ان الأهمية التي تكتسبها المدينة – أية مدينة – الأثر في حياة الإنسان وهي التي تجعلها موضع اهتمام الباحثين في عـدد مـن العلـوم الإنسانيـة ولاسيما الجغرافيون الذين يحاولون وضع قوانين تحدد نشأة تلك المدينة وترصد التغيرات التي طرأت على النواة المكونة لها من خلال مواصفات موضعها ( Site) وشروط موقعها ( Situation) والتعرف على صلاتها بظهيرها وتفاعلها مع وسطها الطبيعي والبشري(1) .

لقد لعبت السواحل ذات الظهير الجيد دوراً بارزاً في تحضر وثراء الشعوب التي تعيش خلفها ، فسواحل بلاد الشام كانت ملائمة لنشأة عدد من الموانئ الهامة عبر التاريخ (2) ، وهناك أواصر وعلاقات وثيقة ومتداخلة بين التاريخ بأحداثها والأرض ومظاهرها الطبيعية التي تعد مسرح هذه الأحداث ومجالها ويمكن القول إن الجغرافية تحدد الأماكن التي وقعت فيها الأحداث وما اكتنفها من ظروف وملابسات ولا يمكن أن تكتمل المعرفة التاريخية بدون المعرفة الجغرافية(3) ، لذا فأن معرفة الموقع الجغرافي لآية مدينة من المدن يلعب دوراً مهماً في تحديد بنيتها الاجتماعية من خلال عادات وتقاليد سكانها ، كما إن له دوراً مهماً في تحديد اقتصادياتها والمستوى المعاشي لأفرادها (4) ، كما ينعكس ذلك على حضارتها .

فالموقع الساحلي للمدينة يختلف عن الموقع الداخلي لها ، حيث تمتاز المدن ذات البيئات الساحلية من الناحية الحضارية بانها غالباً ما تكون أكثر رقياً لأن السواحل ترتبط دائماً بالعالم الخارجي وتيارات الحضارة التي تتلاقح في بينهما في تلك المدن التي تتطلع إلى كل جديد وتأثرها مع مراكز الحضارة العالمية ، بينما يكون سكان الداخل أقل فعالية من سكان تلك المدن ، لهذا كانت مدن الساحل الكنعاني (الفينيقي) من أرقى أجزاء الشرق القديم(5).

يحدد موطن الكنعانيين ( الفينيقيين )على الساحل الشرقي للبحر المتوسط ويمتد ما بين الأرض المحصورة من مصب نهر العاصي شمالاً ونهر بيلوس ( النعمين في فلسطين حالياً ) جنوباً ، ويحدها من جهة الشرق جبال اللاذقية وسلسة جبال لبنان . ونظراً لضيق تلك المنطقة واقتراب الجبال من البحر في معظم المناطق فقد كانت الأراضي الصالحة للزراعة محدودة ولا تسد احتياجات السكان ، كما أن انتشار السلاسل الجبلية جعل اتصالهم مع الأقاليم الداخلية فيما بينهم صعباً إلى حد كبير ، لذلك فقد اعتمدوا على التجارة في معيشتهم منذ وقت مبكر من تاريخهم وساعدهم على ذلك موقع بلادهم الستراتيجي المتحكم في طرق المواصلات التجارية(6) سواء تلك التي توصل بين مصر وأسيا الصغرى أو التي توصل بين بلاد الرافدين وجزر بحر إيجه فكانوا بذلك حلقة وصل بين مناطق عديدة من العالم القديم(7) . وقد مثلت أوغاريت واحدة من تلك المدن إذ إن موقعها السوقي(8) اللافت للنظر من قبل المؤرخين والجغرافيين جعلها بمثابة ملتقى تجاري وثقافي للمراكز الحضارية المهمة في العالم القديم آنذاك ، وفضلاً عن التجارة تلك ، فقد كان لصيد الأسماك دور ملحوظ في تأمين العيش لسكان المدينة(9).

________________

1- سعيدوني ، ناصر الدين ، "المدينة تفاعل اجتماعي واسهام حضاري" ، مجلة عالم الفكر ، م 38 ، الكويت ، 2009 ، ص8.

2- القصاب ، نافع وآخرون ، الجغرافية السياسية ، بغداد ، ب ت ، ص33.

3- جوردن ، ايست ، الجغرافية توجه التاريخ ، ترجمة جمال الدين الدناصوري ، القاهرة ، ب ت ،ص13-14.

4- سعيدوني ، ناصر الدين ، المصدر السابق ، ص8.

5- القصاب ، نافع وآخرون ، المصدر السابق ، ص35.

6- غزالة ، هديب ، دور حضارة العراق القديمة في بلاد الشام ، أطروحة دكتوراه غير منشورة ، جامعة القادسية ، 2002 ، ص50.

7- سبتينو ، موسكاتي ، الحضارات السامية القديمة ، ترجمة السيد يعقوب بكر ، القاهرة ، 1968 ، ص122.

8- يعرف السوق عموماً: انه فن وعلم استخدام القوة الوطنية في كافة الظروف اثناء السلم والحرب لبلوغ الأهداف القومية : انظر : أمين محمد فتحي ، قاموس المصطلحات العسكرية ، بغداد ، 1982 ، ص281.

9- شيفمان ، إ ، ش ، ثقافة اوغاريت ، ترجمة حسان اسحق ، ط1 ، دمشق ، 1988 ، ص12.