أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-8-2019
1213
التاريخ: 17-5-2021
1563
التاريخ: 5-8-2020
8905
التاريخ: 1-12-2019
1270
|
مع المارقين :
ويقول الرواة إن النبي (صلى الله عليه وآله) سمى أهل النهروان بالمارقين، وانه قد عهد الى الامام امير المؤمنين (عليه السلام) بقتالهم كما عهد إليه بقتال الناكثين والقاسطين من بعده .
والظاهرة البارزة في اتجاهات الخوارج هي الالتواء في السلوك، والاصرار على الجهل والعناد، فقد بنوا واقعهم على التعصب وعدم التدبر والامعان في حقائق الامور، وقد كان شعارهم الذي تفانوا في سبيله وقدموا له المزيد من الضحايا " لا حكم الا لله " ولكنهم لم يلبثوا أن جعلوا الحكم للسيف فنشروا الارهاب والخوف والفساد في الارض كما سنذكر ذلك وعلى اي حال فان الامام لما نزح من صفين الى الكوفة لم يدخلوا إليها ، وانما انحازوا الى (حروراء) فنسبوا إليها، وكان عددهم فيما يقول المؤرخون اثني عشر الفا، وقد جعلوا اميرهم على القتال شبث بن ربعي وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري، وخلعوا الامام عن الخلافة، وجعلوا الامر شورى بين المسلمين .
والتاع الامام من تمردهم فأوقد للقياهم عبد الله بن عباس، وأمره ان لا يخوض معهم في ميدان الخصومة والنزاع حتى ياتيه الا انه لم يجد بدا من الحوار معهم وبينما هو يحاورهم إذ اطل عليهم الامام فنهى ابن عباس عن مناظرتهم، واقبل عليهم فقال لهم :
اللهم إن هذا مقام من أفلج فيه كان اولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطق وأوعث فيه فهو في الاخرة اعمى واضل سبيلا، ثم قال لهم :
- من زعيمكم ؟
- ابن الكواء !
- ما اخرجكم علينا ؟
- حكومتكم يوم صفين
- أنشدكم بالله، اتعلمون انهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم نجيببهم الى كتاب الله، قلت لكم :
إني اعلم بالقوم منكم، انهم ليسوا بأصحاب دين، ولا قران، اني صحبتهم وعرفتهم اطفالا ورجالا، فكانوا شر اطفال ، وشر رجال، امضوا على حقكم، وصدقكم، فانهما رفع القوم هذه المصاحف خديعة، ودهنا ومكيدة، فرددتم علي رابي، وقلتم لا :
بل نقبل منهم ، فقلت لكم :
اذكروا قولي لكم، ومعصيتكم اياي، فلما أبيتم الا الكتاب اشترطت على الحكمين ان يحييا ما احيا القران، وأن يميتا ما امات القران ، فان حكما بحكم القران فليس لنا ان نخالف حكما يحكم بما في القران، وأن ابيا فنحن من حكمها براء " وابطلت هذه الحجة النيرة جميع اوهامهم، فهم المسؤولون عن التحكيم ، كما هو مسؤولون عن كل ما حدث من الفتنة والفساد وليس للامام ظلع في ذلك، وايقنوا ان الذنب ذنبهم وليس على الامام أي تبعة في ذلك فقالوا له :
- اتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء ؟
- لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القران، وهذا القران انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق وانما يتكلم به الرجال .
- خبرنا عن الاجل لم جعلته فيما بينك وبينهم ؟
- ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الامة.
وسد عليهم الامام كل نافذة ينفذون منها، ووجد منهم تقاربا واذعانا لمقالته، فخاطبهم بناعم القول:
" ادخلوا مصركم رحمكم الله.
" فأجابوه الى ذلك، ورجلوا عن آخرهم معه الى الكوفة، الا انهم بقوا مصرين على فكرتهم يذيعونها بين البسطاء، حتى شاع أمرهم، وقويت شوكتهم واخذوا ينشرون الخوف والارهاب، ويدعون الى البغي، وعزل الامام وجعل الامر شورى بين المسلمين (1).
اجتماع الحكمين :
وانتهت المدة التي عينها الفريقان للتحكيم، وقد استرد معاوية قواه التي فقدها ايام صفين، واستحكم أمره، وقد ارسل الى الامام يطلب منه الوفاء بالتحكيم، وانما سارع الى ذلك لعلمه بما مني به جيش الامام من الفرقة والخلاف، ثم هو على علم بان النتيجة ستكون من صالحه لان المنتخب للتحكيم هو ابو موسى الاشعري، وهو على علم بانحرافه عن الامام واشخص الامام أبا موسى الاشعري الى التحكيم، وارسل اربعمائة من اصحابه جعل عليهم شريح بن هاني، وعبد الله بن عباس يصلي بهم، والتقى الحكمان الضالان على حد تعبير النبي (صلى الله عليه وآله) (2) في دومة الجندل او في اذرح، ويقول المؤرخون إن ابن العاص لم يفتح الحديث مع الاشعري ثلاثة ايام ، فقد افرد له مكانا خاصا، وجعل يقدم له اطائب الطعام والشراب حتى استبطنه وارشاه، ولما ايقن انه صار العوبة بيده اخذ يضفي عليه النعوت الحسنة والالقاب الكريمة حتى ملك مشاعره وعواطفه فقد قال له :
" يا أبا موسى انك شيخ اصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) وذو فضلها، وذو سابقتها، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الامة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها، فهل لك ان تكون ميمون هذه الامة فيحقن الله بك دماءها فانه يقول :
في نفس واحدة ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا، فكيف بمن احيا هذا الخلق كله.
" ومتى كان الاشعري شيخ صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن ذوي الفضائل والسوابق في الاسلام ؟ وانخدع الاشعري بهذه الكلمات المعسولة فطفق يسال ابن العاص عن سبل الاصلاح وحقن الدماء، فاجابه ابن العاص :
" تخلع انت علي بن ابي طالب، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان ونختار لهذه الامة رجلا لم يحضر في شئ من الفتنة، ولم يغمس يده فيها.." فبادر ابو موسى يسال عن الرجل الذي لم ينغمس في الفتنة قائلا :
" من يكون ذلك ؟ " وكان ابن العاص قد عرف ميول الاشعري واتجاهاته نحو عبد الله ابن عمر فقال :
" انه عبد الله بن عمر " وسر الاشعري بذلك واندفع يطلب منه العهود على الالتزام بما قاله " كيف لي بالوثيقة منك ؟ " " يا أبا موسى الا بذكر الله تطمئن القلوب، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى..." ولم يبق يمينا الا اقسم على الالتزام بما قاله، وايقن الاشعري بمقالة ابن العاص فاجابه بالرضا والقبول وعينا وقتا خاصا يذيعان فيه ما اتفقا عليه .
واقبلت الساعة الرهيبة التي كانت تنتظرها الجماهير بفارغ الصبر، واقبل الماكر ابن العاص مع زميله الاشعري الى منصة الخطابة ليعلنا للناس ما اتفقا عليه، واتجه ابن العاص نحو الاشعري فقال له :
- قم فاخطب الناس يا أبا موسي.
- قم انت فاخطبهم .
وراح ابن العاص يخادع الاشعري قائلا له :
" سبحان الله أنا أتقدمك ! ! وانت شيخ اصحاب رسول الله، والله لا فعلت ذلك أبدا.." داخل الاشعري العجب بنفسه من هذه الالقاب الفخمة التي اضفاها عليه ابن النابغة، وطلب الخامل المخدوع من ابن العاص الايمان أن يفي له بما قال، فاقسم له على الوفاء بما اتفقا عليه، (3) ولم تخف هذه الخديعة على حبر الامة عبد الله بن عباس فالتفت الى الاشعري يحذره من مكيدة ابن العاص قائلا له :
" ويحك والله إنى لأظنه قد خدعك، إن اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك الامر قبلك، ثم تكلم انت بعده، فان عمرو رجل غادر لا آمن من أن يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فاذا قمت في الناس خالفك.." ولم يعن الغبي بابن العباس، وانما راح يشتد نحو منصة الخطابة ، فلما استوى عليها حمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال :
" ايها الناس إنا قد نظرنا في أمرنا فراينا أقرب ما يحضرنا من الامن والصلاح ولم الشعث، وحقن الدماء، وجمع الالفة، خلعنا عليا ومعاوية وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه " واهوى الى عمامته فخلعها " واستخلفنا رجلا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه، وصحب ابوه النبي (صلى الله عليه وآله) فبرز في سابقته، وهو عبد الله بن عمر..." (4) اف للزمان وتعسا للدهر أن يتحكم في المسلمين أمثال هؤلاء الصعاليك الذين ران الجهل على قلوبهم.
لقد عزل الاشعري الامام امير المؤمنين حكيم هذه الامة، ورائد العدالة الكبرى في الارض، الذي طوق الدين بعبقرياته ومواهبه، لقد جعل الاشعري قيادة الامة بيد عبد الله بن عمر وهو لا يحسن طلاق زوجته - على حد تعبير أبيه - انها من مهازل الزمن التي تمثلت على مسرح الحياة العامة في ذلك العصر الذي اخمدت فيه اضواء العقل، وراح الانسان يسير خلف رغباته وميوله.
وعلى أي حال فقد انبرى الخاتل الماكر ابن العاص الى منصة الخطابة فحمد الله واثنى عليه ثم قال :
" أيها الناس ان أبا موسى عبد الله بن قيس خلع عليا، وأخرجه من هذا الامر الذي يطلب، وهو اعلم به، الا واني خلعت عليا معه ، وإثبت معاوية علي وعليكم، وان أبا موسى، قد كتب في الصحيفة (53) ان عثمان قد قتل مظلوما شهيدا وان لوليه أن يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول الله بنفسه، وصحب ابوه النبي (صلى الله عليه وآله) ثم اخذ يثني على معاوية، ويصفه بما هو ليس اهلا له ثم قال :
هو الخليفة علينا وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان.." (5) واشتد الاشعري نحو ابن العاص بعد ما غور به ونكث عهده فصاح به .
" مالك عليك لعنة الله ! ما انت إلا كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تنركه يلهث " فزجره ابن العاص :
" لكنك مثل الحمار يحمل أسفارا " .
وصدق كل منهما في وصف صاحبه، لقد جر هذا التحكيم الى الامة كثيرا من المصاعب والفتن، وأخلد لها الخطوب والويلات .
وماج العراقيون في الفتنة، وأيقنوا بضلال ما أقدموا عليه، وأنهزم الاشعري نحو مكة يصحب معه العار والخزي له ولذريته (6)، فقد غدر في المسلمين غدرة منكرة، وأكثر شعراء ذلك العصر في هجاء الكوفيين وهجاء الأشعري يقول أيمن بن خريم الاسدي :
لو كان للقوم راى يعصمون به *** من الضلال رموكم بابن عباس
لله در أبيه أيما رجل *** ما مثله لفصال الخطب في الناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن *** لم يدر ما ضرب اخماس لاسداس
ان يخل عمرو به يقذفه في لجج *** يهوي يه النجم تيسا بين أتياس
أبلغ لديك عليا غير عاتبه *** قول امرئ لا يرى بالحق من باس
ما الاشعرى بمامون أبا حسن *** فاعلم هديت وليس العجز كالراس
فاصدم بصاحبك الادنى زعيمهم *** ان ابن عمك عباس هو الآسي (7)
وظفر معاوية بالنصر، فقد عاد إليه أهل الشام يسلمون عليه بامرة المؤمنين، وأما الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد أغرق جيشه في الفتنة والفرقة والخلاف، فجعل بعضهم يتبرأ من بعض، وقد شاع فيهم الخلاف ، وعرفوا وبال ما جنت أيديهم، فخطب الامام الحسن خطابا مسهبا دعاهم فيه الى الالفة والمودة، وكذلك خطب فيهم عبد الله بن عباس، وعبد الله ابن جعفر، وقد شجبا في خطابهما التحكيم ودعا الناس الى الطاعة ونبذ الخلاف (8) وقد استجاب لهم بعض الناس، وأصر آخرون على التمرد والعصيان .
ولما انتهى خبر التحكيم الى الامام بلغ به الحزن أقصاه فجمع الناس وخطبهم خطابا مؤثرا صعد فيه آلامه وأحزانه على مخالفة أوامره في ايقاف القتال، والاستجابة لنداء عدوه الذي قضى فيه على ما احرزوه من الفتح والنصر، يقول (عليه السلام) :
" الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وان محمدا عبده ورسوله.
اما بعد.فان مخالفة الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين، وهذه الحكومة بامري، ونخلت لكم رايي لو يطاع لقصير راي.
ولكنكم أبيتم الا ما أردتم :
فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن .
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد الا ضحى الغد
الا ان الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما وارتايا الراي من قبل انفسهما فأماتا ما أحيا القران وأحييا ما أمات القران .
ثم اختانا في حكمهما فكلاهما لا يرشد ولا يسدد فبرئ الله منها ورسوله وصالح المؤمنين فاستعدوا للجهاد، وتاهبوا للمسير، واصبحوا في معسكركم يوم الاثنين ان شاء الله.."(9) وتهيات قواته المسلحة الى السفر في الموعد الذي ضربه لها، وكتب الى أهل البصرة يدعوهم الى نصرته فالتحقت به كتائب من الجيش .
تمرد المارقين :
وسافر الامام بأصحابه يريد الشام، ولكنه لم يلبث حتى وافاته الانباء بتمرد الخوارج وفسادهم، وانهم عادوا الى فكرتهم، ويقول المؤرخون ان جماعة منهم خرجوا من الكوفة والتحق بهم اخوانهم من اهل البصرة ، وساروا جميعا الى النهروان فأقاموا فيه وأخذوا يعيثون في الارض فسادا ، فاستحلوا دماء المسلمين، وقالوا بكفرهم، واجتاز عليهم الصحابي عبد الله بن خباب بن الارت، فتصدوا له فسألوه عن اسمه فاخبرهم به، ثم سألوه عن انطباعاته الخاصة عن الامام امير المؤمنين فأثنى عليه فاستشاطوا غضبا فانبروا إليه فأوثقوه كتافا، واقبلوا به وبأمراته وكانت حبلى قد اشرفت على الولادة فجاؤا بهما تحت نخل، فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه فانكروا عليه فالقاها من فمه، واخترط بعضهم سيفا فضرب به خنزيرا لاهل الذمة فقتله فصاح به بعضهم ان هذا من الفساد في الارض، فبادر الرجل الى الذمي فارضاه فلما نظر عبد الله الى احتياطهم في الاموال قال لهم :
" لئن كنتم صادقين فيما ارى ما علي منكم باس، والله ما أحدثت حدثا في الاسلام واني لمؤمن، وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك " .
فلم يعنوا به، وعمدوا إليه فاقبلوا به الى الخنزير الذي قتلوه فوضعوه عليه، وذبحوه، واقبلوا على امراته، وهي ترتعد من الخوف فقالت لهم مسترحمة :
" إنما إنا امراة اما تتقون الله ؟ " ولم تلن قلوبهم التي طبع عليها الزيغ، فذبحوها وبقروا بطنها، وعمدوا الى ثلاثة نسوة فقتلوهن، (10) وفيهن أم سنان الصيداوية وكانت قد صحبت النبي (صلى الله عليه وآله)، وجعلوا يذيعون الذعر، وينشرون الفساد في الارض .
وأوفد لهم الامام الحرث بن مرة العبدي يسالهم عن هذا الفساد الذي احدثوه ويطلب منهم ان يسلموا إليه الذين استحلوا قتل الانفس التي حرم الله ازهاقها بغير الحق، ولم يكد الرسول يدنو منهم حتى قتلوه ولم يدعوه يدلي بما جاء به .
قتال المارقين :
وكره اصحاب الامام أن يسيروا الى الشام، ويتركوا من ورائهم الخوراج يستبيحون أموالهم واعراضهم من بعدهم فطلبوا من الامام أن ينهض بهم لمناجزتهم فاذا فرغوا منهم تحولوا الى حرب معاوية، فاجابهم الامام الى ذلك وسار بهم حتى اتى النهروان فلما صار بازاء الخوارج، ارسل إليهم يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ومن كان معه من النسوة، كما طلب منهم قتلة رسوله الحرث بن مرة، ليكف عنهم ويمضي الى حرب معاوية، ثم ينظر في امورهم فاجابوه .
" ليس بيننا وبينك الا السيف الا ان تقر بالكفر وتتوب كما تبنا ! " فالتاع الامام منهم وانطلق يقول :
" ابعد جهادي مع رسول الله، وايماني أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما انا من المهتدين.." (11) وجعل الامام يعظهم تارة ويراسلهم أخرى فجعل كثير منهم يتسللون، ويعودون الى الكوفة، وقسم منهم التحق بالامام، وفريق ثالث اعتزل الحرب، ولم يبق الا ذو الثفنات عبد الله بن وهب الراسبي زعيم الخوارج، ومعه ثلاث آلاف.
ولما يئس الامام من ارشادهم عبا جيشه، وأمر بان لا يبدؤوهم بقتال حتى يقاتلوهم، ولما نظر الخوارج الى تهيأة الامام تهياؤا للحرب، وكانت قلوبهم تتحرق شوقا الى القتال تحرق الضمان الى الماء وهتف بعضهم " هل " من رائح الى الجنة " فتصايحوا جميعا " الرواح الى الجنة " ثم حملوا حملة منكرة على جيش الامام، وهم يهتفون بشعارهم " لا حكم الا الله " فانفرجت لهم خيل الامام فرقين، فرق يمضي الى الميمنة، وفرق يمضي الى الميسرة ، والخوارج يندفعون بين الفرقين، ولم تمض الا ساعة حتى قتلوا عن آخرهم ، ولم يفلت منهم الا تسعة (12) .
ولما وضعت الحرب أوزارها طلب الامام من اصحابه أن يلتمسوا له ذا الثدية في القتلى ففتشوا عنه فلم يظفروا به، فعادوا إليه يخبرونه بعدم ظفرهم به فأمرهم ثانيا أن يبحثوا عنه قائلا :
" والله ما كذبت ولا كذبت ويحكم التمسوا الرجل فانه في القتلي " فانطلقوا يبحثون عنه، فظفر به رجل من اصحابه، وكان قد سقط قتيلا في ساقية فمضى يهرول فاخبر الامام به فلما سمع النبأ خر ساجدا هو ومن معه من اصحابه ثم رفع راسه وهو يقول :
" ما كذبت، ولا كذبت ولقد قتلتم شر الناس..." واخذ الامام يحدث اصحابه بما سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله) فيه انه قال :
" سيخرج قوم يتكلمون بكلام الحق لا يجاوز حلوقهم يخرجون من الحق خروج السهم - أو مروق السهم - ان فيهم رجلا مخدج اليد، في يده شعرات سود، فان كان فيهم فقد قتلتم شر الناس...وأمر الامام بإحضار جثته فأحضرت له فكشف عن يده، فاذا على منكبه ثدي كثدي المراة، وعليها شعرات سود تمتد حتى تحاذي بطن يده الاخرى، فاذا تركت عادت الى منكبه، فلما راى ذلك خر لله ساجدا، ثم عمد الامام الى القتلى من الفريقين فدفنهم وقسم بين اصحابه سلاح الخوارج، ودوابهم ورد الامتعة والعبيد الى اهليهم، كما فعل ذلك بأصحاب الجمل .
وانتهت بذلك حرب النهروان التي تفرعت من واقعة صفين، وقد اسفرت عن تشكيل حزب ثوري عنيف ظهر في الاسلام، وهو حزب الحرورية الذي أخذ على نفسه التمرد على الحكومات القائمة في البلاد الاسلامية ومحاربتها بشكل سافر مما ادى الى اراقة الدماء، واشاعة الفتنة والخلاف في كثير من تلك العصور .
لقد كان البارز في الانظمة الدينية للخوارج هو الحكم بكفر كل من لا يدين بفكرتهم من المسلمين، واستباحة دمائهم واموالهم، وفيما أحسب ان اكثر الجرائم المريعة التي صدرت في معركة كربلاء تستند الى هؤلاء الممسوخين الذين سلبت عنهم كل نزعة انسانية، فقد تاثر الكثيرون من ذلك الجيش بأخلاقهم فاندفعوا الى الجريمة بابشع صورها والوانها .
مخلفات الحرب :
واعقبت تلك الحروب اعظم المحن واشدها هولا، ولم يمتحن الامام بها وحده، وانما امتحن بها العالم الاسلامي، فقد اخلدت له الفتن ، وجرت له الكثير من الويلات والخطوب، ولعل اعظم ما عانه منها ما يلي :
انتصار معاوية :
واتاحت الفرص لمعاوية بعد تلك الاحداث أن يعلن نفسه لاول مرة بانه المرشح للخلافة بعد أن كان حاكما على اقليم الشام، وراح يعلن انتصاره على الامام وتغلب عليه بقوله :
" لقد حاربت عليا بعد صفين بغير جيش ولا عناء أو لا عتادا (13) واما الامام فقد اصبح بمعزل عن السلطات السياسية والعسكرية، فكان يدعو فلا يسمع لدعوته، ويقول فلا يلتفت الى قوله لقد ادت تلك الحروب الى تحول الخلافة الاسلامية الى حكم قيصري لا ظل فيه لحكم الاسلام، ومنطق القران، فقد آل الامر الى المعاوية ، فاتخذ مال الله دولا، وعباد الله خولا، وارغم المسلمين على ما يكرهون .
تفلل جيش الامام :
وتفللت جميع القوات العسكرية في جيش الامام، وشاعت الفرقة والاختلاف فيما بينها، خصوصا بعد واقعة النهروان، فقد انحطت معنويات الجيش يقول البلاذري ان معاوية ارسل عمارة بن عقبة الى الكوفة ليتجسس له عن حالة جيش الامام، فكتب له خرج على علي اصحابه، ونساكهم فسار إليهم فقتلهم، فقد فسد عليه جنده وأهل مصره، ووقعت بينهم العداوة، وتفرقوا أشد الفرقة، فقال معاوية للوليد بن عقبة :
اترضى أخوك بان يكون لنا عينا - وهو يضحك - فضحك الوليد وقال :
إن لك في ذلك حظا ونفعا، وقال الوليد لاخيه عمارة :
إن يـــك ظني يابن أمــــــي صادقا *** عمـــارة لا يطلب بذحل ولا وتر
مقيــــم واقباـــل ابن عفـان حوله *** يمشي بها بين الخورنق والجسر
وتمشي رخي البال منتشر القوى *** كـــأنك لم تشعر بقتـــل ابن عمرو (14)
لقد مني جيش الامام بالفتنة والخلاف، ولم يكن باستطاعة الامام بما يملك من طاقات خطابية هائلة أن يرجع إليهم حوازب احلامهم ، ويقضي على عناصر الشغب والتمرد التي اصبحت من ابرز ذاتياتهم .
ومما زاد في تمرد الجيش ان معاوية راسل جماعة من زعماء العراق البارزين كالأشعث بن قيس فمناهم بالأموال، ووعدهم بالهبات والمناصب اذا قاموا بعمليات التخريب في جيش الامام وشعبه فاستجابوا إليه فقاموا بدورهم في اشاعة الاراجيف، وتضليل الراي العام، وبث روح التفرقة والخلاف بين الناس (15) وقد اثرت دعايتهم تاثيرا هائلا في اوساط ذلك الجيش، فقد خلعوا طاعة الامام، وعمدوا الى عصيانه .
لقد كانت الاكثرية الساحقة في معسكر الامام لهم رغباتهم الخاصة التي تتنافى مع مصلحة الدولة، وغايات رئيسها في حين أن شعب الشام كان على العكس من ذلك يقول الحجاج بن خزيمة لمعاوية :
" انك تقوى بدون ما يقوى به علي لان معك قوما لا يقولون اذا سكت، ويسكنون اذا نطقت ، ولا يسالون اذا امرت ومع علي قوم يقولون اذا قال : ويسالون اذا سكت " (16).
احتلال مصر :
ولم تقف محنة الامام وبلاؤه عند حد، وانما اخذت تتابع عليه المحن ، وهي كاشد ما تكون هولا، فانه لم يكد ينتهي من مناجزة المارقين حتى ابتلى في امر دولته فقد أخذ معاوية يحتل اطرافها، ويغير على بعضها ، ويشيع فيها الخوف والارهاب فقد ايقن بتخاذل جيش الامام، وما مني به من الفرقة والاختلاف، وقد اجمع رايه على احتلال مصر التي هي قلب البلاد العربية، وقد جعلها طعمة الى وزيره وباني دولته عمرو بن العاص ليتمتع وحده بخيراتها .
وكان الامام قد ولى على مصر الزعيم الكبير قيس بن سعد الانصاري الذي كان من المع الشخصيات الاسلامية في حسن سياسته وعمق تفكيره وبعد نظره، وقد ساس المصريين أيام المحنة سياسة عدل وحق، وقضى على الاضطرابات الداخلية، ونشر المحبة والالفة فيها، وقد عزله الامام عنها وولى مكانه الطيب محمد بن أبي بكر، فاضطرب أمر مصر، وظهرت الدعوة العثمانية فيها فعزل الامام محمدا عنها وولى مكانه مالك الاشتر النخعي الذي هو من انصح الناس للامام واكثرهم اخلاصا له الا انه لم يكد ينتهي الى (القلزم) حتى مات واجمع المؤرخون على ان معاوية قد اغوى صاحب الخراج في (القلزم) فدس إليه سما في شربة من عسل فمات بها، وكان معاوية وصاحبه ابن العاص يتحدثان بعد ذلك، ويقولان :
إن لله جنودا من عسل .
وجهز معاوية جيشا لاحتلال مصر، وأمر عليه ابن العاص، ولما علم الامام ذلك أقر محمدا على مصر، ووعده بان يمده بالجيش والمال، واخذ يدعو أهل الكوفة لنجدة اخوانهم في مصر، فلم يستجيبوا له، وجعل الامام يلح عليهم ويطلب منهم النجدة فاستجاب له جند ضئيل كأنما يساقون الى الموت فأرسلهم الى مصر، ولكنه لم يلبث ان وافته الانباء بان ابن العاص قد احتل مصر، وان عامله محمدا قد قتل وأحرقت جثته في النار، فرد جنده، وخطب أهل الكوفة خطابا مثيرا ندد بهم، ونعى عليهم تخاذلهم وخور عزائمهم .
وعلى اي حال فان احتلال مصر قد قوى شوكة معاوية، ودفعه الى ان يغزو اهل العراق في عقر دارهم .
الغارات :
ولم يقنع معاوية بما احرزه من النصر في احتلاله لمصر، وانما راح يشيع الذعر والهلع في البلاد الخاضعة لحكم الامام ليشعر اهلها بان عليا قد ضعف سلطانه، وانه لا يتمكن على حمايتهم ورد الاعتداء عنهم، وقد شكل قطعا من جيوشه، وعهد إليها ان تتوغل في البلاد، وتشيع فيها الفساد والقتل، وقد ولى عليها جماعة من السفاكين الذين تمرسوا في الجرائم ، وتجردوا من كل نزعة انسانية، وعهد لكل واحد منهم ان يقتل كل من كان شيعة للامام، ويغير على جهة خاصة بسرعة خاطفة، ونعرض - بايجاز - الى بعض تلك الغارات .
الغارة على العراق :
وشكل معاوية اربع قطع للغارة على اطراف العراق وداخله ليملأ قلوب العراقيين فزعا وخوفا حتى لا يستجيبوا للجهاد اذا دعاهم الامام إليه، وهذه بعض المناطق العراقية التي غار عليها .
1 - عين التمر :
وارسل معاوية النعمان بن بشير الانصاري في الف رجل الى عين التمر ، وكان فيها مالك بن كعب، ومعه كتيبة من الجيش تبلغ الف رجل الا انه لم يعلم بغزو اهل الشام له، فاذن لجنده باتيان اهلهم في الكوفة وبقي في مائة رجل، ولما دهمه جيش معاوية قاومه مقاومة باسلة، وتوجهت له نجده تبلغ خمسين رجلا فلما راهم النعمان فزع وولى هاربا فقد ظن ان لهم مددا ولما بلغت الامام انباء هذه الغارة قام خطيبا في جيشه يدعوهم الى نجدة عامله فقال (عليه السلام) :
" يا أهل الكوفة كلما اطلت عليكم سرية وأتاكم منسر من مناسر أهل الشام اغلق كل امرء منكم بابه قد انحجر في بيته انحجار الضب في جحره والضبع في وجارها، الذليل والله من نصرتموه، ومن رضي بكم رمى بافوق ناصل، فقبحا لكم وترحا، وقد ناديتكم، وناجيتكم، فلا احرار عند اللقاء، ولا اخوان (17) عند النجا، قد منيت منكم بصم لا يسمعون ، وبكم لا يعقلون، وكمه لا يبصرون " (18).
2 - هيت :
ووجه معاوية للغارة على هيت سفيان بن عوف وضم إليه ستة الاف ، وأمره ان ياتي بعد الغارة عليها الى الانبار والمدائن فيوقع باهلها، وسار بجيشه الى هيت فلم يجد بها أحدا فانعطف نحو الانبار، فوجد بها مسلحة للامام تتكون من مائتي رجل فقاتلهم وقتل اشرس بن حسان الكبري مع ثلاثين رجلا من اصحابه، ثم نهبوا ما في الانبار من اموال، وتوجهوا الى معاوية، وهم مسرورون بما احرزوه من النصر، وبما نهبوه من الاموال (19) وبلغت انباء الانبار عليا فاثارته الى حد بعيد، وبلغ به الغيظ اقصاه، وكان عليلا لا يمكنه الخطاب فكتب كتابا قرا على الناس، وقد ادنى من السدرة ليسمع القراءة (20) وهذا نصه :
" اما بعد :
ان الجهاد باب من ابواب الجنة فمن تركه رغبة عنه البس ثوب الذلة، وشمله البلاء، وديث بالصغار، وسيم الخسف ، ومنع النصف، وقد دعوتكم الى جهاده هؤلاء القوم ليلا ونهارا وعلانية وسرا ، وأمرتكم أن تغزوهم قبل ان يغزوكم فانه ما غزي قوم في عقر دارهم الا ذلوا ، فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي، وعصيتم أمري وأتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات من كل ناحية، هذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار فقتل ابن حسان البكري، وأزال مسالحكم عن مواضعها وقتل منكم رجالا صالحين، ولقد بلغني أن الرجل من أهل الشام كان يدخل بيت المسلمة والاخرى المعاهدة فيأخذ حجلها وقلبها وقلادتها ، فيا عجبا يميت القلب، يجلب الهم، ويسعر الاحزان من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم فقبحا وترحا حيث صرتم غرضا يرمى ، يغار عليكم فلا تغيرون، ويعصى الله فترضون، اذا قلت لكم :
اغزوا عدوكم في الحر قلتم هذه حمارة القيظ من يغزوا فيها؟ امهلنا ينسلخ عنا الحر، وإذا قلت:
اغزوهم في انف الشتاء قلتم الحر والقر، فكل هذا منكم فرار من الحر والقر ؟ فانتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ، حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم اركم، وان الله اخرجني من بين اظهركم، فلقد ملئتم صدري غيظا وجرعتموني نغب التهمام انفاسا، وافسدتم علي رايي بالعصيان، حتى قالت قريش :
إن ابن إبي طاب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله ابوهم وهل منهم أحد اشد لها مراسا وقعاسا مني لقد نهضت فيها وقد بلغت العشرين (21) فها انا ذا قد ذرت على الستين، ولكن لا راي لمن لا يطاع" (22).
وقد صور هذا الخطاب ما في نفس الامام من غيظ ممض، وياس شديد من اصحابه الذين امتلات قلوبهم خوفا وذلا من أهل الشام فتخاذلوا وقبعوا في بيوتهم يطاردهم الفزع، حتى فسد على الامام أمره.
3 - واقصة :
ووجه معاوية الضحاك بن قيس الفهري الى واقصة ليغير على كل من كان فيها من شيعة الامام وضم إليه ثلاثة آلاف رجل، فسار الضحاك فنهب أموال الناس، وقتل كل من ظن أنه على طاعة الامام، وسار حتى انتهى الى القطقطانة، وهن يشيع القتل والارهاب ثم سار الى السماوة ، وبعدها ولى الى الشام، ولما وافت الانباء الامام (عليه السلام) قام خطيبا في جيشه وقد دعاهم الى صد هذا الاعتداء فلم يستجب له أحد، فقال (عليه السلام) :
" وددت والله ان لي بكل عشرة منكم رجلا من أهل الشام، واني صرفتكم كما يصرف الذهب ولوددت أني لقيتهم على بصيرتي فأراحني الله من مقاساتكم ومداراتكم " وسار الامام وحده نحو الغريين لصد هذا الاعتداء فلحقه عبد الله بن جعفر بدابة فركبها، ولما راى الناس ذلك خف إليه بعضهم، فسرح (عليه السلام) لطلب الضحاك حجر بن عدي في اربعة آلاف، وسار في طلبه فلم يدركه فرجع (23) لقد اخذت غارات معاوية تتوالى على العراق، من دون ان تتعرض لاي مقاومة تذكر، وقد ايقن معاوية بالنصر، والظفر لما مني به اصحاب الامام من التخاذل .
الغارة على الحجاز واليمن :
وبعث معاوية بسر بن أرطاة في ثلاثة آلاف للغارة على الحجاز واليمن فاتجه نحو يثرب فلم يجد من أهلها أية مقاومة، فصعد المنبر ورفع عقيرته يندب عثمان وينشر الرعب والارهاب بين الناس .
وأخذ البيعة من أهلها لمعاوية، ثم سار الى اليمن، وكان عليها عبيد الله ابن عباس عاملا للامام، فهرب منه حتى أتى الكوفة، فاستخلف الامام عليها عبد الله الحارثي فقتله بسر، وقتل ابنه، وعمد الى طفلين لعبيد الله فقتلهما ولما انتهى خبرهما الى امها فقدت وعيها، وراحت ترثيهما بذوب روحها بابياتها المشهورة (24) .
لقد قام سلطان معاوية على قتل الابرياء، وذبح الاطفال، واشاعة الرعب والفزع في البلاد .
ولما انتهت الانباء الاليمة الى الامام خارت قواه، ومزق الاسى قلبه وراح يخطب في جيشه يذكر ما عاناه من الخطوب والكوارث منهم قائلا :
" انبئت بسرا قد اطلع اليمن (25) واني والله لاظن ان هؤلاء القوم سيدالون (26) منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم امامكم في الحق وطاعتهم امامهم في الباطل، وبادائهم الامانة الى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم، وفسادكم، فلو أئتمنت أحدكم على قعب (27) لخشيت أن يذهب بعلاقته (28) اللهم اني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني فابدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني، اللهم مث في قلوبهم كما يماث الملح في الماء أما والله لوددت ان لي الف فارس من بني فرس ابن غنم (29) :
هنا لك لو دعوت أتاك منهم *** فوارس مثل ارمية الحميم
ثم نزل عن المنبر (30) وهو غارق بالهموم والاحزان قد استولى الياس على نفسه من أصحابه الذين أصبحوا أعصابا رخوة خالية من الشعور والاحساس هذه بعض الغارات التي شنها معاوية على العراق وخارجه من الاقاليم الاسلامية الخاضعة لحكم الامام، وكان المقصود منها زعزعة هذه المناطق من ايمانها بمقدرة الامام على حمايتها من الاعتداء، واذاعة مقدرة معاوية وقوته العسكرية، وتقوية الروح المعنوية في جيشه، وحزبه المنتشر في تلك البلاد .
وعلى أي حال فقد صورت هذه الغارات جانبا كبيرا من الضعف والتمرد في جيش الامام، حتى طمع معاوية في شن هجوم عام على العراق لاحتلاله، والقضاء على حكومة الامام، ومن المؤكد أنه لو فعل ذلك لوجد الطريق سهلا، ولم يجد أية صعوبة أو مقاومة تذكر، فقد خلد القوم الى الراحة، وسئموا من الجهاد .
عبث الخوارج :
وتواكبت المحن الشاقة على الامام يقفو بعضا، فغارات معاوية متصلة على العراق وخارجه، وهي تنشر الرعب والهلع في قلوب المواطنين والامام لا يتمكن على حماية الامن، وصيانة الناس من الاعتداء قد خلع جيشه يد الطاعة وأعلن العصيان والتمرد، ولم يعد له أي نفوذ أو سلطان عليه ومن تلك المحن الشاقة التي ابتلي بها الامام هي فتنة الخوارج فانه لم يقض عليهم في النهروان، وانما قضى على جماعة منهم، وبقي أكثرهم يعيشون معه، وهم يكيدون له، ويتربصون به الدوائر، ويحولون قلوب الناس عنه، قد امنوا من بطشه واستيقنوا انه لن يبسط عليهم يدا ، ولا ينزل بهم عقوبة، وقد أطمعهم عدله، وأغراهم لينه فراحوا يجاهرون بالرد والانكار عليه، فقد قطع بعضهم عليه خطبته تاليا قوله تعالى :
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فاجابه الامام باية اخرى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم: 60] وجاءه الخريت ابن راشد السامي في ثلاثين من أصحابه فقال له :
يا علي والله لا أطيع أمرك، ولا اصلي خلفك، واني غدا مفارق لك، فلطف به الامام وحاججه وهلى بينه وبين حريته، فلم يسجنه، وانما ترك له الطريق مفتوحا وولى الرجل الى قومه من بني ناجية فاخبرهم بما كان بينه وبين الامام، ثم خرج في الليل يريد الحرب وجرت أحداث كثيرة في خروج الخريت وتمرده ذكرها المؤرخون بالتفصيل .
وعلى أي حال فان المسؤولية الكبرى في كثير من الاحداث المفزعة التي مني بها العالم الاسلامي تقع على الخوارج فهم الذين قضوا على مصير الامة في أهم الفترات الحاسمة من تاريخها حينما كتب النصر للامام، وباء معاوية بالهزيمة والفشل، بحيث لم يبق من حياته إلا فترة يسيرة من الزمن قدرها قائد القوات العسكرية في جيش الامام مالك الاشتر، بحلبة شاة أو بعدوة فرس، فاضاعوا ذلك النصر الكبير وأرغموا الامام على قبول التحكيم.
دعاء الامام على نفسه :
وطافت بالامام موجات رهيبة ومذهلة من الاحداث والازمات فهو يرى باطل معاوية قد استحكم، وأمره قد تم، ويرى نفسه في ارباض الكوفة قد احتوشته ذئاب العرب الذين كرهوا عدله، ونقموا عليه مساواته وعملوا جاهدين على الحيلولة بينه وبين تحقيق آماله من القضاء على الاثرة والاستعلاء والطغيان .
والشئ الوحيد الذي أقض مضجع الامام هو تمزق جيشه، وتفلل جميع وحداته، فقد أصبح بمعزل عن جميع السلطات، وقد نظر (عليه السلام) الى المصير المؤلم الذي سيلاقونه من بعده فقال :
" أما انكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، سيفا قاطعا، واثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة، فيفرق جماعتكم، ويبكي عيونكم، يدخل الفقر بيوتكم وتتمنون عن قليل انكم رأيتموني فنصرتموني، فستعلمون حق ما أقول لكم، ولا يبعد الله إلا من ظلم وأثم..." (31).
ولم يجد نصح الامام معهم شيئا فقد تمادوا في الغي، وعادت لهم جاهليتهم الرعناء.
وقد سئم الامام منهم وراح يتمني مفارقة حياته فكان كثيرا ما يقول في خطبة:
" متى يبعث أشقاها " واخذ يلح بالدعاء، ويتوسل الى الله بقلب منيب أن يريحه منهم فقد روى البلاذري عن أبي صالح قال شهدت عليا، وقد وضع المصحف على راسه حتى سمعت تقعقع الورق وهو يقول:
" اللهم إني سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وابغضتهم وابغضوني، وحملوني على غير خلقي، وعلى اخلاق لم تكن تعرف لي، فابدلني خيرا لي منهم، وابدلهم بي شرا، ومث قلوبهم ميث الملح.." (32) .
واستجاب الله دعاء وليه العظيم فنقله بعد قليل الى حضيرة القدس مع النبيين والصديقين واراحه من ذلك المجتمع الذي كره الحق، ونقم على العدل، وقد سلط الله عليهم ارجاس البشرية فاخذوا يمنعون في ظلمهم واذلالهم، فيأخذون البرئ بالسقيم، والمقبل بالمدبر، ويقتلون على الظنة والتهمة، فاستيقظوا عند ذلك، واخذوا يندمون أشد الندم على ما اقترفوه من الاثم تجاه الامام وما فرطوا به من عصيانه وخذلانه .
هذه بعض مخلفات تلك الحروب التي امتحن بها الامام كاشد ما يكون الامتحان قسوة وارهاقا ولم يمتحن بها وحده، وانما امتحن بها العالم الاسلامي باسره، فقد اخلدت للمسلمين المشاكل والخطوب والقتهم في شر عظيم.
لقد واكب الامام الحسين (عليه السلام) هذه الاحداث المفزعة التي جرت على أبيه، ووقف على واقعها، وقد استبان له كراهية القوم لابيه لانه لم يداهن في دينه، واراد أن يحمل الناس على الحق المحض والعدل الخالص، ولا يدع محروما، ولا مظلوما في البلاد .
وعلى اي حال فان هذه الحروب قد ساهمت مساهمة ايجابية في خلق كارثة كربلاء التي لم تأت الا بعد انهيار الاخلاق، وأماتة الوعي الديني ، والاجتماعي، واشاعة الانتهازية والتحلل بين افراد المجتمع، فقد سيطرت الرأسمالية القرشية على الشؤون الاجتماعية فاخذت تعيث فسادا في الارض وتنقض جميع ما اقامه الاسلام من صروح للفضيلة والاخلاق، وكان من اسوء ما قامت به انها عملت جاهدة على اشاعة العداء والكراهية لاهل البيت (عليهم السلام) الذين هم مصدر الوعي والاحساس في هذه الامة .
فقد عمدت بشكل سافر الى تقطيع او صالهم على صعيد كربلاء، وابادتهم ابادة جماعية بصورة رهيبة لم يحدث لها نظير في تاريخ الانسانية .
____________
(1) روى سويد بن غفلة قال : كنت مع أبي موسى الاشعري على شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروى لي خبرا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)قال : سمعته يقول : ان بني اسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا واضلا من اتبعهما، ولا تنفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يضلان، ويضلان من اتبعهما، فقلت له : احذر يا أبا موسي أن تكون أحدهما، قال : فخلع قميصه وقال : ابرا الى الله من ذلك كما يرا قميصي من هذا. . جاء ذلك في شرح النهج 13 / 315.
(2) العقد الفريد 3 / 315.
(3) الطبري 6 / 39
(4) وهي غير الصحيفة التي تم عليها ايقاف القتال .
(5) أنساب الاشراف ج 1 ق 1 الامامة والسياسة 1 / 143 .
(6) لقد كان الناس يحقرون ذرية ابي موسى، ويسخرون منهم فقد سمع الفرزدق أبا بردة بن ابي موسى يقول : كيف لا اتبختر، وأنا ابن أحد الحكمين، فرد عليه الفرزدق قائلا : اما احدهما فمائق وأما الاخر ففاسق فكن ابن أيهما شئت، جاء ذلك في شرح النهج 19 / 353، ونظر رجل الى بعض ولد أبي موسى يختال في مشيته فقال الا ترون مشيته؟! كان أباه خدع عمرو بن العاص.
(7) حياة الامام الحسن 1 / 529 .
(8) أنساب الاشراف ج 1 ق 1.
(9) انساب الاشراف ج 1 ق 1.
(10) انساب الاشراف
(11) انساب الاشراف
(12) الملل والنحل 1 / 159
(13) انساب الاشراف ج 1 ق 1 ص 200
(14) انساب الاشراف.
(15) انساب الاشراف
(16) الاخبار الطوال (ص 156).
(17) في الطبري " ولا اخوان ثقة "
(18) انساب الاشراف
(19) تاريخ ابن الاثير 3 / 189
(20) انساب الاشراف
(21) في رواية " وما بلغت العشرين " .
(22) انساب الاشراف
(23) انساب الاشراف.
(24) تاريخ ابن الاثير 3 / 193 .
(25) اطلع اليمن : بلغها واحتلتها قواته .
(26) سيدالون : أي ستكون لهم الدولة بسبب اجتماع كلمتهم، واختلاف راي العراقيين.
(27) القعب : بالضم القدح الكبير .
(28) علاقته : بكسر العين ما يعلق به القعب من ليف ونحوه .
(29) بنو فرس : قبيلة عربية مشهورة بالشجاعة والاقدام .
(30) نهج البلاغة محمد عبده 1 / 60.
(31) أنساب الاشراف ج 1 ق 1 ص 200.
(32) انساب الاشراف ج 1 ق 1.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|