أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-7-2016
5646
التاريخ: 10-04-2015
4328
التاريخ: 11-3-2016
2519
التاريخ: 30-12-2015
4440
|
الصنوبري (1)
هو أحمد بن محمد بن الحسن الضبي الصّنوبري، وفي بعض المصادر أن اسمه محمد (2)، وهو خطأ، إذ ذكر اسمه في ديوانه غير مرة باسم أحمد، من مثل قوله معزيا نفسه في بعض الظروف:
ارض حكم الزمان يا أحمد ارضه … إن تذق ضيمه فقد ذقت محضه (3)
وصحّف لقبه «الضبي» نسبة إلى قبيلة ضبّة في فوات الوفيات، فصار «الصيبي» ولا علاقة له بالصين، إنما هو تصحيف النساخ. أما لقبه الثاني «الصنوبري» فزعم هو نفسه أن جدّه كان يعمل في دار الحكمة لعهد المأمون فاشترك في مناظرة بين يديه وأعجب به فقال له: إنك لصنوبري الشكل دلالة على ذكائه وحدة مزاجه، ولعل المأمون لم يرد بذلك إلا سمته وصورته وأن وجهه على
ص348
هيئة ثمر الصنوبر المخروط الصورة، ويفخر الصنوبري بهذا اللقب لأسرته قائلا (4):
إذا عزينا إلى الصّنوبر لم … نعز إلى خامل من الخشب
لا بل إلى باسق الفروع علا … مناسبا في أرومة الحسب
وهو من أهل أنطاكية، ولكن منشأه ومرباه في حلب، ولا ندرى كيف تحوّل أبوه به إليها، وقد مضى مثل لداته يحفظ شيئا من القرآن ويكبّ على حفظ الشعر وتعلم العربية، وكانت حلب مثلها مثل المدن الكبرى في العالم العربي تزخر بعلماء اللغة والحديث والفقه وكان بها بعض الأطباء، وكانت الكتب على رفوف المكتبات تحت أعين الصبية والشبان. وفى ديوانه إشارات مختلفة إلى بعض العلماء في اللغة وإلى بعض القضاة وبعض الأسر المهتمة برواية الحديث النبوي وإلى بعض المتطببين، ونراه يذكر أرسطاطاليس وبقراط في بعض أشعاره (5). وقد يدل ذلك من بعض الوجوه على أنه عكف منذ نعومة أظفاره على الدرس والتحصيل، وأنه قضى في ذلك شطرا من حياته حتى تخرج شاعرا مثقفا، على الأقل ملمّا بالثقافات لعصره، إن لم يكن إلماما عميقا، فإنه على كل حال معرفة واطلاع.
وقد عاش حياته في حلب، وكان يلم كثيرا بالموصل والرقتين، وألم بدمشق، ونجده لا يترك واليا على موطنه إلا ويقدم له مدائح وأشعارا كثيرة، وهو يستهلّ ذلك بمديحه لذكا (6) بن عبد الله الأعور والى حلب منذ سنة 295 حتى سنة 302 وتحتفظ بقية الديوان المنشورة باسم الصنوبري بقصيدة في مديح ابنه المظفر (7) يصفه فيها بالكرم والشجاعة، ويوصيه بشاعر يسمى الطبراني أن يسبغ عليه من كرمه وعوده وكان هذا الوالي يتخذ يحيى بن محمد التفري وزيرا له وعونا وظهيرا، وللصنوبري فيه قصيدة طنانة يصور فيها بلاغته وبعوثه لحروب القرامطة والروم، ويخلف هذا الوالي على حلب أحمد بن كيغلغ القائد المشهور في العصر ويظل
ص349
بها نحو سنة ويعود إليها في سنة 317 ويظل بها سنة أخرى، وكان عونه في حكمه لحلب ابنه العباس، ويضفى عليهما مدائح كثيرة، ويبدو أن صلات العباس له كانت متوالية، ولذلك أكثر من مديحه. كما مدح محمود بن حبك الخراساني الذي حكم حلب بعد ولاية ابن كيغلغ الأولى عليها وظل يحكمها حتى سنة 312 ونمضي مع الشاعر بعد ولاية ابن كيغلغ الثانية فنجده يمدح طريفا السبكري حتى إذا خلفه أحمد بن سعيد الكلابي سنة 324 وجّه إليه مدائحه. وتدخل حلب في حكم ابن رائق صاحب دمشق ويعينه في حكمها أبو الحسين بن مقاتل منذ سنة 327 ويمدحه الصنوبري مهنئا له بشهر رمضان، وسرعان ما يستولي يانس المؤنسي من قبل الحسن بن عبد الله بن حمدان صاحب الموصل على حلب سنة 330 ويمدحه الصنوبري بمثل قوله (8):
هو الفارس المروى من الدم سيف … إذا لم يطق ري السيوف الفوارس
وتنشب حروب بين الإخشيد والحمدانيين أصحاب الموصل من جهة وبين الخليفة والبريدي من جهة أخرى، وينزل الخليفة عند الحمدانيين وينصرونه على خصومه لسنة 330 فيخلع علي الحسن بن عبد الله بن حمدان لقب ناصر الدولة، كما يخلع على أخيه على لقب سيف الدولة. وتشتعل الحروب بينه وبين الإخشيد في سنة 333 ولكنهما يفيئان إلى الصلح وتخلص حلب لسيف الدولة، وهو في أثناء ذلك ينازل الروم ويكبدهم خسائر فادحة في الأرواح. ومنذ قرع سيف الدولة لأبواب حلب واستيلائه عليها نجد الصنوبري يقدّم له مدائحه، وأعجب به سيف الدولة، فلم يكتف بما أجزل إليه من صلات إذ اتخذه أمينا لمكتبته (9). ويبدو أن سيف الدولة لم يتعرف عليه قبل نزوله حلب، وقد يؤكد ذلك أننا لا نجد في ديوانه مديحا لأخيه ناصر الدولة وآبائهما في الموصل، مع أن نجم الأسرة الحمدانية كان قد أخذ في التألق منذ أواخر القرن الثالث الهجري، ومع أنها كانت أسرة شيعية، وكان الصنوبري نفسه شيعيّا، غير أنه ظل منحرفا عنها، حتى قدم سيف الدولة حلب وقد يرجع ذلك إلى اضطراب الأحوال في بغداد واشتراك هذه الأسرة في الفتن التي كانت تتعاقب
ص350
هناك، ولعل هذه الفتن نفسها هي التي جعلته ينأى بنفسه عن بغداد وتقديم مدائحه لوزرائها وحكامها المختلفين. على أنه كان كثير المقام بالرقة، وكان يمدح بعض ذوى الوجاهة والنباهة بها ولكنه لم يفكر في مديح أمرائها الحمدانيين، إلا إذا كانت هناك أشعار أخرى لم يحملها ديوانه خصّها بمديحهم.
على أن هذا الجانب يجعلنا نفكر في شأن تشيعه، فديوانه يمتلئ بمراث لآل البيت وللحسين خاصة، مما يؤذن بأنه كان متشيعا حقّا، وهو يذكر فيه ما يؤمن به الشيعة من أن الخلافة ليست مفوضة للأمة وأنها تنتقل بالوصية من الرسول إلى علي وأبنائه، على نحو ما نرى في مثل قوله (10):
حباه بالوصيّة إذ … حباه وهو ذو دنف
ويبدو أنه لم يكن غاليا في تشيعه، بل يبدو أنه لم يعتنق مذهب الإمامية الاثنى عشرية الذي كان قد أخذ ينتشر في بعض أركان العراق لعصره. وفي ديوانه قصيدة وجّه بها إلى جعفر بن علي صاحب الزاب في المغرب الأوسط، وصلة جعفر وأبيه علي بالدعوة الإسماعيلية التي كانت قد أخذت في الذيوع بتلك الديار مشهورة، ولكن ينبغي ألا نفهم من ذلك أن الصنوبري كان على صلة بتلك الدعوة لا في مقرها الجديد بالمهدية في المغرب ولا في مقرها القديم بسلمية في الشام (11)، وقد يؤكد ذلك أننا نجده يهاجم القرامطة (12) الذين كانوا متصلين بتلك الدعوة حين أغاروا على الحجيج يوم التروية لسنة 317 وقتلوهم قتلا ذريعا، كما مرّ بنا في غير هذا الموضع. وربما كان أكثر من ذلك تأكيدا أننا نجده يمدح زيادة الله بن الأغلب صاحب تونس، بعد أن هزمه أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين لسنة 296، وخرج من بلاده إلى العراق وأقام-حسب أوامر الخليفة-بالرقة (13)، وظل بها حتى توفى سنة 304 للهجرة (14). ونرى الصنوبري حينئذ يمدحه بغير قصيدة (15) ولو أنه كان على صلة بالدعوة الفاطمية الإسماعيلية ما نظم فيه بيتا مثنيا عليه أو مادحا. ونجده
ص351
حين يمدح آل البيت يمدح حمزة وجعفرا الطيار كما يمدح العباس (16) جد العباسيين. وهو يكثر من مديح بعض الهاشميين من سلالة على بن أبى طالب، ولكنه أيضا يكثر من مديح الهاشميين من سلالة العباسيين أمثال أبى العباس أحد أحفاد الرشيد وله يقول (17):
أأبناء الخلافة من قريش … وساسة أمر عالمنا المسوس
ألنتم من حزون الدهر حتى … توهمت الحزون من الوعوس (18)
وفى ديوانه ما يدل بوضوح على أنه كان لا يزال يرحل من حلب إلى الرقة على الفرات، حتى لتعدّ كأنما كانت موطنه الثاني وخاصة في أيام شبابه وإدمانه على اللهو وخلعه للعذار. وكان لا يزال يؤمّ فيها مع بعض الفتيان والرفاق دير زكّى لجمال متنزهاته، ولما كان يجاوره من أماكن الصيد برّا وبحرا. وكثيرا ما كان يلمّ بمدينة الرّها هناك وكان بها دكان ورّاق يسمى سعدا، وكان يجتمع فيه بكثير من أدباء العراق والشام ومصر. ومن الرقة حتى دمشق كان ينزل في كل ما بينهما من البلدان، ولم يدع جوادا أو حاميا من حماة الأدب في تلك الأنحاء حتى قدم له مدائحه، ونستطيع أن نميز بين ممدوحيه عبد الرحمن الجلابي من أهل حرّان بالموصل وابن كوجك في طرابلس وعلى بن سهل بن روح في حمص، أما الحلبيون فكثيرون من مثل أسرة السبيعيين، وكان منهم من يعنى برواية الحديث النبوي مثل الحسن بن أحمد السبيعي وله كتاب «التبصرة في فضيلة العترة الطاهرة» ومثل القاضي أبي عبد الرحمن بن أخي الإمام ومثل علي بن محمد بن حمزة العباسي الهاشمي وكان له قصر منيف وبساتين في موضع يسمى فارث، وله فيه قصائد رائعة، ومثل أبي عبد الله الكرخي صاحب الخراج. وكثير هم العلويون الذين مدحهم مثل إسماعيل بن الفضل الهاشمي وابنه أبي بكر وحفيده أبي عيسى ومثل طاهر بن محمد ومحمد بن الحسين الهاشميين.
وكان يختلط في كل البلدان التي ينزل فيها بشعرائها وأدبائها، وكان من أقربهم إلى
ص352
نفسه المعوج الرقى ويقال إنه أستاذه، وقد توفي سنة 307 وبكاه بمرثية طويلة يقول فيها (19):
يا سماء الشعر التي لي عليها … كلّ يوم سماء دمع تفيض
كيف تجنى الأفهام زهر المعاني … بعد ما جفّ روضهنّ الأريض
ولعل أهم صداقة كانت بينه وبين شاعر الصداقة التي انعقدت بينه وبين كشاجم، ونظن ظنّا أنها بدأت في الرقة، وكان كشاجم قد اتصل هناك بأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة، فرعاه وصار من حاشيته، ثم صار من حاشية ابنه، ورافقه حين ألقى عصاه بحلب، حتى نهاية حياته، وكان أصغر سنّا من الصنوبري، وكأنه اتخذ منه معلمه ورائده في الشعر، فنسج على منواله، في وصف الرياض وفي الخمريات والغزل، وبينهما مداعبات ومعابثات واستعطافات كثيرة، وكأن الأستاذ دائما كان حريصا على رضا تلميذه. وتمنى التلميذ يوما لو أصهر إلى أستاذه في ابنة (20) له، ولعل عالما لغويّا لم يحظ بصداقة الصنوبري كما حظى علي بن سليمان الأخفش الصغير، وكان قد رحل عن بغداد إلى مصر سنة 287 ثم تركها سنة 300 موليا وجهه نحو حلب، فظل فيها حتى سنة 305.
وفي هذه السنوات الخمس انعقدت له حلقة كبيرة بالمسجد الجامع أمّها الشباب للتثقف، وكان بينهم الصنوبري، فملك الأخفش عليه لبّه، وإذا هو ينظم فيه قصيدة طويلة يصوّر فيها نهله هو ورفاقه من ينبوعه العظيم، بمثل قوله (21):
كرعنا منه في أبح … ر علم غير منزوفه
وطالعنا رياض العل … م بالآداب محفوفه
وتضطره بعض ظروفه إلى أن يبرح محاضراته إلى أنطاكية مسقط رأسه، فيكتب إلى الأخفش متشوقا كما يقول، واصفا فراقه لهذا الفردوس العلمي، متمنيا لو فاءت عليه ظلاله. وتمتد به الأيام بعد ذلك نحو ثلاثين عاما يقضى معظمها في اللهو، ويفيق مرة من كئوسه في نحو الستين من حياته فيتمنى لو زهد في الدنيا ومتاعها الزائل
ص353
معلنا أنه بلغ السابعة والخمسين وآن له أن يزدجر ويرعوي ويكف عن اللهو وآثامه، يقول (22):
ألقت رداء اللهو عن عاتقي … خمس وخمسون مضت واثنتان
وفي البيت ما يدل على أنه لم يمت وقد ناهز الخمسين كما يقول ياقوت (23)، بل مات وقد ناهز على الأقل الستين، ولا ندري هل هجر اللهو فعلا كما تمنى أو ظل يشرب كئوسه صافية وممزوجة حتى الأنفاس الأخيرة من حياته لسنة 334 للهجرة.
وكان يعيش على ما يظهر في يسر دائما، إذ نراه يذكر-كما يذكر ذلك كشاجم- أن له بحلب ضيعة وبستانا وقصرا حوله الأشجار والورود والرياحين (24). وكثيرا ما نراه يدعو صحابه ورفاقه لمآدب عنده (25)
وأخذ كثيرون يروون أشعاره وهو على قيد الحياة، وعنى أحد تلاميذه من الشعراء وهو أبو العباس الصفري برواية ديوانه وعنه رواه القاضي أبو عمر عثمان بن عبد الله الطرسوسي (26)، واهتم به معاصره أبو بكر الصولي فجمعه ورتبّه على حروف الهجاء في مائتي ورقة (27). ولم يلبث الديوان أن دخل الأندلس بعد وفاة صاحبه بنحو عشرين عاما لعهد الحكم المستنصر (350 - 366 هـ). على يد مواطن للصنوبري ترجم له ابن الفرضي في تاريخ (28) علماء الأندلس، هو محمد بن العباس الحلبي، وعنه رواه اللغوي المشهور أبو بكر الزبيدي الإشبيلي، وذاعت هذه الرواية بين أدباء الأندلس، ونرى ابن خير يذكر طرقها في فهرسته (29). ولم يصل إلى عصرنا من الديوان إلا جزء منه يشتمل على قصائده من قافية الراء حتى القاف، أما الجزء الذي يسبقه والآخر الذي يلحقه فمفقودان، وحقّق الجزء الباقي تحقيقا علميّا الدكتور إحسان عباس وألحق به ما وجده في المصادر المخطوطة والمطبوعة من أشعار الصنوبري
ص354
ونشر هذا الملحق مع الجزء المذكور باسم ديوان الصنوبري ومعه فهارسه في نحو 580 صفحة.
ومن يقرأ في شعر الصنوبري يلاحظ توّا أنه كان يعنى بصناعة شعره وأنه أكبّ على الشعراء من قبله يقرأ فيهم ويستوعب ويتمثل، وخاصة أبا تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز، فهو أحيانا يكثر من الجناس ومن فنون البديع على طريقة أبي تمام، وأحيانا لا يذهب بعيدا في استخدام هذه الفنون على طريقة البحتري، وهو يكثر من التشبيهات والصور على طريقة ابن المعتز كما يكثر من وصف الطبيعة على طريقة ابن الرومي. وظل يمرن نفسه على نظم الشعر ويروضها على صناعته حتى قال (30):
ما حلّ بي منك وقت منصرفي؟ … ما كنت إلا فريسة التّلف
كم قال لي الشوق قف لتلثمه … فقال خوف الرقيب لا تقف
بسطت خطوى كرها وقد قبضت … رجلي عن الخطو شدة الكلف
فكان جسمي في زي منطلق … وكان قلبي في زي منعطف
فارتضى حينئذ أن يعلن عن شاعريته وأن يقدم أشعاره لمن حوله، والأبيات فيها غير قليل من التكلف في التعبير، وخاصة البيت الثاني، ومع ذلك تنمّ عن شاعرية جيدة، وواضح فيها العناية بالطباق والمقابلة على نحو ما يلاحظ القارئ لبيتيه الثالث والرابع. وأخذ يسلس له الشعر وأسلم له قياده حتى أصبح من المجلّين فيه البارعين.
وإذا أخذنا نستعرض موضوعات الشعر عنده لاحظنا أنه عنى بالمديح عناية واسعة، إذا اتخذ شعره متجرا له ومربحا. فهو يقدّمه لولاة حلب ونوابهم وأبنائهم ومساعديهم وكثيرا ما يصرّح فيه بتنجز الوعود، وأنه لا يزال ينتظر هبة الممدوح وجائزته، وأكثر من مديح العباس بن أحمد بن كيغلغ، وفيه يقول (31):
ص355
وكيغلغىّ المجد يلفى مجده … ثبت الدعائم محصد الأمراس (32)
فرد الكيان فكفّه من رحمة … تسع الأنام وقلبه من باس
أعدى على صرف الليالي المعتدى … وألان من طبع الزمان القاسي
يوماه ذا عيد وذا عرس وإن … جلاّ عن الأعياد والأعراس
يأبى الحجاب وليس يحجب بشره … عن أعين الندماء والجلاّس
والأبيات مليئة بالجناسات والمقابلات والتقسيمات، على نحو ما يلاحظ في أعدى والمعتدى والحجاب ويحجب، وفى الكف والقلب واللين والقسوة والعيد والعرس. وكأنما كتب أشعاره على أضواء من ديوان أبي تمام، وإن كان لا يبلغ مبلغه في اقتناص المقابلات والجناسات. فقد كان أبو تمام أكثر دقة وأنفذ بصيرة. ولا نبالغ إذا قلنا إن أجود ما صاغه من مدائح صاغه في الهاشميين من عباسيين وعلويين.
وأهم هاشمي عباسي أسبغ عليه مديحه علي بن محمد بن حمزة الهاشمي، وكانت له-كما مرّ بنا-ضياع يتوسطها قصر في مكان يسمى فارث، وكان الصنوبري كثيرا ما ينزل عنده بهذا القصر وينعم بما فيه من ترف ومن أسباب النعيم ووسائله، وله فيه قصيدة عينية رائعة يصور فيها ما نعم به عنده من غناء بعض الجواري ومن راح وخمر. كما يصور بستانا حافلا بالورود والرياحين وبركة حساء تنهل فيها النجوم ويتحول إلى مديح ابن حمزة هاتفا (33):
ابقوا بني العباس ما بقى الحصا … لندى يؤمّل أو لخرق يرقع (34)
ويمدح كثيرا من العلويين المقيمين بحلب وغير حلب. ودائما يذكر أنهم عترة المصطفى وأنهم الجوهر المصفّى وسراج الدنيا، ومن خير مدائحه في الهاشميين مدائحه لأبي إسحق السلماني، ويصفه بالعلم الغزير والاطلاع الواسع على الثقافة اليونانية حتى ليرفعه درجات على أرسططاليس وبقراط، قائلا (35):
وأدقّ من رسطالس نظرا إذا … ناظرته وأشفّ من بقراط
فكر غدت أقفال فكر كلّها … لكنهنّ مفاتح استنباط
ص356
والرثاء كثير في الديوان بصوره الثلاث من العزاء والتأبين والندب، فهو يعزى جعفر بن طاروف عن أخيه (36) بأن تلك حال الزمان يعصف بكل الأحياء، وقديما عصف بجرهم وطسم وأقيال حمير وكسرى وقيصر، ويعزّى ابن حمزة الهاشمي العباسي صديقه عن زوجته (37) وأن طائرا لم يطر إلا كما طار وقع، ولا شرب أحد في دنياه جرعة حلوة إلا أعقبتها جرعة مرة. وحزن طويلا على صديقه أبي إسحق السلماني حين وافاه القدر، فأبّنه كثيرا واصفا علمه وباكيا عليه بمثل قوله (38):
غاب أبو إسحق في الأرض بل … غاب سراج الأرض في الأرض
بكته عيناي وفوق البكا … حتى بكى بعضي على بعضي
ومن أروع مراثيه ندبه للنبي عليه السلام ولآله، وهو فيه يتحدث عن ابنته فاطمة الزهراء وعن علي واصفا مقتله الأثيم ومؤكدا وصية الرسول له بالخلافة كما أسلفنا، ويذكر حديثه له في غدير خم وأنه منه بمنزلة هرون من موسى، ويعرض مقتل الحسين وما صبّه في نفوس المسلمين من جزع وكمد. ويخصّه بمراث كلها تفجع عليه ولوعات وزفرات، ونراه في بعضها (39) يصوّر سيرة جده المصطفى العاطرة ليظهر مدى الإثم في مقتله، كما يصور سيرة أبيه على ونصرته للإسلام وماله من حقوق على الأمة، ويبكي مقتله في كربلاء بالقرب من الفرات، وهو ساغب، يريد بعض الماء، فتلعق السيوف من دمه ودم شباب وصغار من بيته كانوا معه، وتعول أم كلثوم ومن كان في ركبه من النساء عويلا مرّا، ويندد بقاتليه وفظاعة جريمتهم وما يزال يئنّ لمصرع الحسين وهتك حرمه بمثل قوله (40):
يوم الحسين على الد … ين كنت يوما عسيرا
ملأت والله كربا … يا كربلاء الصدورا
ص357
والفاطميون تقري … هم السيوف الطيورا
والفاطميات ينحر … ن بالدموع النّحورا
ونراه في جوانب من تفجعه على الحسين وآل البيت يتوسل إلى الرسول عليه السلام وفاطمة الزهراء وعلى ابنيه الحسن والحسين أن يكونوا شفعاء له يوم القيامة، حتى يغفر الله له ذنوبه، وهو يضيف إلى شفاعة الرسول المقررة عند أهل السنة شفاعة آل البيت، تشيعا لهم، كأنهم ورثوها فيما ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويلتقى في الديوان تفجعه على الحسين بتفجعه على ابنته ليلى وحيدته كما يقول، ويندبها في كثير من القصائد والمقطوعات، وقد امتلأت نفسه شقاء وعناء ممضّا وامتلأ قلبه حسرات ولوعات محرقة، وما يزال يطلب إلى السحب أن تكسو الأرض من حول قبرها وشيا بعد وشى وحريرا بعد حرير وأزهارا وأنوارا فائحة العبير، ويناجيها في رمضان ذاكرا عبادتها فيه وعكوفها على القرآن الكريم، وكيف تحوّل العيد بعدها لغيابها عنه مأتما، ويبكيها في قصيدة ضادية، ويبكي معها أختها التي ماتت منه في الرقة، وفي ذلك يقول (41):
لنا في الرّقّتين مضيض حزن … وفي حلب المضنيض على المضيض
وظل جرحه في ليلى لا يرقأ، وكانت عروسا، فانقلبت الفرحة حزنا بل كارثة، وانقلب الرحيق حريقا يصطلى الصنوبري بناره، ويتعذب عذابا شديدا، ولا مغيث له ولا ملجأ سوى الدموع والأنات والزفرات وأن ينوح عليها بمثل قوله (42):
يا ربة القبر المضئ الذي … يضئ ضوء الكوكب السّاري
أشتاق رؤياك فآتى فلا … أرى سوى ترب وأحجار
قومي إلى دارك قد أنكرت … صبرك عنها أي إنكار
استوحشت دارك من أهلها … واستوحش الأهل من الدار
ومن أروع مراثيه مرثيته في أمه، وهو من أقدم من رثوا أمهاتهم إن لم يكن
ص358
أقدمهم، وهو في رثائه لها يصور شعورا عميقا بالحزن، وقد استهله بقوله: (43)
قد صوّحت روضتى المونقه … وانتزعت دوحتي المورقه
ومضى يصور مرضها قبل موتها وكيف كان يئن لها أنينا متصلا. وله مرثية طريفة لثوب أبلاه الدهر.
وهزّته بل أثّرت في نفسه تأثيرا عميقا فاجعة الحرم المكي الكبري لسنة 317 حين هجم القرامطة على الحجاج، وهم يهلون ويلبسّون يوم التّروية فأعملوا فيهم السيوف في طرق مكة وفي البيت الحرام وهم متعلقون بأستاره، حتى ليقال إنهم قتلوا منهم نحو عشرة آلاف، ونرى الصنوبري يبكيهم بكاء حارّا، هاتفا (44):
دموعهم تجري خشوعا وخشية … وأرواحهم تجرى على البيض والسّمر
وما غسلوا بالماء بل بدمائهم … وما حنّطوا إلا من التّرب لا العطر
ومضى يصف القرامطة بالكفر وأنهم لا يعرفون صلاة ولا سجودا ولا طهرا ولا وضوءا ولا صوما ولا حجّا ولا شيئا من فرائض الإسلام.
وله قصائد عدة في الفخر، وهو كثيرا ما يفخر فيها بقبائل قيس والقبائل المضرية عامة وبضبة قبيلته، وأيضا كثيرا ما يفخر فيها بالمصطفى وآله. ونراه في قافية له يضيف إليه أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وخلفاء بني العباس، إذ يقول في عدّ قومه لمناقبهم ومفاخرهم (45):
عدّوا النبي الهاشمي ورهطه … ووزيره الصدّيق والفاروقا
ولهم خلائف من بني العباس قد … أعيوا جميع العالمين لحوقا
وفي ذلك ما يدل بوضوح على أنه لم يكن غاليا في تشيعه، إذ يرتضى خلافة الصديق والفاروق وخلفاء العباسيين، بل يمجّدها ويشيد بها في قوة. وله أهاج كثيرة يملؤها بالفحش، ومن أطرفها هجاؤه لزوج ابنته ليلى التي رثاها طويلا، و؟ ؟ ؟
ص359
أنها توفيت عقب إعراسه بها، فعدّه طائر شؤم وطالع نحس بغيض، وهجاه مرارا وتكرارا بمثل قوله (46):
ألا يابن الجنيد اسمع … وما أنت بذي سمع
على التّفريق إملاك … ك هدّا لا على الجمع (47)
على التّعس على الغمّ … على النّحس على الفجع
علىّ تحرّق القلب … علىّ تحدّر الدمع
وله قصيدة (48) في هجاء بعض الشمامسة، يصفه فيها بالشره في الأكل وببعض العادات القبيحة، وبالثقل حتى إنه ليتفوق على جبل رضوى في ثقله، وبالشؤم حتى ليوازي البوم في شؤمه، ومن قوله في ثقيل (49):
لو مرّ من ميل توهمته … قد مرّ بين العين والحاجب
وفي ديوانه معاتبات واستعطافات بينه وبين بعض أصدقائه، وألطفها ما نظمه في استعطاف صديقه ورفيقه الحميم كشاجم، وكانا كأنهما روح واحدة في جسدين أو جسد واحد في ثوبين، فقد جمعت بينهما لحمة الشعر، ووثقت بينهما من الصداقة ما لا توثقه قرابة الدم، وله يقول متودّدا مستعطفا (50):
أخ لي عاد من بعد اجتنابه … وفرّق بين قلبي واكتئابه
وخاطبني فخلت بأن زهر ال … رّبى الموشىّ يجنى من خطابه
فقرّب بين أجفاني وغمضي … وباعد بين دمعى وانسكابه
أتاني أرى منطقه فعفّى … على ما ذقته من طعم صابه (51)
وله غزليات كثيرة، غير أن كثيرا منها في الغلمان، وحاولنا-في غير هذا الموضع-أن نخفف من حدّة هذه المثلبة السيئة عند الصنوبري وغيره، فقلنا إن
كثيرا من شعر الغلمان، إن لم يكن جلّه، كان يقال على سبيل الدعابة والتندير في أثناء السكر وشرب الخمر. وله غزل في فتيات ونساء كثيرات، ويغلب عليه التكلف إذ نراه يبحث غالبا عن تشبيه أو صورة، ومن غزلياته الطريفة قوله (52):
تزايد ما ألقى فقد جاوز الحدّا … وكان الهوى مزحا فصار الهوى جدّا
وقد كنت جلدا ثم أوهنني الهوى … وهذا الهوى ما زال يستوهن الجلدا
فلا تعجبي من غلب ضعفك قوّتي … فكم من ظباء في الهوى غلبت أسدا
جرى حبّكم مجرى حياتي ففقدكم … كفقد حياتي لا رأيت لكم فقدا
ومع ذلك فالقطعة لا تخلو من تكلف، حين يحوّل الهوى من المزح إلى الجد وحين يصبح واهنا بعد أن كان جلدا، وحين يغلب الضعف القوة، كل ذلك ليأتي بالطباق. وأطرف من هذه المقطوعة مقطوعته التالية (53):
لا النوم أدرى به ولا الأرق … يدرى بهذين من به رمق
إن دموعي من طول ما استبقت … كلّت فما تستطيع تستبق
ولى مليك لم تبد صورته … مذ كان إلا صلّت له الحدق
نويت تقبيل نار وجنته … وخفت أدنو منها فأحترق
والقطعة مع ما يترقرق فيها من جمال يتعمقها التكلف، على نحو ما يلاحظ في البيت الثاني وتعب دموعه من استباقها وتقاطرها على خديه، وتعبيره عن عبادته لمليكه بصلاة الحدق فيه أيضا غير قليل من التكلف، وواضح أن الشطر الأول في البيت الأخير مجلوب اجتلابا ليهيئ مكانا للشطر الأخير. وله مقطوعة نظمها في فتاة مسيحية، تمضى على هذا النمط (54):
لا ومكان الصّليب في النّحر … منك ومجرى الزنّار في الخصر
والحلق المستدير من سبج … على الجبين المصوغ من درّ (55)
وسكر أجفانك التي حلف ال … فتور ألا تفيق من سكر
وأقحوان بفيك منتظم … على شبيه الغدير من خمر
ما صبر المشوق لي فأصبر يا … من حسنه فيه قلّة الصّبر
ويكثر الصنوبري من الحديث عن الخمر ووصف كئوسها وسقاتها ونداماها ومجالسها، يفرد لذلك القصائد والمقطوعات. وقد يضع نعت الخمر في مقدمة بعض مدائحه، مضيفا إليها نعت بعض ليالي الأنس وما كان في مجالسها من غناء وقيان وجوار معقربات الأصداغ. وقد يضيف إلى ذلك وصف البستان وما فيه من أزهار ممتدة حول القصور ومجالسها. وكثيرا ما يقرن وصف الربيع إلى الخمر، فهو ربيع الدنيا وهي ربيع الفرح والسرور في رأيه. ويقرنها أيضا دائما إلى الأمطار، ولعله أول من قرنها بالثلج وانتثاره في الطبيعة، وعرف له القدماء ذلك فقالوا إنه أول من تغنى بالثلجيات على شاكلة قوله (56):
ذهب كئوسك يا غلا … م فإن ذا يوم مفضّض
الجوّ يجلى في البيا … ض وفي حلّى الدّرّ يعرض
أظننت ذا ثلجا وذا … ورد على الأغصان ينفض
ورد الربيع ملوّن … والورد في كانون أبيض
وهو يفرح بهذا اليوم من أيام كانون شهر الشتاء القارس، الذي يكسو الأشجار ثيابا بيضاء، وكأنها تجلى فيها، فهو يوم من أيام عرسها، وهو يعبّ فيه من كئوس الخمر المذهبة الصافية، فرحا بمنظر الثلج على الأغصان، وكأنما قطعه في عينه ورود تنفض على الأغصان وعلى الأرض، ورود بيضاء، تكسو الطبيعة غلائل فضية بهيجة. وكان أكثر ما يفرغ لخمره ولهوه ولذاته في الرقة، وكان يختلف مع رفاقه إلى بساتينها ومتنزهاتها على جداول البليخ والهنىّ والمرىّ. وله رائية (57) يصور فيها نزهة في بساتين تلك الجداول وفي دير زكىّ الذي كان يجاورها، ذاكرا قراها التي كان يتنقّل بينها من مثل هرقلة والصالحية
ص362
وبطياس والرافقة وما كان يمتد في المروج هناك من أنوار وأزهار، ويصف عكوفه على الخمر وسقاتها من الغلمان والجواري، كما يصف صيده بالكلاب هناك من الغزلان، وكذلك صيده بالجوارح من الصقور والبزاة للطير من مختلف الألوان. ويصوّر من معه من الرفاق كما يصور نهر الفرات وسفنه المسرعة. وله وراء ذلك أشعار كثيرة في دير زكىّ ونزهه في بساتينه وخلعه مع بعض رفاقه للعذار فيه ولهوهم مع بعض فتياته، على نحو ما يحدّثنا في قوله (58):
لو على الدّير عجت يوما لألهت … ك فنون وأطربتك فنون
كم عزال في كفّه الورد مبذو … ل وفى الخدّ منه ورد مصون
ويبدو أنه ارعوى حين تقدمت به السنّ بعد الخمسين، وربما كان لموت ابنته ليلى أثر في ذلك، فقد صحا من خمره ولهوه على موتها في سن البراعم الغضة، ولعل ذلك ما جعله يعلن أنه كفّ عن النبيذ في حزم وعزم أكيد، حتى ليقول (59):
كنت أحبّ النبيذ جدّا … فصار حبّي النبيذ بغضا
فلست أرضاه لي شرابا … والحمد لله لست أرضى
وينضم؟ ؟ ؟ بعض أشعار في الزهد، وله فيه قصيدة (60) طويلة، يتحدث فيها عن الموت وعن ذنوبه ومعاصيه وأنه آن له بعد ما اقترف من الأثام أن يرعوي ويكف عن السير في طريق اللهو ودروبه. ويتصل بهذا الموضوع عنده أن نجده يفرد بعض القصائد لنصائح خلقية وسلوكية في الحياة، وهو الباب الذي يسمّى في الشعر وأغراضه باسم باب الأدب، حيث تتوالى النصائح للبصر بالحياة ومسالكها الصعبة، من مثل قوله في إحدى قصائده التي خصّها بهذا الباب (61):
أضاع الحزم من أمسى مطيعا … طوال الدهر ذا حزم مضاع
وأكثر ما استطعت الحلم إني … رأيت الحلم من كرم الطباع
ولا تتع أخا سفه ودعه … وكن للحرّ-دهرك-ذا اتباع
ص363
ولم نتحدث حتى الآن عن الموضوع الأساسي في شعره. وهو وصف الطبيعة التي عاش لها وعاش بها وعاش فيها معيشة جعلته أستاذ هذا الموضوع في العربية. وقد مضى معاصروه من حوله ومن خلفهم في العصور التالية لا في المشرق وحده. بل أيضا في المغرب والأندلس يسيرون على هديه فيه. حتى ضرب المثل بروضياته.
وحقّا كان ابن الرومي مشغوفا بالطبيعة ووصف الرياض في الربيع، ولكنه لم يعش لهذا الموضوع معيشة الصنوبري ولا اتخذ له بستانا يزرع فيه الورود والرياحين والأزهار ويتعهدها تعهد المحب الوامق كما صنع الصنوبري. فهو بحق شاعر من شعراء الطبيعة، عاش يتغذى خياله وروحه منها، واصفا لحدائقها وبساتينها ورياضها، حتى ليصبح ذلك كل شغله وكل وكده من حياته، وقديما عاش تلك المعيشة أبو نواس. ولكن في الصهباء وكئوسها ودنانها، مما جعله يعلى وصفها على وصف الأطلال والديار العافية، وبالمثل نجد الصنوبري يعلى وصف الطبيعة على وصف الديار والأطلال، في مثل قوله (62):
وصف الرياض كفاني أن أقيم على … وصف الطلول فهل في ذاك من باس
يا واصف الروض مشغولا بذلك عن … منازل أوحشت من بعد إيناس
قل للذي لام فيه هل ترى كلفا … بأملح الروض إلا أملح الناس
فهو يعلى وصف طبيعة بلاده على وصف الأطلال، وكأنه أول تعبير قوي عن شغف شعراء الشام بطبيعة ديارهم الخلاّبة. ورأيناه في غزله لا يهيم بالمرأة، وكأنما استأثرت الطبيعة بكل ما فيه من عاطفة، وشغلته بجمالها الهاجع في الكون عن كل شيء، حتى لكأنما يعيش لها كل لحظة من حياته، وفي كل لحظة يصبو لها قلبه ويشتد وجده وتتتابع أنفاسه. ويصور ذلك في قصيدة الأبيات السالفة قائلا عن رفاق له في أحد البساتين:
ما كدت أكتمهم وجدى بنرجسه … إلا استدلّوا على وجدي بأنفاسي
فهو يجد بالرياض وجدا لا يكاد يشبهه وجد، وكان يشتد به هذا الوجد في الربيع، حين تأخذ الأرض زخرفها ويعبق الجو بروائح الأنوار والأزهار، وتتغنّى
ص364
الطيور على الأشجار، وكأنما تتحوّل الرياض في عينيه إلى أعياد وأعراس، حتى ليقول (63):
ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا … أتى الربيع أتاك النّور والنّور (64)
فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة … والنبت فيروزج والماء بلّور (65)
تظلّ تنثر فيه السّحب لؤلؤها … فالأرض ضاحكة والطير مسرور
حيث التفتّ فقمرىّ وفاختة … يغنّيان وشفنين وزرزور (66)
إذا الهزاران فيه صوّتا فهما السّ … ر ناى والنّاى بل عود وطنبور (67)
فالربيع كأنه دكان ملئ بالجواهر، والدنيا مليئة بالبشر والسرور والطيور تغنى ويشدو عندليبان بصوتهما الساحر، وكأنما تجتمع جوقة موسيقية تخلب الألباب بأغانيها الجميلة. ويهتف بالناس أن يفتحوا عيونهم وأبصارهم في الربيع ليروا مفاتنه ويهتف بصواحبه من النساء أن يتأملن في جماله الذي يملأ القلوب غبطة وابتهاجا، يقول (68):
يا ريم قومي الآن ويحك فانظري … ما للرّبى قد أظهرت أعجابها (69)
كانت محاسن وجهها محجوبة … فالآن قد كشف الربيع حجابها
ورد بدا يحكى الخدود ونرجس … يحكى العيون إذا رأت أحبابها
وكأن خرّمه البديع وقد بدا … روس الطّواوس إذ تدير رقابها (70)
والسّرو تحسبه العيون غوانيا … قد شمّرت عن سوقها أثوابها (71)
فهو يوقظ صاحبته لترى الطبيعة وقد حسر الربيع نقابها، فبدت خدودها وعيونها الرانية ورءوسها الزاهية، وكأنما السرو غانيات أقبلت مشمرة عن سيقانها
ص365
تريد الرقص في هذا الجو العطر البهيج. ويفرد كثيرا من مقطوعاته لوصف بعض الأزهار، ولم يكن زهر يملك لبّه كما كان يملكه زهر النرجس، وهو أعظم الأزهار في الشام وأكثرها انتشارا فيه، وقد تغنى به طويلا على نحو ما نرى في قوله (72):
أرأيت أحسن من عيون النّرجس … أم من تلاحظهن وسط المجلس
درّ تشقّق عن يواقيت على … قضب الزمرّد فوق بسط السّندس
أجفان كافور حبين بأعين … من زعفران ناعمات الملمس
وهو في كثير من وصفه للنرجس يستهدي بابن الرومي، إذ كان معجبا به مثله، ومرّ بنا في غير هذا الموضع أن ابن الرومي أدار مناظرة في شعره بينه وبين الورد، وقف فيها مع النرجس موردا من الحجج من يؤكدّ فضله على الورد وأنه يفوقه حسنا وجمالا، وكأنما أراد الصنوبري أن يعارضه فنظم مقطوعه (73) نصر فيها الورد، ثم عاد فأقام معركة بين الأزهار، حاول فيها أن ينتصر للنرجس، وفيها يقول (74):
خجل الورد حين لاحظه النر … جس من حسنه وغار البهار (75)
فعلت ذاك حمرة وعلت ذا … حيرة واعترى البهار اصفرار
وغدا الأقحوان يضحك عجبا … عن ثنايا لثاتهنّ نضار (76)
عندها أبرز الشّقيق خدودا … صار فيها من لطمه آثار (77)
وأضرّ السّقام بالياسمين ال … غضّ حتى أذابه الإضرار
ويمضي الصنوبري على هذا النمط واصفا القتال بين النرجس والأزهار المختلفة، وكل منها يبوء بالهزيمة أمام النرجس وما يسلط من سهام عيونه الساحرة. وكان كلما وصف بلدة من بلدان الشام وصف طبيعتها الجميلة، وله في دمشق والرقة قصائد بديعة، وأبدع منها قصيدته في موطنه حلب، وهي أربعة أبيات ومئة استهلّها
ص366
بالتشبيب. ثم أخذ في وصف متنزهاتها وقراها ونهرها قويق وبركها، ثم وصف المدينة نفسها وجامعها وفيه يقول (78):
حبذا جامعها الجا … مع للنفس تقاها
ومراقي منبر أع … ظم شيء مرتقاها
وذرى مئذنة طا … لت ذرى النّجم ذراها
قبة أبدع باني … ها بناء إذ بناها
لو رآها مبتنى قبّ … ة كسرى ما بناها
وتحدث عن حلقاتها الأدبية والعلمية. ووصف الطبيعة حولها وأشجارها وأزهارها وصفا رائعا، وتحدث مرارا عن نهر قويق مصرحا بضحولة مياهه وأنه ليس فيه شيء من سفن الفرات ولا من تماسيح النيل وإنما فيه فقط نقيق الضفادع. وكان طبيعيّا أن يصف الفستق أعظم نقل تشتهر به حلب وفيه يقول (79):
زبرجدة ملفوفة في حريرة … مضمّنة درّا مغشّى بياقوت
وكانت لديه قدرة على ملاحظة دقائق الأشياء. ولذلك كان يحسن وصف أي شيء وصفا دقيقا. ومما اشتهر به وعرف له وصفه لديك الصباح الذى ينبهه وينبه الرّفاق معه لخمر الصباح التي تسمى بالصّبوح، وكان الشعراء قبله يلمّون به أحيانا. أما هو فخصّه بمقطوعة طريفة وفيها يقول (80):
مغرّد الليل ما يألوك تغريدا … ملّ الكرى فهو يدعو الصّبح مجهودا (81)
لما تطرّب هزّ العطف من طرب … ومدّ للصوت-لما مدّه-الجيدا
كلابس مطرفا مرخ جوانبه … تضاحك البيض من أطرافه السودا (82)
ران بفصّي عقيق يدركان له … من حدّة فيهما ما ليس محدودا
حالي المقلّد لو قيست قلادته … بالورد قصّر عنها الورد توريدا
وكان كثيرا ما يخرج مع رفاقه للصيد والقنص، وخاصة في الرقة. يصدون بالكلاب الغزلان أو يصيدون بالجوارح طير الماء. وقد يصيدون السمك من الفرات بالشباك، وكل ذلك نجد وصفه في أشعاره، وله طائية (83) يصف فيها جواده الذي يركبه للصيد وقد جنّ جنونه من السرعة حتى لكأنه حاقد على الفضاء، أما؟ ؟ ؟ فكأنها منبر للشاهين الذي سيطلقه على بطّ الماء أو طيره، وفيه يقول:
كأنما مخلبه … لأذن الطّير قرط
ويصور سرعة مضيه حتى كأنه سهم يخرج عن قوس، فلا يكاد يرتد البصر حتى يأتي بصيده. ويتركه إلى وصف ما معه من كلاب الصيد، مصورا سرعتها هي الأخرى وهيئتها وانقضاضها على فرائس الصيد من الغزلان وغير الغزلان، وفيها يقول:
موكّلات بالفلا … يطوينها طىّ البسط
كأنما آذانه … نّ سوسن لم يحن قطّ
كأنما أجفانها … عن قطع الجمر تعطّ (84)
وساعدته حاسته التصويرية على أن يصور كل ما حوله وكل ما يقع عليه نظره، من ذلك تصويره للجرذان والهرّ (85)، ونراه يقدم لذلك بتصوير هيئة كل منهما، فالهر أحدب الظهر منتصب الرأس، والجرذان دقيقة الخراطيم والآذان والأذناب حادة الأظفار والأنياب، ثم يتحدث عن إفسادها لكل شيء وكيف تنقب الحيطان والجدران وتصيب من كل طعام وشراب، والهرّ لها بالمرصاد، يقول:
ناصب طرفه إزاء الزّوايا … وإزاء السقوف والأبواب
يسحب الصّيد في أقل من اللّم … ح ولو كان صيده في السحاب
ويصور لنا فرحه به حتى لقد ألبسه قرطا وقلادة، وخضبه بالحنّاء، وكأنه عروس مقلدة عقدا نفيسا، تمشى بأقدامها الحمراء على عنّاب وكل ذلك
فرح بهذا الليث الذي قضى له على الجرذان قضاء مبرما. ومن تصاويره قوله في شمعة (86):
مجدولة في قدّها … تحكي لنا قدّ الأسل
كأنها عمر الفتى … والنار فيها كالأجل
وهي صورة طريفة، ولعل في كل ما أسلفنا ما يشهد بخصب خيال الصنوبري وأنه كان خيالا خالقا، لا يزال يرسل الصور الطريفة تلو الصور، صور تحفل بما يملأ نفس قارئه إعجابا، وكان إلى ذلك شغوفا بالرياض والطبيعة شغفا ملك عليه حواسّه، حتى أصبح فيه قدوة للعصور التالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في ترجمته وأشعاره تهذيب تاريخ ابن عساكر 1/ 456 وفوات الوفيات (طبعة محيى الدين عبد الحميد) 1/ 111 والوافي بالوفيات للصفدي 7/ 379 وشذرات الذهب 3/ 335 ومعجم البلدان لياقوت في (حلب) وديوانه بتحقيق الدكتور إحسان عباس طبع الثقافة ببيروت.
(2) الفهرست ص 245.
(3) الضيم: الممزوج بالشوائب. والمحض: الخالص غير المشوب
(4) الديوان ص 456.
(5) الديوان ص 279.
(6) انظر في هذا الوالي ومن بعده كتاب زبدة الحلب لابن العديم بتحقيق الدكتور سامى الدهان طبع دمشق الجزء الأول ص 92 وما بعدها.
(7) الديوان ص 156.
(8) الديوان ص 192.
(9) مطالع البدور للغزولي 2/ 176 وآدم ميتز ص 364.
(10) الديوان ص 398.
(11) في ديوانه مديح لصديق هاشمي من سلمية هو أبو إسحق السلماني، ولكن ليس في مديحه له ما يصور شيئا من الدعوة الإسماعيلية.
(12) الديوان ص 96.
(13) النجوم الزاهرة 3/ 168.
(14) النجوم الزاهرة 3/ 190.
(15) الديوان ص 317، 409.
(16) انظر الديوان ص 33
(17) الديوان ص 185
(18) الحزون: جمع حزن وهو الأرض الصلبة، والوعوس جمع وعس وهو الأرض السهلة.
(19) الديوان ص 262.
(20) ديوان كشاجم (طبعة بيروت) ص 79.
(21) الديوان ص 377.
(22) الديوان ص 503.
(23) انظر حلب في معجم البلدان.
(24) الديوان ص 347 وانظر ديوان كشاجم ص 74.
(25) انظر مثلا ص 155 في الديوان.
(26) الديوان ص 187.
(27) الفهرست ص 246.
(28) تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي رقم 1402.
(29) فهرسة ما رواه ابن خير عن شيوخه ص 408
(30) الديوان ص 388.
(31) الديوان ص 160.
(32) محصد: قوى متين.
(33) الديوان ص 327.
(34) يريد بالخرق: الفتنة.
(35) الديوان ص 279.
(36) الديوان ص 106.
(37) الديوان ص 341.
(38) الديوان ص 265.
(39) أنظر الديوان ص 218.
(40) الديوان ص 95.
(41) الديوان ص 263.
(42) الديوان ص 100.
(43) الديوان ص 442
(44) الديوان ص 97
(45) الديوان ص 404
(46) الديوان ص 346.
(47) الإملاك: الزواج.
(48) الديوان ص 200.
(49) الديوان ص 459.
(50) الديوان ص 457.
(51) الأرى: الشهد أو عسل النحل. والصاب: العلقم.
(52) الديوان ص 472.
(53) الديوان ص 436.
(54) الديوان ص 63.
(55) السبج: قطع الشعر المرسلة على الجبين.
(56) الديوان ص 255.
(57) الديوان ص 54.
(58) الديوان ص 495.
(59)؟ ؟ ؟ 258.
(60) الديوان ص 393.
(61) الديوان ص 323.
(62)الديوان ص 181.
(62) الديوان ص 42.
(63) النور: الزهر.
(64) الفيروزج: الفيروز وهو حجر كريم أخضر اللون.
(65) القمري والفاختة: من الحمام، والشفنين اليمام، والزرزور: من المصافير.
(66) السرناي والناي: من آلات الطرب.
(67) الديوان ص 454.
(68) أعجاب: جمع عجب.
(69) الخرم: زهر بنفسجي زاه.
(71) السوق: السيقان جمع ساق.
(72) الديوان ص 180.
(73) الديوان ص 498.
(74) الديوان ص 78.
(75) البهار: نبت أصفر.
(76) الأقحوان: زهر أبيض في وسطه اصفرار وأوراقه مفلجة، ولذلك يشبهونه بالأسنان.
(77) الشقيق: ورد كبير أحمر.
(78) الديوان ص 506.
(79) الديوان ص 464.
(80) الديوان ص 473.
(81) الكرى: النوم.
(82) المطرف: ثوب من حرير مخطط.
(83) الديوان ص 283.
(84) تعط: تشق.
(85) الديوان ص 451.
(86) الديوان ص 485.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|