أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-4-2019
11088
التاريخ: 8-04-2015
3565
التاريخ: 8-04-2015
3735
التاريخ: 13-4-2019
2057
|
أجبنا في الفصول السابقة قدر الإمكان عن أهم النقاط التي يقع التساؤل حولها في ثورة الحسين (عليه السّلام) . يبقى علينا أنْ نعرف : ما هي أهم العبر والدروس التي يمكن أن نستخلصها من تلك الحادثة الفريدة في بابها المليئة بالعظات ؟ والتي منها :
أولاً : صدق القول المأثور : ما ضاع حقّ وراؤه مطالب . يعني أنّ الحقّ أيّ حقّ لا يضيع بالاغتصاب ولا يذهب إلى الأبد بالعدوان إذا كان وراء ذلك الحقّ صوت يرتفع بالمطالبة به وإن كان الصوت ضعيفاً ودعوة مستمرة لاسترجاعه ولو كانت الدعوة فرديّة . المهمّ عدم السكوت عنه واليأس من حصوله هذه هي سنّة الحياة وقانون الطبيعة في كلّ زمان .
وكمثال على ذلك نذكر حقّ أهل البيت (عليهم السّلام) عامّة وحقّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) خاصّة الذي اغتصب بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وأُنكر إنكاراً كليّاً ولكن ما استطاع الغاصبون لحقّه محو ذلك الحقّ واقتلاع الإيمان به من الرأي العام والضمير الإنساني .
فبعد مرور خمس وعشرين عاماً على اغتصاب حقّه (عليه السّلام) قامت ثورة شعبية ضدّ الغاصبين واكتسحتهم عن طريق الإمام (عليه السّلام) وحمله الثائرون على الأكتاف حتّى أجلسوه في مجلسه الشرعي وأحلوه مقامه الطبيعي وسلّموه حقّه المغتصب .
ومن الجدير بالملاحظة : أنّ الاُمويِّين حاولوا بكلّ الوسائل إخراج علي (عليه السّلام) من قلوب الناس وأفكارهم وتحويله عن قمّة المجد والعظمة والمثاليّة ؛ بإعلان سبّه وشتمه ولعنه على المنابر والمنع من ذكر فضائله ومكارم أخلاقه ثمّ نشر الأكاذيب في الطعن به وتشويه سمعته وبمطاردة شيعته ومواليه ومحبيه بالإرهاب والقتل والسجن والتشريد والحرمان مدّة نصف قرن أو أكثر من عهدهم المشؤوم .
ولكن ما استطاعوا وباؤوا بالفشل الذريع وأنتجت محاولاتهم تلك عكس مطلوبهم ؛ فما أن زال كابوس إرهابهم عن الناس حتّى ظهر علي (عليه السّلام) على شاشة القلوب والأفكار كأعظم إنسان مثالي وأظهر شخصيّة متكاملة بين مجموعة الأنبياء والصدّيقين والأوصياء والقدّيسين من الأولين والآخرين ولقد أجمعت كلمة البشريّة جمعاء على حبّه وتقديسه والاعتراف بفضله وفضائله .
ويذكر بهذه المناسبة أنّه سُئل أحد الخبراء فقيل له : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما أقول في رجل كتم فضائله الأعداء ؛ بغضاً وحسداً وكتم فضائله الأولياء ؛ خوفاً وحذراً وقد ظهر من بين ذين من فضائله ما ملأ الخافقين .
وقد قامت باسمه وعلى مبدأ الولاية له دول كثيرة في التاريخ منها مثلاً : الدولة الحمدانية والبويهية والفاطمية والصفوية والقاجارية وغيرها حتّى جعلت من اسمه (عليه السّلام) شعاراً لها ترفعه على المآذن في كلّ يوم وليلة في خلال الأذان والإقامة ؛ وذلك بالشهادة له بالولاية والإمامة بعد الشهادتين الواجبتين . ثمّ تستمر هذه الشهادة الثالثة في الأذان كرمز للتشيّع في العالم الشيعي إلى يومنا هذا .
وفي ذات الحسين (عليه السّلام) دليل واضح على صدق مدلول هذه الكلمة : ما ضاع حقّ وراؤه مطالب . أجل ما ضاع ثأر الحسين (عليه السّلام) ولا ذهبت تلك الدماء الزكية هدراً ؛ فلقد ظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي في الكوفة البلد الذي قُتل الحسين (عليه السّلام) وأخذ يتتبّع الذين خرجوا إلى حرب الحسين (عليه السّلام) أين ما كانوا حتّى قتل منهم حوالي ثمانية عشر ألفاً من أصل ثلاثين ألف رجل الذين قاتلوا الحسين (عليه السّلام) بكربلاء وفيهم : عبيد الله بن زياد أمير الكوفة آنذاك وعمر بن سعد قائد الجيش الذي خرج إلى حرب الحسين (عليه السّلام) والشمر بن ذي الجوشن وخولى بن يزيد وحرملة بن كاهل وغيرهم من قادة ذاك الجيش ونكّل بهم أشدّ تنكيل وبعث برؤوس بعضهم إلى المدينة إلى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ومحمد بن الحنفيّة .
وأمّا الذين أفلتوا من يد المختار وهربوا من الكوفة استولى المختار على أموالهم وممتلكاتهم وقسّمها بين الفقراء والمنكوبين من بني هاشم وشيعتهم . وهؤلاء الذين هربوا أيضاً لم يفلتوا من العقاب والانتقام ؛ فقد سلّط عليهم أينما حلّوا مَنْ قتلهم وأبادهم حتّى لم يمضِ على قتل الحسين (عليه السّلام) سوى بضع سنوات إلاّ وقد فنوا عن آخرهم وقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
يقول العقاد : وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء وإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب . كلّ ذلك بفضل المطالبة المستمرة التي كانت قائمة من قبل أهل البيت وشيعتهم بشتّى الصور والوسائل .
ثانياً : ومن تلك العبر والدروس التي تستخلص من ثورة الحسين (عليه السّلام) أيضاً صدق القول المأثور الآخر : الظلم لا يدوم . وإن تراه أحياناً يستمر عشرات الأعوام ؛ فإنّها قليلة وضئيلة بالنسبة إلى عمر الزمن . ولو قدّر لدولة ظالمة أن تدوم وتستقر على الظلم والعدوان لدامت الدولة السفيانيّة التي أسسها معاوية بن أبي سفيان في الشام مئآت من الأعوام ولكنّها زالت بعد هلاك مؤسسها بأربع سنوات فقط وقامت على أنقاضها دولة مروانية بعد فترة من الفوضى والانحلال .
والدولة المروانية تختلف عن سابقتها الدولة السفيانية وإنّ الجهود التي بذلها معاوية بن أبي سفيان كانت تستهدف بقاء الملك في أسرته آل أبي سفيان عبر مئآت السنين ولكن ربَّ ساع لقاعد .
ولكي تعرف مدى قوة ذلك الملك الذي أقامه معاوية لاُسرته وبنيه هاك استمع إلى فقرات من وصيته ساعة موته إلى ولده وخليفته يزيد (لعنه الله) : . . . وأعلم يا بني إنّي قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الاُمور وذلّلت لك الصعاب وأخضعت لك رقاب العرب وجعلت الملك وما فيه طعمة لك وإنّي لا أتخوف عليك فيما استتب لك إلاّ من أربعة . . .
والخلاصة التي لا خلاف حولها هي : أنّ الدولة والحكومة التي خلّفها معاوية بن أبي سفيان كانت حصينة وقويّة إلى أقصى ما يمكن ؛ فقد توفّرت فيها كلّ عناصر البقاء والدوام ما عدا عنصر واحد فقط وهو العدل والحقّ .
وهذا العنصر هو الأصل والأساس لدوام كلّ شيء في هذه الحياة خاصّة الدولة ( العدل أساس الملك الدائم ) ؛ لذا فلقد انهارت تلك الدولة بأسرع وقت كما سبق وذلك عندما تنازل معاوية الثاني ابن يزيد عن العرش دون أن ينصّب أحداً مكانه ومات بعد ثلاثة أيام .
وممّا يذكر أنّه رقي المنبر قبل إعلان تنازله عن العرش وألقى خطبة بليغة تعرّض فيها لمظالم جدّه معاوية بن أبي سفيان ولجرائم أبيه يزيد بن معاوية ومآثم آل أبي سفيان وأكّد أنّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله) أجدر وأحقّ بالخلافة والسلطان .
وممّا قاله في تلك الخطبة : أيّها الناس إنّا بُلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا ألا وأنّ جدّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر مَنْ كان أولى به منه في القرابة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحقّ في الإسلام ؛ سابق المسلمين وأوّل المؤمنين وابن عمّ رسول رب العالمين وأبا بقية خاتم المرسلين ؛ فركب منكم ما تعلمون وركبتم منه ما لا تنكرون حتّى أتته منيته وصار رهناً بعمله .
ثمّ قلّد أبي وكان غير خليق للخير فركب هواه واستحسن خطأه وعظّم رجاءه فأخلفه الأمل وقصر عنه الأجل ؛ فقلّت منعته وانقطعت مدّته وصار في حفرته رهناً بذنبه وأسيراً بجرمه .
ثمّ بكى وقال : إنّ أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه وقد قتل عترة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأباح حرمة المدينة وأحرق الكعبة المشرّفة وما أنا المتقلّد اُموركم ولا المتحمل تبعاتكم فشأنكم أمركم ؛ فوالله لئن كانت الدنيا مغنماً فلقد نلنا منها حظّاً وإن تكن شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها . ثمّ نزل من على المنبر ودخل داره ومات بعد ثلاثة أيّام (رحمة الله عليه) .
وأخيراً وليس آخراً : فإنّ العبر والدروس التي نستفيدها بكلّ وضوح من شهادة الحسين (عليه السّلام) كثيرة ونضيف إلى ما قدّمنا منها : ما كان لله ينمو .
هذا القول المأثور والحكمة البالغة تتجسّد بصورة واضحة في ثورة الحسين (عليه السّلام) فإنّها رغم بساطتها وصغر حجمها وقصر مدّتها لكنّها قد اتّسعت أصداؤها وانعكاساتها ونمت ردود فعلها على مرور الأيام حتّى أصبحت تعتبر في طليعة الثورات الكبرى التي حولّت سير التاريخ وأثّرت في تحرر المجتمع وحفظ كيان الاُمّة أثراً كبيراً بل ولقد صار الخبراء والباحثون يؤمنون بأنّها ـ أيّ ثورة الحسين (عليه السّلام) ـ هي الثورة المثاليّة في باب الثورات الإنسانية والإصلاحية والشعبيّة مطلقاً وأصبحت ثارات الحسين (عليه السّلام) نداء كلّ ثورة ودولة تريد أن تفتح لها طريقاً إلى إسماع الجماهير وقلوبهم .
وفعلاً لقد تأثّر بها أكثر الثائرين في العالم بعد الحسين (عليه السّلام) وجعلوا من ثورته وثباته وصلابة عزيمته وصبره وشجاعته جعلوا من كلّ تلك الاُمور قدوة مثلى لثوراتهم .
يُقال عن مصعب بن الزبير مثلاً الذي ثار على عبد الملك بن مروان وبقي وحده في المعركة : عُرض عليه الأمان والسلام من قبل عبد الملك فرفض وهو يقول : ما ترك الحسين (عليه السّلام) لابن حرّة عذراً . ثمّ تقدّم إلى القتال وحده وقاتل حتّى قُتل .
وكان يتمثّل بقول الشاعر :
وإنّ الاُلى بالطفِّ من آل هاشم تأسّوا فسنّـوا للكـرامِ التأسّيـا
وكان من بعض أصدائها القريبة وردود فعلها المباشر ثورة أهل المدينة على سلطان يزيد وثورة عبد الله بن الزبير في مكّة المكرّمة وثورة المختار الثقفي في الكوفة ثمّ ثورة مصعب بن الزبير في البصرة وثورة زيد بن علي وابنه يحيى بن زيد في كلّ من الكوفة وخراسان .
وأمّا انعكاساتها البعيدة فكثيرة أيضاً وأهمها ثورة السفّاح التي قضت على الدولة الاُمويّة نهائياً وجاءت بالدولة العباسيّة إلى الوجود . أجل إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) رغم بساطتها كما ذكرنا فلقد باركها الله وبارك آثارها وثمراتها وتعلّقت إرادته سبحانه بأن تبقى ذكراها خالدة متجدّدة متوسّعة عاماً بعد عام .
وها هي قد مضى عليها ما يُقارب الألف وأربعمئة سنة وذكراها تتجدّد بتزايد وتتوسّع في عدّة أقطار إسلاميّة وتتعطّل فيها الدوائر الرسميّة والأعمال والأسواق يوم ذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) وتحتفل بإحياء هذه الذكرى شعوب كثيرة وقوميّات شتى وعناصر متعدّدة من البشر ؛ مع العلم بأنّ هذا كلّه على الرغم من العقبات التي وضعها ويضعها المخالفون والمعارضون لتلك الشعائر في طريق إقامتها ورغم المحاولات المستمرة التي يبذلونها للقضاء عليها قضاء كلياً ولكن : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
نعم إنّما هي إرادة الله سبحانه التي تبنّت ذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) وقدرت لها البقاء ؛ لأنّ في بقائها حجّة بالغة ودعوة قائمة إلى طريق الخير والسعادة والشرف والكرامة تلك الحجّة وذلك الطريق المتمثلين في العمل الذي قام به الحسين (عليه السّلام) ؛ إيمان بالله وحب للإنسانية وتضحية في الدفاع عنها حتّى النصر أو الموت .
والذي نقصده من معنى البساطة في ثورة الحسين (عليه السّلام) هي البساطة من حيث الزمن بلحاظ أنّها لم تستغرق سوى بضعة أيّام منذ أن صمّم الحسين (عليه السّلام) على ملاقاة القوم وفشلت معهم كلّ الجهود السلمية التي بذلها لحقن الدماء ولأجل أن يفسحوا له المجال ليسير في أرض الله العريضة إلى حيث ينتهي به السير ويخرج من منطقة نفوذ ابن زياد أو ربما يجتمع بيزيد بن معاوية للتفاوض معه حول الخلافة ومصلحة الاُمّة .
وقد جرت منه لهذا الغرض عدّة اجتماعات بينه وبين قائد الجيش عمر بن سعد وقد كتب عمر بن سعد باقتراحات الحسين (عليه السّلام) إلى عبيد الله بن زياد والي العراق وكاد ابن زياد أن يلين ويوافق على اقتراحات الحسين (عليه السّلام) ولكن الشمر بن ذي الجوشن وآخرين من بطانته الذين كان لهم تأثيراً كبيراً عليه حوّلوا رأيه وحسّنوا له الاستمرار على حصار الحسين (عليه السّلام) حتّى يستسلم له أو يقاتله .
وكانت النهاية التي انهارت فيها كافة المحاولات السلمية هي يوم التاسع من المحرّم لمّا ورد الشمر إلى كربلاء بآخر كتاب من ابن زياد إلى عمر بن سعد يأمره فيه بكلّ تأكيد بأن يغلق باب المحادثات مع الحسين (عليه السّلام) ويعرض عليه أحد أمرين فقط : فإمّا الاستسلام وإما الحرب ثمّ يأمره أيضاً أن لا يطيل المدّة أكثر ممّا طالت وأن يعجّل في أمر الحسين (عليه السّلام) مهما أمكن ؛ حيث علم ابن زياد أنّ الزمن ليس في جانب مصلحته .
وكان الشمر بن ذي الجوشن يحمل أمراً سرّياً خاصّاً من ابن زياد : بأنّه إن امتنع عمر بن سعد من تنفيذ الأوامر الصادرة إليه ضدّ الحسين (عليه السّلام) فليقتله ويتولّى هو ـ أي الشمر ـ قيادة الجيش .
ولكن عمر بن سعد لمّا قرأ كتاب عبيد الله بن زياد التفت إلى الشمر وقال له : لعنك الله يا شمر ولعن ما قدمت به ! والله إنّي لأظن أنّك أفسدت علينا ما كنّا رجونا صلاحه ولن يستسلم الحسين (عليه السّلام) أبداً ؛ إنّ نفس أبيه لبين جنبيه .
فقال له الشمر : أخبرني عمّا أنت فاعله ؟ أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوّه وإلاّ فاعتزل وخلّي ذلك بيني وبين الجيش ؟ فقال عمر بن سعد : لا ولا كرامة لك ! أنا أتولى ذلك فدونك أنت فكن على الرجّالة .
ثمّ نهض لحرب الحسين (عليه السّلام) وزحف بالجيش نحو معسكر الحسين (عليه السّلام) عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرّم سنة إحدى وستين من الهجرة ولكنّ الحسين (عليه السّلام) استمهلهم سواد تلك الليلة وانتهت بمصرع الحسين (عليه السّلام) قبل غروبها بقليل من نفس ذلك اليوم .
فالثورة الحسينية من بدايتها إلى نهايتها لم تستغرق سوى بضعة أيّام فقط هذا من حيث المدّة والزمن وأمّا من حيث المكان فإنّ حدودها لم تتجاوز منطقة كربلاء ذلك الوادي على شاطئ الفرات المحاط بسلسلة من التلال المتصلة على امتداد الصحراء وعُرفت قديماً باسم (كور بابل) ثمّ صحّفت إلى كربلاء . وبالقرب منها منطقة تسمّى (نينوى) وقيل : إنّها كربلاء بالذات . ومن أسمائها أيضاً وادي الطفوف والغاضريات . ولم يكن لها شيء تذكر به من الوقائع أو التربة أو الموقع الجغرافي قبل وقعة عاشوراء عليها .
وأمّا من حيث عدد الثائرين فيها فإنّه لم يتجاوز الثلاثمئة والثلاثة عشر على أكثر الفروض ؛ بين رجل وصبيّ وطفل وشيخ وكهل . فهي إذاً ثورة بسيطة كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً ولكنّها أعظم ثورة في العالم كلّه من حيث المفهوم والمضمون ومن حيث التجرّد والواقعية والإخلاص لله سبحانه وتعالى ومن حيث العطاء والفداء .
فبين عشية وضحاها وفي خلال نهار واحد فقط أُبيدت واستُؤصلت بيوت وأُسر من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو كادت أن تُستأصل .
قال بعض الشعراء :
عينُ جودي بعبرة و عويلِ واندبي إن ندبتِ آلَ الرسولِ
سـبعة كـلّهمْ لصلبِ عليّ قـد أُصـيبوا وتسعة لعقيلِ
أجل لقد استُؤصل ولد الحسين (عليه السّلام) ولم ينجُ منهم سوى زين العابدين (عليه السّلام) وذلك بأعجوبة وأُبيد ولد الحسن (عليه السّلام) ولم يسلم منهم سوى طفلين صبيين والحسن المثنى الذي سقط جريحاً فحمله أخواله بنو فزارة وتشفّعوا فيه عند عمر بن سعد وابن زياد ثمّ حملوه إلى الكوفة وعالجوا جراحه حتّى شفي وعاد إلى المدينة . ولم يبقَ من أولاد عقيل بن أبي طالب وأولاد جعفر بن أبي طالب سوى الأحفاد الصغار وحتى هؤلاء قُتل بعضهم سحقاً تحت حوافر الخيول لمّا هجم القوم على الخيام .
قالوا خرج صبيّ يدرج من مخيّم الحسين (عليه السّلام) وفي أذنيه درتان تتذبذبان على خدّيه وهو مدهوش مذعور من هجوم الأعداء على الخيام يتلفت يميناً ويساراً واُمّه خلفه تلاحظه وتحرسه فدنا منه رجل من القوم على فرس بيده عمود من حديد فضرب الصبيّ على رأسه وأرداه إلى الأرض قتيلاً .
وقد وجد عدّة أطفال من آل الحسين (عليهم السّلام) يوم الحادي عشر من المحرّم وهم موتى من العطش على وجه الرمال بعد أن فرّوا من المخيم عند هجوم الخيل يوم عاشوراء . ولمّا صرع وهب بن حباب الكلبي يوم عاشوراء خرجت اُمّه من الخيمة حتّى جلست عند مصرع ولدها تندبه وتبكيه فقال الشمر بن ذي الجوشن لغلامه : ويلك ! اضرب رأسها . فخدش الغلام رأسها وقتلها بمكانها .
هذا بعض ما يمكن تصويره وبيانه من مآسي تلك الثورة البسيطة المتواضعة والتي ظهرت بعد انتهائها وبعد مرور بعض الزمن عليها كأعظم ثورة في الدنيا من حيث المثاليّة والقدسيّة وذلك رغم محاولات الاُمويِّين وغيرهم لإعفاء آثارها وطمس معالمها وجعلها كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] .
ونعود ثانية إلى القول المأثور : ما كان لله ينمو .
أجل إنّ الشواهد على صدق هذا القول كثيرة في التاريخ بل وفي حياتنا اليوميّة أيضاً ففي التاريخ أنّ موسى بن عمران (عليه السّلام) مثلاً أعان ابنتي شعيب وسقى لهما من البئر التي ازدحم عليها الرجال وكان عمله هذا خالصاً لوجه الله تعالى ما كان ينتظر بل لا يتصوّر من ورائه ربحاً أو نفعاً في الدنيا فبارك الله له في ذلك العمل البسيط فوصل بسببه إلى شعيب نبي الله على تلك القرية ونال الأمن والزوجة والمال في كنفه وبالتالي اختاره الله رسولاً إلى فرعون وملئه .
وهذا مثل آخر : هو يوسف الصديق (عليه السّلام) اتّقى الله واستعصم وتورّع عن الخيانة وكافح شهوته ساعة لوجه الله تعالى لا خوفاً من الناس وطمعاً فيهم فبارك الله ذلك العمل والكفاح ضدّ نفسه الأمّارة فأوصله إلى ملك مصر مع النبوّة وعظيم الزلفى .
ومن هذه الأمثلة : ذلك الشاب البار بوالديه في عصر موسى بن عمران (عليه السّلام) وكانت له بقرة وقع حادث القتل في بني إسرائيل ولم يعرف القاتل حتّى اشتروا منه تلك البقرة بملء جلدها ذهباً وذبحوها وضربوا المقتول ببعض أعضائها فأحياه الله تعالى وأخبر بقاتله وبذلك كشفت عنهم تلك الفتنة التي كادت أن تقع فيهم ويذهب ضحيتها خلق كثير منهم . وإلى أمثالها من الشواهد الكثيرة إلاّ أنّ موقف الحسين (عليه السّلام) في كربلاء أوضحها دلالة وأشدّها تأكيداً على صدق هذا القول المأثور : ما كان لله ينمو .
لقد وقف (عليه السّلام) ومعه نفر قليل من الأعوان بدون عدّة ولا مدد محصورين ممنوعين عن الماء ووراؤه جمع من النساء والأطفال وأمامه جيش من الأعداء قد تجرّدوا من كلّ صفة إنسانية وفقدوا الضمير والوجدان وبالإضافة إلى أن ذلك الجيش كان يفوق عدد أصحابه بمئات المرّات بحيث كان لا يقلّ عن الثلاثين ألفاً .
يقول المرحوم عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء) يصف أعوان يزيد : وإنّما بقيت ليزيد شرذمة على غراره أصدق ما توصف به أنّها شرذمة جلادين يقتلون مَن اُمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحين .
ويقول أيضاً : فكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبير وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس ونعني به مثال المسخاء المشوهين الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيما مَنْ كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة .
أقول : لقد وقف الحسين (عليه السّلام) وأصحابه يوم عاشوراء ذلك الموقف الحرج الشاق الصعب مع أنّه كان في وسع كلّ واحد منهم أن يتجنّب القتل بكلمة يقولها أو بخطوة يخطوها ولكنّهم جميعاً آثروا الموت عطاشى جياعاً مناضلين من دون أن يكون لهم أيّ أمل في النصر العاجل والانتصار العسكري ولكن وقفوا لوجه الله تعالى مخلصين له بالجهاد في سبيل دينه وشريعته مضحّين بأنفسهم في سبيله .
وقـفوا والـموتَ فـي قارعة لـو بـها أُرسـيَ ثهلانُ لمالا
فـأبـوا إلاّ اتـصـالاً بالظُّبا وعن الضيمِ من الروحِ انفصالا
أرخـصـوها لـلعوالي مهجاً قــد شـراها منهمُ الله فغالا
ونختم هذا الفصل بكلمة للعقّاد [حيث قال] : وباء الحسين في ذلك الموقف بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثن منهم عربي ولا عجمي ولا قديم ولا حديث .
وجميل جدّاً ما شبّه به بعض الكتّاب موقف الحسين (عليه السّلام) وموقف خصومه يوم كربلاء فقال ما مضمونه : إنّ ساحة الصراع في كربلاء كانت أشبه بمعرض عالمي أُقيم على تلك البقعة وكان لذلك المعرض جناحان فقط ؛ جناح الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وجناح أعدائه ومقاتليه . وقد عرض كلّ من الجانبين في جناحه الخاص نماذج وصوراً عن هذا الجنس البشري في طرفي صعوده وسقوطه ؛ فعرض الحسين (عليه السّلام) وأصحابه للعالم نماذج مثاليّة خالدة عن أقصى مراحل التكامل البشري والكمال الإنساني من مصنع الإسلام وصناعة القرآن . كما عرض أعداؤه في الجانب الآخر نماذج خالدة للعالم عن أسفل درك المسخ والسقوط والانتكاس البشري من مصنع الجهل وصناعة الحكم الاُموي . فكربلاء إذاً معرض بشري عالمي قائم ومفتوح حتّى يومنا هذا دون منافس ولا نظير .
والخلاصة هي : إنّ الحسين (عليه السّلام) وإن خسر المعركة العسكريّة والحرب المسلّحة بسبب غدر أهل العراق ولكنّه ـ وبلا شك ـ قد ربح المعركة السياسية بكلّ أبعادها وكسب الحرب الدعائية بأوسع حدودها وانتصر على أعدائه الاُمويِّين على صعيد الرأي العام العالمي فخلّده التاريخ رمزاً للشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والكرامة الإنسانية وخلّد الاُمويِّين أيضاًً رمزاً للانتهازيّة والنفعيّة والسقوط الإنساني .
فلا تجد في العالم غالباً أشبه بمغلوب من الاُمويِّين في موقفهم من الحسين (عليه السّلام) ولا تجد مغلوباً أشبه بغالب ومنتصر من الحسين (عليه السّلام) في ثورته ضدّ الاُمويِّين .
وهذا ما قصده الحسين (عليه السّلام) بموقفه يوم عاشوراء وعبّر عنه تعبيراً صريحاً في كتابه إلى مَنْ تخلّف عنه بقوله : أمّا بعد فمَنْ لحق بي منكم استشهد ومَنْ لم يحلق لم يبلغ الفتح والسّلام.
ولقد أجاد بعض الأدباء حيث قال :
يا شهيدَ الطفوفِ تفديكَ روحي كـنـتَ والله ضـيغماً هدّارا
كـلّـما كرّروا عليك هجوماً زادكَ الـكرّ نجدةً و اصطبارا
إنْ تـكـن كربلا رأتكَ وحيداً و تـنـادي فـلم تجدْ أنصارا
وابـن هند يسوقُ جيشاً كثيفاً يـمـلأ الـبحرَ جلبةً والقفارا
فـطـواه الزمانُ ملكاً غريراً سـيّـئ الـذكر ماجناً خمّارا
وبـنا من عُلاك مجداً طريفاً خـالدَ الذكرِ كالنهارِ اشتهارا
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|