تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
مكانته العلميّة وجهوده الفكريّة
المؤلف:
المَجمع العلمي للقران الكريم
المصدر:
المدون الأول لعلم التفسير سعيد بن جبير
الجزء والصفحة:
ص 45 -64
2025-04-30
62
تجلّت للصحابيّ منزلةٌ عظيمةٌ صنعتها جميل أفعاله، وحسن سيرته، وغزارة علمه حتى قال عنه ابن عباس لأهل الكوفة: ((تسألوني وفيكم ابنُ أُم الدهماء([1]) وكان يطلب منه ابن عباس أن يحدّث الناس في حضرته لكن سعيد بن جبير يردُ على وفق خلقه الرفيع أُحدّثُ وأنت ها هُنا؟ فيرد عليه ابن عباس: ان أصبتَ فذاك، وان أخطأت عَلَّمكَ))([2])، وتلك تجليات تقول بثقة ابن عباس بسعيد بن جبير ومكانته فضلًا عمّا جاد فكره من عطاء، وسيرته من خلق نبيل كانت امتدادًا لترسيخ قيم المبادئ الإسلاميّة التي آمن بها وعمل بمنهاجها، وبهذا كرّس حياته الشريفة فسار مطمئنًا بخط الولاية متمسكًا بها سببًا للنجاة، ومبتغىً للتمسك بالعروة الوثقى، كاشفًا عن فضائل إنسانيّة عزّز أساسها المتين أهل البيت عليهم السّلام، لذا توسّم بالصبر مصداقًا لصبرهم وأخذ من منهاجهم ما يدعو إلى سمو النفس وعلوّ الهمة والترفع عمّا دون ذلك.
وممّا اتّصف به القرآنيّ الفقيه أنّه كان يعتم بعمامة بيضاء([3])، ويرخي لها طرفاً شبراً من ورائه([4])، وكان أبيض الرأس واللحية حين استشهاده([5])، كان سعيد حسن المعشر طيّب الصحبة متواضعاً([6])، جمع بيت الحياء والإيمان([7])، وذلك لعمق تفقهه بدينه ومعرفة لدقائق أحكامه.
بلغ بن جبير من العلم مرتبةً ساميةً، وقد مدحه العلماء واثنوا عليه بما لا يقبل الشك في سعة علمه ورسوخ معارفه، روي عن الأشعث بن إسحاق قال: كان يقال لسعيد بن جبير: جهبذ العلماء ([8]).
والجِهْبِذُ، بالكسر النَّقَّادُ الخَبيرُ، وقال إبراهيم النخعي في بيان مدى علمه: ما خلّف سعيد بن جبير بعده مثله ([9]).
وجاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة فقال: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني وهو يفرض منها ما أفرض([10]).
كان سعيد في طليعة المتقين في عصره يلازم بصدق تلاوة القرآن الكريم، ويجلس في الكعبة المكرمة ويتلو القرآن، وكان كثير الخشية من الله وكان يقول: إن أفضل الخشية أن تخشى الله خشية تحول بينك وبين معصيته وتحملك على طاعته فتلك هي الخشية النافعة([11]).
إضافة إلى أنّه كان ورعًا حليمًا يسعى بصدقٍ، وممّا يعضّد القول ما ذُكِر عن أحمد بن حنبل أنّه قال : قتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج أو قال : مفتقر إلى علمه، ويقال إن الحجاج لم يسلّط بعده على أحد([12]).
ومن جانب آخر كان الإمام السجاد عليه السلام يحب مجالسة سعيد، فعن مسعود بن الحكم قال لي علي بن الحسين: أتجالس سعيد بن جبير ؟ قلت: نعم، قال: لأحبّ مجالسته وحديثه([13])، ولا شكَّ فمن ينل تلك المنزلة فإنّه ذو حظٍّ عظيم.
ولا ريب فإنَّ مثل تلك الشخصية الفذة غنيّة عن التعريف، وهي التي اتفق المسلمون على ثقتها فقالوا بثقته([14])، وذكر الكشيّ: قال الفضل بن شاذان لم يكن في زمن علي بن الحسين عليه السلام في أول أمره الا خمسة أنفس: سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومحمد بن جبير بن مطعم ويحيي بن أم الطويل وأبو خالد الكابلي([15])، وإنّما حاز اسمه صدارة الأسماء، لعظيم شأنه الإنسانيّ وجليل قدره العلميّ.
كما صرّح العلامة الحلي في الخلاصة والكشيّ في رجاله بتشيع الرجل وكونه من الموالين لأمير المؤمنين عليه السلام وأن سبب شهادته على يد الحجاج تكمن في ولائه لسيد الحق عليه السلام ([16]).
لقد تكرّرت المواجهة بين الدعاة والطغاة، وهي صورة تكررت كثيرًا عبر تاريخ هذه الأمة، وغالباً ما تكون هذه المواجهة مقترنة بعلماء الأمة والأدعياء فيها، وفي هذه المرة كان المشهد يدور بين الظالم المتجبر (الحجاج) والسعيد الفقيه (سعيد بن جبير) الذي أعلن منهاجه في التصدي للظالمين وأن تحدو خطواته في ركاب الحق المحمديّ العلويّ، وقد كان لهذا التصدي قناعتان:
أولاهما: أن سعيدًا مؤمنٌ بقضيته لذلك اختار أن يكون مع الأحرار؛ لأن العيش مع الظالمين برما وعليه أن يسير في موكب سيد الشهداء عليه السلام للنجاة بدينه ونفسه والتمسك بقيمه النبيلة.
ثانيها: أن الظالم الدعي(الحجاج) من أقطاب السلطان الأمويّ الجائر الذي اتّخذ الظلم منهاجًا، والجور والقهر سبيلًا لامتداد وجوده وسلطانه أراد تركيع مؤمني الأمة الإسلاميّة لسطوة ظلمه، ومن لم يخضع لهذا السلطان فليواجه مصيره المحتوم.
ولهاتين القناعتين ضريبةٌ مع حصول القناعة التامة بنتائج هذا التصدي ويظلّ قرار الحسم بينهما مقرونًا بالخضوع والاستسلام أو بالثبات والصدق والمواجهة لنيل الحرية ؛ وظلّتا تلكما القناعتانِ يدوران في مواجهةٍ، ويظلُّ الثبات لفرز جهتين لإيمانهما معًا بعقيدتهما وفكرهما، لذلك فإنّ الجلاد والضحية كليهما سيلتقيان عند تخوم الموت بفارق زمني لكنّ للنتائج بونًا واسعًا وشتان ما بينهما حين يمثلان بين يديّ الرحمن، والفارق في الاختيار عند ملاقاة الباري عزَّ وجلَّ فأحدهما مأثومًا بخطايا العباد وملطخاً بدمائهم، والآخر يلاقي ربّه بوجهٍ كريمٍ وقلبٍ سليمٍ، مغفورًا له كيومه الأول، إضافة إلى ما سيخلفاه بعدهما من عملٍ صالحٍ يهتدي بنيره الصالحون، وآخر طالحٍ يضلُّ به المارقون.
ويظلُّ الاختيار القويم للعمل الصالح هو الديباجة التي خطَّ نهجها العلويون في مقارعة الاستبداد، ولتكون خطى التابعين لهم على هذا المشوار، لذلك تكلّل سعي العبد الصالح (سعيد بن جبير) نحو الاقتداء بخطاهم في محاولةٍ منه لاستئصال الداء المعاصر من جذوره، وإنّما يكون بالتضحية لصون المبادئ، هي مرحلة جديدة بدأت في حياة الناس حين شرع الإسلام بالمضي قدمًا نحو تحقيق القيم الإنسانيّة وسبل الحرية، وقدّم لذلك التضحيات كيما يدرك غايته، وأنّ السائر بهذه الخطى الثابتة فهو - لا شكّ- يمتلك وعيًا ممتدًّا من نور النبوة، وهو الذي قال عنه (ابن كثير): كان سعيد من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح([17]).
تزاحم أعوان الحجاج ليأخذوا شهيد العقيدة (سعيد بن جبير) مخفورًا به إلى الطاغية الحجاج بن يوسف تقوده (شرطة الحجاج) والأغلال في يديه، يمضي معهم بقناعة الرجل الواثق فلما كان بين يديّ الطاغية (الحجاج بن يوسف الثقفيّ)، قال له: أنت شقي بن كسير؟
قال: أمي كانت أعرف باسمي سمتني (سعيد بن جبير).
قال: ما تقول في أبي بكر وعمر، هما في الجنة أو في النار؟
قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها وإن دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها.
قال: فما قولك في الخلفاء؟
قال: لست عليهم بوكيل.
قال: أيهم أحب إليك؟
قال: أرضاهم لخالقه.
قال: فأيهم أرضى للخالق؟
قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
قال: أبيت أن تصدقني، قال: بل لم أحب أن أكذبك))([18]).
هكذا تجلّى فصل الخطاب، وبزغت بلاغة الأجوبة المسكتة، لكنّ المتجبر لا يهدأ بعد هذا الإفحام الدال حتى سعى – هكذا تشير المصادر- إلى إغواء الفقيه الجليل (سعيد بن جبير) ظنّاً منه أنّه سيعدل عن موقفه، لذلك أشار الحجاج إلى الحراس أن يحضروا صندوقاً كبيراً مليئاً بالذهب والفضة والجواهر فراح يصبُّ أمام (سعيد) قطع النقد الذهبية والفضية والجواهر الثمينة، ثُمَّ توجّه صوب سعيد قائلًا: ما رأيك بهذا ؟
فقال سعيد وهو يلقنه درساً : هذا حسنٌ إن قمت بشرطه
سأل الحجاج :
وما هو شرطه
قال: أن تشتري به الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
وهكذا يقطع على الطاغيّة سعيه ومراده، فيسكت مرةً أخرى أمام منطق سعيد.
فما كان به إلاّ أن يلتفت إلى الجلاد ويؤمئ إليه بقتله عندها تقدّم الجلاد نحو التابعي الجليل.
فتوجّه (سعيد) نحو الكعبة بقلبٍ مطمئن هديًا على سيرة أئمته صلوات الله تعالى لينال كرامة الشهادة، فطلب (رضوان الله تعالى عليه) أن يصلي ركعتين قبل الشروع بقتله، متّخذًا مدار قبلته نحو الكعبة فقال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين .
صاح الحجاج : أحرفوه عن القبلة.
دفعه الجلاد إلى جهة أخرى ،
فقال سعيد : أينما تولوا فثم وجه الله .
صاح الحجاج : اكبوه إلى الأرض.
فقال سعيد:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى .
صاح الحجاج: ويلك يا سعيد!
فقال سعيد: الويل لمن زُحزح عن الجنة وأُدخل النار.
وعندما أفرز الخطاب عن قناعتين: أولاهما التسليم بالشهادة دفاعًا عن الدين الإسلاميّ وقيمه الحنيفة، وأخرى الإيغال بالظلم والاستبداد وإراقة دماء المسلمين المؤمنين، كانت النتائج على وفق هاتين القناعتين، لذلك انتهى الحجاج إلى القول:
أيّ قتلة تريد أن أقتلك ياسعيد؟
سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة.
الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟
سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر.
ولما ضاقت السبل بالظالم وانتهى به الحال قهرًا قال:اذهبوا به فاقتلوه.
وصرخ بحقدٍ بغيض : اضربوا عنقه([19]).
و هنا توجّه سعيد إلى السماء ودعا الله (عز وجل) قائلاً: )) اللهم لا تسلطه على احد بعدي ))([20]) .
و كان هذا الدعاء الوحيد الذي دعا به سعيد على إنسان بعد وصية والدته له([21]).
ويستمر مشهد الطاغية في إرغام الموالين والسائرين في خطى الحقّ، لكنّ عزيمتهم أقوى من طغيانه وتمسكهم بخطّ الولاية أقوى من وجوده وتسلطه، وعندما خاب سعي الطاغية أمر جلاديه بضرب عنق الفقيه-رضوان الله تعالى عليه- فضربوا عنقه عندها سقط رأسه الشريف إلى الأرض فهلل ثلاثًا أفصح بالأولى ولم يفصح في الثانية والثالثة([22]).
وإنّما أراد المتجبّر بسلطانه أن يقضي على وجود هذا العالِم العظيم الذي وهب حياته لنشر العلم والفضيلة بين الناس، ولم يدَّخر جهدًا لخدمة الدين الإسلاميّ الحنيف، وشتان ما بين من تمسّك بالثقلين فسار بالحق وبين من ضيّعهما فلم يبلغ الفتح ولم تدركه رحمة الله تعالى فانهار سلطانه الزائف، وشمخ سلطان الحق ليبقى خالدًا، وعلى الرغم من إيمان المسلمين باستشهاد الفقيه الجليل واختياره الحق لكنّهم فُجعوا بقتله وخسروا عالمًا يستنيرون بما هداه الله تعالى لسبيله ولا سيما فقد كان الرائد لحياتهم العلمية.
لقد ماتت حياة الطاغية الحجاج ولم يمت سعيد بن جبير، وهذا ما قال به الرواة فمنذ أن أقدم الحجاج على قتل الفقيه الجليل وهو لم يهنأ بحياته وظل الخوف رفيقه الذي لا ينفك عنه في يقظته ونومه فلقد رافقه الفزع وهو يعاين مشهد القتل الذي رآه وما أبصر بنفسه من كرامات، لذلك ظلّت هذه المشاهد تلاحق الطاغية وتعكّر عليه عيشه فإذا جاء الى النوم فزع من نومه مردّدًا: ما لي ولسعيد ابن جبير([23])، بل كلما أخلد للنوم رأى سعيدًا في منامه وهو يأخذ بمجامع ثوبه ويقول له : (( يا عدو الله فيم قتلتني؟ ))([24])وهو بذلك إنّما قتل القارئ الفقيه العظيم ولكنّه لم يقتل وجوده وعلمه.
لهذا قُضيّ الأمر على ما تمَّ اختياره لقناعتين راسختين في ملمحٍ من خطابٍ يُشير إلى خطابين: خطاب الباطل ممثّلًا باللعين الحجاج وما آل إليه، وخطاب الحقّ مزدهيًا بالعلّامة الفقيه ( سعيد بن جبير) وبيان عمق فكره وطول أناته، وما مدّه الرحمن من أسباب الصبر ليتسلّح بخطاب الواثقين، وهو إنّما يؤسس لانطلاقة مصدرها الوعي المحمديّ العلويّ متجهةً نحو الأجيال وهي تطالعُ سمات الشخصيّة التي تتخذ من مسار أهل البيت عليهم السلام منهاجًا يُبصر بها دربه، ومن سيرتهم قدوةً يهتدي بها.
من يمضي قاصدًا سبيل النجاة، عاملًا بما أراد الله تعالى ورسوله مقتديًا بالأولياء والصالحين يكون ذا شأن ورفعة، وله من النور شعاع لبصره وبصيرته معًا، ومن ذلك الدعاء الذي يُعدُّ ممارسةً عباديةً بوصفه أداةً روحيّةً استعان بها الأنبياء والأولياء ولأغراض شتى منها لدفع الضرر كقوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }([25])، وأخرى للرحمة والمغفرة كقوله تعالى {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}([26]) بل للدعاء مآرب أخرى يطول التفصيل فيها.
من وهاج هذا المقصد لجأ (سعيد بن جبير) للدعاء في صومعة تعبّده، وفي حياته الأخرى فكان بعض ما يلازمه من الدعاء ما يدعو للاستزادة من الخير، فكان يقول: ((اللهم أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك))([27])، منطلقًا قوله بالشكر ولسانه بالذكر بشكلٍ دائم، حتى حين ينتهي من طعامه ليقول: ((اللهم أشبعت وأرويت فهنِّنا وأكثرت وأطبت فزدنا))([28])، فكان يعود عليه بالعطاء بعدما صعد منه بالرجاء.
ولا شكَّ فمن يخطو على طريق الحق سالكًا سبيل أهل البيت عليهم السلام لن تكبو خطواته، ويكون لصوته القبول ولدعائه استجابات ولآماله بعض الكرامات، وهذا ما حصل مع القرآنيّ الفقيه بن جبير من كرامات تُذكر في حياته فضلًا عن كرامة الاستشهاد، فكانت الأولى ممّا تشير لها المصادر أنّه (رضوان الله تعالى عليه) ((كان عنده ديك، يقوم إلى الصلاة إذا صاح؛ فلم يصح ليلة من الليالي فأصبح سعيد ولم يصل؛ فشق ذلك عليه فقال سعيد: ما له؟ قطع الله صوته! فما سمع ذاك الديك يصيح بعدها، فقالت له أمه: أي بني لا تدع على شيء بعدها))([29])، والآخر ما دعا به ربّه ضد الظالم الحجّاج متوجهًا لربّه بقلبٍ سليم قائلًا: ((اللهم لا تسلطه على أحد بعدي))([30]) وفعلاً كان آخر من استشهد على يدِ طاغية عصره الحجاج الثقفي([31]).
روى الواسطي عن الربيع بن أبي صالح قال: (دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج وهو موثق فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: الذي أرى بك، قال: لا تبك فإن هذا قد كان في علم الله تعالى، ثم قرأ قوله تعالى: {مَاأَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }) ) ([32]).
وهذا قول الواثق الناطق به قولًا وعملًا وفعلًا، الذي مضى على بصيرةٍ من أمره.
([1]) الطبقات الكبرى، ابن سعد: 6/258. المعارف، ابن قتيبة، ط:1353هــ، 1934، القاهرة:197.
([2]) الطبقات الكبرى، ابن سعد: 6/256.
([3]) الطبقات الكبرى، ابن سعد: 6/258.
([4]) المصدر نفسه: 6/267.
([5]) المصدر نفسه.
([6]) عيون الأخبار، ابن قتيبة، (كتاب الحوائج)، ط:1383هـ -1963م، بيروت: 8/165.
([7]) حلية الأولياء، الاصبهاني:4/296.
([8]) الجرح والتعديل، أبو حاتم: 4/10. الكامل في الضعفاء، الجرجاني: 1/128. سير أعلام النبلاء، الذهبي: 4/333.
([9]) يُنظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي: 5/16.
([10]) الطبقات الكبرى، ابن سعد: 8/376.
([11]) يُنظر: حياة الامام زين العابدين عليه السلام، باقر شريف القرشي:2/295.
([12]) أعيان الشيعة: 200.
([13]) سير أعلام النبلاء، الذهبي: 4/341.
([14]) مجمع البيان، الطبرسي، ط:1382هـ، طهران:10/559.
([15]) رجال الكشي:61. الكنى والالقاب، القمي:1/63.
([16]) أعيان الشيعة، محسن الأمين:1/126.
([17]) يُنظر: البداية والنهاية، ابن كثير: 12/ 468 .
([18]) رجال الحديث، الخوئي:9/119.
([19]) يُنظر: الوافي بالوفيات: 15/129.
([20]) الاكمال في اسماء الرجال, التبريزي: 198-199 .
([21]) يُنظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي: 1/76 .
([22]) يُنظر: الكامل في التاريخ، ابن الاثير: 4/55.
([23]) يُنظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 10/373.
([24]) البداية والنهاية، أبو الفداء: 9/115.
([25]) سورة الشعراء 117-118.
([26]) سورة إبراهيم 41.
([27]) حلية الأولياء:4 /274.
([28]) الطبقات الكبرى، ابن سعد:6/271.
([29]) تذكرة الحفاظ، الذهبي، ط: 1374هـ، بيروت: 1/76.
(([30] الاكمال في اسماء الرجال, التبريزي: 198-199 .
([31]) يُنظر: إيمان أبي طالب، الحائري، ط:1384هـ، النجف الأشرف: 321.
([32]) تاريخ واسط: 90.