همج رعاع لا يعبأ الله بهم
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص106-121
2025-11-15
32
تَفقّد العامّة في احتشادها وجموعها، لا تراهم الدهر إلّا مسرعين إلى قائد دبّ، وضارب بدفّ على سياسة قرد، أو متشوّقين إلى اللهو واللعب أو مختلفين إلى مشعبذ فتمسّ ممخرق، أو مستمعين إلى قاصّ كذّاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً عند مصلوب. يُنعَق بهم فيتّبعون ويُصاح بهم فلا يرتدعون. لا ينكرون منكراً، ولا يعرفون معروفاً ولا يبالون أن يلحقوا البارّ بالفاجر، والمؤمن بالكافر. وقد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيهم حيث يقول: «النّاسُ اثنَانِ: عَالِمٌ ومُتَعَلِّمٌ، ومَا عَدَا ذَلِكَ هَمَجٌ رَعَاعٌ لا يَعبَا اللهُ بِهِم». وكذلك ذكر عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد سُئل عن العامّة، فقال: «هَمَجٌ رَعَاعٌ، أتْبَاعُ كُلِّ ناعِقٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ العِلْمِ، ولَمْ يَلْجَؤُوا إلى رُكْنٍ وَثِيقٍ»، وأجمع الناس في تسميتهم على أنّهم غَوغاء[1]. وهم الذين إذا اجتمعوا، غلبوا وإذا تفرّقوا، لم يعرفوا.
ثمّ تدبّر تفرّقهم في أحوالهم ومذاهبم، فانظر إلى إجماع مَلَأهم، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قام يدعو الخلق إلى الله اثنتين وعشرين سنة، وهو ينزل عليه الوحي، ويمليه على أصحابه، فيكتبونه ويدوّنونه ويلتقطونه لفظة لفظة. وكان معاوية في هذه المدّة بحيث لا يعلمها إلَّا الله. ثمّ كتب له صلى الله عليه وآله وسلّم قبل وفاته بشهور. فأشادوا بذكره، ورفعوا من منزلته: بأن جعلوه كاتباً للوحي، وعظّموه بهذه الكلمة وأضافوه إليها، وسلبوها عن غيره، وأسقطوا ذكر سواه.
وأصل ذلك العادة والإلفة، وما ولدوا عليه، وما نَشَئوا فيه، فألفوا وقت التحصيل والبلوغ، وقد عملت العادة عملها، وبلغت مبالغها. وفي العادة قال الشعراء، وتكلّم أهل الدراية والادباء. قال الشاعر:
لا تُهِنّى بَعْدَ إِذ أكْرَمتَنِي*** فَشدِيدٌ عَادَةٌ مُنْتَزَعَة
وقال آخر معاتباً لصاحبه:
وَلَكِنْ فِطَامُ النَّفْسِ أثْقَلُ مَحْمِلًا *** مِنَ الصَّخرَةِ الصَّمَّاءِ حِينَ تَرُومُها
وقد قالت حكماء العرب: العادَةُ أملَكُ بِالأدَبِ. وقالت حكماء العجم: العَادَةُ هِيَ الطبِيعَةُ الثانِيةُ.
وقد صنّف أبو عِقالِ الكاتب كتاباً في أخلاق العوامّ يصف فيه أخلاقهم وشيمهم ومخاطباتهم، وسمّاه ب «المُلْهي». ولو لا أنّي أكرهُ التطويل والخروج عمّا قصدنا إليه في هذا الكتاب من الإيجاز، لشرحتُ من نوادر العامّة وأخلاقها، وظرائف أفعالها عجائب، ولذكرتُ مراتب الناس في أخلاقهم وتصرّفهم في أحوالهم[2].
أجل، لقد نقلنا هذه المعلومات التاريخيّة عن كتابٍ لمؤرّخ وعالم اجتماعيّ مشهور، يوثّقه العامّة والخاصّة، لتكون سنداً وحجّة للمؤالف والمخالف.
وليعلموا أنّ عامّة الناس الذين يعيشون بهذا المستوى من الفكر والخيال والعاطفة لا يستطيعون تعيين الإمام المعصوم.
فروح الإمام عليه السلام في نقطة من ذروة الحقائق وإدراك المعنويات وتشخيص الحقّ من الباطل. وللإمام فُرقانٌ إلهيّ يفرق بين الصحيح وغير الصحيح، بل هو في الدرجة العليا من هذا الفرقان، أي أنّ له قوّة تشخيصيّة ورادار نفسانيّ لا يخطئ ولا يندم على ما فعل، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}[3]، وهو كالفرقان الذي جعله الله لموسى وهَارون على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الْفُرْقانَ وضِياءً وذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ}[4]، {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ والْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[5]
وللإمام بصيرة ونور يميّز بهما الطريق من الحفرة، والصالح من الطالح، والحقّ من الباطل، ويسير في ضوئهما؛ وينظّم شئونه وشئون المتعلّقين به وبمجتمعه على أساسهما، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}[6]، ومن الواضح أنّ للإمام درجة عالية من هذا النور، فأنّي للناس العوام والعاديّين أن يصلوا إلى ذلك النور ليعرفوا الإمام ببصيرتهم لا ببصرهم، فينتخبوه.
نذكر رواية قيّمة للغاية حول شروط الإمام وهي مأثورة عن معدن الولاية والإمامة عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: حديث الإمام الرضا عليه السلام الخاصّ بشروط الإمام تحدّث المرحوم محمّد بن يعقوب الكلينيّ[7] عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنّا مع الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها. فدخلتُ على سيّدي الرضا عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسّم عليه السلام ثمّ قال: يا عبد العزيز! جَهِل القوم وخُدِعوا عن آرائهم. أنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فِيهِ تِبْيَانٌ كُلِّ شَيءٍ بَيّن فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناسُ، فقال عَزّ وجلّ: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}[8]، وأنزل في حجّة الوداع، وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}[9]، وأمْرُ الإمامة من تمام الدين. ولم يمضِ صلى الله عليه وآله وسلّم حتى بيّن لُامّته معالمَ دينهم وأوضحَ لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحقّ. وأقام لهم عليّاً عليه السلام عَلماً وإماماً، وما ترك لهم شيئاً تحتاج إليه الامّة إلّا بيّنه. فمن زعم أنّ الله عزّ وجلّ لم يكمل دينه، فقد ردّ كتابَ الله، ومن ردّ كتاب الله، فهو كافر به. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الامّة، فيجوز فيها اختيارهم؟
«أنّ الإمَامَةَ أجَلُّ قَدْراً وأعْظَمُ شَأناً وأعْلَى مَكَاناً وأمْنَعُ جَانِباً وأبْعَدُ غَوراً مِنْ أن يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أو يَنَالُوها بِآرائِهِم أو يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيارِهِمْ»، أنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل بعد النبوّة والخُلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: {نِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}[10]، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} قال الله تبارك وتعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة. ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ، وجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ}[11].
فلم تزل في ذرّيّته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورّثها الله تعالى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال جلّ وتعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[12]، فكانت له خاصّة، فقلّدها صلى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذرّيّته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: {وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ}[13].
فهي في ولد عليّ عليه السلام خاصّة إلى يوم القيامة، إذ لا نبيّ بعد محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم فمن أين يختار هؤلاء الجهّال الإمام؟
أنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء. أنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومقام أمير المؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين عليهما السلام. أنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين. أنّ الإمامة اسُّ الإسلام الناميّ، وفرعه الساميّ. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحلّ حلال الله، ويحرّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجّة البالغة. الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، وهي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.
الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى وتيه البلدان والقفار، ولجج البحار. الإمام الماء العذب على الظمأ، والدالّ على الهدى، والمنجي من الردى. الإمام النار على اليفاع، الحارّ لمن اصطلى به، والدليل في المهالك. من فارقه فهالك. الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة.
الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والامّ البرّة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النئاد[14]. الإمام أمينُ الله في خلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله.
الإمام المطهّر من الذنوب والمبرّأ عن العيوب، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم، نظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين.
الإمام واحدُ دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم. ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير. مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضّل الوهّاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات! ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخَسِئَت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيّرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء، وجهلت الألبّاء، وكلّت الشعراء، وعجزت الادباء وعيبت البلغاء عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير. وكيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه؟ لا، كيف؟ وأنّى؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم؟ كذبتهم- والله- أنفسهم، ومنّتهم الأباطيل، فارتقوا مرتقى صعباً دحضاً، تزلّ عنه إلى الحضيض أقدامهم. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضلّة. فلم يزدادوا منه إلّا بعداً، {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[15]. ولقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً، وضلّوا ضلالًا بعيداً، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}[16]. رغبوا عن اختيار الله، واختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته إلى اختيارهم. والقرآن يناديهم: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[17]. وقال: {ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ}[18]. وقال عزّ وجلّ: {أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}[19]. ام: {طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[20]. أم: {قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ}[21]. أم: {قالُوا سَمِعْنا وعَصَيْنا}[22].
بَلْ هُوَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ. فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القُدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله ونسل المطهّرة البتول، لا مَغْمَز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب في البيت، من قريش والذروة من هاشم، والعترة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والرضا من الله عزّ وجلّ، شرف الأشراف، والفرع من عبد منافٍ، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلعُ بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عزّ وجلّ، ناصِحٌ لعباد الله، حافظ لدين الله.
أنّ الأنبياء والأئمّة صلوات الله عليهم يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرَهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[23]. وقوله تبارك وتعالى: {وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[24]. وقوله في طالوت {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والْجِسْمِ واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}[25]، وقال لنبيّه صلى الله عليه وآله: {أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}[26] وقال في الأئمّة من أهل بيت نبيّه وعترته وذرّيته، صلوات الله عليهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ومِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}[27].
وأنّ العبد إذا أختاره الله عزّ وجلّ لُأمور عباده، شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً. فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب. فهو معصوم مؤيّد، موفّق مسدّد. قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجّته على عباده وشاهده على خلقه. و: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[28].
فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّمونه؟ تعدّوا- وبيت الله- الحقّ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، وفي كتاب الله الهدى والشفاء، فنبذوه واتّبعوا أهواءهم، فذمّهم الله ومقّتهم وأتعسهم، فقال جلّ وتعالى: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[29]. وقال: {فَتَعْساً لَهُمْ وأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ}[30]. وقال: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}[31]. وصلى الله على النبيّ محمّد وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
أجل، لمّا فاض هذا الحديث عن معدن الولاية، وينبوع الإمامة وترشّح عن شفتي الإمام الثامن، وكانت كلّ كلمة من كلماته كنزاً نفيساً ينبغي التفكير به مليّاً، وطلب فهمه وإدراك حقائقه من الله، أتينا به كلّه تنويراً للعقول، وتفريحاً للقلوب، وإنعاماً للعيون.
ونستخلص من بحثنا هذا، أنّ الطريق لاختيار الإمام مسدود بوجه الإنسان. ولمّا كان فكره لا يصل إلى مقامات الإمام ودرجاته. ومستواه لا يتجاوز حدود أفكاره وأهوائه، فليس له مثل ذلك الحقّ.
وقال البعض[32]: كما أنّ احتمال الخطأ موجود في الخبر الواحد، وغير موجود في الخبر المتواتر، إذ أنّ المتواتر يفيد اليقين، فلذلك، إذا أراد شخص واحد أن ينتخب الإمام، فاحتمال الخطأ في انتخابه كبير، بَيدَ أنّه كلّما أزداد عدد الناخبين، فإنّ ذلك الاحتمال يضعف، فيما إذا قام إجماع أهل الحلّ والعقد على ذلك، إلى أن يزول شيئاً فشيئاً، وتكون نتيجة الأصوات معصومة. ونقول هنا بأنّه قد اتّضح من خلال بحثنا أنّ هذه الدعوى باطلة، والخبر المتواتر لا يسعفنا في هذا المجال؛ لأنّ شرطه أن يخبر المخبرون من أشياء محسوسة، وذلك أنّ احتمال الخطأ وحده وارد في كلّ إخبار من إخباراتهم، ويحصل اليقين بصدق الخبر من خلال كثرة المخبرين بدون تواطُؤ. وأمّا إذا أخبروا عن المعقولات والآراء، فلا يفيد خبرهم اليقين أبداً. وبصورة عامّة، فإنّ الخبر المتواتر لا ينطبق على هذه الامور. وهكذا موضوع انتخاب الإمام، فإنّه لا يتيسّر لأناس ليس بمقدورهم أن يدركوا فضائل الإمام وملكاته ونفسيّاته الخفيّة المخفيّة وحالاته الروحيّة ودرجات قربه من عوالم التوحيد، سواء كانوا شخصاً واحداً أو مائة ألف شخص؛ فإنّهم كلّهم في درجة واحدة ومستوى واحد، وسوف لن تنكشف تلك الملكات والفضائل الروحيّة باجتماعهم وانتخابهم أبداً. لذلك فإنّ طريق الإختيار مسدود، وأنّ اختيارهم لن ينتج عصمة في الرأي وصوناً عن الخطأ.
[1] تطلق الغَوغَاء على الجراد حين يخفّ للطيران أو بعد ما ينبت جناحه. ويراد بهم هنا الكثير المختلط من الناس، وهم السفلة المتسرّعون إلى الشرّ.
[2] «مروج الذهب» ج 3، ص 41 إلى 45 عند ذكر أيّام معاوية بن أبي سفيان. طبع مطبعة السعادة بمصر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
[3] الآية 29، من السورة 8: الأنفال.
[4] الآية 48، من السورة 21: الأنبياء.
[5] الآية 53، من السورة 2: البقرة.
[6] الآية 28، من السورة 57: الحديد.
[7] «اصول الكافي» ج 1، ص 198.
[8] الآية 38، من السورة 6: الأنعام.
[9] الآية 3، من السورة 5: المائدة.
[10] الآية 124، من السورة 2: البقرة.
[11] الآيتان 72 و73، من السورة 21: الأنبياء.
[12] الآية 68، من السورة 3: آل عمران.
[13] الآية 56، من السورة 30: الروم.
[14] النئاد: الامر العظيم.
[15] الآية 30، من السورة 9: التوبة. هذه الآية على رواية الصفواني كما أشار إليه المجلسي
[16] الآية 38، من السورة 29: العنكبوت.
[17] الآية 68، من السورة 28: القصص.
[18] الآيات 37 إلى 42، من السورة 68: القلم.
[19] الآية 24، من السورة 47: محمّد.
[20] الآية 87، من السورة 9: التوبة. {وطبع على قلوبهم}.
[21] الآيات 21 إلى 23، من السورة 8: الأنفال.
[22] الآية 93، من السورة 2: البقرة.
[23] الآية 35، من السورة 10: يونس.
[24] الآية 269، من السورة 2: البقرة.
[25] الآية 247، من السورة 2: البقرة.
[26] الآية 113، من السورة 4: النساء.
[27] الآيتان 54 و55، من السورة 4: النساء.
[28] الآية 4، من السورة 62: الجمعة.
[29] الآية 50، من السورة 28: القصص.
[30] الآية 8، من السورة 47: محمّد.
[31] الآية 35، من السورة 40: غافر.
[32] تفسير «الميزان» ج 4، ص 418. عند التعرّض لأدلّة القائلين بالاختيار.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة