احتجاج الإمام الصادق (عليه السلام)
المؤلف:
السيد محمد الحسيني
المصدر:
مكانه القرآن الكريم في المجتمع الإسلامي
الجزء والصفحة:
ص10 -14
2025-07-29
624
وفي رواية أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لأبي حنيفة لما دخل عليه: (من أنت؟).
قال: أبو حنيفة.
قال (عليه السلام): (مفتي أهل العراق؟).
قال: نعم.
قال (عليه السلام): (بما تفتيهم؟).
قال: بكتاب الله.
قال (عليه السلام): (وإنك لعالم بكتاب الله، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه؟).
قال: نعم.
قال: (فأخبرني عن قول الله عز وجل: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18] أي موضع هو؟).
قال أبو حنيفة: هو ما بين مكة والمدينة.
فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى جلسائه وقال: (نشدتكم بالله، هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل، وعلى أموالكم من السرق؟).
فقالوا: اللهم نعم.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (ويحك يا أبا حنيفة، إن الله لا يقول إلا حقاً، أخبرني عن قول الله عز وجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] أي موضع هو؟).
قال: ذلك بيت الله الحرام.
فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى جلسائه وقال: (نشدتكم بالله، هل تعلمون أن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟).
قالوا: اللهم نعم.
فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله، إنما أنا صاحب قياس.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فانظر في قياسك إن كنت مقيسا، أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا؟).
قال: بل القتل.
قال (عليه السلام): (فكيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟).
ثم قال له: (الصلاة أفضل أم الصيام؟).
قال: بل الصلاة أفضل.
قال (عليه السلام): (فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة).
قال له (عليه السلام): (البول أقذر أم المني؟).
قال: البول أقذر.
قال (عليه السلام): (يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول).
قال: إنما أنا صاحب رأي.
قال (عليه السلام): (فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان، أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك؟ وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟).
قال: إنما أنا صاحب حدود.
قال: (فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وأقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليهما الحد؟).
قال: إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.
قال: (فأخبرني عن قول الله تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون{ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] و (لعل) منك شك؟).
قال: نعم.
قال: (وكذلك من الله شك إذ قال: لَعَلَّهُ؟).
قال أبو حنيفة: لا علم لي.
قال: (تزعم أنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس لعنه الله، ولم يبن دين الإسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب رأي، وكان الرأي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوابا ومن دونه خطأ ؛ لأن الله تعالى قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، ولولا أن يقال: دخل على ابن رسول الله فلم يسأله عن شيء، ما سألتك عن شيء، فقس إن كنت مقيسا).
قال أبو حنيفة: لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.
قال: (كلا ؛ إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك)[1].
وروي - في حديث آخر - عن بعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه غلام كندة، فاستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام والمسألة، فقدمت الكوفة، فدخلت على أبي حنيفة فإذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها، فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد الله (عليه السلام)، فقمت إليه فقلت: ويلك يا أبا حنيفة، إني كنت العام حاجا فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) مسلما عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها، فأفتاه بخلاف ما أفتيته؟ !
فقال: وما يعلم جعفر بن محمد! أنا أعلم منه ؛ أنا لقيت الرجال وسمعت من أفواههم، وجعفر بن محمد صحفي.
فقلت في نفسي: والله، لأحجن ولو حبوا. قال: فكنت في طلب حجة فجاءتني حجة، فحججت، فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فحكيت له الكلام فضحك، ثم قال: (أما في قوله: إني رجل صحفي فقد صدق، قرأت صحف إبراهيم وموسى).
فقلت له: ومن له بمثل تلك الصحف؟ قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق وكان عنده جماعة من أصحابه، فقال للغلام: (انظر من ذا).
فرجع الغلام، فقال: أبو حنيفة.
قال: (أدخله) فدخل فسلم على أبي عبد الله (عليه السلام) فرد عليه السلام، ثم قال - أبو حنيفة -: أصلحك الله، أتأذن لي في القعود، فأقبل على أصحابه يحدثهم ولم يلتفت إليه، ثم قال الثانية والثالثة، فلم يلتفت إليه، فجلس أبو حنيفة من غير إذنه، فلما علم أنه قد جلس التفت إليه فقال: (أين أبو حنيفة؟).
فقال: هو ذا أصلحك الله.
فقال: (أنت فقيه أهل العراق؟).
قال: نعم.
قال: (فبما تفتيهم؟).
قال: بكتاب الله وسنة نبيه.
قال: (يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟).
قال: نعم.
قال: (يا أبا حنيفة، ولقد ادعيت علما، ويلك، ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وما ورثك الله من كتابه حرفاً ؛ فإن كنت كما تقول ولست كما تقول، فأخبرني عن قول الله عز وجل... - فسأله (عليه السلام) مسائل عجز عن جوابها، إلى أن قال الراوي -: فقنع رأسه - أبو حنيفة - وخرج وهو يقول: أعلم الناس ولم نره عند عالم. الحديث[2].
إذن، لعل مراد الإمام (عليه السلام) من هذا الحوار أن يظهر لأبي حنيفة - وغيره - بأنه لا يملك تلك المعرفة والإحاطة الكاملة بكتاب الله عز وجل، وأن القياس باطل لا يجوز الاعتماد عليه في الشريعة الإسلامية وأراد (عليه السلام) أن يبين أيضاً: أن وارث العلم بكتاب الله هو النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده هم أهل بيت النبوة (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم.
[1] الاحتجاج: ج 2 ص 360 احتجاج أبي عبد الله الصادق في أنواع شتى من العلوم الدينية على أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات . .
[2] بحار الأنوار: ج 2 ص 292 ب 34 ح 12 .
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة