التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
العلاقات بين مصر وكوش في عهد الدولة الحديثة
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج10 ص345 ــ 354
2025-02-17
72
لا نزاع في أنه كان من نتائج ضم بلاد النوبة ثانية وتنظيمها من جديد على حسب الأنظمة المصرية من حيث الحكم والإدارة هجرة كثير من المصريين إلى الأقاليم النوبية. وذلك لأنه كان لا بد أن يكون الموظفون الأُوَلُ الذين عليهم أن يُدَرِّبُوا أهل تلك البلاد على طريقة الإدارة المصرية من المصريين المدرَّبين على النظم الإدارية في مصر. ويوضح صحة تفضيل الموظفين المدرَّبين على غيرهم في أن جمع الضرائب وكذلك المهام الإدارية الأخرى في بلاد النوبة السفلى قبل إنشاء وظيفة نائب الملك كانت قد أُسْنِدَتْ إلى أمير «الكاب» المُسَمَّى «حورميني» وهو الذي نقل بهذا السبب على ما يظهر إلى بلاد النوبة السفلى؛ ومما يلفت النظر كذلك أنه قد دُفِنَ على ما يظهر في موطنه الأصلي بمصر؛1 وكان يوجد حتمًا بجانب موظفي الإدارة الذين كانوا في الوقت نفسه كهنة؛ عدد عظيم من الضباط والجنود اللازمين للحاميات؛ وكان معظم هؤلاء في بادئ الأمر من المصريين الذين يُرْسَلُونَ إلى بلاد النوبة وقد رفض الأستاذ «ينكر» بحق النظرية التي وضعها كل من «ريزنر» و«فرث» وهي القائلة إنه في عهد الهكسوس فعلًا؛ وكذلك بعد فتح البلاد ثانية قد حدثت غزوة من المصريين لبلاد النوبة السفلى فغمرتها بالمصريين؛ وكان من جرائها أن احْتُلَّتِ البلاد وقُضي على مجموعة C. وعندما أصبحت الإدارة تسير نحو التمصير أكثر فأكثر على مر الأيام، وأصبح الأمراء الوطنيون لا وجود لهم قد صار من غير الضروري نتيجة لذلك عمل أي تغيير في السكان، وغاية ما في الأمر أن عدد الجنود المصريين والموظفين والكهنة قد كَثُرَ، وهؤلاء هم الذين كانوا قد سكنوا البلاد وأقاموا فيها مستعمرات لأنفسهم كما دلت على ذلك الحفائر التي قام بها «ستيندورف» في «عنيبة»2 غير أن هذه المؤسسات على ما يظن كانت منحصرة في مراكز الإدارة الحكومية في حين أن القرى والمساكن الأخرى كان يقطنها النوبيون الأصليون.
هذا وقد أظهر كذلك الأستاذ «ستيندورف» 3 ما أكده «ينكر» أنه على ما يظهر قد دُفِنَ كثير من النوبيين المتمصرين كذلك في جبانات الدولة الحديثة مع المصريين في «عنيبة» و«بهين» اللتين تعدان مركزين حكوميين والواقع أننا نعلم أن الأهالي النوبيين كانوا يعملون بوصفهم موظفين مصريين، ولكن لا تزال الدرجة التي وصلوا إليها في تمصُّرهم هذا مبهمة.
وقد رأينا من قبل أن تمصير النوبيين قد خطا خطوات واسعة في العهد المتوسط الثاني تقريبًا، وعلى ذلك فإن هذا النمو في التمصير الذي نراه في عهد الدولة الحديثة لم يكن إلا خطوة إلى الأمام في الطريق التي شُقَّتْ من قبل. وقد كان هذا التقدم في الثقافة المصرية الذي نتج عن ذوق الأهالي في العهد المتوسط الثاني دون التسليم بحدوث هجرة مصرية ظاهرًا مما يجعلنا نعتقد في عدم انتقال عدد عظيم من المستعمرين المصريين في عهد الدولة الحديثة إلى بلاد النوبة وبخاصة أنه كان لزامًا على الطبقة العليا من الموظفين الذين كان عددهم عظيمًا أن يسيروا بسرعة نحو التمصير، وأخيرًا نجد أن فكرة إعادة فتح أعمال تنجيم الذهب وقد جلبت جمًّا غفيرًا من المستعمرين، كان من الصعب ربطها مع أحوال العمل. والواقع أنه لدينا كل الأسباب للتسليم بأن استخراج الذهب من الصحراء الواقعة شرقي بلاد النوبة كان احتكارًا حكوميًّا، وعلى ذلك فإن استخراج الأهالي للذهب في هذه الجهة كان أمرًا محظورًا قطعًا. حقًّا تنقصنا المصادر الصريحة عن استخراج الحكومة للذهب في جبال «وادي العلاقي»؛ ولكن إذا كنا في شك من هذا فيجب علينا إذن أن نتطلب من باب أولى مصادر أكيدة لكل كيان نظام الحكومة المصرية لمعارضة ذلك. والظاهر أنه قيل عن أعمال مناجم الذهب الواقعة شرقي «إدفو» في نقوش «الرديسية» أن استخراج الذهب كان مصرحًا به للحكومة أو للمعابد.4
وقد وُصِفَتْ لنا وعورة الوصول إلى البقعة التي فيها مناجم الذهب وما كان يلاقيه الناس الذين كانوا يُكَلَّفُونَ العمل في هذه المناجم في لوحة «كوبان» كما يأتي5 » :أما إقليم «أكيتا» فقد قال عنه ابن الملك صاحب كوش أمام جلالته: «إنه كان ينقصه الماء بهذه الكيفية فقد ماتوا (رواده) عطشًا فيه وكل ملك قبلك رغب في فتح بئر هناك لم يصب نجاحًا؛ وقد حاول ذلك الملك » من ماعت رع» (سيتي الأول) وأمر بحفر بئر عمقها عشرون ومئة ذراع ولكنها نبذت على الطريق، لأن الماء لم ينبع فيها»».
ومما له أهمية بالغة في هذه المناسبة صيغة اليمين التي تجدها في نقش «مس» الذي أقسم به الرجال فيقول الواحد: «إذا كذبت فَلْتُقْطَعْ أنفي وأذناي وأُنْفَى أنا إلى بلاد كوش»،6 وكانت النسوة تعقدن اليمين هكذا: «إذا كذبت فَلْيُلْقَ بها في مكان بين الخدم خلف البيت الذي كانت فيه ذات يوم سيدة».7 وهذه الموازنة تدل صراحة على أن المنفيين من البلاد كانوا يُرْسَلُونَ عبيدًا إلى بلاد النوبة ويُعَامَلُونَ معاملة المجرمين حيث يقومون بالأعمال الشاقة ويؤيد كره المصري أحيانًا لبلاد النوبة أن المصريين الذين كانوا يشغلون وظائف عالية حتى بعد تمصير بلاد النوبة تمصيرًا تامًّا كانوا لا يُدْفَنُونَ إلا في مصر، وعلى ذلك نجد أن كل نواب الملك في كوش قد دُفِنُوا في مصر على الرغم من أنهم كانوا حكام السودان، وحتى نجد قبر «حوري الثاني» كان في «بوبسطة» على الرغم من أن «حوري الأول» والده كان نائب ملك، أي إن «حوري الثاني» قد أمضى مدة طويلة من حياته في بلاد النوبة حتى كاد يصبح من أهلها، ومع ذلك دُفِنَ في مصر. ولدينا «أوستراكون» من عهد الرعامسة تحدثنا عن فرد يندب حظه لوجوده في بلاد كوش مما يؤكد رغبة كل مصري في الدفن في مصر. على أن ذلك لا يعني أن المصري كان يكره السودان بل الواقع أنه كان يحب أن يكون دائمًا في بلاده ويدفن فيها ولا يريد الاغتراب في أي بلدة.
وعلى أية حال فإن الظواهر الأثرية لا تقدم لنا فرقًا بين النوبي والمصري، وعلى ذلك فإنه ليس لدينا برهان مُحَسٌّ على قيام هجرة مصرية. ومن ثَمَّ لا نكون قد حِدْنَا عن جادة الصواب إذا قلنا إنه قد حدث انتقال مصريين إلى بلاد النوبة مثل الموظفين وغيرهم، وقد كان ذلك من الضرورات التي حتَّمتها الأحوال السياسية، وذلك مثل استيراد عدد عظيم من الأيدي العاملة الأجنبية إلى مصر مما يبرهن بوضوح على أنه كان في تلك البلاد الأجنبية ازدياد في عدد السكان.
وقد كان من الضروري لاحتلال بلاد كوش احتلالًا عسكريًّا أن تقام فيها الحصون والأماكن المحصنة التي كانت تلعب دورًا هامًّا. ففي بلاد النوبة السفلى أعيد استعمال حصون الدولة الوسطى، وقد كان من الضروري إعادة إصلاح كثير منها وإن كانت الجدران الخارجية في غالب الأحيان يمكن الإفادة منها، ونذكر من الحصون القديمة «إلفنتين» و"بيجة» اللذين جاء ذكرهما في مقبرة «رخ-مي-رع»8 وقد جاء في ورقة شكوى من عهد «رعمسيس الخامس» أن كاهنًا للإله «خنوم» في «إلفنتين» قد باع بدون حق عجل «أبيس» إلى رجل من المزوي في قلعة «بيجه»9 وكذلك جاء ذكر حصن في نفس الورقة قد انْتَهَكَ حرمته نفس الكاهن، ويحتمل أنه حصن «إلفنتين» وكذلك حصن «أكور» إذا كان ما وجد فيه من فخار قد أُرِّخَ تأريخًا صحيحًا يرجع تاريخه إلى الدولة الحديثة، وفيما بعدُ نجد أن هذه الحصون قد أخذت تفقد أهميتها تمامًا ثم خطت خطوات سريعة نحو تهدئة الأحوال في البلاد حتى إن حصن «كوبان» قد قام بما كان يؤديه كل من الحصنين من حراسة. والظاهر أنه كانت قد أُسِّسَتْ مستعمرة كبيرة مكشوفة على الشاطئ الغربي الخصب غير المحصن قبالة «كوبان» في «الدكة»، وعلى أية حال ليس لدينا ما يدل عليها إلا الجبانة التي وُجِدَتْ هناك10 والمعبد الموجود في هذه البقعة تاريخه متأخر جدًّا عن العصر الذي نحدد بصدده، غير أن تأسيسه قد يرجع إلى الدولة الحديثة.
وقد برهنت الحفائر التي قام بها «إمري-كروان» على أن حصن «كوبان» كان مستعملًا في عهد الدولة الحديثة. وعصر البناء الأول فيه (D) يحتمل أنه كان في عهد «سيتي الأول» وكذلك نجد أن «رعمسيس العاشر» قد أقام معبدًا هناك (F). وكذلك أنشئت هنا بالقرب من الحصن مباشرة في عهد الدولة الحديثة بعد تهدئة الأحوال في البلاد مدينة مفتوحة. وقد وُجِدَتْ نواة الحصن في مكانها وقد اسْتُعْمِلَتْ بمثابة خزانة،11 وكذلك نجد هذا التطور في «عنيبة» فنشاهد أولًا أن حصن الدولة الوسطى قد تطور بناؤه إلى مدينة كبيرة محصنة كما أقيمت كذلك مدينة أمامية خارج الحصون.12
وفي «فرص» نجد أن مباني الدولة الحديثة ليست ملاصقة لمباني الحصن القديم، فلم تكن كما يظن الأستاذ «جريفث» على فرع النيل بل بعيدًا عنه شرقًا عند فرع النيل الرئيسي، وقد أقام هنا «حتشبسوت» و«تحتمس الثالث» و«توت عنخ آمون» ويُحْتَمَلُ كذلك «رعمسيس الثاني» معابد، غير أن المؤسسة المثبتة التي أقيمت في عهد الدولة الحديثة في «فرص» قد وصل إلينا معلومات عنها من النقوش التي تركها لنا «حوي» في مقبرته التي يرجع تاريخها إلى عهد «توت عنخ آمون». والحصن الذي كان موقعه في الأصل معبد «توت عنخ آمون» ليس له وجود الآن.13
ولا نعرف عن تاريخ «سرة» شيئًا على وجه التأكيد، ولكن المقابر والنقوش التي وُجِدَتْ هناك تدل على أن هذا المكان كان معمورًا في عهد الدولة الحديثة.14
وتدل الحفائر التي قام بما «ماك أيفر» على أن «بهين» كانت كذلك مدينة مزدهرة في عهد الدولة الحديثة، وهنا نجد كذلك أن موضع الحصن الذي من عهد الدولة الوسطي قد وُسِّعَ وكذلك ضوعفت أسواره،15 ومن المحتمل أنه قد أقيم حصن جديد على جزيرة.16
ومن جهة أخرى نجد أن حصون الشلال القديمة أصبحت منذ باكورة الدولة الحديثة لا قيمة لها حربيًّا، وذلك بعد تقدم «تحتمس الأول» في الفتح حتى «أرقو» على أقل تقدير، وعلى ذلك نجد أن حصن «شالفك» على ما يظهر لم يكن مُسْتَعْمَلًا إلا في عهد الدولة الوسطى.17
وكان يقام في بعض هذه الحصون مثل «ورنرتي» و«سمنة» و«قمة» في عهد الدولة الحديثة معابد لإقامة الشعائر الدينية بما يلزمها من الكهنة والخدم الذين كانوا يقيمون فيها، ومن المحتمل أن البيت الذي يقع في الجزء الجنوبي من جزيرة «ورنرتي» وهو الذي قد أقيم خارج التحصينات يُنْسَبُ إلى عهد الدولة الحديثة، ويلحظ أن «سمنة» كانت على ما يظهر دائمًا مستعملة حصنًا، على الرغم من أن جدرانها الخارجية لم تكبر أو أعيد بناؤها، في حين نجد أن حصن «قمة» على ما يظهر كان يسكنه موظفو المعبد الذي أقيم هناك لعبادة الإلهين «خنوم» و«سنوسرت الثالث»، وتدل ظواهر الأحوال على أنه لم يكن له فائدة حربية عظيمة.
والواقع أن الأعمال الحربية بعد نقل الحدود إلى الجنوب قد جعلت مستلزمات الدفاع تنتقل إلى حصون أخرى أقيمت في البلاد التي فُتِحَتْ جديدًا على ما يظن منذ «تحتمس الأول» وهذه الحصون لم تكن مهمتها الدفاع ضد أهالي الجنوب وحسب، وذلك لأن الأرض التي تقع بين «وادي حلفا» و«كرمة» كانت مُهَدَّدَةً بوجه خاص من الغرب من جهة واحة «سليمة» وعلى ذلك نجد أن معظم أماكن الحصون تقع هنا على الشاطئ الغربي.18 ولم تكن وظيفة هذه الحصون قاصرة على الدفاع بل كانت على ما يظن مُعَدَّةً لتكون مكان هجوم على أهالي الصحراء الْمُغِيرِينَ أو لتهدئة قبائل البدو، وبذلك فقط كان يمكن تتبع العدو القضاء عليه في عقر داره، وفضلًا عن ذلك كانت هذه الحصون تُعْتَبَرُ عائقًا أمام قبائل البدو، ومانعة من أن يثبت العدو قدمه في أي مكان، حتى لا تقطع المواصلات بالجزء الجنوبي من بلاد كوش.
فنعرف من بين الأماكن المحصنة في هذه الرقعة خلافًا لجزيرة «ساي» حتى الآن «العمارة غرب» 19 و«سدنجا»20 و«سسبي»21 و«صلب»22 ولم يكشف عن الحصن الأخير، وتحصيناته على ذلك ليست معروفة على وجه التأكيد. ونعلم أن هذا المكان كان محصنًا مما جاء من ذكر اسم الحصن الذي يُدْعَى «خع مماعت» في نقوش المعبد القائم هناك، وكذلك من بقايا الآثار التي عُثِرَ عليها في جبل «برقل».23
ونستخلص أهمية «صلب» هذه من المنظر الذي نشاهده في مقبرة «حوي» وقد كان أمير «خع مماعت» أي حاكم «صلب» وكان ممثلًا واقفًا بجانب وكيل بلاد «واوات» ووكيل بلاد «كوش» لاستقبال نائب الملك في «فرص»؛24 وكذلك كانت تعد «سدنجا» بموقعها الإستراتيجي من الأماكن الهامة وكانت تسمى حصن «تي».25
وفي الجنوب على مسافة كبيرة تقع بلدة «كاوا» وهي التي على ما يُظَنُّ قد أسسها «أمنحتب الثالث» وهي المدينة المعروفة باسم «جمأتون»26 وقد قامت حفائر عظيمة هنا وظهرت نتائجها وسنتحدث عنها فيما بعد عند الكلام على الملك «تهرقا»؛ وأخيرًا تقع في نهاية الحدود الجنوبية عند جبل «برقل» المقدس مدينة «نباتا» المحصنة والمدينة نفسها بما فيها من حصون لم يُعْثَرْ عليها بعد، بل كل ما كُشِفَ عنه هو المعبد ويرجح أقدم ما كشف فيه إلى عهد «تحتمس الثالث» أو «الرابع»،27 ومع ذلك نعلم من النقوش أن «نباتا» كانت مدينة محصنة فقد صَلَبَ «أمنحتب الثاني» عدوًّا أسيويًّا على قمة جدران «نباتا»28 وكذلك نجد في صيغة الإهداء في لوحة جبل «برقل» التي من عهد «تحتمس الثالث» — التي عُمِلَتْ على حسب النموذج القديم — اسم الحصن وهو حصن «سما خاستيو» (موت الأراضي الأجنبية).29 ويمكن الإنسان معرفة أهميتها الإستراتيجية من الفقرة التالية (سطر 39): «إن الخوف من جلالتي قد بلغ حتى الأراضي الجنوبية. ولم توجد أية طريق تعترضني وإنه (آمون) قد أخضع لي كل الأرض». وكانت «نباتا» سدًّا للدولة ضد الجنوب، ومن أجل ذلك قامت بالدور الذي كان يقوم به حصن «سمنة» في عهد الدولة الوسطى عندما كانت حدود مصر لا تتجاوز الشلال الثاني، يضاف إلى ذلك أن موقعها كان أكثر ملاءمة من موقع حصن «سمنة». ويوجد (فضلًا عما ذكرنا من أماكن محصنة) مدن ومعابد في بلاد النوبة فنجد مذكورًا على لوحة «سمنة» التي من عهد «أمنحتب الثالث» حصن «ثاراي» الذي لم يعرف موقعه بعد.30 وفي عهد «تحتمس الرابع» نعرف اسم قائد حصن في أرض «واوات» اسمه «نبي»؛31 وكذلك في منشور «ثوري» الذي سنَّه «سيتي الأول» نجد قرارًا خاصًّا بالأسطول الذي أتى من بلاد كوش بالجزية لأجل معبد «العرابة» جاء فيه: «وفضلًا عن ذلك قرر جلالته سن قوانين لأسطول جزية بلاد كوش التابع لبيت «من ماعت رع» لمنع أي مشرف حصن يكون على حصن «سيتي مرنبتاح» الذي في «سخمت» (مكان غير معروف موقعه) أن يستولي على ذهب أو جلود أو أي نوع من جزية حصن إلخ». وأخيرًا ذكر لنا «رعمسيس الثالث» في معبده بمدينة «هابو» أنه بنى حصونًا في مصر وبلاد النوبة وآسيا.32 والواقع أن هذا الملك لم يترك لنا أي بناء معروف على وجه التأكيد في بلاد النوبة. وقد ذكر في ورقة «هاريس» الأولى33 أن «رعمسيس الثالث» قد أقام معبدًا لآمون في بلاد النوبة.
ومن ثَمَّ نرى أنه في حالات كثيرة نعرف المعابد التي أقيمت — كما هي الحالة في «نباتا» — في حين أن الأماكن التابعة لها هذه المعابد قد اختفت أو لم يكشف عنها بعد. ويمكن أن نحكم — حسب ما نشاهده في مصر — أن المعابد الكبيرة كانت في غالب الأحيان محاطة بجدران عظيمة (مثال ذلك معبد مدينة «هابو»)، ولم تكن هذه الجدران تقام لمجرد الزينة بل كانت تقام للمحافظة على كنوز المعبد وثروته من النهب والسلب وبخاصة في عهد التدهور الذي حدث فيه تعدي الأهلين وقيام ثورات من جانب العمال للحصول على حقوقهم بالقوة؛ ومثل هذه الحالة نشاهدها في عاصمة البلاد «طيبة».34 ولم تكن الحالة أحسن في أي مكان آخر في مصر في تلك الفترة. وإذا كانت الحالة قد بلغت إلى هذا الحد في مصر فإلى أي حد كانت قد وصلت في بلاد النوبة؟! إن معابد النوبة التي كانت تُقام في أماكن يسكنها أجانب وحيث كانت تشب من وقت لآخر الثورات كان يوجد هناك من الأسباب القوية ما يحمل على إقامة الأسوار المتينة حولها. وعلى ذلك كانت بلا شك مؤسسات المعابد التي لها أهمية اقتصادية إما أن تحاط بجدار خاص لحمايتها أو تقام في وسط مدينة محصنة، وينبغي أن نعد من هذا الطراز معبد «عمدا». حقًّا لم يبق إلا المعبد في هذه الجهة، ولكن يلحظ أن جوانبه الخارجية ليست مزينة35 فيظهر أنه قد بُنِيَتْ حولها حجرات للمؤن وهي التي من جهتها كانت محمية بسور خارجي. ومن المحتمل أنه كانت توجد حول المعبد بلدة تسمى «خرب نب» يحميها الإله «سنوسرت الثالث» الذي كان مُقَدَّسًا هناك،36 ويعزو «جوتييه» هذا الاسم إلى عهد الأسرة الثانية عشرة (وفي هذا بالتأكيد شك كبير). والبقعة التي حول «عمدا» كانت منذ أقدم العهود مركزًا آهلًا بالسكان كما تدل على ذلك المقابر العدة التي يرجع عهدها إلى عهد الأسر المبكرة حتى عهد الدولة الحديثة كما يدل على ذلك القرى النوبية في الريقة، والأخيرة يرجع تأريخ سكناها على الأقل إلى عهد «تحتمس الثالث». والظاهر أنها حُوِّلَتْ في عهد الدولة الحديثة إلى مزرعة مفتوحة.37 ومعبد «عمدا» الحالي قد بدئ بناؤه في عهد «تحتمس الثالث»، وتم بناؤه في عهد كل من «أمنحتب الثاني» و«تحتمس الرابع»، وقد بقي مستعملًا على أقل تقدير حتى عهد الرعامسة كما تدل على ذلك النقوش التي نُقِشَتْ فيه فيما بعد.
وكانت المعابد التي في هذه الأماكن المحصنة أي معابد المدن وغالبًا ما تكون مقامة بالقرب من أراضٍ خصبة ومراكز آهلة بالسكان، تلعب دورًا جديًّا بوصفها مركزًا للحياة الاقتصادية للإقليم، ويصعب أن نحكم إلى أي حد كان ينطبق ذلك على المعابد المنحوتة في الصخر وبخاصة أنه في عهد «رعمسيس الثاني» قد أقيمت معابد من هذا الطراز (مثال ذلك معابد «بيت الوالي» و«جرف حسين» و«السبوع» و«الدر» وكذلك المعبدان اللذان في «أبو سمبل»). وفضلًا عن ذلك أقيم في عهد هذا الملك معبد صغير في «أكشة» ومن المحتمل في «فرص». ويعتبر النشاط المعماري الذي قام في عصره رمزًا لازدهار اقتصادي في ذلك العهد.38
على أن ذلك يعد مناقضًا بصورة غريبة بالنسبة للعدد الصغير من المقابر التي وُجِدَتْ حتى الآن في هذه الجهة وهي المقابر التي قد أُرِّخَتْ على وجه التأكيد بعصر الرعامسة ومن أجل ذلك سلم الأثري «فرث»39 أن بلاد النوبة كادت في ذلك الوقت تكون غير مسكونة، وكانت الزراعة تكاد تكون معدومة لسبب عدم وجود سبل الري. وعلى ذلك فإن هذه المعابد قد أقيمت رمزًا لصلاح الفرعون وعظمته. ومن المحتمل أنها كانت تُعَدُّ بمثابة محاط للتجارة في الجزء الجنوبي من السودان40 ولكن هذا الرأي يحتاج إلى تصحيح كما سنري بعد.
وقد كان اختيار المكان لهذه المعابد الصخرية بطبيعة الحال على حسب المساحة المطلوبة ففي الغالب يكون المعبد في أصله امتدادًا لكوة يحفرها الإنسان في الصخر تكون بمثابة نواة صالحة لذلك (مثال ذلك معبد قصر «أبريم»). وعلى وجه عام كان المعبد يقع بجوار مدينة أو مكان آهل بالسكان. فقد ذكر لنا أحد النقوش في مقبرة «بننوت» في «عنيبة»41 اسم مكان في معبد «الدر»،42 وعلى مسافة مئة متر من هذا المعبد تقع جبانة من عهد الدولة الحديثة، وتشمل كذلك مقبرة محفورة في الصخر من عهد الأسرة التاسعة عشرة.43 وفي «بيت الوالي» نجد مدينة وبجوارها معبد منحوت في الصخر من عصر واحد، ولكن لم تصلنا عن ذلك معلومات أكيدة، وبالقرب من معبد «بيت الوالي» نجد معبد «كلبشة» الذي يُحْتَمَلُ أنه قد أُسِّسَ في عهد «أمنحتب الثاني».44 ولكن من المحتمل جدًّا مع ذلك أن بلدة «ثالميس» الواقعة في هذه البقعة لا تمثل مؤسسة جديدة في زمن متأخر بل قد ترجع إلى عهد الدولة الحديثة، أما «جرف حسين» فيقع في مركز آهل بالسكان45 وهو يشمل كذلك «أبو سمبل»، فمن الجائز أن المكان المذكور هناك باسم «امن-هري-اب» وخصص بعلامة البلد، إما أن يكون من سلسلة الحصون القربية من هناك وإما أن يدل على وجود مدينة محصنة. وقد وُجِدَتْ جبانة هناك يظهر أن كهنة معبد الرعامسة قد أسسوها بالقرب منه.46 وكذلك في معبد «وادي السبوع» نجد مقابر من عهد الدولة الحديثة أمكن أن نؤرخ واحدة منها أو أكثر بعصر الرعامسة.47
ومع ذلك فمن الصعب جدًّا أن نصل من عدد المقابر التي حفظت لنا بوجه الصدفة إلى النتائج النهائية عن طبقات السكان، إلا إذا فحص وادي النيل من «أسوان» حتى بعد «فرص» فحصًا أساسيًّا. ففي «فرص» حيث يوجد مكان من عهد الدولة الحديثة على وجه التأكيد، لم يعثر فيه إلا على عدد ضئيل جدًّا من المقابر خاص بالدولة الحديثة48 وفي الغالب يكون من الصعب جدًّا أن يصل الإنسان من البقايا التي على السطح العلوي من الأرض إلى المكان الذي توجد فيه المقابر49 ويستحق الحفر فيه. وفضلًا عن ذلك توجد جبانات عديدة من عهد الدولة الحديثة في بلاد النوبة، وهذه إما أن تكون منهوبة تمامًا أو فقيرة في محتوياتها التي يمكن أن تُؤَرَّخَ بها حتى إنه قد يصبح من المستحيل أن نعرف النسبة المئوية من القبور التي فيها من عهد الرعامسة على وجه التأكيد. وعلى أية حال نجد أن الجبانات المجاورة للمراكز الكبيرة وهي «كوبان» و«عنيبة» و«بهين» يصل تاريخها إلى عهد الرعامسة، وفضلًا عن ذلك نجد مقابر من هذا العهد في «الشلال» وفي معبد «دبود» وفي «بوجاع» و«جرف حسين» و«كشتمنة». وعلى مسافة كيلو متر ونصف من معبد «عمدا» وفي «توماس» وكذلك بين «مصمص» و«توشكى». فمثلًا تقع في «البقع» و«دبود» المقابر على حافة الجبل وهذه مغطاة برمل نقله الهواء. وكذلك توجد مساحات شاسعة أخرى وبخاصة المغطاة منها بالرمال في بلاد النوبة لم يَجْرِ فيها البحث تقريبًا، ففي «وادي السبوع» على ما يظهر عدد من المقابر أكثر مما كشفه «إمري-كروان» لم يُحْفَرْ بعد، وعلى ذلك فمن الجائز كذلك أنه توجد مقابر كثيرة من عهد الرعامسة في حافة الجبل وفي النصف الأعلى من خزان «أسوان» الذي غطته المياه لم يُكْشَفْ عنه حتى الآن. وتبرهن لنا المادة المحفوظة لدينا على أن بلاد النوبة السفلى لم تكن بأية حال من الأحوال أرضًا صحراوية كما سلم بذلك «فرث» من جانبه، في حين أنه خلافًا لذلك قد ذُكِرَتْ أماكن ومقاطعات خصبة في بلاد النوبة السفلى في نقش من «القرنة» من عهد «رعمسيس الثاني».50
والدليل على أن الزراعة لم تنقطع في بلاد النوبة السفلى ما تُحْدِّثُنَا به النقوش هناك فقد عدَّد لنا «بننوت» في قبره الموجود في «عنيبة» أبعاد الأراضي التي أُوقِفَتْ هناك على عبادة تمثال الفرعون «رعمسيس السادس»51 وهذا المتن يدل على وجود أرض مزروعة بالقرب من «عنيبة» وقد جاء ذكر «الدر» في هذه النقوش ولا بد أن الأرض المقصود هنا هي قطعة الأرض الواقعة في بقعة «عنيبة» والواقع أنه لا توجد هنا أرض زراعية خصبة مثمرة أخرى يمكن أن يكون دخلها مخصصًا لعبادة «رعمسيس السادس».
ولم يقتصر المتن على ذكر حقول بل كذلك ذكر حقول كتان ويحتمل كذلك حدائق.52 يضاف إلى ذلك نقشان من عهد «رعمسيس الثاني» وُجِدَا بين معبدي «أبو سمبل» وهما خاصان بوقف أرض لمعبد خاص «بفرص» في هذه الحالة،53 وبجانب ذلك ذُكِرَ حقلان واحد منهما خاص بالملك والثاني ملك أفراد من الشعب، وقد لاحظ هنا «جوتييه» أنه لدينا أراض زراعية خصبة في بلاد النوبة السفلى أكثر مما كان يظن. والواقع أنه في عهد «تحتمس الثالث» كانت الحبوب تُرْسَلُ من بلاد النوبة إلى مصر كما سنرى بعد.54 ومما يبرهن لنا على أن كل بلاد النوبة في عهد الرعامسة كانت بلادًا غنية نسبيًّا وأن الزراعة كانت تلعب دورًا هامًّا ما جاء في منشور «ثوري» حيث نجد فيه فقرة (سطر 39) وهي: «إن مستخدمي المعابد التي في كوش قد حسبوا كما يأتي:55 فالرجال والسيدات وحراس الحقول والرسل ومُرَبُّو النحل وعمال الحقول وبُسْتَانِيُّو الكروم والبستاني والنواتي (؟) … ونجارو البلاد الأجنبية (؟) وعمال مناجم الذهب والموانئ. وكذلك ذكر في قرار العقوبات: «إن خارق القانون يجب أن يصبح عاملًا في الحقل للمعبد وتصبح أسرته عبيدًا للمعبد».
ولدينا من العصر المتأخر رسالة لكاهن الإله «خنسو» في «طيبة» أُرْسِلَتْ لمزارعه النوبي، ومع حاملها معلومات عن حالة الأرض،56 وإذا كان هذا المزارع يسكن في مصر كانت هذه الرسالة دليلًا هامًّا على استعمال عمال أجانب في المزارع المصرية، أما إذا كان المزارع (وهذا هو الرأي الأكثر احتمالًا) ساكنًا في بلاد النوبة فإنه يكون لدينا برهان لا يقل أهمية على استمرار الأحوال كما كانت في عهد الرعامسة وذلك في وقت لم يبقَ لنا فيه أي قبر محفوظ، هذا بالإضافة إلى أن كل المصادر الأخرى عن بلاد النوبة قد لزمت الصمت التام عن هذا الموضوع».
...............................................
55- راجع: مصر القديمة الجزء السادس ص 89.
56- راجع: A,Z, 53 p. 107 ff; rec. Trav., 39. p. 230.