النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
شخصيات لها علاقة بسيرة الإمام الجواد "ع"
المؤلف: الشيخ علي الكوراني
المصدر: الإمام محمد الجواد "ع" شبيه عيسى ويحيى وسليمان "ع"
الجزء والصفحة: ص229-284
2024-12-03
1464
( 1 ) والضد يُظهر حسنه الضد
تقرأ عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) فتعيش في عالم القداسة والعقل والإيمان والمعجزة ، وتخشع أمام حكمة الله في إعطاء الإمامة لطفل صغير السن ، كما أعطى النبوة لعيسى ويحيى وسليمان ، صلوات الله عليهم أجمعين .
وتقرأ في سيرته ( عليه السلام ) اسم الخليفة وشخصيات قصره الذين كانت لهم أدوار في حياة الإمام ( عليه السلام ) ، فتجد الواحد منهم في مستوى هابط ، وتجده أحياناً مخنثاً !
لذلك نعتذر إذا تحدثنا عن الظلام ، فإنما هو لنعرف قيمة النور ، كما قال الشاعران :
ولكنه غيٌّ عرفتُ به الهدى * ولا شك أن الضِّدَّ يُعرف بالضِّدِّ
عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي * وما زال فضل الضد يعرف بالضد
ومن أشهر هذه الشخصيات : المأمون ، وقاضي قضاته يحيى بن أكثم ، ووزيره عمر بن الفرج الرخجي . والمعتصم ، وقاضي قضاته أحمد بن أبي دؤاد ، وزوجة الإمام أم الفضل ، وأخوها لأمها جعفر بن المأمون . وزبيدة زوجة هارون . وآخرون .
ومنها : أبرز شخصيات الطرب والشراب في قصور الخلافة ، كالراقصة المغنية عريب المأمونية ، والمغنية شاريَّة ، والمغنية عَذْب ، والمغني عَلُّويَه ، والمغني إبراهيم بن الخليفة المهدي ، وأخته عُلَيَّة بنت المهدي ، والمغني مخارق . وآخرون .
( 2 ) يحيى بن أكثم مدبر الخلافة للمأمون والمعتصم
1 . كان المأمون سياسياً ذكياً قوي الشخصية ، فقدكَوَِّنَ جيشاً كبيراً بقيادة أخواله الفرس ، وهزم جيش أخيه الأمين ، ودخل بغداد وقتل أخاه ، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين بحد السيف !
وكان المعتصم شخصية قوية أيضاً ، فعندما مات أخوه المأمون في طرسوس كان معه ، فاتفق مع عدد من قادة الجيش أن يبايعوه ويخلعوا ابن أخيه العباس بن المأمون ، ففعلوا ، ثم أجبر ابن أخيه على خلع نفسه ففعل ، وصار المعتصم خليفة .
لكنك تعجب عندما تقرأ أن المأمون والمعتصم سلما أمور الدولة إلى شخص مجهول ، لا تاريخ له ولا سابقة ، هو يحيى بن أكثم المروزي مولى بني تميم ، وأمرا وزراءهما أن لا يصدرا مرسوماً ، وأن لا يعملا عملاً إلا بأمره ! فمن هو يحيى بن أكثم هذا ؟
قال الخطيب في ترجمة ابن أكثم في تاريخ بغداد : 14 / 201 ، والمزي في تهذيب الكمال : 31 / 216 : ( وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً ، وكان المأمون ممن برع في العلوم ، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه ، حتى قلده قضاء القضاء ، وتدبير أهل مملكته ، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً ، إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم ، ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه ، إلا يحيى بن أكثم وابن أبي دؤاد ) .
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 11 / 161 ) : ( وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحدٌ عنده من الناس جميعاً ، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً ، إلا بعد مطالعته ) .
2 . اتفق علماء الجرح والتعديل السنيون على أن يحيى بن أكثم كذابٌ محترف ! فقد ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 9 / 129 ) فقال : ( نا عبد الرحمن ، قال سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول : كانوا لا يشكُّون أن يحيى بن أكثم كان يسرق حديث الناس ، ويجعله لنفسه ) !
وفي تاريخ بغداد ( 14 / 204 و 205 ) : ( حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري قال : سمعت أبا عاصم يقول : يحيى بن أكثم كذاب . . . سمعت يحيى بن معين يقول : يحيى بن أكثم كان يكذب ، جاء مصر وأنا بها مقيم سنتين وأشهراً ، فبعث يحيى بن أكثم فاشترى كتب الوراقين وأصولهم فقال : أجازوها لي ) .
ورآه سفيان بن عيينة : ( فسأل مَن الحَدَث ؟ فقالوا : يحيى بن أكثم . فقال سفيان : هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء . يعني السلطان ) . ( تاريخ بغداد : 14 / 197 ) .
وترجم له النمازي في مستدركات رجال الحديث ( 8 / 189 ) قال : ( يحيى بن أكثم : من أفسق قضاة العامة ، ومحبوب المأمون . مناظراته مع الإمام الجواد ( عليه السلام ) . . ) .
أقول : ابن أكثم مروزي ، ونسبة التميمي التي وردت في ترجمته بالولاء .
3 . كان في أوائل العشرين من عمره ، وكان معتمداً عند المأمون كأنه عالم كبير ! وأول ما وصل الينا من اعتماده عليه أنه أشهده على وثيقة ولاية عهد الإمام الرضا ( عليه السلام ) . ثم أرسله قاضياً إلى البصرة .
قال وكيع في أخبار القضاة ( 2 / 161 و 167 ) : ( وكان قدومه إياها يوم الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان سنة اثنتين ومائتين ) .
4 . وافتضح أمر يحيى بن أكثم وسلوكه المشين في البصرة ، فاشتكوا إلى المأمون فلم يقبل شكواهم ! ثم أصروا عليه ، فعزله وجاء به إلى بغداد وقربه ، وولى مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة .
قال المسعودي في مروج الذهب ( 3 / 434 ) : ( فرُفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه ، فقال المأمون : لو طعنوا عليه في أحكامه قُبِل ذلك منهم !
قالوا : يا أمير المؤمنين قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر ، واستفاض ذلك عنه ، وهو القائل يا أمير المؤمنين ، في صفة الغلمان وطبقاتهم ومراتبهم وفي أوصافهم قوله المشهور !
فقال المأمون : وما الذي قال ؟ فدفعت إليه القصة فيها جُمَلٌ مما رميَ به وحكي عنه في هذا المعنى . . . فأنكر المأمون ذلك في الوقت واستعظمه ، وقال : أيكم سمع هذا منه ؟ قالوا : هذا مستفاض من قوله فينا يا أمير المؤمنين !
فأمر بإخراجهم عنه ، وعزل يحيى عنهم ! وفي يحيى يقول ابن أبي نعيم :
يا ليت يحيى لم يلده أكْثَمُه * ولم تطأ أرض العراق قَدَمُه
ألْوَطُ قاضٍ في العراق نعلمُهْ * أي دواة لم يلقها قلمه
وأي شِعْبٍ لم يلجه أرقمه
فاتصل يحيى بالمأمون ونادمه ورخَّص له في أمور كثيرة . . . وكان يحيى إذا ركب مع المأمون في سفر ركب معه بمنطقة وقَبَاء وسيف بمعاليق وساسية ( زينة الأمراء ) وإذا كان الشتاء ركب في أقْبِيَةِ الخزّ وقلانس السمُّور والسروج المكشوفة .
وبلغ من إذاعته ومجاهرته باللواط ، أن المأمون أمره أن يفرض لنفسه فرضاً يركبون بركوبه ويتصرفون في أموره ، ففرض أربع مائة غلام مُرْداً ، اختارهم حسان الوجوه فافتضح بهم ، وقال في ذلك راشد بن إسحاق ، يذكر ما كان من أمر يحيى في الفرض ( أي موكب الغلمان المرافق له ) وكان يحيى بن أكثم بن عمرو بن أبي رباح ، من أهل خراسان من مدينة مرو ) .
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان ( 1 / 85 ) : ( قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قبل المأمون ، في آخر سنة اثنتين ومائتين ، وهو حَدَث سِنُّهُ نيف وعشرون . . فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى : إختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي ، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دواد ) .
أقول : شكاه أهل البصرة فقربه المأمون اليه ، واتخذه نديماً ووزيراً ، ومدبراً لدولته ، مع علمه بفسقه وشذوذه ! وكان يدافع عنه ويهيئ له أدوات الفسق والشذوذ !
وهذا يوجب الشك في شذوذ المأمون نفسه ! فالجو الذي نشأ فيه ليس بعيداً عن ذلك لأن أباه أعطاه وهو طفل إلى جعفر البرمكي ، فرباه وكان يخاطبه بأبي !
5 . ولم تنكسر عين يحيى بافتضاحه فكان يعامل المسلمين بعقدة مركب النقص ! ففي تاريخ بغداد ( 14 / 198 ) وغيره من المصادر : ( كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً شديداً وكان مفتِّناً ، فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث ، فإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو ، فإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله ! فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ فناظره فرآه متقناً ، فقال له : نظرت في الحديث ؟ قال : نعم . قال : فما تحفظ من الأصول ؟ قال : أحفظ : شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث أن علياً رضي الله عنه رجم لوطياً . فأمسك فلم يكلمه بشئ ) !
وفي تاريخ بغداد ( 6 / 243 ) وغيره من المصادر : ( لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه . فقالوا : عففت عن أموالنا وعن دمائنا ، فقال إسماعيل بن حماد : وعن أبنائكم ! يعرض بيحيى بن أكثم في اللواط ) .
