المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9111 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

الشيطان يعدكم الفقر
2024-10-19
تقسيم Hodgson لجنس الموالح Citrus
26-8-2022
من هو أكبر أخوة يوسف (عليه السلام) ؟
11-10-2014
كلمة في زيد بن ثابت
2-12-2014
الرقابة القضائية
24-9-2018
سعيد بن قيس الهمداني الصائدي
18-10-2017


لماذا توجّه الحسين (عليه السّلام) بهجرته في البداية إلى مكّة المكرّمة ؟  
  
6276   01:35 صباحاً   التاريخ: 26-6-2019
المؤلف : الشيخ عبد الوهاب الكاشي .
الكتاب أو المصدر : مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
الجزء والصفحة : ص83-91.
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام الحسين بن علي الشهيد / الأحداث ما قبل عاشوراء /

قوله تعالى : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22].

هذه الآية الكريمة تمثّل بها الحسين (عليه السّلام) عندما دخل إلى مكّة مهاجراً مِنْ مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وذلك في الخامس مِنْ شعبان سنة ( 60 ) من الهجرة وتوجّه الحسين (عليه السّلام) بنهضته المباركة إلى مكّة وحلوله فيها أمر معقول ومشروع للغاية يقرّه الشرع والعرف السياسي .

أمّا من الناحية الشرعية فإنّه يجب على الإنسان أنْ يحلّ بلداً يمكنه فيه القيام بواجباته مع الحفاظ على حياته ما أمكن . ومكّة المكرّمة هي البلد الوحيد في ذلك اليوم الذي يتمكّن فيه الحسين (عليه السّلام) الجمع بين هذين الأمرين معاً ؛ لأنّه حرم مقدّس ومأمن لكلّ شيء حتّى الحيوان والطير والنبات ؛ بنص الكتاب العزيز : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) . حتّى قاتل النفس المحرّمة إذا دخل مكّة آمن على حياته من القصاص . نعم يُضيّق عليه حتّى يخرج عنها ثمّ يُقتص منه .

وأمّا من الناحية السياسية فإنّ الحسين (عليه السّلام) قائم بثورة فكريّة إصلاحيّة وهي بحاجة إلى إعلام ودعوة وأنصار . ولا شكّ أنّ مكّة يومئذ أنسب بلد للقيام بذلك كلّه ؛ لأنّها مختلف الناس وممرّ المسلمين مِنْ جميع الأقطار وكلّ حدث يحدث في مكّة ينعكس صداه فوراً في كافة الأقطار الإسلاميّة وتسير به الركبان إلى جميع العالم الإسلامي وكلّ دعوة تنبثق في مكّة سرعان ما تصل إلى أسماع المسلمين في كلّ مكان .

وفعلاً استطاع الحسين (عليه السّلام) بفضل إقامته في مكّة أنْ يبلغ أنباء ثورته على الحكم الاُموي إلى أكثر الأقطار ويتّصل بكثير من الوجوه والزعماء والوفود ؛ ولذا فقد اجتمع له في خلال تلك المدّة بين الستة آلاف والعشرة آلاف رجل وهم الذين تفرّقوا عنه أثناء الطريق عندما ظهر لهم غدر أهل الكوفة بالحسين (عليه السّلام) وفي خلال تلك المدّة تسلّم اثني عشر ألف كتاب دعوة مِنْ أهل العراق بالتوجّه إليهم .

وعلى كلّ حال كان في إقامة الحسين (عليه السّلام) في مكّة المكرّمة دعماً كبيراً لقضيته وإعلاناً واسعاً عن ثورته ولكنّ الذي حدث بعد ذلك وجعل الحسين يضطرّ إلى الخروج مِنْ مكّة بكلّ سرعة واستعجال هو : أنّ الاُمويِّين قرّروا هتك حرمة مكّة وانتهاك كرامتها وصمّموا على قتل الحسين فيها ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة .

 واتّخذوا لذلك جميع الإجراءات ؛ فبعث يزيد جيشاً يتألّف مِنْ ثلاثين ألف رجل فأحاط بمكّة خوفاً مِنْ أنْ يقوم الحسين (عليه السّلام) بثورة مسلّحة فيها ضدّهم وعزل والي مكّة وعيّن مكانه عمرو بن سعيد الأشدق المعروف بعدائه الشديد للهاشميين وضمّ إليه إمارة الحرمين مكّة والمدينة حيث كان قد عزل والي المدينة أيضاً ؛ لتهاونه في أمر الحسين ولمْ يعجّل في قتله قبل خروجه من المدينة .

وبالإضافة إلى ذلك كلّه بعث ثلاثين جاسوساً اندسوا مع الحجّاج ( لغرض قتل الحسين (عليه السّلام) ) أينما وجدوه ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة . ولو تأخّر الحسين (عليه السّلام) مع ذلك في مكّة لمدّة قليلة اُخرى لقُتل غيلة على يد اُولئك الجواسيس ولذهب دمه هدراً وعفي أثر الجريمة تماماً ولأُنكر قتله نهائياً وبتاتاً ولذهبت ثورته المقدّسة أدراج الرياح بدون أثر وقبل أنْ يقوم بتلك التضحيات التي هزّت ضمير العالم وزلزلت العرش تحت أقدام آل أبي سفيان .

إنّ الحسين (عليه السّلام) لمْ يخرج من المدينة أو مِنْ مكّة هرباً من القتل مِنْ حيث هو ؛ لأنّه كان يعلم أنّ مصيره القتل على كلّ حال خرج أو لمْ يخرج ولكن هرب من القتل قبل الأوان من القتل قبل أداء الواجب أو قل هرب مِنْ قتلة عقيمة وهرب أيضاً مِنْ شيء آخر وهو هتك حرمة البيت الحرام بسببه كما صرّح بذلك لبعض المعترضين عليه بالخروج فقال (عليه السّلام) : إنّي اُحبّ أنْ أُقتل خارج مكّة بباع خير مِنْ ذراع ؛ لئلاّ أكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت  .

وما انتهكت حرمة مكّة والبيت الحرام منذ حرّمهما الإسلام إلاّ على يد الاُمويِّين ؛ فهم أوّل مَنْ هتكوا الحرمات وسحقوا المقدّسات فكره الحسين (عليه السّلام) أنْ يكون دمه أوّل دم يُسفك في البيت وأوّل إنسان به تُهتك حرمة الحرم ؛ لذا خرج يوم التروية أي يوم الثامن مِنْ ذي الحجّة حيث لمْ يتمكّن مِنْ إتمام الحجّ فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ مِنْ إحرامه وجعلها عمرة مفردة .

قال الفرزدق الشاعر : حججت بأمّي سنة ستين للهجرة فبينا أنا أسوق بعيرها وقد دخلت الحرم وإذا بقطار خارج مِنْ مكّة فقلت : لمَنْ هذا القطار ؟ فقيل : للحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) . فدنوت منه وسلّمت عليه وقلت له : يابن رسول الله ما الذي أعجلك عن الحجّ ؟ فقال (عليه السّلام) : يا عبد الله لو لمْ أعجل لأخذت  . وقال لسائل آخر : إنّ بني اُميّة لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة مِنْ جوفي  .

والخلاصة : لقد أصاب (عليه السّلام) وعمل بمقتضى الحكمة في توجهه أولاً إلى مكّة ثمّ في خروجه منها بعد أنْ أحدق به خطر القتل ؛ فهو (عليه السّلام) بدخوله إلى مكّة وإقامته فيها طيلة أربعة أشهر مهّد لثورته المقدّسة تمهيداً إعلامياً ودعائياً كاملاً وبخروجه منها حفظ حياته للقيام بمهام الثورة مِنْ حيث العمل والتطبيق .

وأخيراً : فهذه حياة المصلحين الأحرار حياة تشريد ومطاردة وخوف واضطهاد ولله در الحاج مجيد الحلّي (رحمه الله) حيث قال :

أيـطيبُ عيش وابنُ فاطمة      نَهبتْ حشاهُ البيضُ والسمرُ

تاللهِ  لا أنـسـاهُ مضطهداً      حـتّى  يضمُّ عظاميَ القبرُ

ومـشرّداً ضاقَ الفضاءُ به      فـكـأنّ لا بـلد ولا مصرُ

مُنعَ  المناسك أنْ يؤدّيها      بمنى  فكانَ قضاءَها النحرُ

إنْ  فـاتهُ رميُ الجمارِ فقد     أذكـى لهيبَ فؤادهِ الجمرُ

يسعى لإخوانِ الصفاءِ وهم      فوقَ الصعيدِ نسائك جزروا

ويطوفُ حولَ جسومهم وبهِ      انتظمَ  المصابُ ودمعهُ نثرُ

أفـديـهِ مـستلماً بجبهتهِ      حـجراً  إذا ما فاتهُ الحجرُ

كيف وثق الحسين (عليه السّلام) بأهل الكوفة ولماذا خرج إليهم ؟

للشيخ صالح الكوّاز (قدس سره) :

إذا مـا سقى اللهُ البلادَ فلا سقى      مـعاهدَ  كـوفان بنوءِ المرازمِ

أتـت كـتبُهُمْ في طيهنَّ كتائب      و  مـا رقـمت إلاّ بسمِّ الأراقمِ

لخيرِ  إمام قامَ في الأمرِ فانبرتْ      لــهُ  نـكبات أقعدتْ كلَّ قائمِ

أنْ اقدم إلينا يابنَ أكرم مَنْ مشى      عـلى قدم مِنْ عُربِها و الأعاجمِ

فـكـمْ لكَ أنصاراً لدينا وشيعة      رجـالاً  كراماً فوق خيل كرائمِ

فـودّع مأمون الرسالةِ وامتطى      متونَ المراسيلِ الهجانِ الرواسمِ

و  جـشّـمها نجد العراقِ تحفّه      مصاليتُ حرب مِنْ ذؤابةِ هاشمِ

يتساءل الكثيرون ممّن يستمع إلى سيرة الحسين (عليه السّلام) ويقول : وا عجباً ! كيف وثق الحسين بأهل الكوفة واعتمد عليهم في ثورته ولبّى طلبهم وهو مِنْ أعلم الناس وأعرفهم بغدر أهل الكوفة وتقلّبهم وقد سبق له أنْ جرّبهم مع أبيه علي وأخيه الحسن ؟! هذا بالإضافة إلى نصح جملة مِنْ خلّص أصحابه وأقاربه له بعدم الركون إلى رسائلهم ورسلهم ؛ فإنّهم قوم غدر وخيانة !

ونقول لهؤلاء : إنّ ما فعله الحسين كان عين الصواب والصحيح في عرف الشرع والسياسة ؛ أمّا إنّه لمْ ينجح في عمله هذا فذلك بحث آخر سوف نتعرّض له في الفصول الآتية تحت عنوان : هل كانت ثورة الحسين (عليه السّلام) ناجحة أم لا ؟

أمّا توجّه الحسين (عليه السّلام) يومئذ وهو في تلك الظروف إلى العراق كان مطابقاً للشرع والعرف السياسي الصحيح .

نقول : كان مطابقاً للشرع ؛ لأنّ الشارع الإسلامي يركّز أحكامه على الناس حسب ظواهرهم ويعتبر الظواهر هي الحجّة والقياس ومناط الأحكام . أمّا البواطن والخفايا والظنون والاُمور الغيبية فلا اعتبار لها في التشريع الإسلامي وإنّما أمرها إلى الله والله وحده هو المحاسب عليها يوم الحساب .

قال سبحانه وتعالى : {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] قيل : نزلت في مسلم رفع السيف في بعض الغزوات على مشرك ليقتله فقال المشرك : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ولكنّ المسلم مع ذلك ضربه بالسيف وقتله فبلغ الحادث إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فدعا بالمسلم وقال له : لِمَ قتلته وأنت سمعته يشهد أنْ لا إله إلاّ الله ؟  . فقال المسلم : يا رسول الله إنّه قالها خوف السيف لا عن إيمان وعقيدة . فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله) : وما يدريك بذلك فهل فلقت قلبه وعرفت كذبه ؟!  . وعلى أثر هذه القضية نزلت الآية الكريمة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94].

ونصوص القرآن على حجيّة الظواهر في الإسلام كثيرة منها قوله تعالى : {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. وقوله تعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقوله تعالى : {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا } [الحجرات: 12].

وأمّا السنّة فأقوال وأفعال منها قوله (عليه السّلام) : أُمرت أنْ اُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فإذا قالوها حقنوا دمائهم وأموالهم وأعراضهم  . وأيضاً أحاديث اُخرى مضمونها : مَنْ تشهّد بشهادتنا وصلّى إلى قبلتنا . . . فله ما لنا وعليه ما علينا .

وأكثر قواعد واُصول الفقه الإسلامي مبنيّة على الظاهر القائم بالفعل مثل قاعدة : المتّهم بريء حتّى تثبت إدانته أو قاعدة : لا يجوز القصاص قبل الجناية وقاعدة : اليد وقاعدة الطهارة وقاعدة الحليّة وقاعدة الإباحة وغيرها . . .

فالخلاصة : إنّ الإسلام دين يعامل الناس على الظاهر منهم لا على ما يمكن أنْ سيبدو .

فإذا تحقق هذا , نقول : إنّ أهل الكوفة أظهروا الولاء والطاعة للحسين (عليه السّلام) بشكل من الإخلاص والإلحاح والجديّة لمْ يسبق له مثيل وكان إظهارهم لهذا الولاء منذ عصر معاوية وفي حياة الحسن (عليه السّلام) وبعده وتضاعف طلبهم له عند وفاة معاوية .

ولمّا بلغهم نبأ وفاة معاوية وامتناع الحسين (عليه السّلام) من البيعة ليزيد وجّهوا رسلهم ورسائلهم ووفودهم إلى الحسين (عليه السّلام) وهو بعدُ في المدينة ولمّا استقر الحسين في مكّة انهالت عليه طلباتهم وكتبهم كالسيل المتدفّق حتّى تسلّم الحسين (عليه السّلام) منهم في يوم واحد ستمئة كتاب وبلغ مجموع كتبهم إلى الحسين (عليه السّلام) خلال مدّة إقامته (عليه السّلام) في مكّة إلى اثني عشر ألف كتاب وكلّ كتاب موقّع مِنْ قبل رجلين والثلاث والأربع وكلّها تكرّر عبارة : أقدم يابن رسول الله ليس لنا إمام غيرك ؛ فلقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة .

وكتب له بعضهم قائلاً : إنْ لمْ تجب دعوتنا وتلبّي طلبنا وتتوجّه إلينا خاصمناك بين يدي الله يوم القيامة . فأيّ حجّة أعظم وألزم مِنْ ذلك ؟! وأيّ عذر للحسين (عليه السّلام) أمام الله وأمام التاريخ إذا لمْ يلبّي دعوتهم بعد ذلك كلّه ؟! وهل كان يبرّر له ذلك أنْ يقول : كنت أظن أو أتوقّع منهم الغدر والخلاف ؟!

وهذا الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يقول في دستوره الخالد إلى واليه على مصر مالك الأشتر : إِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ  .

ومِنْ قبله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فكم كان يرتّب آثار المسلمين وأحكامهم على المنافقين الذين يعلم علم اليقين أنّهم كاذبون في كلّ ما يظهرون ولكنّ الإسلام يعامل الناس على الظاهر حتّى يتبيّن الخلاف والعكس .

والحسين (عليه السّلام) سار حسب ما يقتضيه الشرع ولبّى دعوة أهل الكوفة لمّا أتمّوا الحجّة عليه بطلباتهم المتكرّرة ودعواتهم الحارّة المتواترة . وقد اُضيف إلى تلك الحجّة عليه حجّة اُخرى ألا وهي رسائل سفيره ونائبه الخاص مسلم بن عقيل الذي بعثه إلى الكوفة ليستكشف حقيقة الأمر أكثر فأكثر ، ويتعرّف على واقع تلك الدعوات عن كثب فكان نتيجة ما قام به مسلم بن عقيل طيلة أكثر مِنْ شهرين في الكوفة أنْ كتب إلى الحسين (عليه السّلام) مؤكداً له استعداد أهل الكوفة للتضحية بين يديه بالنفس والنفيس وبكل غال وعزيز ويستحثّه على القدوم إلى الكوفة فوراً .

وكان ممّا قاله في بعض كتبه إلى الحسين (عليه السّلام) : أمّا بعد فأقدم يابن رسول الله ؛ فإنّ الرائد لا يكذب أهله . إنّ الناس ينتظرونك وإنّ الكوفة بأسرها معك . فهل ترى أيّها القارئ الكريم أيّ عذر للحسين بعد كلّ هذا إذا تخلف عن إجابتهم وترك التوجه إليهم ؟!

وقد صرّح هو (عليه السّلام) بالمسؤوليّة التي توجّهت إليه تجاه أهل الكوفة لابن عمّه عبد الله بن عباس لمّا ألحّ عليه بترك المسير إلى العراق فقال الحسين (عليه السّلام) : يابن عمّ لقد كثرت عليّ كتبهم وتوافرت عليّ رسلهم ووجبت عليّ واجباتهم  .

وأمّا من الناحية السياسية والحكمة فإنّ الحسين (عليه السّلام) ثائر في وجه دولة قويّة وحكومة مسيطرة وطبعاًً لا بدّ له مِنْ قوّة كبيرة يستند إليها في هكذا ثورة والعراق يومئذ أنسب قوّة وأكبر سند لمثل تلك الثورة التي عزم الحسين على القيام بها ؛ وذلك نظراً إلى مركز العراق الجغرافي وموقعه الاستراتيجي ومناخه الاقتصادي وغيرها من الملائمات التي تميّزه عن باقي الأقطار الاُخرى ؛ ومن ثمّ اختارها أمير المؤمنين (عليه السّلام) مِنْ قبل مركزاً لقيادته وعاصمة لخلافته ومنطلقاً لحركته الإصلاحية الشاقّة الواسعة بعد عهد عثمان الذي أغرق المجتمع الإسلامي بالمفاسد والانحرافات . وقد خرج منها علي (عليه السّلام) بمئة ألف مقاتل أو يزيدون إلى حرب صفين .

والخلاصة هي أنّ الكوفة يومئذ أفضل وأنسب منطلق لكلّ حركة ثورية لولا عيب واحد فيها فوّت كلّ مزاياها الثورية ألا وهو حالة التقلّب والتلوّن التي امتاز بها أهل العراق عامّة وأهل الكوفة خاصة .

وقد نقل عن لسان كاهن اليمن في كلمته التي حدّد فيها صفات الشعوب والأقطار فقال : وأمّا العراق فشقاق ونفاق وثياب رقاق ودم مهراق .

وجاء في بعض وصايا معاوية لابنه يزيد قال : وانظر أهل العراق فإنْ طلبوا منك أنْ تعزل عنهم في كلّ يوم والياً وتنصب لهم آخر فافعل ؛ لأنّ ذلك أيسر مِنْ أنْ يخرجوا عليك .

ويعزو الخبراء هذه الحالة فيهم إلى إحساسهم المرهف وذكائهم الفطري المفرط فهم دائماً وأبداً كانوا مصدر تعب وإزعاج للولاة والحكّام والأمراء لا يستقيمون إلاّ تحت وطأة العنف والإرهاب والظلم . فهم كما قيل عنهم : ( عبيد العصا ) على المدى البعيد وطلاّب الحقّ والعدل على المدى القريب سريعو الإقبال وسريعو الإدبار .

وعلى كلّ حال نتساءل بعد كلّ هذا ونقول : لو لمْ يتوجّه الحسين (عليه السّلام) إلى العراق رغم دعوتهم الملحّة له فإلى أين كان يتوجّه بعد أنْ صارت حياته في مكّة معرضة للخطر في أي لحظة ولمْ يتلقَ دعوة مِنْ أيّ مكان آخر غير العراق ؟ فهل كان يبقى في مكّة حتّى يُقبض عليه ويسلّم أسيراً إلى يزيد أو يغتال ويقتل غدراً ويذهب دمه هدراً ؟

نعم لك أنْ تقول لماذا لمْ يعدل عن الكوفة عندما ظهر له غدرهم به وانقلابهم عليه ؟ فنقول : أجل لقد حاول العدول عنها بل عدل عن التوجّه إليها فعلاً لمّا التقى بطلائع جيش العدو بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي وأيقن بأنّه ليس له في الكوفة مكان ولا أعوان ولكنّ الحرّ منعه مِنْ ذلك وصمّم على أنْ يأخذه إلى عبيد الله بن زياد أسيراً . وبعد محاولات عنيفة وتمانع من الطرفين اتّفق الحسين (عليه السّلام) معهم على أنْ يسلك طريقاً لا يردّه إلى مكّة والمدينة ولا يدخله إلى الكوفة ؛ ليسير على وجهه في أرض الله تعالى إلى حيث ينتهي به السير .

وهكذا كان وأخذ الحسين (عليه السّلام) طريقاً وسطاً وصار يتياسر عن الكوفة إلى الغرب متّجهاً نحو المدائن ؛ بقصد أنْ يخرج مِنْ منطقة نفوذ ابن زياد الذي كان أخبث وأشقى رجل في عمّال يزيد وأشدّهم عداءً وبغضاً لآل النبي (صلّى الله عليه وآله) .

فسار الحسين (عليه السّلام) في الاتّجاه الجديد والحرّ وأصحابه يسايرونه على البعد حتّى وصل أرض كربلاء وهي أرض على شاطئ الفرات كانت تسمّى نينوى والغاضريات ووادي الطفوف فلمّا وصل ركب الحسين (عليه السّلام) إليها وصل أيضاً رسول مِن ابن زياد بكتاب منه إلى الحرّ الرياحي يذكر فيه اطّلاعه على ما حدث بينه وبين الحسين (عليه السّلام) ويأمره فيه أنْ يأتي إليه بالحسين (عليه السّلام) سلماً مستسلماً وإلاّ فليحبسه عن الرجوع أو المسير وليجعجع به في المكان الذي يصل فيه الكتاب إليه ويخبره بأنّ حامل الكتاب عين عليه .

فدنا الحرّ عند ذلك من الحسين (عليه السّلام) وأطلعه على الكتاب وقال : لا يسعني بعد هذا أنْ أدعك مستمراً في سيرك فإمّا أنْ تنزل هنا أو نقاتلك فعرض عليه بعض أصحابه القتال مع القوم فقال (عليه السّلام) : إنّي أكره أنْ أبدأهم بقتال  .

ثمّ نزل الحسين وأصحابه (عليهم السّلام) في جانب ونزل الحرّ في ألف فارس في جانب آخر مِنْ أرض كربلاء وذلك في يوم الثاني مِنْ شهر المحرّم الحرام سنة (61) للهجرة ثمّ كتب الحرّ إلى ابن زياد كتاباً يخبره بنزول الحسين (عليه السّلام) أرض كربلاء فكتب ابن زياد إلى الحسين (عليه السّلام) كتاباً يقول فيه : أمّا بعد يا حسين فقد بلغني نزولك أرض كربلاء وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير حتّى ألحقك باللطيف الخبير أو تنزل على حكمي وحكم يزيد .

فلمّا وصل كتابه إلى الحسين (عليه السّلام) وقرأه رماه مِنْ يده وقال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق  . فقال له الرسول : الجواب أبا عبد الله . فقال (عليه السّلام) : ليس له عندي جواب ؛ فقد حقّت عليه كلمة العذاب  .

فعاد الرسول إلى ابن زياد فأخبره فغضب ابن زياد وجمع الناس في الجامع الأعظم وخطبهم وأعلن النفير العام وقال : برئت الذمّة ممّن وجدناه بعد ثلاثة أيّام لمْ يخرج إلى حرب الحسين بن علي .

ويروى أنّه جيء إليه بعد الثلاث برجل فقال : لِمَ لمْ تخرج إلى حرب الحسين ؟ فقال : أنا رجل غريب مِنْ أهل الشام جئت إلى الكوفة في حاجة وغداً خارج عنها . فقال ابن زياد : وأنت صادق في قولك ولكن في قتلك تأديب للآخرين . ثمّ أمر به فقتلوه .

وهكذا ساق الناس إلى حرب الحسين (عليه السّلام) على الصعب والذلول حتّى اجتمع لحرب الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ثلاثون ألف مقاتل أو يزيدون كلّهم مِنْ أهل الكوفة ليس فيهم شامي ولا حجازي .

وحيث إنّ أهل العراق لا يوثق بهم ؛ لذا أخذ يزيد الاحتياط لنفسه حذراً مِن انقلاب أهل الكوفة على ابن زياد ؛ فجهّز جيشاً مِنْ ستين ألف رجل وبعثه إلى العراق ونزل بالقرب مِنْ كربلاء وأرسل قائده إلى عمر بن سعد يعرض عليه استعداده للاشتراك معهم في حرب الحسين (عليه السّلام) متى أراد .

وفي ذلك يقول بعض الاُدباء :

مـلأ القفارَ على ابن فاطمة      جـنداً  وملؤ صدورِهمْ ذحلُ

جـاءت وقائدُها العمى وإلى      حرب الحسينِ يسوقها الجهلُ

بـجـحافل  بـالطفِّ أوّلُها      وأخـيـرُهـا بالشام متصلُ

 




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.