هاروت وماروت ملائكة بطبائع بشر
المؤلف:
علي بن إبراهيم
المصدر:
تفسير القمي
الجزء والصفحة:
ج1، ص 55 - 58
2025-11-12
29
قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ- إلى قوله ـ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] فانه حدثنى ابي عن ابن ابي عمير عن ابان بن عثمان عن ابي بصير عن ابي جعفر (عليه السلام) قال ان سليمان بن داود امر الجن والانس فبنوا له بيتا من قوارير قال فبينما هو متكئ على عصاه ينظر إلى الشياطين كيف يعملون وينظرون اليه إذا حانت منه التفاتة فاذا هو برجل معه في القبة، ففزع منه وقال من انت؟ قال انا الذي لا اقبل الرشى ولا اهاب الملوك، انا ملك الموت، فقبضه وهو متكئ على عصاه فمكثوا سنة يبنون وينظرون اليه ويدانون له ويعملون حتى بعث الله الارضة فاكلت منساته وهى العصا فلما خر تبينت الانس ان لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا سنة في العذاب المهين فالجن تشكر الارضة بما عملت بعصا سليمان.
قال فلا تكاد تراها في مكان الا وجد عندها ماء وطين فلما هلك سليمان وضع ابليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره " هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخاير كنوز العلم من اراد كذا وكذا فليفعل كذا وكذا " ثم دفنه تحت السرير ثم استثاره لهم فقرأه فقال الكافرون ما كان سليمان (عليه السلام) يغلبنا الا بهذا وقال المؤمنون بل هو عبدالله ونبيه فقال الله جل ذكره {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ- إلى قوله - يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].
فانه حدثني ابي عن الحسن بن محبوب عن علي بن رياب عن محمد بن قيس عن ابي جعفر (عليه السلام) قال سأله عطاء ونحن بمكة عن هاروت وماروت فقال أبو جعفر ان الملائكة كانوا ينزلون من السماء إلى الارض في كل يوم وليلة يحفظون اوساط اهل الارض من ولد آدم والجن ويكتبون اعمالهم ويعرجون بها إلى السماء قال فضج اهل السماء من معاصي اهل الارض فتوامروا[1] فيما بينهم مما يسمعون ويرون من افترائهم الكذب على الله تبارك وتعالى وجرءتهم عليه ونزهوا الله مما يقول فيه خلقه ويصفون، فقال طائفة من الملائكة " يا ربنا ما تغضب مما يعمل خلقك في ارضك ومما يصفون فيك الكذب ويقولون الزور ويرتكبون المعاصي وقد نهيتهم عنها ثم انت تحلم عنهم وهم في قبضتك وقدرتك وخلال عافيتك ".
قال أبو جعفر (عليه السلام) فاحب الله ان يرى الملائكة القدرة ونافذ امره في جميع خلقه ويعرف الملائكة ما من به عليهم ومما عدله عنهم من صنع خلقه وما طبعهم عليه من الطاعة وعصمهم من الذنوب، قال فاوحى الله إلى الملائكة ان انتخبوا منكم ملكين حتى اهبطهما إلى الارض ثم اجعل فيهما من طبايع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والامل مثل ما جعلته في ولد آدم ثم اختبرهما في الطاعة لي، فندبوا إلى ذلك هاروت وماروت وكانا من اشد الملائكة قولا في العيب لولد آدم واستيثار غضب الله عليهم، قال فاوحى الله اليهما ان اهبطا إلى الارض فقد جعلت فيكما من طبايع الطعام والشراب والشهوة والحرص والامل مثل ما جعلته في ولد آدم، قال ثم اوحى الله اليهما انظرا ان لا تشركا بي شيئا ولا تقتلا النفس التي حرم الله ولا تزنيا ولا تشربا الخمر قال ثم كشط عن السماوات السبع ليريهما قدرته ثم اهبطهما إلى الارض في صورة البشر ولباسهم فهبطا ناحية بابل فوقع لهما بناء مشرق فاقبلا نحوه فاذا بحضرته امرأة جميلة حسناء متزينة عطرة مقبلة مسفرة نحوهما، قال فلما نظرا اليها وناطقاها وتأملاها وقعت في قلوبهما موقعا شديدا لموقع الشهوة التي جعلت فيهما فرجعا اليها رجوع فتنة وخذلان وراوداها عن نفسهما فقالت لهما ان لي دينا ادين به وليس اقدر في ديني على ان اجيبكما إلى ما تريدان إلا ان تدخلا في ديني الذي ادين به فقالا لها وما دينك؟ قالت لي آله من عبده وسجد له كان لي السبيل إلى ان اجيبه إلى كل ما سألني، فقالا لها وما الهك قالت الهي هذا الصنم قال فنظر احدهما إلى صاحبه فقال هاتان خصلتان مما نهانا عنهما الشرك والزنا لانا ان سجدنا لهذا الصنم وعبدناه اشركنا بالله وانما نشرك بالله لنصل إلى الزنا وهو ذا نحن نطلب الزنا وليس نخطأ الا بالشرك فائتمرا بينهما فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما، فقالا لها فانا نجيبك ما سألت، فقالت فدونكما فاشربا هذا الخمر فانه قربان لكما عنده به تصلان إلى ما تريدان، فائتمرا بينهما فقالا هذه ثلاث خصال مما نهانا ربنا عنها الشرك والزنا وشرب الخمر وانما ندخل في شرب الخمر والشرك حتى نصل إلى الزنا فائتمرا بينهما، فقالا ما اعظم البلية بك قد أجبناك إلى ما سألت، قالت فدونكما فاشربا من هذا الخمر واعبدا هذا الصنم واسجدا له.
فشربا الخمر وعبدا الصنم ثم راوداها من نفسها فلما تهيأت لهما وتهيئا لها دخل عليهما سائل يسأل، فلما رءاهما ورأياه ذعرا منه فقال لهما انكما لامرءان ذعران فدخلتما بهذه المرأة العطرة الحسناء، انكما لرجلا سوء وخرج عنهما فقالت لهما لا والهي لا تصلان الآن الي وقد اطلع هذا الرجل على حالكما وعرف مكانكما ويخرج الآن ويخبر بخبركما ولكن بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل ان يفضحكما ويفضحني ثم دونكما فاقضيا حاجتكما وانتما مطمئنان آمنان، قال فقاما إلى الرجل فادركاه فقتلاه ثم رجعا اليها فلم يرياها وبدت لهما سوءاتهما ونزع عنهما رياشهما واسقط في ايديهما، قال فاوحى الله اليهما انما اهبطتكما إلى الارض مع خلقي ساعة من النهار فعصيتماني باربع من معاصي كلها قد نهيتكما عنها فلم تراقباني فلم تستحيا مني وقد كنتما اشد من نقم على اهل الارض للمعاصي واستسجز اسفى وغضبى عليهم، ولما جعلت فيكما من طبع خلقي وعصمني اياكما من المعاصي فكيف رأيتما موضع خذلاني فيكما، اختارا عذاب الدنيا او عذاب الآخرة، فقال احدهما لصاحبه نتمتع من شهواتها في الدنيا اذ صرنا اليها إلى ان نصير إلى عذاب الآخرة، فقال الآخر ان عذاب الدنيا له مدة وانقطاع وعذاب الآخرة قائم لا انقضاء له فلسنا نختار عذاب الآخرة الدائم الشديد على عذاب الدنيا المنقطع الفاني قال فاختارا عذاب الدنيا وكانا يعلمان الناس السحر في ارض بابل ثم لما علما الناس السحر رفعا من الارض إلى الهواء فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة [2].
[1] اي تشاوروا وتكلموا فيما بينهم. ج ـ ز (*)
[2] ا يخفى ان هذه الرواية وان كان ظاهرها مما ينكره العقل والنقل لكونه قادحا في قداسة الملائكة الذين لا يعصون الله طرفة عين لانهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول، وانه قد ورد في الباب اخبار رادة لها كالخبر المروي في تفسير الامام العسكري (عليه السلام)، الا ان التأمل الدقيق يعطي عدم منافاتها للعقل ـ لان عصيان الملائكة مستحيل مع كونهم كذلك ـ اما بعد ان اعطاهما الله تعالى ما للبشر من القوى الشهوية والاحساسات النفسانية ـ كما يظهر من الرواية ـ فظاهره صيرورتهما بشرا او مثل البشر في فقدان العصمة وامكان المعصية، واشكال الفلاسفة بعدم امكان انقلاب الماهيات مدفوع، بعموم قدرة الله تعالى، والمعاجز الصادرة عن المعصومين : شاهدة على ذلك ـ لكنه قد ورد في تفسير الامام العسكري (عليه السلام) ما يرد هذا الخبر فحينئذ يؤخذ بالاوضح متنا والاوثق سندا ويعمل بالمرجحات كما هو المناط في باب اختلاف الروايتين ولما لم يكن ثمة ثمرة عملية لم نطل الكلام في تنقيح المقام ج ـ ز.
الاكثر قراءة في قصة النبي سليمان وقومه
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة