التناقض في الحكم المدني والخطأ المادي فيه
المؤلف:
هند جبار حسين ساجت
المصدر:
اثر التناقض على صلاحية احكام القضاء المدني
الجزء والصفحة:
ص 38-42
2025-11-15
58
يترتب على صدور الحكم انتهاء النزاع بين الخصوم، وخروج القضية من يد المحكمة إذ لا يجوز لها أن تعود إلى النظر فيها بما لها من سلطة قضائية، كما لا يجوز لها تعديل حكمها أو إصلاحه، وهذا هو الأصل، إلا أن المشرعان العراقي والمصري رأيا لاعتبارات معيبة عند وضع قانون المرافعات أن يجيزا للمحكمة أن تصحح ما يقع في منطوق حكمها من أخطاء مادية بحتة (1).
فقد نصت المادة (167) من قانون المرافعات العراقي على أنه: " لا يؤثر في صحة الحكم ما يقع فيه من أخطاء مادية بحتة كتابية أو حسابية وإنما يجب تصحيح هذا الخطأ من قبل المحكمة بناء على طلب الطرفين أو أحدهما ".
كما نصت المادة (191) من قانون المرافعات المصري على أن : " تتولى المحكمة تصحيح ما يقع في حكمها من أخطاء مادية بحتة كتابية أو حسابية وذلك بقرار تصدره من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد خصوم من غير مرافعة ويجري كاتب المحكمة هذا التصحيح على نسخة الحكم الأصلية ويوقعه هو ورئيس الجلسة" (2).
والأخطاء المادية البحتة هي التي لا تؤثر على كيان منطوق الحكم بحيث تفقده ذاتيته وتجعله مقطوع الصلة بالحكم الصحيح، كالخطأ في الحساب الذي يأتي نتيجة الجمع والطرح أي نتيجة عملية حسابية فيجب تصحيح هذه الأخطاء، والغلط المادي الذي يقع في بيان اسم الخصوم أو تحريفه أو الخطأ في ذكر اسم القاضي على غير حقيقته (3). ويشترط لقبول طلب التصحيح أن تكون الأخطاء المطلوب تصحيحها أخطاء حسابية أو مادية. كما يجب أن تكون هذه الأخطاء في منطوق الحكم لأن ذلك يؤثر في حقوق الخصوم، فلا عبرة بالأخطاء الواردة في تسبيب الحكم، كما يجب أن تقوم المحكمة التي نظرت في الدعوى بتصحيح هذه الأخطاء المادية، وأن يطلب الطرفان أو أحدهما تصحيح هذه الأخطاء.
في حين أن قانون المرافعات المصري أجاز للمحكمة أن تصحح الخطأ المادي الوارد في الحكم ولو بدون طلب من أحد الخصوم، أي من تلقاء نفسها (4).
وإذا كان يجوز طلب تصحيح ما عسى أن يكون قد وقع في الحكم من أخطاء مادية بحتة " كتابية أو حسابية "، فإن ذلك مشروط بالا يتخذ ذريعة لإعادة النظر في موضوع الحكم أو ستاراً لتعديله أو الإضافة إليه وإلا فإن الطعن والنقض مصيره وهذا ما نصت عليه المادة (191) من قانون المرافعات المصري، بقولها " ... ويجوز الطعن في القرار الصادر بالتصحيح إذا تجاوزت المحكمة فيه حقها ... ..
وتجدر الإشارة أن الطعن في طلب التصحيح يختلف في قانون المرافعات العراقي عنه في قانون المرافعات المصري، فقانون المرافعات العراقي يجيز الطعن في قرار رد طلب التصحيح أو قبوله، أما قانون المرافعات المصري فلا يجيز الطعن في قرار رفض طلب التصحيح فيه على استقلال، أي يجب أن يطعن فيه مع الحكم موضوع التصحيح (5).
وعلى هذا الأساس فإن وحدة الصلة ما بين التناقض في الحكم والتناقض الناشئ عن ا الخطأ المادي فيه أنه كلاهما تناقض، ولكن التناقض الناتج عن الخطأ المادي يعتبر تناقضاً ظاهرياً وليس موضوعياً، بحيث أنه لا يصل إلى حقيقة مفهوم التناقض، فهو لا يكشف بذاته عن خطأ في التقدير (قناعة القاضي أو خطأ في تكوين هذا التقدير، ومثل هذا التناقض الظاهري لا يؤدي إلى بطلان الحكم، كما لا يصلح أن يكون سبباً للطعن فيه وإنما وسيلة علاجه هي بالرجوع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لغرض تصحيحه وذلك كله عملاً بأحكام المادة (167) من قانون المرافعات المدنية العراقي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الخطأ المادي في الحكم المدني يبقى محافظاً على طبيعته المادية، ويخضع لقواعد تصحيح الأخطاء المادية، سواء ورد في الأسباب أو في المنطوق، بشرط ألا يكشف هذا الخطأ المادي عن خطأ في تقدير القاضي أو في تكوين هذا التقدير، وبهذا الصدد جاء في قرار صادر عن محكمة التمييز العراقية بأنه: " إذا كانت المحكمة قد أصدرت قراراً لاحقاً في الدعوى يقضي بتصحيح الخطأ المادي الواقع في قرارها الأول. فإن ذلك لا يعني أن المحكمة قد أصدرت حكمين في موضوع واحد وإنما هي قد أجرت تصحيحاً لخطأ مادي لحكمها في الدعوى (6).
وجاء في قرار آخر لها ما يأتي: " لدى التدقيق المداولة وجد أن الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونية فقرر قبوله شكلاً، ولدى عطف النظر على القرار المميز وجد أنه صحيح وموافق للقانون للأسباب التي استند إليها وأن الاعتراضات التمييزية لا سند لها من القانون، ذلك أن تقدير أتعاب المحاماة في الحكم الصادر بمبلغ (500) دينار لا يعتبر من قبيل الأخطاء المادية التي يجوز تصحيحها وفق الحكم الصادر مما يقتضي الطعن بهذه الفقرة بطرق الطعن التي ينص عليها القانون (7) .
وخلاصة ما تقدم، إن الخطأ المادي بحد ذاته لا يصلح أن يكون سبباً للطعن في الحكم المدني، حتى وإن كان هناك تناقض ظاهري، وإنما يصار إلى تصحيحه وفق قواعد تصحيح الأخطاء المادية، ولكن الخطأ المادي إن كشف عند وجود خطأ في تقدير القاضي (قناعة القاضي) أو في تكوين هذا التقدير، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تعارض الأسباب وتساقطها بحيث ينفي بعضها ما يثبته البعض الآخر أو بالعكس، أو يكون بين الأسباب والمنطوق فلا مفر من الطعن بالحكم توصلا إلى إلغاء هذا التناقض، ويخضع الطعن في هذه الحالة إلى طرق الطعن المقررة للأحكام بسبب هذا التناقض.
أما فيما يخص التناقض في الحكم المدني والفساد في الاستدلال فيه، لا يكفي لصحة التسبيب أن تكون الأسباب واضحة وكافية وصحيحة، بل لا بد من أن تكون صالحة للاستدلال بها، والأصل أن الأخطاء المتعلقة بالأسباب الواقعة لا تؤثر فيما يقوم به القاضي من استدلال، لأنها بعيدة الصلة عن ، مسألة بيان ما إذا كان القاضي قد فكر بشكل صحيح، أو مسألة أنه لم يعبر عن فكره بشكل صحيح.
وإذا كان الأصل ما تقدم، فإن هناك حالات معينة تتعلق بالوقائع ويؤدي الخطأ فيها إلى فساد الاستدلال، وهو ما يعبر عنه بالخطأ في تفسير الوقائع، ويتحقق هذا الخطأ عندما يستخلص القاضي أمراً معيناً من الوقائع ولكنه يجري هذا الاستخلاص بشكل خاطئ مما يؤدي إلى خلل في إحدى مقدمتي القياس، ويعيب بذلك الاستدلال كله فيصدر القاضي حكمه وقد شابه الفساد في الاستدلال (8).
وبناء على ما تقدم فإن الفساد في الاستدلال : " هو عيب يتعلق بالواقع، يشوب المنطق القضائي كما يمس ، سلامة الاستنباط، إذ إن استنباط الحكم يجب أن يكون مؤدياً إلى النتيجة التي بني عليها قضاؤه.
في حين يعرف البعض الآخر الفساد في الاستدلال بأنه: " استخلاص خاطئ في المنطق لنتيجة معينة من دليل صحيح في القانون أو استخلاص لنتيجة صحيحة في المنطق من دليل باطل في القانون، فبطلان النتيجة أو بطلان الدليل يجعل الاستدلال فاسداً في الحالين، ومن باب أولى بطلان الآخرين معاً (9).
ويمكن القول بأن الفساد في الاستدلال يتحقق إذا كان يستحيل فعلاً استخلاص الواقعة التي اعتمدها من الدليل الذي يذكره الحكم كسبب لها.
هذا ويذهب جانب من الفقه إلى صعوبة التمييز بين شرط منطقية الأسباب الذي بتخلفه يكون الحكم قد شابه الفساد في الاستدلال، وشرط كفاية الأسباب الذي بتخلفه يكون الحكم قد شابه قصور في التسبيب لكون أحدهما مكملاً للآخر، في حين ذهب جانب آخر من الفقه إلى أبعد من ذلك بالقول: بأن عيب الفساد في الاستدلال يدخل ضمن عدم كفاية الأسباب(10).
ويذهب جانب آخر من الفقه إلى أن فساد الاستدلال هو عيب مستقل عن عيب عدم كفاية الأسباب، وأنه يتعلق بشرط منطقية الحكم ، وهذا هو الرأي الراجح، فقد تكون هناك أسباب واقعية وقانونية فعلاً ومع ذلك لا تتمكن المحكمة من استخلاص النتيجة التي تؤدي إليها هذه الأسباب، فإذا ترتبت نتائج غير منطقية بالرغم من وجودها كان الحكم مشرباً بعيب الفساد في الاستدلال(11). وبهذا الصدد قضت محكمة التمييز العراقية بما يأتي : " حيث أن المحكمة لم تتبع قرار النقض التمييزي المرقم 3678/ م 2 / 1999 والمؤرخ في 1999/12/23 ، واعتمدت في حكمها على أن الأرض قد تم استصلاحها بتاريخ 11/11/1992 وهذا الاستدلال لا يمكن قبوله مع حقيقة أن وضع اليد جرى على الأرض سنة 1999، فكيف يتم استصلاحها قبل وضع اليد عليها، لذا قرر نقض الحكم المميز وإعادة إضبارة الدعوى إلى محكمتها لملاحظة ما تقدم وربطها بالقرار المقتضي (12).
ومن هذا كله يتبين أن التناقض في الحكم المدني يختلف عن الفساد في الاستدلال فيه، فكون الحكم معيباً بالفساد في الاستدلال يرجع إلى استنباط غير منطقي لنتائج معينة أو الاستناد إلى أدلة دون غيرها، مع عدم بيان سبب عدم الأخذ بها، أما التناقض فهو ذلك التنافر الذي يحدث بين الأسباب بحيث يمحو بعضها بعضاً، ولا يعرف أي الأمرين قصدته المحكمة، ويتوافر إذا كانت الأدلة في مجموعها لا يمكن أن تؤدي وفقاً لأي تفسير إلى النتائج التي انتهى إليها الحكم في أسبابه أو في منطوقه، فالأمر يتعلق بالتناقض، وليس بعدم الملاءمة المنطقية كما في حالة الفساد في الاستدلال.
وخلاصة ما تقدم، إن الفساد في الاستدلال يتعلق بعناصر المنطق القضائي، وهي الاستدلال الاستقرائي، والاستدلال الاستنباطي، وهو ما يمس الحكم من حيث النتيجة، أما التناقض فهو أما أن يكون في الأسباب أو في المنطوق وهو في جميع الأحوال يؤدي إلى التهاتر أو التنافر بين أسباب الحكم ومنطوقه.
______________
1- جمال مولود ذيبان، ضوابط صحة وعدالة الحكم القضائي في الدعوى المدنية، دار الشؤون الثقافية، بغداد - العراق، 2001، ص 131
2- محمد سعيد عبد الرحمن الحكم القضائي ( أركانه وقواعد إصداره)، دار النهضة العربية القاهرة مصر 2002 ص 21.
3- آدم وهيب النداوي، المرافعات المدنية، مطابع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بغداد - العراق، 2001، ص 348
4- المادة (191) من قانون المرافعات المدنية المصري رقم 77 الصادر عام 1949 وتعديلاته.
5- عبد التواب مبارك، الوجيز في أصول القضاء المدني، الطبعة الأولى، الناشر دار النهضة العربية، القاهرة - مصر، 2005، ص 552
6- قرار محكمة التمييز المرقم (312) / موسعة أولى / (89) بتاريخ 30/1/1990 نقلاً عن إبراهيم المشاهدي، المختار في قضاء محكمة التمييز، ج ،3 قسم المرافعات المدنية، مطبعة الزمان، بغداد، 1999، ص130.
7- قرار محكمة استئناف بغداد بصفتها التمييزية بالإضبارة (365/ مستعجل /93) بتاريخ 1993/12/7، نقلاً عن: مدحت المحمود شرح قانون المرافعات وتطبيقاته العملية، الجزء الثاني، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، العراق، 2019، ص 41-42
8 - عزمي عبد الفتاح، تسبيب الأحكام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، 2003 ، ص 489 490.
9- رؤوف عبيد ضوابط تسبيب الجنائية، مطبعة الاستقلال الكبرى القاهرة، 1997، ص 375
10- إبراهيم نجيب سعد، القانون القضائي الخاص، ج 2، طبعة رابعة منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، 2009، ، ص 268
11- عزمي عبد الفتاح، تسبيب الأحكام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية، مرجع سابق، ص 486.
12 - قرار محكمة التمييز المرقم 113/ م 2 / 2001 في 31/1/2001، (غير منشور)
الاكثر قراءة في القانون المدني
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة