طريقة اثبات الإسلام والشرائع السابقة
المؤلف:
آية الله السيد محسن الخرّازي
المصدر:
بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية
الجزء والصفحة:
ج1، ص 300 - 311
2025-10-29
154
لو خاصمنا أحد في صحة الدين الاسلامي نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له، وهي القرآن الكريم على ما تقدم من وجه إعجازه ، وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللذين لا بد أن يمرا على الإنسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها (أ).
وأما الشرائع السابقة كاليهودية والنصرانية ، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم أو عند تجريد أنفسنا عن العقيدة الإسلامية ، لا حجة لنا لإقناع نفوسنا بصحتها ، ولا لإقناع المشكك المتسائل ، إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز ، وما ينقله أتباعها من الخوارق والمعاجز للأنبياء السابقين ، فهم متهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها.
وليس في الكتاب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الأنبياء كالتوراة والإنجيل ، ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجة قاطعة ، ودليلا مقنعا في نفسها قبل تصديق الإسلام لها.
وإنما صح لنا نحن المسلمين أن نقر ونصدق بنبوة أهل الشرائع السابقة ، فلأنا بعد تصديقنا بالدين الإسلامي ، كان علينا أن نصدق بكل ما جاء به وصدقه ، ومن جملة ما جاء به وصدقه ، نبوة جملة من الأنبياء السابقين على نحو ما مر ذكره.
وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة ، بعد اعتناقه الإسلام ، لأن التصديق به تصديق بها ، والايمان به ايمان بالرسل السابقين ، والأنبياء المتقدمين ، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات انبيائها ؛ لأن المفروض أنه مسلم قد آمن بها بايمانه بالإسلام وكفى.
نعم لو بحث الشخص عن صحة الدين الإسلامي ، فلم تثبت له صحته وجب عليه عقلا ـ بمقتضى وجوب المعرفة والنظر ـ أن يبحث عن صحة دين النصرانية ؛ لأنه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام ، فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضا ، وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الاديان السابقة عليه ، وهو دين اليهودية حسب الفرض ... وهكذا ينتقل في الفحص ، حتى يتم له اليقين بصحة دين من الأديان أو يرفضها جميعا (ب).
وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية ، فإن اليهودي لا يغنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحة النصرانية والدين الإسلامي ، بل يجب عليه النظر والمعرفة بمقتضى حكم العقل ، وكذلك النصراني ليس له أن يكتفي بايمانه بالمسيح ـ عليه السلام ـ بل يجب أن يبحث ويفحص عن الإسلام وصحته ، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص ؛ لأن اليهودية وكذا النصرانية لا تنفي وجود شريعة لا حقة لها ، ناسخة لأحكامها ، ولم يقل موسى ولا المسيح ـ عليهماالسلام ـ أنه لا نبي بعدي.
فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنوا إلى عقيدتهم ، ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لشريعتهم ، كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود ، والشريعة الإسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى ، بل يجب بحسب فطرة العقول أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة ، فإن ثبتت لهما صحتها انتقلوا في دينهم إليها ، وإلّا صح لهم في شريعة العقل حينئذ البقاء على دينهم القديم والركون إليه.
أما المسلم كما قلنا ، فإنه إذا اعتقد بالإسلام لا يجب عليه الفحص ، لا عن الأديان السابقة على دينه ، ولا عن اللاحقة التي تدعي. أما السابقة فلأن المفروض أنه مصدق بها ، فلما ذا يطلب الدليل عليها ، وإنما فقط قد حكم بأنها منسوخة بالشريعة الاسلامية فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها ، وأما اللاحقة فلأن نبي الإسلام محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : «لا نبي بعدي» وهو الصادق الأمين كما هو المفروض (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) فلما ذا يطلب الدليل على صحة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدع.
نعم على المسلم بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة واختلاف المذاهب والآراء ، وتشعب الفرق والنحل أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنه يوصله إلى معرفة الأحكام المنزلة على محمّد صاحب الرسالة ؛ لأن المسلم مكلف بالعمل بجميع الأحكام المنزلة في الشريعة كما انزلت ، ولكن كيف يعرف أنها الأحكام المنزلة كما انزلت ، والمسلمون مختلفون والطوائف متفرقة ، فلا الصلاة واحدة ولا العبادات متفقة ، ولا الأعمال في جميع المعاملات على وتيرة واحدة ... فما ذا يصنع؟ بأية طريقة من الصلاة ـ إذن ـ يصلي؟ وبأية شاكلة من الآراء يعمل في عباداته ومعاملاته كالنكاح والطلاق والميراث والبيع والشراء وإقامة الحدود والديات وما إلى ذلك؟
ولا يجوز له أن يقلد الآباء ، ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه ، بل لا بد أن يتيقن بينه وبين نفسه ، وبينه وبين الله تعالى ، فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة ولا تحيز ولا تعصب ، نعم لا بد أن يتيقن بأنه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه تعالى ، ويعتقد أنه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى باتباعها ، وأخذ الأحكام منها ، ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ، (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وأول ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه أنه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقة غيرهم. وإذا أخذ بطريقة آل البيت فهل الطريقة الصحيحة طريقة الإمامية الاثني عشرية أو طريقة من سواهم من الفرق الاخرى (ج).
ثم إذا أخذ بطريقة أهل السنة فمن يقلد من المذاهب الأربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة؟ هكذا يقع التساؤل لمن أعطى الحرية في التفكير والاختيار حتى يلتجئ من الحق إلى ركن وثيق. ولأجل هذا وجب علينا بعد هذا أن نبحث عن الإمامة وأن نبحث عما يتبعها في عقيدة الإمامية الاثني عشرية.
______________
(أ) هذا مضافا إلى تواتر المعجزات الاخر ، التي رواها المحدثون والمؤرخون في جوامعهم. قال العلّامة الحلي ـ قدس سره ـ في شرح تجريد الاعتقاد : «نقل عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ معجزات كثيرة كنبوع الماء من بين أصابعه حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزوة تبوك ، وكعود (1) ماء بئر الحديبية لما استسقاه أصحابه بالكلية ، ونشفت البئر ، فدفع سهمه إلى البراء بن عازب ، فأمره بالنزول ، وغرزه في البئر فغرزه فكثر الماء في الحال ، حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق ، ونقل عنه ـ عليه السلام ـ في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف ، فتفل فيها حتى انفجر الماء الزلال منها ، فبلغ أهل اليمامة ذلك ، فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك ، فتفل فيها فذهب الماء أجمع ، ولما نزل قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال لعلي ـ عليه السلام ـ : شق فخذ شاة ، وجئني بعس من لبن ، وادع لي من بني أبيك بني هاشم ، ففعل علي ـ عليه السلام ـ ذلك ، ودعاهم. وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتى شبعوا ، ما يرى فيه إلّا أثر أصابعهم ، وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله ، فلما أراد أن يدعوهم إلى الإسلام ، قال أبو لهب : كاد ما سحركم محمّد ، فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى ، فقال لعلي ـ عليه السلام ـ : افعل مثل ما فعلت ، ففعل في اليوم الثاني كالأول ، فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى كلامه ، فقال لعلي ـ عليه السلام ـ : افعل مثل ما فعلت ، ففعل مثله في اليوم الثالث ، فبايع عليا ـ عليه السلام ـ على الخلافة بعده ومتابعته.
وذبح له جابر بن عبد الله عناقا يوم الخندق ، وخبز له صاع شعير ، ثم دعاه ـ عليه السلام ـ فقال : أنا وأصحابي؟ فقال : نعم ، ثم جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك ، فقالت له : أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال : لا ، بل هو لما قال : أنا وأصحابي قلت : نعم ، فقالت : هو أعرف بما قال ، فلما جاء ـ عليه السلام ـ قال : ما عندكم؟ قال جابر : ما عندنا إلّا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه ، فقال ـ عليه السلام ـ : أقعد أصحابي عشرة عشرة ، ففعل فأكلوا كلهم.
وسبح الحصا في يده ـ عليه السلام ـ وشهد الذئب له بالرسالة ، فإن اهبان ابن أوس (2) كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه ، فقال له الذئب : أتعجب من أخذي شاة ، هذا محمّد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه فجاء إلى النبي وأسلم ، وكان يدعى مكلم الذئب.
وتفل في عين علي ـ صلى الله عليه وآله ـ لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا ، ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد ، فكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا ، وانشق له القمر ، ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخد الأرض من غير جاذب ولا دافع ، ثم رجعت إلى مكانها ، وكان يخطب عند الجذع فاتخذ له منبرا فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن.
وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة ، كما أخبر بقتل الحسين ـ عليه السلام ـ وموضع الفتك به (3) فقتل في ذلك الموضع ، وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس فقتل بعده ـ عليه السلام ـ وأخبر بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما ، وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة ، وادعاء العنسي (4) النبوة بصنعاء ، وأنهما سيقتلان ، فقتل فيروز الديلمي العنسي قرب وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقتل خالد بن الوليد مسيلمة.
وأخبر عليا ـ عليه السلام ـ بخبر ذي الثدية وسيأتي ، ودعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا ـ عليه السلام ـ (وَالنَّجْمِ) فقال عتبة : كفرت برب النجم ، بتسليط كلب الله عليه ، فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد ، فارتعدت فرائصه فقال له أصحابه : من أي شيء ترتعد؟ فقال : إن محمدا دعا علي فو الله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمّد ، فأحاط القوم بأنفسهم ومتاعهم عليه ، فجاء الأسد فلحس رءوسهم واحدا واحدا (5) حتى انتهى إليه ، فضغمه ضغمة (6) ، ففزع منه ومات ، وأخبر بموت النجاشي ، وقتل زيد بن حارثة بمؤتة ، فأخبر ـ عليه السلام ـ بقتله في المدينة وأن جعفرا أخذ الراية ، ثم قال : قتل جعفر ، ثم توقف وقفة ، ثم قال : وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، ثم قال : وقتل عبد الله بن رواحة وقام ـ عليه السلام ـ إلى بيت جعفر واستخرج ولده ، ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله ، ثم ظهر الأمر كما أخبر ـ عليه السلام ـ وقال لعمار : تقتلك الفئة الباغية ، فقتله أصحاب معاوية ، ولاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه ، واحتال على العوام ، فقال : قتله من جاء به ، فعارضه ابن عباس وقال : لم يقتل الكفار إذن حمزة ، وإنما قتله رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأنه هو الذي جاء به إليهم حتى قتلوه.
وقال لعلي ـ عليه السلام ـ : ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين ، فالناكثون طلحة والزبير ؛ لأنهما بايعاه ونكثا ، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية وأصحابه ، لانهم ظلمة بغاة ، والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج ، ثم قال العلّامة الحلي ـ قدس سره ـ : «وهذه المعجزات بعض ما نقل واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ الغرض بهذه ، وقد أوردنا معجزات اخرى منقولة في كتاب نهاية المرام» (7).
وأيضا أشار إلى بعض المعجزات آية الله الشيخ محمّد جواد البلاغي وأنا أذكر منها ما لم ينقله العلّامة الحلي ـ قدس سره ـ قال : «فمنها تظليل الغمامة له في مسيره ، والتصاق الحجر بكف أبي جهل لما أراد أن يرميه به ، ونسج العنكبوت ، وتفريخ الحمامة في ساعة على باب الغار ، ونزول قوائم مهر سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي في الأرض وخروجها بدعائه لما تبعه ، ومسحه على ضرع العنز الحائل ، حتى درّ لبنها وارتووا منه ، وكذا شاة أمّ معبد وغيرها ، ورده لعين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد ما قلعت فصارت أحسن عينيه ، وإبرائه المجذوم من جهينة بمسحه بالماء الذي تفل فيه ، وإبرائه رجل عمرو بن معاذ يوم قطعت إذ تفل عليها ، ويد معاذ بن عفراء في بدر ، وإخباره في القرآن الكريم بأن الله كفاه المستهزئين ، وبظهوره على الدين كله ، وبدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين محلقين ومقصرين ، وبغلبة الروم في بضع سنين ، وإخباره وهو محصور في الشعب بشأن صحيفة قريش القاطعة ، وإخباره بفتح المسلمين مصر والشام والعراق ، وبموت كسرى في يومه ، وبأن فاطمة ابنته أول أهله لحوقا به ، وبأن أبا ذر يموت وحده ، ويسعد بدفنه جماعة من أهل العراق ، وأن إحدى نسائه تنبحها كلاب الحوأب ، وبقتل علي ـ عليه السلام ـ في شهر رمضان ، وأن كريمته الشريفة تخضب من دم رأسه ، وأن ولده الحسين - عليه السلام - يقتل بكربلاء إلى غير ذلك ، ومن معجزاته استجابة دعائه ، وسقيا المطر باستقائه في موارد كثيرة جدا ، وقد أنهت كتب الحديث والتاريخ موارد معجزاته ـ صلى الله عليه وآله ـ وكراماته من نحو ما ذكرناه وغيره إلى أكثر من ثلاثة آلاف ، وأن الكثير منها في عصره وما بعده هو قسم المستفيض أو المشهور أو المتواتر ، ولكن عادة المصنفين على الاقتصار على سند المشيخة فكسته هذه العادة في الظاهر ثوب رواية الآحاد ، لكن الإعجاز المشترك بينها ، الشاهد على الرسالة يزيد على حد التواتر ويبلغ درجة الضروريات وها هي كتب الحديث والتاريخ» (8).
وهذا مضافا إلى البشارات التي صدرت من الأنبياء الماضين في حق نبوة نبينا محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ وأوصافه ، وهذه البشارات كانت واضحة بحيث لا مجال لإنكار نبوته كما نص عليه في القرآن الكريم بقوله عزوجل : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (9) ، وصرح بأن موسى وعيسى ـ على نبينا وآله وعليهما السلام ـ بشّرا به حيث قال تعالى : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» (10) ، وقال عزوجل : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (11). قال في البيان : «وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوته في زمن حياته وبعد مماته ، وهذا يدلنا دلالة قطعية على وجود هذه البشارة في الكتابين المذكورين في زمان دعوته ، ولو لم تكن هذه البشارة مذكورة فيهما لكان ذلك دليلا كافيا لليهود والنصارى على تكذيب القرآن في دعواه وتكذيب النبي في دعوته» (12) وفي التوراة والإنجيل المحرفين مواضع يمكن استظهار البشارة منها على نبينا محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد تصدى جمع لذلك وأغمضنا عن ذكرها للاختصار (13).
(ب) ولا يخفى عليك أنه بعد قيام الأدلة العقلية على لزوم البعثة ، نعلم إجمالا بوجود المبعوثين من الأنبياء والرسل في الأزمنة السابقة ، فاللازم على من تفحص ولم يثبت عنده صحة الأديان الموجودة ، هو الايمان بهم على الإجمال ، فإن علم من أوامرهم ونواهيهم شيئا ، فعليه العمل بعلمه ، فإن كان علما تفصيليا فهو وإلّا فبمقتضى القواعد من الاحتياط فيما إذا أمكن ولا عسر ، ومن التخيير فيما إذا لم يمكن ، وبالجملة فالحكم بالرفض مطلقا محل تأمل ، بل منع. ثم إن رمي الامم السابقة بالتهمة في جميع ما ينقلون عن أنبيائهم من المعجزات ، ليس بسديد ، بل اللازم هو المراجعة إلى كتبهم المختلفة ، فإن حصل في مورد تواتر النقل ، ولو كان تواترا إجماليا فهو ، وإلّا فلا وقع لما لا يفيد العلم ، كما لا يخفى وبالجملة فالتفصيل المذكور في منقولاتهم أحسن من رمي جميع منقولاتهم بالتهمة فلا تغفل.
(ج) وسيأتي الاستدلال على لزوم الرجوع إلى طريقة الإمامية الاثني عشرية عند قوله : «عقيدتنا في طاعة الائمة عليهم السلام» إن شاء الله تعالى ، وسنبين بإذنه تعالى وتوفيقه ، معنى الإمامة ومغزاها وعلو شأنها ، وأن الأعمال الصالحة لا تكون عند الله تعالى مقبولة إلّا بالاعتقاد بالإمامة ، وأنه لا يكفي في الاعتقاد بالإمامة مجرد الرجوع إليهم في أخذ الأحكام ، فإن غايته أنهم كالرواة الثقات ، وأين هذا من مقام الإمامة الشامخة ، والمصنف ذكر لزوم الرجوع إليهم في أخذ الأحكام من باب المماشاة والحد الأقل من الرجوع إليهم مع اخواننا العامة ، فإنهم لا يرجعون في القضاء والفتاوى إلى جوامع أحاديثنا ، مع أن اصولنا أصح سندا وأتقن متنا ، إذ كلها صادرة من أهل البيت الذين هم معصومون عن الخطأ والاشتباه ، بنص قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما سيأتي إن شاء الله بيانه ، والنقلة عنهم هم الموثقون ، فلا حجة لهم في الإعراض عن جوامع أحاديثنا ، بل الحجة عليهم.
ذهب السيد آية الله العظمى البروجردي ـ قدس سره ـ بعد نقل الأدلة الكثيرة الدالة على وجوب الرجوع إلى الائمة الطاهرين ـ عليهم السلام ـ إلى استظهار امور.
الأول : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يترك الامة بعده سدى ، مهملة بلا إمام هاد ، وبيان شاف ، بل عيّن لهم ائمة هداة دعاة سادة قادة حفاظا ، وبيّن لهم المعارف الإلهية ، والفرائض الدينية والسنن والآداب والحلال والحرام والحكم والآثار ، وجميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، حتى أرش الخدش ، ولم يأذن ـ صلى الله عليه وآله ـ لأحد أن يحكم أو يفتي بالرأي والنظر والقياس ، لعدم كون موضوع من الموضوعات أو أمر من الامور خاليا عن الحكم الثابت له من قبل الله الحكيم العليم ، بل أملى ـ صلى الله عليه وآله ـ جميع الشرائع والأحكام على الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وأمره بكتابته وحفظه ورده إلى الائمة من ولده ـ عليهم السلام ـ فكتبه ـ عليه السلام ـ بخطه وأداه إلى أهله.
والثاني : أنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أملى هذا العلم على علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فقط ، ولم يطلع عليه في عصره ـ صلى الله عليه وآله ـ غيره أحد ، وأوصى إليه أن يكون هذا الكتاب بعده عند الائمة الأحد عشر فيجب على الامة كلهم أن يأخذوا علم الحلال والحرام وجميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من علي بن أبي طالب والائمة من ولده ـ عليهم السلام ـ فإنهم موضع سر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وخزان علمه ، وحفاظ دينه ... الخ (14) وسيأتي إن شاء الله تحقيق ذلك والحمد لله.
______________
(1) وفي نسخة كغور ماء ، ولعلها أصح بناء على أن قوله بالكلية قيد للغور ، فيكون كغور الماء بالكلية.
(2) وفي نسخة رهبان بن أوس وفي شرح الفاضل الشعراني وهبان بن أوس.
(3) أي القتل على غفلة ، وفي بعض النسخ : وموضع القتل به.
(4) وفي نسخة : العبسي.
(5) وفي نسخة : فجاء الأسد يهمش رءوسهم واحدا واحدا ، وكيف كان لحس ، أي لعق. وهمش ، أي عض.
(6) ضغمه ، أي عضه بملء فمه.
(7) كشف المراد ص 355 ـ 357 الطبعة الحديثة بقم المشرّفة.
(8) انوار الهدى : ص 135 ـ 137.
(9) البقرة : 146.
(10) الاعراف : 157.
(11) الصف : 6.
(12) تفسير البيان : ص 90.
(13) راجع الهدى إلى دين المصطفى ، الرحلة المدرسية ، أنيس الاعلام ، بشارات العهدين ، كتاب راه سعادت : ص 168 ـ 190.
(14) جامع احاديث الشيعة : ج 1 ص 11.
الاكثر قراءة في مواضيع متفرقة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة