التوزيع البيئي للريف والحضر
المؤلف:
د. محمد دلف احمد الدليمي
المصدر:
تخطيط المدن والاستدامة الحضرية
الجزء والصفحة:
ص 12 ـ 17
2025-11-22
57
يواجه الباحثون ومنهم الجغرافيون عند دراسة التوزيع البيئي مشكلة في كيفية التمييز بين السكان الريف والحضر بالرغم من وجود عدد من المعايير العلمية ، وتختلف معايير تحديد المدينة والقرية حسب الدول بعضها يعتمد معيار حجم السكان أو المعيار الإداري كما هو الحال في العراق فالمستقرات البشرية التي يصدر فيها أمر إداري من قبل السلطات العليا كونها مركز ناحية أو مركز قضاء أو مركز محافظة تصبح مركزاً حضرياً بغض النظر عن حجم السكان فيها ويستخدم الباحثين عادة الإحصاءات الرسمية فهنا تظهر المشكلة في تباين المعايير بين الدول تجعل المقارنة بين الدول أمر غير دقيق من الناحية العلمية مازالت المعايير التي تعتمد في التمييز بين القرية والمدينة معايير كلاسيكية على الرغم من ذلك يراها الباحثين تصلح مجتمعة للتفرقة بين المراكز العمرانية وهذه الأسس يمكن تلخيصها بالآتي:
1- الحجم السكاني :
بعد المعيار الاحصائي أحد اهم المعايير التي بموجبها التمييز بين الريف والحضر لكثير من البلدان والذي يعتمد على أثنين من المتغيرات السكانية هما حجم السكان وكثافتهما وبعد هذا المعيار أول اسلوب طبقته الدول في تقسيماتها الإدارية إلا أنها اختلفت في عدد السكان الذي بموجبه تصبح المستقرة مدينة أو قرية تبعاً لظروف الدولة إذ أن لكل منها عدد خاص لمفهوم الحضر تستخدمه لأغراض التعداد تبعاً لحجم المستوطنة.
ففي الدنمارك وفنلندا والسويد مثلا تعتبر المستوطنة مدينة إذا زاد سكانها عن (200) نسمة وفي ايرلندا يبلغ العدد (1500) نسمة، وأما في فرنسا ، فكل مجموعة من السكان يبلغ عددها أو يزيد عن (2000) نسمة يعيشون في مركز واحد تعتبر مجموعة حضرية ويمثل مركزها مدينة، وكل مجموعة يقل عدد سكانها عن هذا العدد تعتبر مجموعة ريفية ويعتبر مركزها قرية.
وأما في الولايات المتحدة تعتبر المستوطنة مدينة إذا بلغ عدد سكانها (2500) نسمة، وأما في بلجيكيا وهولندا واليونان والهند تعتبر المستوطنة مدينة إذا بلغ عدد سكانها أكثر من (5000) نسمة، وفي كوريا تعتبر المستوطنة مدينة إذا بلغ عدد سكانها (40000) نسمة، بينما في مصر تعتبر المستوطنة مدينة إذا بلغ عدد سكانها (11000) نسمة.
يرى جيرالد بريز أن التعريف الإحصائي الأقرب إلى القناعة هو أن عدد السكان في المدينة يجب أن لا يقل عن (20000) نسمة لأن تجمعا أصغر من هذا العدد يصعب فيه ظهور ملامح للحياة الريفية، وان هذا المعيار يعتمد على حجم المجتمع شاع استخدامه بدرجة واسعة للتمييز بين الريف والحضر وخاصة عند علماء السكان.
بعد الجغرافيون والمخططون أن عدد السكان غير كاف لتحديد الفروق الظاهرة بين حياة الريف والحضر إذ يعاني من نقاط ضعف شديدة وواضحة، وأن اصحاب هذا المعيار يعتمدون دائماً على معايير أخرى بالإضافة إلى حجم المجتمع عند تحليل البيانات من منظور حضاري مقارن دون أن يشيروا إلى ذلك. فالمجتمعات الواقعة بين الفئة السكانية (5000 - 10000 نسمة قد تختلف فيما بينها اختلاف كبير طبقاً للاختلاف الاجتماعي الذي تنتمي اليه أو طبقاً لانتمائها إلى مجتمع لم يزاول الصناعة الحديثة بعد وآخر يتحول إليها وثالث متقدم فيها. أن الكثير من القرى في مصر واليابان والصين يزيد عدد سكانها عن (20000) نسمة لا يعيشون إلا على الزراعة وفلاحة الأرض وهذا يشير إلى أن العبرة ليست في عدد السكان ولا يغدوا هذا العامل بمفرده مميزاً.
أخذ على هذا المعيار عدد من الانتقادات واصبح التركيز على الكثافة السكانية أو عوامل أخرى كالحجم والمهنة بدلاً عن عدد السكان للتمييز بين الريف والحضر، فالهند مثلا تأخذ هذه العوامل الثلاثة كأساس في تعريف المراكز الحضرية وتعتبر المستوطنة مدينة إذا بلغ عدد سكانها (5000) نسمة وكثافتها أكثر من (1000) نسمة في الميل المربع الواحد ولا يعمل في الزراعة أكثر من (75%) من مجموع ذكورها البالغين، ولكن لوحظ أن بعض القرى في مصر تتمتع بكثافة سكانية عالية جداً بينما بعض الأحياء الحضرية الحديثة النشأة ليس لها كثافة سكانية عالية فهي منخفضة عن المناطق الريفية المجاورة لها.
يتضح من ذلك أن تجمع السكان ونسبة كثافتهم ليست دليلاً على تحضر المنطقة فهناك عوامل بيئية طبيعية واجتماعية أخرى كثيرة تؤدي إلى تركز السكان في منطقة معينة دون ارتباط هذا التركز في طبيعة الحياة الاجتماعية ذاتها سواء كانت حضرية أو ريفية على الرغم من ذلك يعتبر هذا المعيار من أبسط المعايير التي يستخدمها الباحثون في ما يخص المساحة والحجم فقد شاع استخدامه لسهولة تطبيقه.
2ـ النظام الاداري والسياسي :
بعض البلدان ذات النظام السياسي والاداري المركزي تعتمد المعيار الاداري في تحديده المدينة من خلال قرار حكومي يصدر بصيغة قضائية ، وتأخذ في هذا المعيار أكثر من دولة يصدر مرسوم خاص لكل محلة تحمل صفة القرية ويحدد فيه واجبات السكان وحقوقهم، فهناك دول تأخذ في نظام الإدارة المطية أو الحكم المحلي كأساس للتمييز مثل تونس وتركيا ومصر، يصلح هذا المعيار كثيراً في دراسات المقارنة نظراً لوجود وحدة إدارية واضحة يمكن توقيعها على الخرائط ولكن لا يخلو هذا المعيار من الصعوبة في بعض الأحيان فإذا كانت بيانات السكان لا تتوافق مع الحد الإداري أو إذا كانت أوسع امتداداً من المنطقة المبنية فأنها تعد حدود مضافة، وأما إذا كانت المنطقة المبنية تتجاوز الحدود الإدارية وتعدادها تكون بذلك منكمشة وفي كلا الحالتين تكون المقارنة غير دقيقة.
ففي فرنسا مثلاً لا يوجد اختلاف إداري بين القرية والمدينة لكل قرية فرنسية سلطتها التي تشبه السلطة الموجودة في المدينة. أما في العراق ، فتعد كل مستوطنة مدينة إذا امتلكت مجلساً بلدياً وقضائياً ولها حدود بلدية وتحكم ادارياً داخل الحيز الحضري لمراكز النواحي والأقضية والمحافظات"، وكل المناطق التي تقع خارج الحدود البلدية تعتبر قرية وجميع المراكز الحضرية بغض النظر عن حجمها تعتبر مدناً، وتعد أيضاً المستقرات مدن إذا زاد فيها حجم السكان عن (2500) نسمة وتمتلك مجالس بلدية بتوصية من الوزير المختص، وعلى هذا الإساس ظهرت الكثير من المدن العراقية.
3- المعيار الضريبي:
تأخذ بعض الدول في نوع الضريبة المفروضة على المستوطنة كمعيار للتمييز بين الريف والحضر على اعتبار أن المدينة مستوطنة يدفع سكانها ضرائب عقارية على المباني والعقارات وأما القرية تكون ضرائبها على الأراضي الزراعية وقد أتخذ هذا المعيار في مصر أساس للتمييز بين الريف والحضر.
4- المعيار التاريخي والموروث العمراني :
يرى بعض الباحثين أن التاريخ يقدم تعريف وافي للمناطق الريفية من خلال الآثار التاريخية التي تدل على وجود القرية أو المدينة أكثر من عدد السكان الموجودين فيها. يتطلب هذا المعيار التعمق في تاريخهما للتعرف على كيفية نشوء الكثير من المستقرات البشرية. لا يخلو هذا المعيار من العديد من الشوائب لأن العديد من المدن القديمة اندثرت أثارها ومعالمها واصبحت حالتها العمرانية أقل شأن من القرى يتضح من ذلك أن هذا المعيار لا يمكن استخدامه في التمييز بين القرية والمدينة إلا في المدن والقرى التاريخية.
5- المظهر الخارجي وطبيعة العمران :
بعد هذا المعيار من المعايير المهمة التي يركز عليها بعض الباحثين والمخططين ويعتمد أساس للتمييز بين القرية والمدينة ، ويستند هذا المعيار على حقيقة مادية مرئية يمكن تميزها بسهولة من خلال المظهر الخارجي وتمتاز المدن عادة في ابنيتها الشاهقة والمتناسقة في الشكل وشوارعها المرصوفة والنظيفة وحدائقها المخططة فضلاً عن وجود مرافق خدمية كالمطاعم والفنادق والمقاهي والمسارح ودور السينما وغيرها فالمدينة يمكن التعرف عليها من خلال مظهرها الخارجي والقرية كذلك لأن مظهرها الخارجي عبارة عن بيوت ريفية متباعدة وسط بساتين وحقول مترامية الأطراف.
واجه هذا المعيار انتقادات كثيرة لأن صفات القرية اعلاء أن طبقة على القرى الريفية في البلدان المتخلفة فإنها لا تطبق على القرى في البلدان المتقدمة التي قد تصل مستويات الحضر فيها إلى أعلى المستويات مقارنة مع البلدان المتخلفة، وأما في البلدان النامية ، فمن الصعب رسم خط واضح يميز القرية عن المدينة لأن طبيعة الحياة في كلاهما تتصف بالخصائص الريفية والحضرية معاً.
6- طبيعة الحياة الاجتماعية :
يعتمد علماء الاجتماع الذين يهتمون في دراسة الريف والحضر ومنهم سوروكون وزيرمان ولويس ويرث على دراسة الخصائص المميزة لكل من الريف والحضر كأساس للتمييز واعتبارها أسس أو معايير ويمكن تحديدها على النحو الآتي:
1ـ المهنة: يستند هذا المعيار على أساس أن معظم سكان الريف وعائلاتهم يعملون في الزراعة بينما يمارس الحضريون كل الأعمال باستثناء الزراعة.
2 ـ البيئة: يستند هذا المعيار على أساس أن كل الريفيين على اتصال مباشر بالطبيعة والأرض تحدد صلتهم فيها ونشاطهم ونظرتهم للحياة. ففي حياة سكان الريف تكون البيئة الطبيعية هي الغالبة على البيئة الاجتماعية والإنسانية على عكس سكان المدينة.
3 ـ حجم المجتمع المحلي يعيش سكان الريف عادة في مجتمعات محلية صغيرة الحجم مقارنة مع المدينة والتي تمتاز في كبر حجم المجتمع المحلي مقارنة مع الريف.
4 ـ كثافة السكان تتميز المجتمعات الريفية عادة في انخفاض كثافة السكان مقارنة مع كثافة السكان في المدينة بنفس الفترة الزمنية.
5 ـ تجانس السكان وتباينهم يتميز سكان الريف مقارنة مع سكان الحضر في أنهم أكثر تجانساً من حيث السمات الاجتماعية العادات والتقاليد واللغة والمعتقدات والأعراف.
6 ـ الطبقات الاجتماعية: يركز هذا المعيار على الاختلافات في البناء أو الهرم الطبقي الاجتماعي بين الريف والحضر، ويتمثل ذلك في أن عدد الطبقات الاجتماعية في الريف أقل من عدها في الحضر، وتكون المسافة بين قمة الهرم وقاعدته أضيق في المجتمع الأول وأوسع في المجتمع الثاني، وتميل الطبقات الاجتماعية في الريف إلى التركيز نحو وسط الهرم الطبقي بينما تتركز في قمته وقاعدته في الحضر.
7 ـ الحراك الاجتماعي يتخذ الحراك الاجتماعي ثلاثة اشكال هي:
أ ـ الحراك الأفقي يتمثل في الانتقال من مرتبة اجتماعية إلى أخرى داخل الطبقة الواحدة.
ب ـ الحراك الرأسي يتكون من طبقة إلى أخرى.
ت ـ الحراك المكاني: يتمثل في الهجرة أو تغيير محل الإقامة.
وقد برهن سور وكون وزيمرمان بأن المناطق الحضرية تتفوق على المناطق الريفية في الحراك الأفقي لأن تغيير المهنة يكون أقل في الريف وفي الحراك الرأسي والمكاني الارتباط ذلك بالحضر.
8 ـ نسق التفاعل الاجتماعي يتمثل في عدد اتصالات الفرد ومدى تفاعله مع غيره في المجتمع المحلي ويتميز بالقلة والضيق إلى درجة ملحوظة لتتعدى القرية وتقسم هذه العلاقات بالبساطة والعاطفية والروح الجماعية والإنسانية.
لقد شكل المجتمع القروي محور اهتمام الأنثروبولوجين لتعريف الاختلافات بين المجتمعات المتجانسة والمجتمعات غير المتجانسة التي تتميز في التغيير ، وحددوا نوعين من المجتمعات أطلق على الأول المجتمع الشعبي والثاني أطلق عليه (المجتمع الحضري) وتوصلوا إلى أن الاتجاه في التغيير يكون من المجتمع الأول إلى المجتمع الثاني.
7- طبيعة الحياة الاقتصادية :
يشير هذا المعيار إلى الوظيفة التي تمارسها المحلات العمرانية ويعد من أكثر الاسس تقبلاً لدى الجغرافيين ، اذ أن أهمية المدينة أو القرية لا تتوقف على المساحة التي تشغلها أو عدد السكان الذين يقيمون فيها وإنما تستند بالدرجة الأساس على الوظائف التي تمارسها. يعتمد هذا المعيار على تعريف المدينة والريف اساساً في التمييز ويصف المدينة بشكل عام على أنها تركيز للسكان والمؤسسات الاقتصادية والشركات ويحترف سكانها أنشطة غير زراعية ويمارسون اعمالهم في المدن وداخل ابنية مغلقة ويصف القرية على أنها المحلة التي يحترف سكانها الزراعة ويمارسون اعمالهم في الحقول خارج الكتلة السكنية وينتجون سلعاً مادية ملموسة عكس سكان المدينة.
يتضح من ذلك أن هذا المعيار يعتمد على تعدد الأنشطة الاقتصادية والوظائف ركيزة رئيسية للتفرقة إذ تتميز المدينة في امتلاكها عدد من المؤسسات الاقتصادية والمالية والشركات والاستثمارات ولا تتوفر مثل هذه الأمور في البيئة الريفية تقتصر على الأنشطة الزراعية ويمثل هذا المعيار من أدق المعايير فهو يركز على المهنة كمعيار للتمييز وتعتمده معظم الدول مع المعيار الاحصائي للتفرقة بين الريف والحضر.
8- النظام البيني :
يستند هذا المعيار على حجم التلوث كأساس للتمييز بين الريف والمدينة إذ تجد أن المدينة أكثر تلوثاً مقارنة مع الريف وتتسم بيئة المدينة في ارتفاع نسبة التغيير في مكوناتها الأساسية الهواء والمياه والسمع والبصر بينا ينخفض معدل التغيير في الريف أي أنها أقل تلوثاً بعد هذا المعيار من المعايير الدقيقة لأنه يعطي نسباً رقمية تحدد معدل التغيير في مكونات البيئة الاساسية مقارنة بين الريف والمدينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ (محمد خلف الدليمي ، محمد كريم السويداوي (2021).
ـ تبعاً لقانون ادارة البلديات رقم 165 لسنة 1964 وزارة التخطيط دراسة رقم 202 ، 1985، ص3.
الاكثر قراءة في الجغرافية الحضارية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة