القصد من وراثة القرآن
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج4/ص5-8
2025-12-04
22
إنّ نفس تلك الحقائق التي عرّفها الله نبيَّه من القرآن المجيد، الظاهرة منها كالأحكام العامّة والخاصّة والمجمل والمبيّن، والمطلق والمقيّد والناسخ والمنسوخ، وقصص الأنبياء والامم الماضية، والأخلاق والمعارف الدينيّة، والتوحيد بجميع مراتبه والوعظ والوعد والوعيد والمصالح والمفاسد ومراتب النفس وظهورها في العوالم الاخرى والباطنة منها كالتأويل، والتفسير، والكلّيّة، والتطبيق، والجَرْي والحقائق المنطوية في الآيات مثل: حقيقة عالم الطبع، وعالم البرزخ والصور المثاليّة، وعالم العقل والملائكة والروح ومقاماتهم، ودرجات أهل الثواب ودركات أهل المعصية، وحقيقة التوحيد الخالص وإدراكه، وكيفيّة إحاطة الأسماء والصفات الإلهيّة بجميع العوالم، وانْدِكاك الأسماء والصفات في الذات، وحقيقة التجلّي لجميع العوالم، والآيات الإلهيّة الآفاقيّة والأنفسيّة وغيرها، فهذه الحقائق كلّها قد أودعها الله ورثة القرآن، بحيث أنّهم يمثّلون خلفاء رسول الله والنازلين منزلته في تلك المعاني كلها، وأنّهم الامتداد الطبيعيّ للرسول الأكرم في القيام بها وحفظها، والعمل على ما فيه مصالح الامّة وفقاً لمدلولها.
في ضوء ذلك فأنّ وارث القرآن يمثّل نسخة الأصل من وجود رسول الله وسيتجلّى القرآن في وجود الوارثين واحداً تلو الآخر كنحو تجلّي القرآن المحكم والقرآن المفصّل {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[1]، لأنّه ينبغي أن تكون هناك نسبة واقعيّة بين المورِّث والوارث، فلا يورِّث كلّ شيء لكلّ أحد، فابن الوزير أو ابن العضو النيابيّ لا يرث الحكومة والمُلك، ولا يرث ابن عامل القمامة فنّ الطبّ من الطبيب، ولا يرث الجاهل غير الجدير علم العالم. ويمكننا أن نطلّ من هذه النافذة لنشهد وارثي القرآن المجيد، فأنّهم أشبه الناس بالنبيّ الأكرم وأقربهم منه، بل أنّهم، في الصفات وصفاء الباطن والاستعدادات لتلقّي الحقائق وبواطن القرآن، ذو وصدور رحبة وقلوب قويّة كالرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وفي ضوء ذلك، يقول الله جلّ شأنه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا...} إذ أنّ معنى الاصطفاء هو اختيار خالص الشيء وخياره. وقوله: {مِنْ عِبادِنا} بيانيّة كما يبدو، لأنّ الإضافة في كلمة {عِبادِنا} للتشريف، ويريد أن يقول بأنّ هؤلاء المصطفين ووارثي القرآن يتّصفون بعبوديّتهم لنا، كما في قوله عزّ وجلّ: {وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفي}[2].
وأمّا قوله: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}، فَلعلّه من أجل تقسيم العباد إلى ثلاث مجموعات، فيما إذا رجع الضمير في كلمة {فَمِنْهُمْ} إلى العباد، وفي هذه الحالة، فأنّ الجملة ستكون تعليلًا للجملة التي سبقتها، أي: أنّنا أورثنا القرآن الذين اصطفينا من عبادنا لأنّ عبادنا جميعهم غير متساوين بل هم ثلاث مجموعات، ومن الطبيعيّ فأنّ أفضل هذه المجموعات وهي المجموعات السابقة بالخيرات ترث القرآن وستكون الجنّات الموعودة في الآيات الثلاث التالية لها من نصيبهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ولُؤْلُؤاً ولِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ، وقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ}[3].
ولعلّه من أجل تقسيم المصطفين، أي أنّنا أورثنا القرآن الذين اصطفيناهم من عبادنا، وهم ثلاثة أقسام: الأوّل: الذين ظلموا أنفسهم. الثاني: الذين سلكوا سبيل العدل والإنصاف والاعتدال. الثالث: الّذين أحرزوا قصب السبق في مجال الخيرات والحسنات، وتفوّقوا على الجميع بإذن الله، والقرآن بوصفه إرثاً وصل إلى هؤلاء جميعهم لأنّهم من المصطفين من اختلاف في الدرجات والمراتب. هذا مع أنّ الوارث الحقيقيّ للقرآن والقائم بأمره هو القسم الثالث من بين هؤلاء طبعاً، وهم السابقون.
وهذا اللون من الاستعمال شائع أيضاً في العرف ولغة المحاورة فنجد أنّ شيئاً خاصّاً بشخص ينسب إلى جماعة لها معه ارتباط، كما يقال: حصل الفريق الفلانيّ على الجائزة الفلانيّة بينما نجد الجائزة من نصيب أحد أعضاء الفريق، أو يقال: نزل القرآن على أهل مكّة، ثمّ نزل على أهل المدينة بينما هو نزل على رسول الله خاصّة. وفي القرآن المجيد استعمالات كثيرة من هذا القبيل. جاء في الآيتين 53 و54 من سورة المؤمن قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، هُدىً وذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}. في حين أنّ التوراة لم يؤتَها بنو إسرائيل جميعهم، وبعد موسى عليه السلام كانت من نصيب بعضهم. أو أنّ المراد من الكتاب هنا ليس التوراة بعينها، بل هو ذلك الكتاب السماويّ الموحى الذي نزل على موسى نفسه تحت عنوان التوراة، ولم ينزل على بني إسرائيل كلّهم.
بَيدَ أنّ قراءة في الروايات المأثورة سواء الواردة عن طريق الشيعة أو عن طريق السنّة، تنبئنا أنّ الاحتمال الثاني أقوى. فالله تعالى في هذه الآية يقسّم عباده المصطفين إلى ثلاثة أقسام، وهم مع اختلافهم فيما بينهم، حتى أنّ فيهم من يظلم نفسه، لكنّهم يتميّزون عن غيرهم بصفاء وكلّهم ورثة الكتاب على نحو الإجمال، مع أنّ حقيقة الإرث ترتبط بالفريق الثالث السابق بالخيرات.
والشاهد على ذلك هو أنّ تلك الجنان الموعودة هي للذين ظلموا أنفسهم، وللمقتصدين المعتدلين، وقد أصبحت من نصيبهم بسبب مغفرة الله لهم، وجزاءً لأعمالهم.
لأنّ الآيات نطقت بأنّهم يحمدون الله ربهم ويثنون عليه بصفتي الغفور والشكور، وهذا المعنى يتناسب مع الذنب والمغفرة، والعمل الصالح والثواب، وهو ما يتعلّق بالفريق الأوّل والثاني: وأنّهم يحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن وأحلّهم دار المقامة وجنّة الخُلد من فضله لا يمسّهم فيها نصب ولا لغوب. وهذه العبارات الناطقة بالحمد تصدر عن ذينك الفريقين؛ ولا تصدر عن الفريق الثالث الذي يدخل أفراده الجنّة بغير حساب متنعّمين بالأمن والأمان {في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}. ويخاطَبون بقوله جلّ من قائل: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}.
[1] الآية 1، من السورة 11: هود.
[2] الآية 59، من السورة 27: النمل.
[3] الآيات 33 إلى 35، من السورة 35: فاطر.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة