اجتماع الصفات المتضادّة في أمير المؤمنين عليه السلام					
				 
				
					
						
						 المؤلف:  
						السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ					
					
						
						 المصدر:  
						معرفة الإمام					
					
						
						 الجزء والصفحة:  
						ج2/ص31-37					
					
					
						
						2025-11-03
					
					
						
						29					
				 
				
				
				
				
				
				
				
				
				
			 
			
			
				
				يقول الشريف الرضيّ جامع «نهج البلاغة» في مقدّمته على النهج: ومن عجائبه عليه السلام التي انفرد بها الواردة في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمّله المتأمّل، وفكرّ فيه المتفكّر، وخلع من قلبه أنّه كلام مثله ممّن عظم قدره، ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشكّ في أنّه من كلام من لا حظّ له إلّا في الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة. وقد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلّا حسّه، ولا يرى إلّا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنّه كلام من ينغمِس في الحرب مصلتاً سيفه، فيقطع الرقاب ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مُهَجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزهّاد، وبدل الأبدال. وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد، وألّف بين الأشتات. وكثيراً ما أذاكِرُ الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها. وهي موضوع للعبرة بها والفكرة فيها[1].
يقول الشارح المعتزليّ ابن أبي الحديد الشافعيّ في ذيل كلام الشريف الرضيّ: كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاق متضادّة.
فمنها: ما ذكره الرضيّ، وهو موضع التعجّب؛ لأنّ الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية، وفتكٍ وتمرّد وجَبَريّة، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذّها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد، وتذكيرهم الموت، أن يكونوا ذوي رقّة ولين، وضعف قلب، وخَوَر طبع وهاتان حالتان متضادّتان، وقد اجتمعتا له عليه السلام.
ومنها: أنّ الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سَبُعِيّة، وطباع حوشيّة وغرائز وحشيّة وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق وعبوس في الوجوه، ونفار من الناس واستيحاش وأمير المؤمنين عليه السلام كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم في سبيل الله، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذّ الدنيا، وأكثرهم وعظاً وتذكيراً بأيّام الله ومَثلاته، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة وآداباً لنفسه في المعاملة. وكان مع ذلك ألطف العالَم أخلاقاً، وأسفرهم وجهاً، وأكثرهم بشراً وأوفاهم هشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش، أو خُلُق نافر، أو تجهّم مباعد. أو غِلظة وفظاظة تنفر معهما نفس، أو يتكدّر معهما قلب. حتى عيب «بالدّعابة»، ولمّا لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً تعلّقوا بها واعتمدوا في التنفير عنه عليها (وقالوا .... لأنّ عليّاً يمزح فهو لا يصلح للخلافة). وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة.
ومنها: أنّ الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرئاسة أن يكون ذا كِبرٍ وتيهٍ وتعظّم وتغطرُس، خصوصاً إذا اضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات اخرى. وكان أمير المؤمنين عليه السلام في مُصاص الشرف ومعدنه ومعانيه، لا يشكّ عدوّ ولا صديق أنّه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمّه صلوات الله عليه. وقد حصل له هذا الشرف- غير شرف النسب- من جهات كثيرة متعدّدة، قد ذكرنا بعضها ومع ذلك فكان أشدّ الناس تواضعاً لصغير وكبير، وألينهم عريكة وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكِبر، وأعرفهم بحقّ.
وكانت حاله هذه في كلا زمانيه: زمان خلافته، والزمان الذي قبله. لم تغيّره الإمرة ولا أحالت خُلُقَه الرئاسة. وكيف تحيل الرئاسة خُلُقَه وما زال رئيساً! وكيف تغيّر الإمرة سجيّته وما برح أميراً! لم يستفد بالخلافة شرفاً، ولا اكتسب بها زينة، بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن الجَوزيّ في تاريخه المعروف «بالمنتظم»: تذاكروا عند أحمد بن حنبل خلافة أبي بكر وعليّ، وقالوا فأكثروا، فرفع رأسه إليهم، وقال: قد أكثرتم! أنّ عَلِيّاً لَمْ تَزِنْهُ الْخِلافَةُ؛ ولَكِنَّهُ زَانَها. وهذا الكلام دالّ بفحواه ومفهومه على أنّ غيره ازدان بالخلافة وتمّمت نقيصته، وأنّ عليّاً عليه السلام لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمّم بالخلافة؛ وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها فتمّ نقصها بولايته إيّاها.
ومنها: أنّ الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو، لأنّ أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوّة الغضبيّة عندهم شديدة، وقد علمتَ حالَ أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح، ومغالبة هوى النفس، وقد رأيتَ فعله يوم الجمل[2].
ولقد أحسن «مهيار» في قوله:
حَتَّى إِذا دَارَت رَحَى بَغْيِهِمْ  ***    عَلَيْهِم وسَبَقَ السَّيْفُ العَذَلْ
 عَاذُوا بِعَفوِ ماجِدٍ مُعَوَّدٍ      ***    لِلْعَفْوِ حَمَّالٍ لَهُم عَلَى العِلَلْ
فَنَجَّتِ البُقْيَا عَلَيْهِم مَن نَجَا    ***    وَأكَلَ الحَديد مِنْهُمْ مَنْ أكَل
أطَّتْ بِهِمْ أرْحَامُهُمْ فَلَمْ يُطِعْ  ***    ثائرَةُ الْغَيْظِ ولَمْ يَشْفِ الغُلَلْ
ومنها: أنّا ما رأينا شجاعاً كان جواداً وسخيّاً قطّ. كان عبد الله بن الزبير شجاعاً وكان أبخل الناس. وكان الزبير أبوه شجاعاً وكان شحيحاً قال له عمر: لو وُلّيتها، لظلتَ تُلاطِمُ الناس في البطحاء على الصاع والمُدّ. وأراد عليّ عليه السلام أن يحجُر على ابن اخيه عبد الله بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته؛ فقال عليه السلام: أما إنّه قد لاذ بملاذ، ولم يحجُر عليه. وكان طلحة شجاعاً وكان شحيحاً، أمسك عن الإنفاق حتى خلّف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر. وكان عبد الملك شجاعاً وكان شحيحاً، يُضرَب به المثل في الشحّ، وسمّي: رَشْحُ الحُجْر، لبخله. جلّ معناك أن يحيط بك الشعر!
وقد علمتَ حالَ أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء، كيف هي! وهذا من أعاجيبه أيضاً عليه السلام[3]. وقد ذكر هذا المعنى الأديب الشاعر الشيخ صفّي الدّين عبد العزيز بن سِرايا الحلّيّ، فقال:
جُمِعَتْ في صِفَاتِكَ الأضدادُ  ***    فَلِهذا عَزَّتْ لَكَ الأندادُ
زَاهِدٌ حَاكِمٌ حَلِيمٌ شُجَاعٌ       ***    فَاتِكٌ نَاسِكٌ فَقيرٌ جَوادُ
شِيمٌ ما جُمِعنَ في بِشَر قَطْ   ***    وَلَا حازَ مِثْلَهُنَّ الْعِبادُ
خُلُقٌ يُخجِلُ النَّسِيمَ مِن اللُّطْفِ        ***    وَبَأسٌ يَذُوبُ مِنْهُ الجَمادُ
ظَهَرَتْ مِنكَ في الوَرى مَكرُمَاتٌ    ***    فَأقَرَّت بِفَضْلِكَ الحُسَّادُ
إن يُكَّذِبُ بِهَا عَداكَ فَقَدْ       ***    كَذَّبَ مِن قَبْلُ قَوْمُ لُوطٍ وعادُ
جَلَّ مَعْناكَ أن يُحيطَ بِهِ الشِّعْرُ       ***    وَيُحصِي صِفَاتِكَ النُّقَّادُ[4]
يقول القاضي نور الله الشوشتريّ بعد نقل هذه الأبيات: أنّ جمع أمير المؤمنين عليه السلام للصفات المتضادّة هو على أساس التشبّه بالله تعالى في سعة الكمال وإحاطته التي هي غير منحصرة بطرف من الأضداد وغير مقيّدة بجانب من الجوانب، بل هي مقتضى تلاحم الأطراف وجامعيّة الأضداد، لأنّ المقرّر عند أهل التحقيق هو أنّ كمال كلّ صفة يتّضح عند ما تكون تلك الصفة متلاحمة ومتشابكة مع ضدّها، كما يلاحظ ذلك في عقد فرائد الأسماء الحسنى: «هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ».
إذَن، يمكن وصف الله تعالى والمتشبّهين به في صفات الكمال بالصفات المتقابلة لاعتبارات متنوّعة، ولا ينحصر في واحدة منها.
ونعم ما قال الشاعر الفارسيّ في هذا المجال:
اسير نَفْس نشد يك نَفَس على ولى   ***    نشد اسير كه بر مؤمنين أمير آمد
اسير نفس كجا وأمير خلق كجا      ***    كه سربلند نشد آن كه سر به زير آمد
على نخوردغذائى كه سير برخيزد ***    مگر كه سير خورد آن كه نيم سير آمد
على ستمنكشيد وحقير ظلم نشد      ***    نشد حقير كه دشمن برش حقير آمد
على نداد به باطل حقى ز بيتالمال         ***    كه بر حساب وكتاب خدا خبير آمد
درود باد بر آن ملّتى كه رهبروى  ***    چنينبلند مقام وچنين خطير آمد[5]
[1]«شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد ذات الأربعة مجلّدات ج 1، ص 16.
 
[2]عفا أمير المؤمنين عليه السلام عن عائشة، ومع الحقد الشديد الذي كانت تكنّه في قلبها ضدّه، فقد عفا عنها، قال في «نهج البلاغة»: وأمّا فُلانة [عائشة] فأدركها رأي النساء. إلخ [«نهج البلاغة» ج 1، ص 283 تعليق الشيخ محمّد عبدة] وعفا عن مروان بن الحكم وصفح عنه أيضاً، مع أنّه ذكر غدره ومكره عند عفوه عنه، «نهج البلاغة» ج 1، ص 123.
 
[3]«شرح نهج البلاغة» لابن ابن الحديد ج 1، ص 16 و ص 17.
 
[4]«مجالس المؤمنين» ص 493؛ و«سفينة البحار» ج 1، ص 437. كان الشاعر الشيخ صفي الدين تلميذاً للمحقّق الحلّي، وصحبه الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي الشافعي، الذي كان من أكابر المحدّثين، ومن المتأخّرين.
 
[5]ترجمة الأبيات: «لم يَعِش ولى الله علي بن أبي طالب أسير نفسه لحظة واحدة؛ فهو متحرّر منها لأنّه أمير المؤمنين.
أين أسير النفس من أمير الخلق؛ وكيف يصبح الذليل عزيزاً.
لم يقم على من طعامه متخما؛ فالمنهوم فقط هو الذي يقوم من طعامه متخماً ولم يتحمّل ظلماً ولم يستسلم في مقابل الظلم؛ لم يستسلم فصغر العدوّ في عينيه.
ولم يعط من بيت المال حقّاً لأحد؛ باطلًا لأنّه كان يعرف كتاب الله والحساب.
طوبي لُامّة يكون لقآئدها؛ مثل هذا المقام الرفيع والمكانة السامية.
 
 
				
				
					
					
					 الاكثر قراءة في  سيرة الامام علي ـ عليه السلام					
					
				 
				
				
					
					
						اخر الاخبار
					
					
						
							  اخبار العتبة العباسية المقدسة