقه وكتاب في دلائل النبوة وغريب القرآن وكتب غيرهما كثيرة في مختلف الميادين سقطت من يد الزمن. ومن كتبه المنشورة المعارف وفيه يتحدث عن مبدأ الخلق وقصة الطوفان نقلا عن ترجمة للتوراة، ويعقب ذلك بتاريخ الأنبياء والرسل والعرب الجاهليين وسيرة الرسول عليه السلام، ثم أخبار موجزة عن العلماء في كل فن وعن الفرس قبل الإسلام. وله كتاب الأشربة وهو منشور بدمشق وكتاب الميسر والقداح وهو منشور بالقاهرة وكتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبّهة وهو منشور أيضا بالقاهرة ونشر

 

ص612

باسمه كتاب الإمامة والسياسة وهو منحول عليه. ومن أهم كتبه كتاب الشعر والشعراء وهو تراجم قصيرة لشعراء العرب حتى عصره، وهو منشور مرارا. وله كتاب معاني الشعر الكبير. وألف طائفة من الكتب لتثقيف الكتّاب الناشئين؛ منها كتابه «أدب الكاتب»، الذي عرضنا له في غير هذا الموضع، وهو يمدّ الكاتب فيه بثقافة لغوية واسعة، وأهم منه كتابه «عيون الأخبار» وهو يمد الكاتب فيه بكنوز الثقافات التي تسعفه في مادة عمله.

وابن قتيبة يعدّ أكبر مؤلف أدبي ظهر في العصر بعد الجاحظ، وهو سني محافظ ولذلك يكون من المنطق أن تتضح محافظته في آرائه النقدية، غير أنه كان فيما يبدو يوازن بين النزعة المحافظة لعصره والنزعات المجدّدة المعتدلة عند الجاحظ وأمثاله من المعتزلة. ويتضح ذلك في مقدمته الطويلة لكتابه «الشعر والشعراء» إذ نراه يعلن أنه لن ينظر إلى المتقدم من الشعراء بعين الجلالة لتقدمه ولا إلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، فإن الله لم يقصر البلاغة على زمن دون زمن ولا خصّ بها قوما دون قوم. وهى نظرة منصفة، ولكنه يعود فيقول: «ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين. . . فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيّد البنيان لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري لأن المتقدمين وردوا الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على ذكر منابت الشّيح والحنوة (2) والعرارة» وهى لا شك نظرة محافظة تستمد من الجو السنّى في العصر الذي حل محل جوّ الاعتزال منذ فاتحة عهد المتوكل. وكانت هذه النظرة تلتقى مع النظرة السابقة التي لا تضع في موازين القيمة الشعرية قدم الشعر وحداثته، حتى لا يكون محافظا جامد العقل، بل هو محافظ أميل إلى روح التجديد والمعاصرة. ومرّ بنا في غير هذا الموضع أنه كان أحد خصوم الشعوبية، بل كان ثاني اثنين خاضا معركة حامية مع أصحاب هذه النزعة، وعرضنا هناك لمصنّفه: «كتاب العرب أو الرد على الشعوبية» وكانت له وراء ذلك في نفس الموضوع كتب مختلفة.

ص613

وأهم من هذا الموقف له ضد الشعوبية أن نجده يدخل بقوة الثقافات الأجنبية:

اليونانية والفارسية والهندية على الثقافة العربية الإسلامية، ويعمل على تكوين مزيج موحّد منها جميعا، بحيث لا يشغل أصحاب كل ثقافة بالدعوة والترويج لها، مما أحدث هذا الصراع العنيف بين الشعوبيين والعرب الذي طال عليه الأمد منذ عهد المهدى حتى عصره. وحقّا حاول ذلك الجاحظ من قبله، ولكن غلبة النزعتين الكلامية والأدبية عليه حالت دون النفوذ إلى نهاية الغاية، وكانت الثقافة اليونانية أكثر شيء يشغله، حتى ليقول: «لا يكون المتكلم جامعا لأفطار الكلام متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة» (3) وأشار غير مرة إلى أن كتابه «أخذ من طرف الفلسفة». ولم يكن اليونانيون أصحاب النزعة الشعوبية في العصر، فقد كان الفرس هم الذين يحملون علمها ويبذلون قصارى جهدهم في الدعوة لها مشيرين دائما إلى كتب الآداب الفارسية. فكان لا بد كي يقضي على هذه النزعة الحادّة من أن تلتقى-على يد كاتب عظيم-ثقافتها وكذلك الثقافة اليونانية والهندية بالثقافة العربية الإسلامية، وتدخل جميعها في مجرى النهر العربي الإسلامي بحيث تتلاشى فيه نهائيّا، ولا يصبح لها وجود مستقل، فوجودها جزء لا يتجزأ من وجود الثقافة العربية الإسلامية العامة.

وهو ما نهض به ابن قتيبة في أروع صورة، إذ مضى ينسّق مختارات ومقتطفات من الآداب الفارسية، مع مقتطفات ومختارات من الآداب العربية الخالصة ومع مقتطفات ومختارات من الثقافتين الهندية واليونانية، وكانت ثمرة ذلك أربعة مجلدات ضخمة ألّفت كتابه «عيون الأخبار»، وقد وزعه على عشرة كتب، أولها كتاب السلطان، وفيه يتحدث عن سيرته وسياسته وصحبته واختياره للعمال والقضاة والحجّاب والكتّاب، ويبدؤه بأحاديث نبوية، ثم يذكر بعض وصايا لشخصيات عربية في الحكم وسياسة السلطان، ولا يلبث أن يقول: وقرأت في كتاب من كتب الهند: «شر المال ما لا ينفق منه، وشرّ الإخوان الخاذل، وشرّ السلطان من خافه البرئ، وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن. . . وخير سلطان من أشبه النّسر

ص614

حوله الجيف لا من أشبه الجيفة حولها النسور» ويذكر أقوالا لابن مسعود وعمر بن الخطاب، ثم ينقل فصلا طويلا من كتاب اليتيمة لابن المقفع وما يصوّر من الأدب الأخلاقي في عهد ملوك الفرس الساسانيين، ثم يقول: «وقرأت في التاج (وهو في سيرة أنوشروان) لبعض الملوك: هموم الناس صغار وهموم الملوك كبار، وألباب الملوك مشغولة بكل شيء يجلّ، وألباب السّوق مشغولة بأيسر الشئ».

ويعود إلى النقل عن بعض النابهين من العرب، ثم يقول: «وقرأت في بعض كتب العجم كتابا لأردشير بن بابك إلى الرعية، وينقل الكتاب جميعه، ويعقب عليه بكتاب من أرسططاليس إلى الإسكندر وفيه: «املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك منها بإحسانك، هو أدوم بقاء منه باعتسافك، واعلم أنك إنما تملك الأبدان، فتخطّها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجهد ألا تقول تسلم من أن تفعل». ويتلو ذلك بقوله: «وقرأت في كتاب الآيين (في أنظمة الملك والدولة الساسانية) أن بعض ملوك العجم قال في خطبة له: «إني إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر» ويذكر أخبارا عن أنوشروان ومعاوية وعبد الملك بن مروان وعمر الفاروق وعن سياسة الحجاج في رعيته، ثم يقول: «وقرأت في كتاب التاج: قال أبرويز لابنه شيرويه وهو في حبسه: «لا توسعنّ على جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيّقنّ عليهم فيضجّوا منك، أعطهم عطاء قصدا، وامنعهم منعا جميلا، ووسّع عليهم في الرجاء، ولا توسّع عليهم في العطاء». ويروى عن عمر بن الخطاب «إن للناس نفرة عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران: أحدهما لله والآخر للدنيا فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى. . . وإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة بهيمة مرّت بواد خصب فلم يكن لها همّ إلا السّمن، وإنما حتفها في السّمن». ثم أخبار عن عبد الله بن الزبير في الرعية، ولا يلبث أن يقول:

وفي كتاب من كتب العجم أن أردشير قال لابنه: «يا بنىّ إن الملك والدين أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالدين أسّ والملك حارس، وما لم يكن له أسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع» ثم يذكر صفات ذميمة لا يصح

ص516

أن تكون في السلطان. ويتحدث عن اختيار العمال ويختم حديثه بقوله: قرأت في كتاب للهند «السلطان الحازم ربما أحبّ الرجل فأقصاه واطّرحه مخافة ضرّه، فعل الذى تلسع الحية إصبعه، فيقطعها لئلا ينتشر سمّها في جسده، وربما أبغض الرجل فأكره نفسه على توليته وتقريبه لغناء يجده عنده كتكاره المرء على الدواء البشع لنفعه». ويعرض لصحبة السلطان وآدابها وتغير السلطان وتلونه، ويقول:

«قرأت في كتاب للهند: صحبة السلطان على ما فيها من العز والثروة عظيمة الخطار. وإنما تشبّه بالجبل الوعر فيه الثمار الطيبة والسباع العادية، فالارتقاء إليه شديد، والمقام فيه أشد. . . ولا خير في الشيء الذي في سلامته مال وجاه، وفى نكبته الجائحة والتلف». وينقل عن بعض العرب ورجالاتهم وعن آداب ابن المقفع وعن بعض النساك والمعتزلة والوعّاظ وعن بعض كتبه التي كتب بها إلى الحكام والوزراء وعن بعض الكتاب وعن أبرويز في بعض ما كتب به إلى ابنه شيرويه وعن بعض رجال الحكم من العرب، ويستشهد ببعض الأشعار للقطامي وبشار وغيرهما، ويعرض لخيانات العمّال، وينقل من كتاب التاج: أن أبرويز قال لصاحب بيت المال: «إني لا أحتملك على خيانة درهم، ولا أحمدك على حفظ ألف ألف درهم، لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتعمر به أمانتك، فإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا». ويكثر في فصل القضاء المعقود في هذا الكتاب من النقل عن العرب وأحكام الإسلام، ويروى كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وهو دستور عظيم في عدالة القضاء ونزاهته. وتتوالى فصول عن الأحكام والشهادات والظلم، وفيها يكثر من النقل عن العرب نثرا وشعرا، ويعود في الفصول التالية إلى النقل عن كتب الهند والفرس.

والكتاب الثاني كتاب الحرب، وفيه يتكلم عن آدابها ومكايدها وأوقاتها وحيلها وعددها وسلاحها، ويبدؤه بحديث عن الرسول عليه السلام وببعض وصايا أبى بكر وعمر للجيوش وقوّادها عند عقد الألوية، ويذكر بعض ما قرأ في كتب العجم والهند، ومما قرأه في الأخيرة: «الحازم يحذر عدوه في كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى، والمكر إن رآه وحيدا، ويكره القتال ما وجد بدّا، لأن النفقة فيه من الأنفس، والنفقة في

ص616

غيره من المال». ويذكر بعض حيل الفرس والعرب في الحرب، ويتحدث عن آداب الفروسية عند الأمتين، ويفيض في الحديث عن الشجعان وإنشاد الشعر الحماسي.

والكتاب الثالث كتاب السؤدد، ويتكلم فيه عن مخايله وأسبابه، ويعرض لجوانب كثيرة من الشرف والأخلاق الرفيعة، ويفتح فيه فصلا للمزاح والرخصة فيه، ويدعو إلى التوسط في الدين والحلم والعقل والغنى والإنفاق، وكأنه يتأثر بنظرية الأوساط المعروفة عند أرسططاليس. ويفرد الكتاب الرابع للطبائع والأخلاق المذمومة من مثل الحسد والغيبة والسعاية، وفيها يقول: وقرأت في كتاب للهند:

«قلما يسمع القلب من القول إذا تردّد عليه، فإن الماء ألين من القول، والحجر أصلب من القلب، وإذا انحدر عليه وطال ذلك أثّر فيه، وقد تقطع الشجرة بالفئوس فتنبت، ويقطع اللحم بالسيوف فيندمل، واللسان لا يندمل جرحه والنصول تغيب في الجوف فتنزع، والقول إذا وصل إلى القلب لم ينزع، ولكل حريق مطفئ: للنار الماء. وللسم الدواء، وللحزن الصبر. وللعشق الفرقة، ونار الحقد لا تخبو». ويذكر أن واشيا وشى برجل إلى الإسكندر فقال له:

«أتحب أن أقبل منك ما قلت فيه على أن أقبل منه ما قال فيك؟ قال: لا، قال فكفّ عن الشّرّ يكفّ عنك الشر»، وينقل في هذا الكتاب عن كثيرين من العرب شعرا ونثرا. ويستطرد إلى الحيوانات وطبائعها متأثرا بالجاحظ، ويعرض للحشرات وينقل فيها عن أطباء العصر، كما يعرض للنبات. ويعقد الكتاب الخامس للعلم والبيان، ويستهله بحديث عن الرسول ويقول: في كتاب للهند: العالم إذا اغترب معه من علمه كاف كالأسد معه قوته التي يعيش بها حيث توجّه، ويذكر عن بزرجمهر أنه قيل له: بم أدركت ما أدركت من العلم؟ فقال ببكور كبكور الغراب، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار» ويذكر عن أفلاطون أنه قال: «لولا أن في قول لا أعلم سببا لأنى أعلم لقلت إني أعلم».

ويروى بعض كلمات للمسيح عليه السلام، ويفتح فصولا للقرآن الكريم والحديث الشريف والفرق والأهواء في الدين، ويعرض لبعض صور الكلام والشعر، كما يعرض طائفة كبيرة من الخطب منذ الرسول عليه السلام إلى المأمون.

ص617

والكتاب السادس كتاب الزهد، وفيه تبرز بجانب مواعظ كبار النسّاك والوعّاظ والزهاد المسلمين ثقافة ابن قتيبة الدينية لا الإسلامية وحدها، بل أيضا ثقافته بالكتب السماوية وكيف أنه عكف عليها وعلى كل ما يتصل بها يقرأ وينقل، تارة مما كتبه أمثال وهب بن منبه عما أوحى الله عزّ وجلّ إلى أنبيائه. وينقل من التوراة ومن الإنجيل، من ذلك قوله: «قرأت في الإنجيل: لا تجعلوا كنوزكم في الأرض حيث يفسدها السوس والدود وحيث ينقب السرّاق ولكن اجعلوا كنوزكم في السماء، فإنه حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم» ويذكر أن رجلا من الحواريين قال للمسيح: أتأذن لي أن أدفن أبي؟ فقال له: دع الموتى يدفنون موتاهم. ويذكر له دعاء طويلا حين أخذه اليهود ليصلبوه بزعمهم فرفعه الله إليه، كما يذكر دعاء لداود وتحميدا طويلا ودعاء ليوسف، ويروى عن المسيح أنه قال: حبّ الدنيا أصل كلّ حطيئة، والمال فيها داء؛ قيل: ما داؤه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الفخر والكبر، قيل وإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله. وبذلك يكون ابن قتيبة قد أضاف إلى الثقافة الإسلامية ثقافة عامة بالكتب السماوية وأقوال أنبيائها المرسلين. والصلة بين هذا الكتاب وكتاب الزهد في البيان والتبيين للجاحظ واضحة.

والكتاب السابع كتاب الإخوان، وفيه يتحدث عن اختيارهم وما ينبغي أن يكون بينهم من الوشائج والصلات والاشتراك في السّرّاء والضّرّاء.، وتلقانا من حين إلى حين نقول عن بعض كتب الهند أو بعض ملوك العجم، كما تلقانا أحاديث نبوية وأشعار وأخبار ونصائح ووصايا على ألسنة كثيرين من رجال العرب النابهين.

والكتاب الثامن كتاب الحوائج واستنجاحها والمواعيد وتنجّزها، ويظل فيه ينقل عن كتب العجم مثل قول بزرجمهر: «إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى». والكتاب التاسع كتاب الطعام وفيه يعرض صنوفه وأخبار العرب في مآكلهم وآداب الطعام والضيافة وأخبار البخلاء وأواني الأكل والحمية وشرب الدواء والتّخمة والمياه والأشربة ومنافع بعض النباتات والبقول. وتلقانا نفس الثقافات العربية والفارسية واليونانية، ويصرّح بأنه ينقل في هذا الكتاب عن الجاحظ وأثر كتابه البخلاء واضح فيه، ويذكر في الحمية عن الطبيب اليوناني جالينوس أنه قيل له: إنك تقلّ من الطعام؟ قال: غرضي من

ص618

 الطعام أن آكل لأحيا وغرض غيرى من الطعام أن يحيا ليأكل. وبالمثل ينقل عن أبقراط اليوناني نقولا، كما ينقل عن أطباء العصر العباسي مثل ابن ماسويه وعن كتاب الآيين الأعجمي. والكتاب العاشر كتاب النساء، وفيه يتكلم عن أخلاقهن وما يقبل منهن وما يكره والجمال والقبح والمهور والزواج وسياسة معاشرتهن والجواري والقيان ومساوئ النساء، ويحكى هنا قصة حصار أردشير لمدينة الحضر الأسطورية التي يقال إنها كانت قائمة في الزمن القديم بين دجلة والفرات، وكيف أن فتاة ملك الحضر رأته فعشقته، وسرعان ما أرسلت إليه أن تدله على موضع يفتتح منه المدينة إن هو وعدها الاقتران بها، ووعدها، فدلته على الموضع، ودخل المدينة هو وجنوده.

ولعل فيما قدمنا ما يصور بوضوح كيف مزج ابن قتيبة بين الثقافات العربية والإسلامية والفارسية والهندية واليونانية، وكذلك ثقافة أهل الكتاب، فكل الثقافات الأجنبية والعربية من مدنية ودينية استحالت عنده إلى هذه الصورة الجديدة التي نقرؤها في عيون الأخبار. وبلغت هذه الصورة من النجاح أنه خفت صوت الشعوبية، فإن الكنوز التي كانت تباهى بها تحولت إلى عالم العروبة على يد ابن قتيبة وأصبحت من لبّه، بحيث لم يعد هناك مجال للفخر بها، إذ لم تعد مستقلة ولم تعد تشقّ لنفسها جداول تجرى فيها وحدها، فقد صبّت في نهر العروبة الكبير وذابت فيه، أذابها ابن قتيبة ببصيرته النافذة وقلمه الباهر، وأكبر الدلالة على ذلك لا تضاؤل صوت الشعوبية تضاؤلا شديدا مع السنين فقط، بل أيضا أنا لا نعود نسمع عن ترجمات لكتابات الفرس الأدبية والتاريخية، فقد أصبحت غير ذات موضوع بعد أن تناولت الأيدي كتاب عيون الأخبار، وبعد أن أصبح المصدر الأساسي لكل من يريد التعرف على الآداب الفارسية وما يمكن أن يفيده الأدب العربي منها ومن الثقافتين الهندية واليونانية وثقافة أهل الكتب السماوية. فكل ذلك قد أصبح تحت أيدى العرب وأبصارهم، ولم يعودوا في حاجة إلى مزيد منه، ولذلك لم يهتموا فيما بعد بما دوّن الفردوسي في الشاهنامة من شعر قصصي ولا بما كتب حافظ الشيرازي وغيره من شعر صوفي. وكان من آثار ذلك أن أعداء العرب لم يعودوا يوصفون بوصف الشعوبية والزندقة معا، فقد أصبحوا غالبا يوصفون بالزندقة والإلحاد

ص619

فحسب، وشاع ذلك على ألسن العرب وعلمائهم منذ أواخر القرن الثالث الهجري، مصوّرين بذلك بواعثهم وحقائقهم النفسية.

ولا نغلو إذا قلنا إن من أهم الأسباب في أن كتاب عيون الأخبار أخذ هذه المكانة الممتازة أسلوب ابن قتيبة فيه، فإن كل هذه المواد الثقافية التي نسّقها سبكها في أسلوب أدبي رائع، أسلوب يمتاز بوضوحه واصطفاء ألفاظه والمزاوجة بينها على طريقة الجاحظ أحيانا، وأحيانا يسترسل دون محاولة الازدواج، ولكن مع العناية باختيار الكلمات والملاءمة بينها بحيث لا تجد فيها أي نشاز ولا أي اضطراب أو انحراف، فقد كانت اللغة مرنة في يده، وكان لا يتأبّى عليه أي لفظ، ولا تستعصى عليه أي كلمة. وبهذا الأسلوب المتناسق وما يجرى فيه من استواء صنّف كتابه عيون الأخبار جميعه، بحيث غدا كأنه مصبوب في قوالب متماثلة، قوالب تستريح لها الأذن، وتجد فيها القلوب والعقول متاعا لا ينفد، واقرأ سطوره الأولى في المقدمة، فإنها تطرد على هذا المنوال:

«الحمد لله الذي يعجز بلاؤه صفة الواصفين، وتفوت آلاؤه عدد العادّين، وتسع رحمته ذنوب المسرفين، والحمد لله الذى لا تحجب عنه دعوة، ولا تخيب لديه طلبة. ولا يضل عنده سعى، الذي رضى عن عظيم النعم بقليل الشكر، وغفر بعقد الندم كبير الذنوب، ومحا بتوبة الساعة خطايا السنين. والحمد لله الذي ابتعث فينا البشير النذير السراج المنير، هاديا إلى رضاه وداعيا إلى محبّته، ودالاّ على سبيل جنّته. ففتح لنا باب رحمته، وأغلق عنا باب سخطه. . . أما بعد فإن لله في كل نعمة أنعم بها حقّا، وعلى كل بلاء أبلاه زكاة، فزكاة المال الصدقة، وزكاة الشرف التواضع، وزكاة الجاه بذله، وزكاة العلم نشره، وخير العلوم أنفعها، وأنفعها أحمدها مغبّة، وأحمدها مغبّة ما تعلّم وعلّم لله وأريد به وجه الله تعالى».

ص620

كما في كلمة «أنفعها» و «أحمدها» هذا الأسلوب بعينه نجده عند الجاحظ، وكأن ابن قتيبة تمثّل أسلوبه بجميع خصائصه ونمضي معه في المقدمة، فنراه يقول:

«وهذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدّب تبصرة، ولأهل العلم تذكرة، ولسائس الناس ومسوسهم مؤدّبا، وللملوك مستراحا، وصنّفتها أبوابا، وقرنت الباب بشكله، والخبر بمثله، والكلمة بأختها، ليسهل على المتعلم علمها، وعلى الدارس حفظها، وعلى الناشد طلبها، وهي لقاح عقول العلماء، ونتاج أفكار الحكماء، وزبدة المخض، وحلية الأدب، وثمار طول النظر، والمتخيّر من كلام البلغاء، وفطن الشعراء، وسير الملوك، وآثار السلف».

ولو أننا لم نعرف أن ابن قتيبة هو الذي كتب هذا الكلام، وسئلنا عن صاحبه لأجبنا توّا الجاحظ، إذ نشعر كأنما فصل من أسلوبه بخواصه من الموازنات والمعادلات بين العبارات، بحيث تتقابل الكلمات في صفوف، وكل كلمة كأنما تمسك بمثيلتها في العبارة التالية، وكل عبارة كأنما تصافح أختها السابقة، فهي على وتيرتها ومن نفس جنسها ونوعها، وكان هذا يحدث تماسكا شديدا في أسلوب الجاحظ، لولا ما يداخله أحيانا من استطراد. أما عند ابن قتيبة فلا استطراد ولا خروج من دائرة الفكرة التي يعالجها، وكتابته من هذه الناحية مرتّبة مبوّبة في أدقّ نسق. ويكفى أن ننظر في فهرس عيون الأخبار فسنرى الكتاب من كتبه العشرة يفتح، ولكل كتاب فصوله المترابطة معه، وكأنها حلقات في سلسلة متتابعة وليس في داخلها ما يوهن العلاقات المنطقية بين الكلام، بل لكأنما الكتاب خيط ممتدّ أحكمت فصوله ونسّقت مواده تنسيقا دقيقا. وابن قتيبة يخطو بالتأليف الأدبي من هذه الناحية بعد الجاحظ خطوات واسعة، إذ لا يسمح لأى فصل داخلي في كتاب فضلا عن الكتاب نفسه بأي استطراد يخلخل الكلام أو يفقده سياقه. ولكن إذا كان قد تفوّق على الجاحظ من حيث نسق التأليف فإن الجاحظ يتفوق عليه في وصله الأدب بمجتمعه، على نحو ما صوّرنا من صنيعه في هذا الجانب. وحقّا نجد عند ابن قتيبة أشعارا معاصرة له، ولكنه لم يحك أخبار الخلفاء والوزراء الذين عاصرهم على نحو ما حكى الجاحظ، ولا حكى أخبار

ص621

طبقات المجتمع وخاصة الطبقة العامة. وهو لذلك لا يعدّ كاتبا واقعيّا على نحو ما يعدّ الجاحظ، وإن كان قد حاول أحيانا أن يقتفى أثره. ومرّ بنا أنه بلغ من واقعية الجاحظ أنه لم يكن يجد أي حرج في أي شيء يخجل منه المتزمتون، حتى العورات كان لا يرى في ذكرها أي بأس ما دام الكلام يستلزم ذكرها، ويتابعه ابن قتيبة في تقديمه لعيون الأخبار قائلا: «إنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مرّ بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو وصف فاحشة فلا يحملنّك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدّك، وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب».

ومع ذلك فإنه لم يبلغ مبلغ الجاحظ في صراحته، إذ كان في حقيقته محافظا متزمّنا لا يستطيع أن يترك لنفسه-مثل الجاحظ-العنان في الصراحة دون أي مواربة.

ومرّ بنا أن الجاحظ كان يجعل خلط الجد بالهزل خاصة قوية من خصائص كتابته، ومع أن ابن قتيبة كان من أهل السنّة المحافظين الذين يأخذون أنفسهم بالجد والوقار نراه في مقدمته لعيون الأخبار يعلن أنه سيأخذ بهذا المنهج في كتابته، يقول:

«ولم أخله من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة. . لأروّح بذلك عن القارئ من كدّ الجدّ وإتعاب الحق، فإن الأذن مجّاجة، وللنفس حمضة، والمزح إذا كان حقّا أو مقاربا، ولأحايينه وأوقاته، وأسباب أوجبته مشاكلا، ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله. وسينتهى بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روى عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مرّ بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا به».

وإذا انتهينا-كما يقول ابن قتيبة-إلى باب المزاح والفكاهة وهو من أبواب كتاب السؤدد لاحظنا توّا أن فكاهاته ونوادره من طراز آخر غير طراز الجاحظ، فمنها كثير لا يثير ابتساما، وما يثير الابتسام قليل جدّا، ويكفي أن يقول إنها مما روى عن الأشراف والأئمة لنعرف مقدّما أنها نوادر وفكاهات يمسح عليها الوقار وأنه يندر أن ترتسم معها ابتسامة على الشفاء. ونسوق منها هذه النوادر عن الشّعبىّ (من علماء الكوفة) لتعرف طوابعها ومدى ما فيها من المزاح:

ص622

«دخل رجل على الشعبي ومعه في البيت امرأة، فقال لهما: أيكما الشعبي، فأجابه الشعبي: هذه. وسأل سائل الشعبي عن لحم الشيطان هل يجوز أكله؟ فأجابه: نحن نرضى منه بالكفاف. ودخل على الأعمش زميله يعوده في مرض، ونظر من حوله إلى المنزل وما فيه من أثاث بسيط، ثم قال له: أما أنت فتعرف في منزلك أنك لست من أهل القريتين (مكة والطائف) عظيما».

وأين هذه النوادر، من نادرة المعلم الأحمق التي رويناها آنفا، والتي مثّل فيها الجاحظ حمقه تمثيلا هزليّا مضحكا؟ . ولا ريب في أن هذا يرجع إلى اختلاف مزاج الشخصيتين، فالجاحظ أديب فكه بطبعه متحرر من كل قيد، يضحك وتستغرق في الضحك ولا تستطيع أن تعود منه وتستردّ نفسك إلا بعد ضحك عريض، وابن قتيبة أديب وقور تغلب عليه المحافظة وإن حاول التجرد، ويغلب عليه استشعار الجد، وكأنه إذا هزل أو تندّر خرج عن طبعه، أو قل كأنه إنما كان يريد أن يتشبه بالجاحظ. ومن بقية هذا التشبّه عنده في باب النوادر والمزاح أن نراه يزعم في تقديمه لكتاب العيون أنه سيحكي النوادر العامية بلفظها وبما فيها من لحن، ومرّ بنا كلام الجاحظ في هذا الموضوع وأنه ينبغي أن تظل النادرة العامية بصيغتها ولحّنها وإلا ضاع ما فيها من فكاهة إذا انقلبت ألفاظها من العامية إلى الفصحى وتبدّلت صورتها الفكهة، ويقول ابن قتيبة محتجّا لذلك: «اللّحن إن مرّ بك في حديث من النوادر فلا يذهبنّ عليك أنا تعمدناه وأردنا منك أن تتعمده، لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه، وشاطر النادرة حلاوتها، وسأمثل لك مثالا، قيل لمزبّد المديني (المضحك) -وقد أكل طعاما كظّه (أتخه) -قي (قئ) فقال:

ما أقي، أقي نقا (مخّا) ولحم جدى! مرتى طالق لو وجدت هذا قيّا لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها، ولاستبشعها سامعها». والنادرة نفسها التي تمثّل بها ابن قتيبة ثقيلة وتدلّ-هي وما سبقها بوضوح-على أنه من مزاج آخر غير مزاج الجاحظ.

والجاحظ في الواقع قمة بعيدة المنال في الأدب العربي كله، ومن الظلم لابن قتيبة أن نزنه به ونقيسه إليه، فقد كان فريدا في عصره والعصور السابقة جميعها، ويكفي ابن قتيبة مجدا أدبيا أسلوبه الواضح الناصع الذي وصفناه وأنه أخرس إلى الأبد

ص623

أصحاب الشعوبية بما سوّى للعربية في عيون الأخبار من هذا الأدب العربي الرفيع الذى وسع مختلف الثقافات ومزج بينها بحيث أصبح له طوابع جديدة مميزة.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر في ابن قتيبة الفهرست ص 121 والأنساب للسمعاني الورقة 443 وتاريخ بغداد 10/ 170 وإنباه الرواة للقفطي 2/ 143 ونزهة الألباء (نشر دار نهضة مصر) ص 209 وابن خلكان والنجوم الزاهرة 3/ 75 والديباج لابن فرحون طبع القاهرة ص 35 وشذرات الذهب 2/ 169 ومرآة الجنان لليافعي 2/ 191.

(2) الحنوة والعرارة: من أزهار البادية.

(3) الحيوان 2/ 143، الحيوان 1/ 11.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.