وإسماعيل بن حماد هو حفيد أبي حنيفة ، وقد عاتب ابن أكثم لما عزله بأنه لم يشكر فضل جده عليه ! ففي ربيع الأبرار ( 2 / 76 ) : ( سمع إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، يحيى بن أكثم يغض من جده ، فقال : ما هذا جزاؤه منك ! قال : حين فعل ماذا ؟ قال : حين أباح النبيذ ، ودرأ الحد عن اللوطي ) !
وفي تاريخ بغداد ( 14 / 199 ) : ( أنشد أبو صخرة الرياشي في يحيى بن أكثم :
أنطقني الدهر بعد إخراس * لنائبات أطلنَ وسواسي
يا بؤسَ للدهر لا يزالُ كما * يرفع من ناسٍ يحطُّ من ناس
لا أفلحت أمةٌ وحق لها * بطول نكس وطول إتعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها * وليس يحيى لها بسوَّاس
قاضٍ يري الحد في الزناء ولا * يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الغرير على * مثل جرير ومثل عباس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال * عدلُ وقلَّ الوفاء في الناس
أميرنا يرتشي وحاكمنا * يلوط والرأس شرُّ مَا راس
لو صلح الدين واستقام لقد * قام على الناس كل مقياس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال * أمة قاض من آل عباس
وفي تاريخ دمشق ( 64 / 80 ) : ( ولى يحيى بن أكثم إسماعيل بن سماعة القضاء بغربي بغداد ، فولى سوار بن عبد الله شرقيها ، وكانا أعورين فكتب محمد بن راشد الكاتب :
رأيت من العجائب قاضيينِ * هما أحدوثةٌ في الخافقينِ
هما فالُ الزمان بهلك يحيى * إذا فُتح القضاء بأعورين
فلو جمع العمى يوماً بأفق * لكانا للزمانة خِلتين
وتحسب منهما من هز رأساً * لينظر في مواريث ودين
كأنك قد جعلت عليه دِنّاً * فتحت بِزَاله من فرد عين
وكان يحيى بن أكثم أعور ! . . الأصمعي قال : مازح المأمون يحيى بن أكثم ، فمر غلام أمرد فقال : يا يحيى وأومأ إلى الغلام ، ما تقول في محرم اصطاد ظبياً ! قال : يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحسن بإمام مثلك مع فقيه مثلي ! قال فمن القائل :
قاض يرى الحد في الزناء ولا * يرى على من يلوط باسِ
فقال من عليه لعنة الله ، فمن الذي يقول :
لا أحسب الجور ينقضي وعلى * الأمة والٍ من آل عباس
فوجم المأمون فقال : هذا مزاح ، قد تضمن إسماعاً قبيحاً ، وأنشأ يقول :
وكنا نُرجِّي أن نرى العدلَ ظاهراً * فأعقبَنا بعد الرجاء قُنُوطُ
متى تصلح الدنيا ويصلح أهْلُها * وقاضي قضاة المسلمين يلوطُ ؟
6 . وكان يحيى بن أكثم يجيد التزلف إلى المأمون ، ففي ربيع الأبرار ( 5 / 63 ) : ( وضع على مائدة المأمون يوم عيد أكثر من ثلاث مائة لون ، فكان يذكر منفعة كل لون ومضرته ، وما يختص به . فقال يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته ، أو في النجوم فأنت هرمس في حسابه ، أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب في علمه ، أو في السخاء فأنت حاتم في كرمه ، أو في صدق الحديث فأنت أبو ذر في لهجته ، أو في الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه . فَسُرَّ بكلامه وقال : يا أبا محمد إن الإنسان إنما فضل غيره بعقله ) !
ولا نعرف أي عقل يبقى لحاكم سفرته تضم ثلاث مئة لون ، وفي المسلمين من لا يجد القرص لجوعه ، ولا الثوب لعريه ! وأي عقل يبقى لمن يدافع عن مسؤول شاذ !
7 . وكان المأمون يستهين بشخصية ابن أكثم ويروضه بإذلاله ، ويمتحن مهانته ! ففي العقد الفريد لابن عبد ربه ( 1 / 476 ) : ( قال المأمون ليحيى بن أكْثم القاضي : أخْبِرني مَن الذي يقول :
قاضٍ يَرَى الحدَّ في الزَناء ولا * يَرى على مَن يلوط مِن باس
قال : يقوله يا أميرَ المُؤمنين الذي يقول :
لا أحْسَب الجَوْر يَنْقَضى وعَلَى ال * أمة والٍ مِن آل عَباس
قال : ومَن يقوله ؟ قال : أحمد بن نُعيم . قال : يُنْفَى إلى السند . وإنما مَزَحنا معك ) .
وفي تهذيب الكمال ( 31 / 220 ) : ( قال المأمون ذات يوم ليحيى بن أكثم القاضي : أريد منك أن تسمي لي ثقلاء أهل عسكري وحاشيتي . فقال له : يا أمير المؤمنين ، إعفني فإني لست أذكر أحداً منهم ، وهم لي على ما تعلم ، فكيف إن جرى مثل هذا ! قال له : فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل لك مخراقاً وأضربك به ، وأسمي مع كل ضربة رجلاً ، فإن كان ثقيلاً تأوهتَ ، وإن يكن غير ذلك سكتَّ ، فأكون أنا على معرفة منهم ويقين من ثقلائهم ! فاضطجع له يحيى وقال : ما رأيت قاضي قضاة ، وأميراً ووزيراً يُعمل به مثل ذا ! فلف له مخراقاً دبيقياً وضربه به ضربة ، وذكر رجلاً ثقيلاً ، فصاح يحيى : أوه أوه ، يا أمير المؤمنين في المخراق آجرة ! فضحك منه حتى كاد يغشى عليه ، وأعفاه من الباقين ) .
ومعنى قوله : في المخراق آجرة ، أن ذلك الشخص ثقيل جداً لا يكفيه التأوه !
وقال في هامشه : المخراق : المنديل يلف ليضرب به ، والقماش الذي عمل منه المخراق كان قماشاً دبيقياً منسوب إلى دبيق بليدة بالبلاد المصرية كانت بين الفرما وتنيس ، اشتهرت بالثياب الدبيقية الرقيقة النسيج . فبسبب رقة القماش كان المخراق قوياً مؤلماً ) .
8 . ومما يدل على صدق شهادة القاضي حفيد أبي حنيفة بأنه كان يشرب الخمر : ما رواه في تاريخ بغداد ( 2 / 356 ) : ( قال محمد بن زياد الأعرابي : بعث إليَّ المأمون فسرت إليه وهو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم ، فرأيتهما موليين فجلست ، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة ، فسمعته يقول ليحيى : يا أبا محمد ، ما أحسن أدبه ، رآنا موليين فجلس ، ثم رآنا مقبلين فقام .
ثم رد عليَّ السلام وقال : يا محمد ، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب . . . فقلت : يا أمير المؤمنين قوله . . . فقال : أشعر منه الذي يقول : يعني أبا نواس . . ) .
9 . جعل المأمون ابنه العباس ولي عهده ، وكان أخوه المعتصم ومؤيدوه يفكرون بخلعه واستخلاف المعتصم ، وكان ابن أكثم يتجسس للمأمون عليهم .
وهذا يفسر لنا كثرة إرسال المأمون أخاه المعتصم لغزو الروم ، ثم إرساله والياً على مصر . وكان ابن أكثم يذهب معه في بعض الغزوات ، لكن للتجسس وليس للقتال ، فالذي يصحب معه أربع مئة غلام أمرد ، لا يقاتل !
في تاريخ بغداد ( 4 / 114 ) : ( كنت أنا ويحيى ابن أكثم نسير مع المعتصم وهو يريد بلاد الروم قال : فمررنا براهب في صومعته فوقفنا عليه وقلنا : أيها الراهب أترى هذا الملك يدخل عمورية ؟ فقال لا ، إنما يدخلها ملك أكثر أصحابه أولاد زنا . قال : فأتينا المعتصم فأخبرناه فقال : أنا والله صاحبها ، أكثر جندي أولاد زنا ) !
وفي أخبار القضاة لوكيع ( 3 / 294 ) : ( فلما ولى المعتصم مصر قال المأمون ليحيى بن أكثم : أنظر لأخي رجلاً فطناً يسدده إذا سهى ويؤنسه إذا خلى ويجمعه إذا ظهر . قال : لا أعرفه إلا واحداً أنت به ضنين قال : ومن هو ؟ قال : ابن أبي دؤاد قال : تفجعني به ! قال : تؤثر أخاك . فأذن له على نفس تنزع إليه .
فأخبرني أبو العيناء قال : سمعت ابن أبي دواد يقول : خرجت مع المعتصم فما سرنا إلا منزلين حتى قال لي المعتصم : رأيت في ليلتي هذه كأني متعمم بالشمس ، وكأن القمر في حجري ! فقلت له : أمسك عليك ولا نسمعها منك فإنها مفسرة ! قال : فطُرِدْنا عن الخلافة والله يسوقها إلينا ) ؟ !
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 465 ) : ( وشى يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون ، وقال له : إنه بلغني أنه يحاول الخلع ، فوجه إليه يأمره بالقدوم ، وأن يكون مقيماً حتى يوافيه ، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها ، واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة ) .
ولم تنفع احتياطات المأمون ، فقد غلب أخوه المعتصم على ابنه الضعيف وأخذ الخلافة بعده ، وكان أول ما فعله المعتصم أن عزل يحيى بن أكثم ، ونصب بدله صديقه ابن أبي دؤاد ، ونقل الخلافة من أولاد المأمون إلى أولاده ، فتولاها ابنه الواثق ، ثم ابنه المتوكل !
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ( 1 / 85 ) : ( ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دواد قاضي القضاة ، وعزل يحيى بن أكثم . وخص به ( بنفسه ) أحمد ، حتى كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه .
وامتحن ابن أبي دؤاد الإمام أحمد بن حنبل وألزمه بالقول بخلق القرآن الكريم وذلك في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين . ولما مات المعتصم وتولى بعده ولده الواثق بالله ، حسنت حال ابن أبي دؤاد عنده ) .
10 . وأقصي المعتصم وابنه الواثق بن أكثم عن كل مركز القرار في الخلافة ! وظل ينتظر حتى جاء المتوكل وخالف سياسة أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون فتبني النصب وبغض أهل البيت ( عليهم السلام ) والتجسيم والقول بقدم القرآن ، فسارع اليه ابن أكثم وأعلن قوله بقدم القرآن ! مع أنه كان أداة المأمون في امتحان العلماء بخلق القرآن ، وكان يحرم من لم يقل منهم إنه مخلوق من الوظائف ويرد شهادته .
فقد كان المأمون يرى أن من يقول إن القرآن غير مخلوق ، فهو مجسم ، لأن القرآن عنده جزء من ذات الله تعالى ، فكان يسقطه من وظائف الدولة ويعاقبه .
وقد واصل المعتصم سياسة المأمون ، وكان قاضي قضاته ابن أبي دؤاد يمتحن الناس والفقهاء ، ومنهم أحمد بن حنبل ، فحبسه وضربه حتى قال إن القرآن مخلوق .
ثم تلوَّنَ ابن أكثم ، وتقرب إلى المتوكل وأفتى بكفر من يقول إن القرآن مخلوق ، فشمل بذلك نفسه والمأمون ومن وافقه !
قال في تاريخ بغداد ( 14 / 201 ) : ( سمعت يحيى بن أكثم يقول : القرآن كلام الله ، فمن قال مخلوق يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ) .
وفي تاريخ بغداد ( 1 / 314 ) : ( عزل المتوكل أبا الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد . . ووليها يحيى بن أكثم لسبع بقين من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ) .
وفي مروج الذهب ( 4 / 14 ) : ( وفي سنة تسع ( سبع ) وثلاثين ومائتين رضي المتوكل عن أبي محمد يحيى بن أكثم ، فأشخص إلى سر من رأى وولي قضاء القضاة ، وسخط على أحمد بن أبي دُواد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد وكان على القضاء ، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، وجوهراً بأربعين ألف دينار ، وأحضر إلى بغداد ) .
ونقرأ العجيب هنا وهو أن أحمد بن حنبل شهد بيحيى بن أكثم ، وأشار على المتوكل أن يوليه رغم افتضاحه ! قال محبه ابن كثير في النهاية ( 10 / 348 ) : ( وكان ( المتوكل ) لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد ، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته ) !
لكن لم يطل رضا المتوكل على ابن أكثم ، ففي الكامل لابن الأثير ( 7 / 75 ) : ( في هذه السنة ( 240 ) عَزل يحيى بن أكثم عن القضاء ، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار ، وأربعة آلاف جريب بالبصرة ) !
11 . كان ابن أكثم متحمساً ضد أئمة العترة النبوية ( عليهم السلام ) ، فقد واجه الإمام الرضا ( عليه السلام ) في طوس ، لكن بطريقة المأمون الناعمة الملمس ، وكان أحد الشهود على وثيقة ولايته للعهد .
ثم واجه ابنه الإمام الجواد ( عليه السلام ) في بغداد عندما طلب منه العباسيون أن يحرجه . ثم واجهه عندما أمره المأمون عدة مرات . ثم واجه الإمام الهادي ( عليه السلام ) في سامراء !
ففي مناقب آل أبي طالب : ( 3 / 507 ) : ( قال المتوكل لابن السكيت : إسأل ابن الرضا مسأله عوصاء بحضرتي ، فسأله فقال : لمَ بعث الله موسى بالعصا ؟ وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ؟ وبعث محمداً بالقرآن والسيف ؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : بعث الله موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم ، وأثبت الحجة عليهم . وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، في زمان الغالب على أهله الطب ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم . وبعث محمداً بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر ، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر سيفهم وأثبت الحجة عليهم .
فقال ابن السكيت : فما الحجة الآن ؟ قال : العقل يعرف به الكاذب على الله فيكذب . فقال يحيى بن أكثم : ما لابن السكيت ومناظرته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة ! ورفع قرطاساً فيه مسائل .
فأملى علي بن محمد ( عليه السلام ) على ابن السكيت جوابها وأمره أن يكتب : سألت عن قول الله تعالى : قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ، فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه آصف ، ولكنه أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ، ففهمه ذلك لئلا يختلف في إمامته وولايته من بعده ، ولتأكيد الحجة على الخلق .
وأما سجود يعقوب لولده ، فإن السجود لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعةً لله تعالى وتحيةً ليوسف . كما أن السجود من الملائكة لم يكن لآدم . فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله تعالى بإجماع الشمل . ألم تر انه يقول في شكره في ذلك الوقت : رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ . . الآية .
وأما قوله : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ، فإن المخاطب بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يكن في شك مما أنزل الله إليه ، ولكن قالت الجهلة : كيف لم يبعث نبياً من الملائكة ؟ ولم لم يفرق بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق ؟
فأوحى الله إلى نبيه فاسأل الذين يقرؤن الكتاب بمحضر من الجهلة هل بعث الله نبياً قبلك إلا وهو يأكل الطعام والشراب ، ولك بهم أسوة يا محمد ، وإنما قال : فان كنت في شك ، ولم يكن للنصفة كما قال : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ، ولو قال : تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم ، لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة . وقد علم الله أن نبيه مؤد عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه صادق فيما يقول ، ولكن أحب أن ينصف من نفسه . . الخ . ) .
12 . كان ابن أكثم يعتقد بقول المأمون إن الإمام الجواد وأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يقاس بهم أحد ، وأنهم يختلفون عن الناس بأن علمهم من الله تعالى بدون تعلم من أحد ، وأن صغارهم كبار . وقد رأى مناظرة المأمون للفقهاء ولبني العباس في أن أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) خير الخلق بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه وصيه .
وكذلك الحسن والحسين ( عليهما السلام ) لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بايعهما على الإسلام ونص على إمامتهما وهما صبيان ولم يبايع غيرهما . كما ناظرهم وتحداهم بالإمام الجواد ( عليه السلام ) .
لذلك كان ابن أكثم يظهر احترام الأئمة ( عليهم السلام ) وشيعتهم ، ويهرب من مواجهتهم إلا إذا أمره بذلك الخليفة .
ففي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 216 ) : ( سأل حمران بن أعين يحيى بن أكثم عن قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيث أخذ بيد علي وأقامه للناس فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه : أبأمر من الله تعالى ذلك أم برأيه ؟ فسكت عنه حتى انصرف ! فقيل له في ذلك فقال : إن قلت برأيه نصبه للناس خالفت قول الله تعالى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . وإن قلت بأمر الله تعالى ثبتت إمامته . قال : فلم خالفوه واتخذوا ولياً غيره ) .
وفي الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي / 508 : ( عن محمد بن أبي العلاء قال : سمعت يحيى بن أكثم قاضي القضاة يقول بعدما جهدت به وناظرته غير مرة وحاورته في ذلك ، ولاطفته وأهديت له طرائف ، وكنت أسأله عن علوم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : أخبرك بشرط أن تكتم علي ما دمت حياً ، ثم شأنك به إذا مت . فبينا أنا ذات يوم بالمدينة فدخلت المسجد أطوف بقبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرأيت محمد بن علي الرضا يطوف بالقبر الشريف ، فناظرته في مسائل عندي فأخرجها إلي ، فقلت له : إني والله أريد أن أسألك عن مسألة ، وإني والله لأستحي من ذلك فقال لي : إني أخبرك بها قبل أن تخبرني وتسألني عنها تريد أن تسألني عن الإمام . فقلت : هو والله هذا . فقال : أنا هو . فقلت : علامة ، وكان في يده عصاه فنطقت وقالت : إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة عليهم ) . والكافي : 1 / 353 .
وهذا النص اعتراف صريح من ابن أكثم بأن الحجة تمت عليه بإمامة الجواد ( عليه السلام ) .
13 . ومات ابن أكثم سنة 242 ، عن عمر امتد ثلاثاً وثمانين سنة ، كان حافلاً بالفعاليات السياسية في خدمة المأمون وثلاثة خلفاء بعده . مليئ بالفتاوى المخالفة للشرع الإسلامي ، وبأحكامٍ بالقتل والحبس ومصادرة الأموال ، شملت مئات المسلمين أو ألوفهم . كما كان عمره حافلاً بالتمتع بالدنيا ، من حرامها قبل حلالها !
وقد حاول محبوه أن يقولوا إن الله تعالى أدخله الجنة ، وغفر له لواطه ، وأكله الحرام وشربه الحرام ، وكذبه في الحديث والفتاوى !
قال في تاريخ دمشق ( 64 / 92 ) ، إن رجلاً ( من أهل سامراء قال : لما مات يحيى بن أكثم رئي في المنام فقيل له : إلى أي شئ صرت ؟ قال : إلى الجنة . قيل له : الجنة ! قال : نعم إني رأيت رب العزة جل وعز فقال لي : يا يحيى لولا شيبتك لعذبتك ! وكساني حلتين : وردانية ، وحلة خضراء ) !
لكن لو غفر له الله كل تلك الجرائم والمعاصي ، فكيف يغفر له أن الحجة تمت عليه بإمامة الرضا والجواد والهادي ( عليهم السلام ) ، فكتمها وأمر بكتمانها ، ثم شارك في قتلهم !
( 3 ) أحمد بن أبي دؤاد : حكم الأمة الإسلامية عشرين سنة ؟
1 . كان يحيى بن أكثم شاباً خراسانياً مولى لبني تميم ، يجيد العربية ، وقد درس شيئاً من الفقه . رآه المأمون في طوس وأعجبه فأرسله قاضياً على البصرة .
كان في البصرة يومها فقهاء كبار ، فلم يعجبهم علم ابن أكثم ولا سلوكه ، فاشتكوا عليه للمأمون كما تقدم ، فلم يسمع شكواهم لأن ابن أكثم صديقه المحبب ! وقال لهم لا أقبل منكم شكوى على لواطه وفسقه ، فإذا اعتدى عليكم في أحكامه فاشتكوا .
فشذوذ ابن أكثم لم يكن مهماً عند المأمون ! وعندما زادت شكواهم عليه أخذه اليه في بغداد ورفع رتبته ، وكلفه أن يختار له ندماء من أصدقائه وشركائه في لهوه !
قال المسعودي : ( فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين ، قال ليحيى اختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي ، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دؤاد . فكثروا على المأمون فقال : اختر منهم ، فاختار عشرة فيهم ابن أبي دؤاد . ثم قال : اختر منهم ، فاختار خمسة فيهم ابن أبي دؤاد . واتصل أمره . . .
ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دواد قاضي القضاة ، وعزل يحيى بن أكثم وخَصَّ به أحمد ، حتى كان لا يفعل فعلاً باطناً ، ولا ظاهراً ، إلا برأيه . .
ولما مات المعتصم وتولى بعده ولده الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دواد عنده ! ولما مات الواثق بالله وتولى أخوه المتوكل ، فُلِجَ ابن أبي دواد في أول خلافته ) .
ومعنى ذلك أن ابن أبي دؤاد الذي اختاره ابن أكثم نديماً للمأمون ، حكم الأمة نحو عشرين سنة ، وهي مدة حكم المعتصم وابنه الواثق ، فقد حكم المعتصم ثمان سنين من
سنة 218 ، إلى سنة 227 ، وحكم ابنه الواثق نحو ست سنين إلى سنة 232 ، ثم حكم المتوكل فكان قاضي قضاته خمس سنين حتى غضب عليه سنة 237 .
2 . وكان ابن أبي دؤاد يجيد التملق لملوك بني العباس ، فكان يمدح المعتصم بما لا يُصدق ! قال ابن حمدون في تذكرته ( 2 / 423 ) : ( قال ابن أبي دواد : كان المعتصم يقول لي : يا أبا عبد الله عَضَّ ساعدي بأكثر قوتك . فأقول : والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك . يقول : إنه لا يضرُّني . فأروم ذلك ، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة ، فكيف الأسنان ) !
3 . ادعى أحمد بن أبي دؤاد أنه عربي من قبيلة أياد ، وكذب ذلك النسابون وفضحه الشعراء ، فقال حميد بن سعيد :
لقد أصبحتَ تنسب في إياد * بأن يُكنى أبوك أبا دُؤاد
فلو كان اسمه عمرو بن معد * دعيت إلى زبيد أو مراد
لئن أفسدتَ بالتخويف عيشي * فما أصلحتَ أصلك في إياد
وإن تك قد أصبتَ طريف مال * فبخلك باليسير من التلاد
( الأغاني : 18 / 359 ) .
وقال الحسن بن وهب :
سألت أبي وكان أبي خبيراً * بسكَّان الجزيرة والسَّواد
فقلت له أهيثم من غنيٍّ * فقال كأحمد بن أبي دُؤاد
فإن يك هيثمٌ من جذم قيس * فأحمد غير شكٍّ من إياد
( الأغاني : 23 / 83 ) .
وتزوج امرأتين من بني عجل ، فهجاه دعبل الخزاعي كما في ديوانه / 49 و 173 :
( غَصَبْتَ عِجلاً على فرجين في سنةٍ * أفسدتهم ثم ما أصلحت من نَسَبِكْ
ولو خطبت إلى طوق وأسرته * وزوجوك لما زادوك في حسبك
. . من هويت ونل ما شئت من نسب * أنت ابن زرياب منسوباً إلى نشبك
إن كان قوم أراد الله خزيهم * فزوجوك ارتغاباً منك في ذهبك
فذاك يوجب أن النبع تجمعه * إلى خلافك في العيدان أو غربك
ولو سكت ولم تخب إلى عرب * لما نبشت الذي تطويه من سببك
عُدَّ البيوت التي ترضى بخطبتها * تجد فزارةً العكليَّ من عربك ) .
( أيا للناس من خبرٍ طريفٍ * يغرِّد ذكره في الخافقين
أعجلٌ أنكحوا ابن أبي دؤادٍ * ولم يتأملوا فيه اثنتين
أرادوا بعض عاجلةٍ فباعوا * رخيصاً عاجلاً نقداً بدين
بضاعةُ خاسرٍ بارت عليه * فباعك بالنواة التمرتين
ولو غلطوا بواحدة لقلنا * يكون الوهم بين العاقلين
ولكن شَفْعُ واحدةٍ بأخرى * يدلُّ على فساد المنصبين
لحا الله المعاش بفرج أنثى * ولو زوجتها من ذي رُعين
ولمّا أن أفاد طريف مالٍ * وأصبح رافلاً في الحلتين
تكنَّى وانتمى لأبي دؤادٍ * وقد كان اسمه ابن الفاعلين
فرُدُّوهُ إلى فَرَجٍ أبيه * وزريابٍ فألأمُ والدين ) .
ولا نقصد الطعن على ابن أبي دؤاد بأنه ليس عربياً ، بل نريد إثبات أنه كان يزور نسبه ليتقرب إلى بني العباس بأنه عربي ، وهو كاذب . والصحيح أنه من عامة الناس غير العرب ، وكان أبوه يعمل قياراً ، أي يبيع الزفت أو يصلحه في البناء ، فقد روى التنوخي في نشوار المحاضرة ( 7 / 212 ) ، أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، قال إن المعتصم قبل أن ينتقل إلى سامراء ضحك يوماً من تلقاء نفسه ، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً قال له : ( فهذا الطالع أسد وهو الطالع في الدنيا ، وإنه يوجب لك الخلافة ، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك ، وتبني بلاداً عظيمة ، ويكون من شأنك كذا ، ومن أمرك كذا ، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن .
قلت : فهذا السعود ، فهل عليَّ من النحوس ؟ قال : لا ، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك . قلت : فهل غير هذا ؟ قال : نعم ، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد . قلت : ما هو ؟ قال : يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة ، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهل مملكتك . . . ولكني ما ذكرته إلى الآن ، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته ، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي ، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار ، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد ، فإذا قد صح جميع ما قال !
فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه ، لأفي له بسالف الوعد ، فعاد إليّ وذكر أنه قد مات قريباً . . وأخذني الضحك ، إذ ترأس في دولتي أولاد السفل . قال : فانكسرنا ، ووددنا أنا ما سألناه ) !
4 . لم يكن ابن أبي دؤاد في سلوكه الشخصي أفضل من ابن أكثم ، لكنه لم يشتهر باللواط كما اشتهر ابن أكثم . قال كما روى الحميري في الروض المعطار / 346 : ( كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله ، فخرج المعتصم يوماً إلى الشماسية في حراقة يشرب ، ووجه في طلبي فصرت إليه ، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني وشغلني عن كل شئ ، فسقط سوطي من يدي ، فالتفت إلى غلامي أطلب منه سوطه فقال لي : قد والله سقط مني ، قلت له : فأي شئ كان سبب سقوطه ؟ قال : صوت سمعته شغلني عن كل شئ فسقط سوطي من يدي ، فإذا قصته قصتي !
قال : وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفز به الناس منه ، ويغلب على عقولهم وأناظر المعتصم فيه ، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر ، فضحك وقال . . فإن كنت تُبْتَ مما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده ، ففعلت وفعل ، وبلغ الطرب مني أكثر مما كان يبلغني عن غيري فأنكره ، ورجعت عن رأيي فيه منذ ذلك اليوم ) !
وفي الأغاني ( 10 / 332 ) : ( وسمعه أحمد بن أبي دؤاد ، فمال للغناء بعد أن كان يتجنبه . . قال كنت أتجنَّبُ الغناء وأطعن على أهله وأذمُّ لهجهم به ؛ فوجَّهَ المعتصم إليَّ عند خروجه من مدينة السلام : إلحق بي ؛ فلحقت به بباب الشماسية ومعي غلامي زنقطة ، فوجدته قد ركب الزورق ، وسمعت عنده صوتاً أذهلني حتى سقط سوطي من يدي ولم أشعر به . . فغلبني الضحك حتى بان في وجهي .
ودخلت إلى المعتصم بتلك الحال فلما رآني قال لي : ما يضحكك يا أبا عبد الله ؟ فحدثته ، فقال : أتتوب الآن من الطعن علينا في السماع ؟ ) .
فاعجب لقاضي قضاة المسلمين يعترف بأنه فقد توازنه من الطرب ، ولعله شرب الخمر ففقد عقله ! وجعل الطرب دليلاً على حلية الغناء ، ورجع عن القول بتحريمه !
كما روى ابن حمدون في تذكرته ( 2 / 279 ) أن قاضي القضاة ابن أبي دؤاد ( التقي المتهجد بقيام الليل ) كان عنده في بيته جوارٍ يقدمهن للمنام مع الضيوف المحترمين !
قال ابن حمدون : ( بات جماعة من الرؤساء عند أحمد بن أبي دواد ، فلما أخذوا مضاجعهم إذا الخدم قد أخرجوا لكل واحد منهم جارية ) !
5 . مات الواثق فنشط ابن أبي دؤاد في عقد البيعة لأخيه جعفر بن المعتصم ، ولقَّبه بالمتوكل ، وصار قاضي قضاته ، وأقنعه بقتل الوزير محمد بن الزيات ، لأنه كان ضد توليه الخلافة !
قال في تاريخ بغداد ( 3 / 145 ) : ( كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد ، عداوة شديدة ، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد ، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه وطالبه بالأموال ) .
وقال البغدادي في خزانة الأدب ( 1 / 428 ) : ( وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد ، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله ، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ ، وكان يعذب فيه أيام وزارته ، فكيفما انقلب المعذب أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه ! وإذا قال له أحد : إرحمني أيها الوزير ، فيقول له :
الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد ، فقال له : يا أمير المؤمنين إرحمني ، فقال له : الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ، كما كان يقول للناس ! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً ، إلى أن مات فيه ) !
ويظهر من رواية الكافي ( 1 / 498 ) أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات ، وأن ابن أبي دؤواد تمكن من إخراجه وعقد البيعة له !
قال خيران الأسباطي : ( قدمت على أبي الحسن ( عليه السلام ) ( الإمام الهادي ) المدينة فقال لي : ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام . قال فقال لي : إن أهل المدينة يقولون : إنه مات . فلما أن قال لي : الناس ، علمت أنه هو . ثم قال لي : ما فعل جعفر ( المتوكل ) ؟ قلت : تركته أسوأ الناس حالاً في السجن . قال فقال : أما إنه صاحب الأمر . ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جعلت فداك الناس معه والأمر أمره . قال فقال : أما إنه شؤم عليه . قال : ثم سكت وقال لي : لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه . يا خيران ، مات الواثق ، وقد قعد المتوكل جعفر ، وقد قتل ابن الزيات ، فقلت : متى جعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيام ) .
وفي وفيات الأعيان ( 5 / 99 ) : ( لما مات الواثق بالله أخ المتوكل أشار محمد المذكور ( الزيات ) بتولية ولد الواثق ، وأشار القاضي أحمد ابن أبي دواد المذكور بتولية المتوكل ، وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده ، وألبسه البردة ، وقبله بين عينيه ) .
6 . ثم دارت الدائرة على رأس ابن أبي دؤاد ، فغضب عليه المتوكل وعزله ! روى في تاريخ بغداد ( 1 / 314 ) عن محمد بن يحيى الصولي قال : ( كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد ويستحي أن ينكبه ، وإن كان يكره مذهبه ، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق ، وعقد الأمر له والقيام به من بين الناس .
فلما فُلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، أول ما ولي المتوكل الخلافة ، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه ، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين ووكل بضياعه وضياع أبيه . ثم صولح على ألف ألف دينار ، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم ، وحَدَّرَهم إلى بغداد ، وولى يحيى بن أكثم ما كان إلى ابن أبي دؤاد . ومات أبو الوليد محمد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين . ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً ) .
أقول : سبحان مغير الأحوال ، فقد كان ابن أبي دؤاد من أصحاب ابن أكثم المطيعين في البصرة ، فاختاره نديماً للمأمون وأرسله إلى بغداد ، فدخل إلى قلب المأمون ، لكنه لم يستطع إزاحة سيده ابن أكثم . فوضع خطة للمعتصم ليسرق الخلافة بعد أخيه المأمون من ولي عهده العباس ! فصار هو الحاكم على المعتصم ، فعزل ابن أكثم وجلس بدله . وبقي ابن أكثم مبعداً في خلافة المعتصم وابنه الواثق ، حتى استطاع في خلافة المتوكل أن يزيح ابن أبي دؤاد ويصير بدله قاضي قضاة الخلافة الإسلامية !
لقد عمل هذان القاضيان ( التقيان ) بنفس قواعد سياسة قصور الخلافة وأخلاقياتها ، في الخبث ، والتجسس ، والتآمر ، والمكائد ، والكذب ، والتزييف ، والخداع ، والتزلف والنفاق ، والخديعة ، والتلاعب بأحكام الله تعالى ، ومفاهيم الدين ، وقتل الخصم بالسم ، وأي طريقة ممكنة ! كل ذلك من أجل البقاء في منصب ، أو الحصول عليه ، أو شفاء غيض ، أو إثبات الذات ، وإرضاء غرورها وكبريائها .
وكانوا ومن معهم يعرفون تأثير أفعالهم على أوضاع البلاد والعباد ، وارتكاب المظالم ، واللعب بمقدرات المسلمين ، واستباحة أموالهم ، وأقواتهم ، وأعراضهم ، ودمائهم !
وكانوا يبررون جرائمهم بأن بديلهم ليس أفضل منهم ! وأن غيرهم مثلهم يريد الدنيا ولا يريد خير المسلمين . بل يقولون إنهم الأقل ظلماً من غيرهم ، فهم أصحاب فضل على المسلمين مهما ظلموا ، لأنهم خلصوهم من خصومهم الأشد ظلماً ! فهم كما قال الله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ !
7 . كان ابن أبي دؤاد يعتقد بمذهب المأمون في خلق القرآن والبراءة من بني أمية فقد أراد المأمون أن يجتث توأم التجسيم لله والنصب لبني هاشم من جذوره ، ولم يستشر الإمام الرضا ولا الإمام الجواد ( عليهما السلام ) في الأسلوب الناجع لذلك ، فكتب منشوراً من ثلاث صفحات بالبراءة من معاوية ، لأنه رمز النصب وبغض بني هاشم . وأصدر مرسوماً بامتحان العلماء والرواة لمعرفة المجسمة منهم القائلين بأن القرآن قديمٌ غير مخلوق ، لأنهم بقولهم إن كلام الله تعالى جزء من ذاته يجعلونه عز وجل جسماً مركباً ، بينما القرآن كلامٌ مخلوقٌ مُحْدثٌ كما قال تعالى : مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . ( الأنبياء : 2 ) .
وقد خَوَّفَ المأمونَ وزراؤه من امتحان المسلمين بمعاوية ، لئلا يتحرك ضده محبوه ، فأخر نشر منشور لعن معاوية ، لكنه أخذ يمتحن الناس في خلق القرآن ، فاصطدم بالمجسمة غلاظ الأذهان ، وأنصارهم من العوام .
وقد أصرَّ المأمون على امتحان الرواة والعلماء خاصة القضاة ، بحجة أن القائل بقدم القرآن لا يصح توحيده ولا تقبل شهادته .
ثم واصل سياسته أخوه المعتصم ، ثم ابنه الواثق . وكان ابن أبي دؤاد شريكاً لهم ، بل أداتهم الأولى في ذلك . واستمر امتحان العلماء نحو عشرين سنة .
لكن موجة المجسمة المحبين لبني أمية ، قويت في بغداد وبعض المناطق ، فتبناها المتوكل ، وخالف سياسة الخلفاء السابقين ، وقرَّبَ المجسمة النواصب وسماهم المحدثين ، وجعل مرجعهم أحمد بن حنبل ، وكان يستشيره في نصب القضاة وفي الإنفاق على المحدثين وتبني كتبهم ، ومنهم البخاري وصحيحه .
فالسبب الأساسي في عزل ابن أبي دؤاد أن المتوكل غير مذهبه ، فكان ملزماً بعزل العدو اللدود للمجسمة النواصب . وقد سماهم المتوكل أو سموا أنفسهم : أهل الحديث ، وأهل السنة !
قال إمامهم عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي ( 1 / 534 ) : ( أكرهوا الناس عليه بالسيوف والسياط ، فلم تزل الجهمية سنوات يركبون فيها أهل السنة والجماعة بقوة ابن أبي دؤاد المحاد لله ولرسوله ، حتى استخلف المتوكل رحمة الله عليه فطمس الله به آثارهم ، وقمع به أنصارهم ، حتى استقام أكثر الناس على السنة الأولى والمنهاج الأول ) .
وقال ابن تيمية في مجموعة الفتاوى ( 17 / 299 ) : ( وابن أبي دؤاد لم يكن معتزلياً ، بل كان جهمياً ينفي الصفات ، والمعتزلة تنفي الصفات . فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة ) ! وقال الذهبي في الضعفاء ( 1 / 66 ) : ( أحمد بن أبي دؤاد القاضي ، جهمي بغيض ، معروف ) !
والجهمي هو المنسوب إلى جهم بن صفوان ، وقد نسبوه إلى بلخ في أفغانستان ( الأنساب : 2 / 133 ) ونسبوه إلى ترمذ : ( والجهمي وهو القائل بمذهب جهم بن صفوان الترمذي ) . ( المواقف : 1 / 78 وإعانة الطالبين : 2 / 56 ) .
وكان جبرياً ، يقول إن الله تعالى أجبر العباد على المعاصي ، ومع ذلك يعاقبهم عليها ! ( كان يزعم أن الله يعذب من اضطره إلى المعصية ولم يجعل له قدرة عليها ولا على تركها ) . ( أوائل المقالات للمفيد / 61 ) .
وظهر الجهم بن صفوان في وجه المجسمين ، مستنكراً عليهم وصفهم الله تعالى بأوصاف المخلوقين ، فأفرط في نفي صفة الجسم عنه حتى قال إن الله لا يوصف بأنه شئ ! فقتل هو وأستاذه جعد بن درهم ، في أواخر الدولة الأموية .
بينما قال المسلمون إن الله تعالى شئ لا كالأشياء .
وسئل الإمام الجواد ( عليه السلام ) : ( يجوز أن يقال لله إنه شئ ؟ قال : نعم ، يخرجه من الحدين : حد التعطيل ، وحد التشبيه ) . ( الكافي : 1 / 82 ) .
وقد دأب المجسمة على وصف المسلمين المنزهين لله تعالى بأنهم جهمية ينكرون صفات الله ، لأنهم يرفضون تفسيرهم يد الله بأنها حسية ، ومن رفض ذلك فهو عندهم جهمي ! ( راجع : الوهابية والتوحيد للمؤلف ، والفتاوى الكبرى لابن تيمية : 6 / 337 ) .
8 . كان الأمر واضحاً عند المأمون ومؤيديه ، وكان عامة المسلمين ينزهون الله . فمن بديهيات الإسلام أن الله تعالى كان ولم يكن معه شئ ، وكل ما سواه مخلوق له . والقول إن القرآن غير مخلوق ، يعني أنه الله أو جزء منه ، والعياذ بالله .
قال أبو شعيب الحجام : ( قلت لأبي العتاهية : القرآن مخلوق أو غير مخلوق ؟ فقال : سألت عن الله أو غير الله ؟ قلت : عن غير الله ، فأمسك حتى أعدت عليه هذا مرات يقول لي مثل قوله . فقلت : مالك لا تجيبني ! قال : قد أجبتك ، ولكنك حمار ) ! ( بغية الطلب لابن العديم ( 4 / 1761 ) .
وقال الطبري ( 7 / 195 ) : ( وفي هذه السنة ( 218 ) كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين ، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك ، ونسخة كتابه إليه :
أما بعد ، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الإجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ، ومواريث النبوة التي أورثهم ، وأثر العلم الذي استودعهم ، والعمل بالحق في رعيتهم ، والتشمير لطاعة الله فيهم ، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته ، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته . وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ، ممن لانظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والإستضاء بنور العلم وبرهانه ، في جميع الأقطار والآفاق ، أهل جهالة بالله وعمى عنه ، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله ، وقصور أن يقدروا الله حق قدره ويعرفوه كنه معرفته ، ويفرقوا بينه وبين خلقه ، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر . وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا مجتمعين واتفقوا غير متعاجمين ، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه ، وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ، فكل ما جعله الله فقد خلقه . وقال : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وقال عز وجل : كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها . وقال : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . وكل محكم مفصل فله مُحْكِمٌ مُفَصِّلٌ ، والله محكم كتابه ومفصله فهو خالفه ومبتدعه .
ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم ، ونسبوا أنفسهم إلى السنة وفى كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم ومكذب دعواهم ، يردُّ عليهم قولهم ونحلتهم .
ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة ، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة ، فاستطالوا بذلك على الناس وغروا به الجهال ، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله والتقشف لغير الدين ، إلى موافقتهم عليه ، ومواطأتهم على سيئ آرائهم ن تزيناً بذلك عندهم ، وتصنعاً للرئاسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلى باطلهم ، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم ، فقُبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم ، ونفذت أحكام الكتاب بهم ، على دغل دينهم ونغل أديمهم ، وفساد نياتهم ويقينهم .
وكان ذلك غايتهم التي إليها جروا وإياها طلبوا في متابعتهم ، والكذب على مولاهم ، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها !
فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، ورؤس الضلالة المنقوصون من التوحيد حظاً ، والمخسوسون من الإيمان نصيباً ، وأوعية الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ، والهائل على أعدائه ، من أهل دين الله وحق من يتهم في صدقه ، وتطرح شهادته ، ولا يوثق بقوله ولا عمله ، فإنه لاعمل إلا بعد يقين ، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد ، ومن عميَ عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده ، كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلاً .
ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله ، وتخرص الباطل في شهادته ، مَن كَذِبَ على الله ووحيه ، ولم يعرف الله حقيقة معرفته . وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه مَن رد شهادة الله على كتابه ، وبهت حق الله بباطله .
فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه ، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته ، بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ، ومسألتهم عن علمهم في القرآن ، وترك إثبات شهادة من لم يُقِرَّ أنه مخلوق محدث ، ولم يره ، والامتناع من توقيعها عنده . واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم ، والأمر لهم بمثل ذلك . ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد .
واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك ، إن شاء الله .
وكتب في شهر ربيع الأول سنة 218 ) .
وقد امتحن المعتصم أحمد بن حنبل ، فخاف ووافق على خلق القرآن ، وقيل سجنوه أياماً ، وضربوه سياطاً ، فأقر لهم بما يريدون . وقد بالغ المجسمة ومنهم الوهابيون في بطولات أحمد بن حنبل وغيره في الامتحان .
وقد واصل الواثق سياسة المعتصم والمأمون ، في امتحان العلماء في خلق القرآن .
قال اليعقوبي ( 2 / 482 ) : ( وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن ، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان ، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً ) .
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 13 / 103 ) : ( دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن ، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك ، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى وليَ المتوكل الخلافة ، فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة ) !
( 4 ) زبيدة أم الأمين تهنئ قاتل ابنها !
( أم جعفر : أمة العزيز ، بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور ، المعروفة بزبيدة ، زوجة هارون الرشيد ، وأم ولده الأمين ) . ( تاريخ بغداد : 14 / 434 ) .
فهي بنت عم هارون ، وقد تزوج بها في بغداد سنة 165 ، وتوفيت في زمن المأمون سنة 216 . وجعل هارون ولدها الأمين ولي عهده من أجلها ، وجعل بعده المأمون ، ولما مات هارون وصار الأمين خليفة ، عزل المأمون وجعل ابنه موسى ولي عهده .
وكانت أمه زبيدة أم جعفر سيدة القصر ، بل زادت سلطتها في خلافة ابنها .
ونقل المسعودي في مروج الذهب ( 4 / 226 ) عن المؤرخ المعمر العبدي أن القاهر العباسي طلب منه واستحلفه أن يحدثه عن خلفاء بني العباس ، خاصة عن زبيدة فقال : ( إنها أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجوهر ، وصنع لها الرفيع من الوَشْيِ ، حتى بلغ الثوب من الوشي الذي اتخذ لها خمسين ألف دينار . وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري ، يختلفون على الدواب في جهاتها ، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها . وأول من اتخذ القباب من الفضة والآبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق . واتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر وشمع العنبر ، وتشَبَّه الناس في سائر أفعالهم بأم جعفر .
ولما أفضى الأمر إلى ولدها يا أمير المؤمنين قدَّم الخدم وآثرهم ورفع منازلهم ، ككوثر وغيره من خدَمِه ، فلما رأت أم جعفر شدة شغفه بالخدم واشتغاله بهم اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه ، وعممت رؤوسهن ، وجعلت لهن الطُّرَر والأصداغ والأقفية ، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق ، فماست قدودهن ، وبرزت أردافهن ، وبعثت بهن إليه ، فاختلفن في يديه ، فاستحسنهن واجتذبن قلبه إليهن ، وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة ، واتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواريَ المطمومات ، وألبسوهن الأقبية والمناطق ، وسموهن الغُلاميات . فلما سمع القاهر ذلك الوصف ذهب به الفرح والطرب والسرور ، ونادى بأعلى صوته : يا غلام ، قدَح على وصف الغلاميات ، فبادر اليه جَوارٍ كثيرة قدُّهن واحد ، توهمتهن غلماناً بالقراطق والأقبية والطرر والأقفية ومناطق الذهب والفضة ، فأخذ الكأس بيده ، فأقبَلْتُ أتأمل صفاء جوهر الكأس ونورية الشراب وشعاعه وحسن أولئك الجواري ، والحربة بين يديه ، وأسرع في شربه فقال : هيه ) . وهذا يدل على ترف الأمين والقاهر ، ويشير إلى شذوذهما الجنسي .
وعندما عزل الأمين أخاه المأمون ، كان المأمون في خراسان وأمه خراسانية من هراة ، فناصره الفرس ، ووقعت بينه وبين أخيه حروب ، وحاصر جيشه بغداد عشرين شهراً وقتلوا الأمين سنة 198 ، وحملوا رأسه إلى المأمون في خراسان !
وكانت زبيدة في بغداد وشاهدت ذلك ، لكنها عندما دخل المأمون إلى بغداد منتصراً ، سارعت إلى تهنئته فقالت : ( الحمد لله . لئن هنأتك في وجهك لقد هنأت نفسي قبل أن أراك ولئن فقدت ابناً خليفة فقد اعتضت ابناً خليفة . وما خسر من اعتاض مثلك ، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك . فأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ ، وإمتاعاً بما وهب ! فقال المأمون : ما تلد النساء مثل هذه ) . ( ربيع الأبرار : 4 / 248 ) .
وبقيت أم جعفر على مكانتها في قصور العباسيين ، وكان المأمون يزورها .
ففي تاريخ دمشق ( 33 / 329 ) : ( دخل المأمون على أم جعفر بعد قتل محمد ، فرأى على رأسها جارية من أحسن الناس وجهاً وقداً وشمائل ، فأعجب بها المأمون وشغلت قلبه ، فكسر طرفه في طرفها فأجابته من طرفها بمثل ذلك ، فأومأ بفمه يقبلها من بعيد ، فعضت على شفتيها فدميت ! فقال المأمون لأم جعفر يا أمه تأذنين لي في كلام هذه الجارية فقالت : هي أَمَتُك ) .
وجعل لها المأمون ميزانية ككبار رجال القصر : ( كان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة بمائة ألف دينار جدد ، وألف ألف درهم ) . ( الأغاني : 20 / 418 ) .
وسألها المأمون كم أنفقتْ في عرسه على بوران ، فقالت : ( قد أنفقتُ ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم ) ! ( الطبري : 7 / 179 ) .
( كان عبد الله بن موسى الهادي ( ابن أخ هارون ) أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء ، وكان له غلام أسود يقال له قلم ، فعلَّمه الصوت وحذَّقَه . فاشترته منه أم جعفر بثلاث مائة ألف درهم ) . ( الأغاني : 10 / 375 ) .
وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وهو أموي النسب زيدي المذهب ( 18 / 498 ) : ( هويَ مخارق جارية لأم جعفر . . فأقصته ومنعته من المرور ببابها . . فبينا هو ذات ليلة في زلَّال ( شبيه القارب ) وقد انصرف من دار المأمون ، وأم جعفر تشرب على دجلة ، إذ حاذى دارها فرأى الشمع يزهر فيها ، فلما صار بمسمع منها ومرأى اندفع فغنى : إن تمنعوني ممرّي قرب دارهم فسوف أنظر من بعدٍ إلى الدار . . .
فقالت أمّ جعفر : مخارق والله ، ردُّوه ، فصاحوا بملَّاحه : قَدِّمْ فقدم ، وأمره الخدم بالصعود فصعد ، وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها نبيذ فشرب ، وخلعت عليه ، وأمرت الجواري فغنين ثم ضربن عليه فغنى ، فكان أول ما غنى :
أغيب عنك بودٍّ ما يغيُّره * نأيُ المحلِّ ولا صَرْفٌ من الزمنِ . .
فاندفعت بهار فغنَّت كأنها تباينه . . ففطنت أمّ جعفر أنها خاطبته في نفسها ، فضحكت وقالت : ما سمعنا بأملح مما صنعتما . . ووهبتها له ) .
أقول : تقدم أن أم جعفر طلبت من الإمام الجواد ( عليه السلام ) أن يدخل على زوجته ، وفي بعض النصوص أنها أم جعفر أخت المأمون ، لكن لم نجد لها ذكراً في مصدر تاريخي أبداً ، لذا رجحنا أن تكون أم جعفر هذه هي زبيدة .
( 5 ) عمر بن الفرج الرخجي ممسحة الخلفاء !
1 . قال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 483 ) : ( كان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد ، ومحمد بن عبد الملك ، وعمر بن فرج الرُّخَّجِي ) .
وفي معجم البلدان ( 3 / 38 ) : ( رُخَّج . . بتشديد ثانيه . . كورة ومدينة من نواحي كابل . . وينسب إلى الرُّخَّج فرج وابنه عمر بن فرج ، وكانا من أعيان الكتاب في أيام المأمون إلى أيام المتوكل ، شبيهاً بالوزراء ، وذوي الدواوين الجليلة ) .
وبعضهم جعل الرُّخَجِي نسبة إلى قرية قرب بغداد ، أو كرمانشاه بإيران ، والصحيح ما ذكره الحموي . وقد ولى عليها المنصور معن بن زائدة الشيباني في القرن الثاني ، فأخذ منها أسرى بدون حق ، وكان منهم فرج أبو عمر .
قال البلاذري في فتوح البلدان ( 2 / 493 ) : ( ولما استخلف المنصور أمير المؤمنين ولَّى معن بن زائدة الشيباني سجستان ، فقدمها وبعث عماله عليها ، وكتب إلى رتبيل يأمره بحمل الإتاوة التي كان الحجاج صالح عليها . فبعث بإبل وقباب تركية ورقيق وزاد في قيمة ذلك للواحد ضعفه . فغضب معن وقصد الرُّخَج ، وعلى مقدمته يزيد ابن مزيد ، فوجد رتبيل قد خرج عنها ومضى إلى ذابلستان ليصيف بها . ففتحها وأصاب سبايا كثيرة ، وكان فيهم فرج الرخجي وهو صبي وأبوه زياد . فكان فرج يحدث أن مَعْناً رأى غباراً ساطعاً أثارته حوافر حمر وحشية ، فظن أن جيشاً قد أقبل نحوه ليحاربه ويتخلص السبي والأسرى من يده . فوضع السيف فيهم فقتل منهم عدة كثيرة . ثم إنه تبين أمر الغبار ورأى الحمير فأمسك . وقال فرج : لقد رأيت أبي حين أمر معن بوضع السيف فينا وقد حنى عليَّ وهو يقول : أقتلوني ولا تقتلوا ابني . قالوا : وكانت عدة من سبى وأسر زهاء ثلاثين ألفاً . فطلب ماوند خليفة رتبيل الأمان على أن يحمله إلى أمير المؤمنين فآمنه ، وبعث به إلى بغداذ مع خمسة آلاف من مقاتلتهم ، فأكرمه المنصور ) .
وقال القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة ( 6 / 322 ) : ( كان زياد جد عمر الرخجي من سبي معن بن زائدة ، أما فرج والد عمر فكان مولى لحمدونة بنت الرشيد ( الهفوات النادرة / رقم 97 / 77 ) وكان فرج دميماً قبيح الصورة . ( المحاسن والأضداد للجاحظ / 116 ) .
لكن في تاريخ بغداد ( 1 / 111 ) أن فرجاً الرخجي : ( كان مملوكاً لحمدونة بنت غضيض أم ولد الرشيد . . . وقصر فرج : منسوب إلى فرج الرخجي . وابنه عمر بن فرج كان يتولى الدواوين ) .
واشتهر عمر بن فرج وكان قائداً وزيراً ، وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت ( عليهم السلام ) . كما اشتهر أخوه محمد وكان من خواص أصحاب الأئمة الرضا والجواد والهادي ( عليهم السلام ) ، وكان والياً للمتوكل على مصر لفترة . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 485 ) .
2 . أرسل المأمون عمر الرخجي مع قائد آخر لإخضاع حاكم مصر ، ففشلا ! قال اليعقوبي ( 2 / 456 ) : ( وجه المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني إلى مصر ، ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش ، وأمرهما أن يتكاتفا على النظر ، فإذا فتحا البلاد نظر عمر بن فرج الرخجي في أمر الخراج . . فأقاما عدة شهور يكاتبان عبيد الله بن السري ، ثم زحف إليه خالد . . فلما التقيا خذل خالداً أصحابه الذين كان الجروي أنفذهم معه ، فحارب خالد ساعة في مواليه وعشيرته ، وكاثره عبيد الله وأسره ، فأقام عنده مكرماً في أحسن حال وأجملها ، ثم حمله في البحر وزوده وأجازه إلى العراق . . وأقام عمر بن الفرج بأسفل الأرض ، إلى أن حضروقت الحج ، فبذرقه ابن الجروي إلى مكة ) !
3 . نشأ عمر الرخجي في بغداد غلاماً للمنصور العباسي وأولاده . وكانوا لا يرتضون أمانته ، لكنهم ولوه على الأهواز . قال في صبح الأعشى ( 1 / 178 ) : ( حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال : لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرقة ، قال لي : ويلك يا عمرو ! لم تزل تخدعني حتى ولَّيتُ عمر بن الفرج الرخجي الأهواز ، وقد قعد في سُرَّة الدنيا يأكلها خضماً وقضماً ! فقلت : يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطَّير . قال : كلَّا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به ! فقلت لنفسي : إن هذه منزلة خسيسة ، بعد الوزارة أكون مستحثاً لعامل خراج ! ولم أجد بداً من الخروج رضاً لأمير المؤمنين ، فقلت : ها أنا خارج إليه بنفسي يا أمير المؤمنين ! قال : فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد ، ففعلت وأحدثت عهداً بإخواني ومنزلي ، وأتيَ إلي بزورق ففُرش لي فيه ومضيت . . )
3 . وكان حاقداً على أهل البيت ( عليهم السلام ) مع أنه رأى اعتقاد المأمون فيهم وإجلاله ! فقد شاهد الرخجي تكريم المأمون للإمام الجواد ( عليه السلام ) ، ورأى مناظراته وكراماته ومعجزاته . وبما أن الرخجي غلام لبني هارون الرشيد ، فالمفروض أن يتبعهم في تجليله أو مداراته . وقيل من موالي علي بن يقطين . ( الرسائل الرجالية : 3 / 654 ) .
فقد كان المأمون يعتقد أن بيت علي ( عليه السلام ) خصه الله بالعلم والكرامة ، وجعل منه أئمة علماء ربانيين ، لا يحتاجون إلى معلم ، وأن صغارهم كبار .
وكان يستدل على ذلك بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يدعُ صبياً إلى الإسلام ودعا علياً ، ولم يبايع صبياً على الإسلام وبايع الحسن والحسين ( عليهم السلام ) . ويستدل بعلم الإمام الجواد على صغر سنه وكراماته .
لكن يظهر أن عمر الرخجي كان مع الخط المعادي للإمام من العباسيين ، الذين كانوا يصفون معجزاته وكراماته وعلمه بأنها سحر ، وهو نفس منطق المشركين مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد ذكرنا في محاولات المعتصم سُمَّ الإمام ( عليه السلام ) ، أن عمر الرخجي كان والي مكة والمدينة للمعتصم ، وكان يروي كيف أن الإمام الجواد ( عليه السلام ) كشف أن طعامه مسموم ، ويقول إنه رأى تلك الكرامة فلم تؤثر فيه لأنها عنده سحر ! وكان يقول لو أن أخاه محمداً رآها لغالى في الإمام الجواد ( عليه السلام ) وكفر ، لأنه شيعي متشدد !
قال عمر الرخجي كما في الثاقب / 517 ) : ( سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر ! فقلت : وما هو أصلحك الله ؟ قال : إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال : أمسكوا . فقلت : فداك أبي ، قد جاءكم الغيب ؟ فقال : عليَّ بالخبَّاز ، فجئ به فعاتبه وقال : من أمرك أن تسمني في هذا الطعام ؟ فقال له : جعلت فداك ، فلان ! ثم أمر بالطعام فرفع ، وأتي بغيره ) !
ومعنى كلامه أن أخاه محمداً لو رأى المعجزة التي رآها هو من الجواد ( عليه السلام ) لصار من الغلاة فيه وكفر ! أما هو فلا يكفر ويقول إنها سحر ! وهذا ابتكار أموي وهابي ، حيث يفسرون كرامات أهل البيت ( عليهم السلام ) بأنها سحر ، ويجعلون الإيمان بها كفراً بالله تعالى !
والمرجح أن عمر الرخجي نفسه كان وراء محاولة سُم الجواد ( عليه السلام ) في المدينة ، لأن الحادث في المدينة وكان هو الوالي ، ولم يقل اسم الذي ارتكب الجريمة ، ولا أنه عاقبه !
كما روى عمر الرخجي إساءته للإمام الجود ( عليه السلام ) ذات يوم ، فقال كما في عيون المعجزات / 113 : ( قلت لأبي جعفر : إن شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء في دجلة ووزنه ! وكنا على شاطئ دجلة . فقال ( عليه السلام ) : يقدر الله تعالى على أن يفوض علم ذلك إلى بعوضةٍ من خلقه ، أم لا ؟ قلت : نعم يقدر . فقال : أنا أكرم على الله تعالى من بعوضة ، ومن أكثر خلقه ) .
4 . وكانوا يُوكِلُون إلى الرخجي المهمات القذرة ، خاصة في اضطهاد العلويين ، قال أبو نصر البخاري في سر السلسلة العلوية / 70 : ( كان القاسم بن عبد الله من أهل الفضل والرياسة ، شخصه عمر بن فرج الرخجى من المدينة إلى العسكر في أيام المعتصم ، فأبى أن يلبس السواد فجهدوا به كل الجهد ، حتى لبس قلنسوة ) .
وقال ابن حمدون في التذكرة ( 2 / 106 ) : ( لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب ، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي ، ثم وجه إليه يوماً : طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه ، فإن أذعن بها وإلا فجرّده واضربه مائة سوط ، ولا تتوقف عن هذا لحظة واحدة ، ففعل عمر ما أمره به ) .
5 . وصالحه المتوكل العباسي وقربه ، ليكون أداته في اضطهاد آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ! قال الطبري ( 7 / 343 ) : ( وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور ، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي ومحمد بن العلاء الخادم ، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت ) .
ثم وصف الطبري خشونة الرخجي مع جعفر المتوكل قال : ( فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه ، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة وأخذ الصك فرمى به إلى صحن المسجد وكان عمر يجلس في مسجد ، وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضراً فقام لينصرف ، فقام معه جعفر فقال : يا أبا الوزير أرأيت ما صنع بي عمر بن فرج ؟ قال جعلت فداك أنا زمام عليه وليس يختم صكى بأرزاق إلا بالطلب والترفق به ، فابعث إلى بوكيلك فبعث جعفر بوكيله فدفع إليه عشرين ألفاً وقال : أنفق هذا حتى يهيئ الله أمرك ) .
ثم قال الطبري : ( وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده : يا أمير المؤمنين أتاني جعفر بن المعتصم يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه ، في زي المخنثين له شعر قفا ! فكتب إليه الواثق : ابعث إليه فأحضره ومرْ من يجز شعر قفاه ، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه واصرفه إلى منزله . فذكر عن المتوكل أنه قال لما أتاني رسوله لبست سوادا لي جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى عنى فأتيته فقال يا غلام ادع لي حجاما فدعى به فقال خذ شعره واجمعه فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه ) .
ولعل ما ذكرته الرواية من تخنث المتوكل وتجاهره بالتشبه بالنساء ، كان من أسباب سخط الواثق عليه .
ونلاحظ أنه رغم علاقة المتوكل السيئة بعمر بن الفرج ، فعندما صار المتوكل خليفة صالحه واستوزره ، لأنه بحاجة اليه في قمع آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) !
قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين / 395 : ( واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشئ وإن قل ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قتل المتوكل ، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجه بمال فرقه فيهم وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله ) .
فلاحظ مستوى الإنحطاط الذي وصل اليه المتوكل وخادمه عمر الرخجي ، حيث حبسا آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة ، ومنعا المحتاج منهم إلى طعام والشراب أن يطلب مساعدة أحد ، ثم كانا يعاقبان من يساعده بشئ ، بعقاب شديد وغرامة كبيرة !
ولم يقف انحطاط عمر الرخجي مع خليفته عند هذا الحد ، بل قرر المتوكل منع زيارة الحسين ( عليه السلام ) وهدم قبره في كربلاء ! وكان أداته في ذلك عمر الرخجي ، والديزج اليهودي ، ومتطرفو أهل الحديث من مجسمة الحنابلة في بغداد !
روى الطوسي في الأمالي / 325 : ( حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال : حدثني أبي ، عن عمه عمر بن فرج ، قال : أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين ( عليه السلام ) فصرت إلى الناحية ، فأمرت بالبقر فمر بها على القبور ، فمرت عليها كلها ، فلما بلغت قبر الحسين ( عليه السلام ) لم تمر عليه ! قال عمي عمر بن فرج : فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي ! فوالله ما جازت على قبره ولا تخطته . قال لنا محمد بن جعفر : كان عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فأنا أبرأ إلى الله منه . وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه ، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ) . أي أفرح بولادتي منه .
أقول : كلامنا عن شخصية عمر بن الفرج الرخجي ، لأن له دوراً في سيرة الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وكذلك له دورٌ في سيرة الإمام الهادي ( عليه السلام ) ، وفي اضطهاد العلويين وقمعهم . وله دورٌ في محاربة أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم ، ومن ذلك دوره في هدم قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد طالت محاولة المتوكل هدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة 236 إلى شعبان 237 ، وورد فيها اسم الوزير عبيد الله بن خاقان ، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف ومتطرفين من النواصب المجسمة ، ومن القادة إبراهيم بن الديزج اليهودي ، وعمر الرخَّجي ، وهارون المصري ، وأن أهل الكوفة والسواد استعدوا لمقاومتهم ، فأخبروا المتوكل ، فأمرهم بالإنسحاب .
ثم عمل بخباثة حتى منع الزوار وهدم القبر الشريف ، ثم أهلكه الله في السنة التالية .
قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 395 : ( وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً على جماعتهم ، مهتماً بأمورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله . وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين ( عليه السلام ) وعفى أثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له ، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به ، فقتله أو أنهكه عقوبة !
فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء ، وقد شاهد ذلك ، قال : كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب ، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة ، وكانت قد زارت قبر الحسين ( عليه السلام ) وبلغها خبره ، فأسرعت الرجوع ، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها : أين كنتم ؟ قالت : خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان ، فقال : إلى أين حججتم في شعبان ؟ قالت : إلى قبر الحسين . فاستطير غضباً وأمر بمولاتها فحبست واستصفى أملاكها ، وبعث برجل من أصحابه يقال له : الديزج وكان يهودياً فأسلم ، إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله ، فمضى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد ، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه .
فحدثني محمد بن الحسين الأشناني ، قال : بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضرية ، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق ، وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط كشئ من الطيب ! فقلت للعطار الذي كان معي : أي رائحة هذه ؟ فقال : لا والله ما شممت مثلها كشئ من العطر ، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع .
فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة ، حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات ، وأعدناه إلى ما كان عليه ) .
وفي النجوم الزاهرة ( 2 / 283 ) : ( أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل ذلك كله مزارع . فتألم المسلمون لذلك ، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء دعبل وغيره ) .
وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / 374 : ( فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك :
بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ * قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا
فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله * هذا لعمري قبرُه مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما
6 . ورووا وقاحة عمر الرخجي وسوء أدبه مع الجواد ( عليه السلام ) وأن الإمام دعا عليه !
ففي الكافي ( 1 / 497 ) : ( عن محمد بن سنان قال : دخلت على أبي الحسن ( الإمام الهادي ( عليه السلام ) ) فقال : يا محمد حدث بآل فرج حدث ؟ فقلت : مات عمر . فقال : الحمد لله ، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة .
فقلت : يا سيدي لو علمت أن هذا يسرك ، لجئت حافياً أعدو إليك . قال : يا محمد أو لا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن علي أبي ؟ قال قلت : لا . قال : خاطبه في شئ فقال : أظنك سكران ! فقال أبي : اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً ، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر . فوالله إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه ( خسره ) وما كان له ، ثم أخذ أسيراً ، وهو ذا قد مات لا رحمه الله . وقد أدال الله عز وجل منه . وما زال يديل أولياء ه من أعدائه ) .
أقول : استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة 220 ، ووفاة الرخجي سنة 237 . لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ .
7 . من أعان ظالماً سلطه الله عليه ، وقد سلط الله المتوكل على عمر الرخجي ! فبعد أن نفذ له أنواع المهمات والأوامر ، وارتكب لأجله الجرائم ، غضب عليه وعزله ! وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من أعان ظالماً سلطه الله عليه . ( الخرائج : 3 / 1058 ) .
ومن فسق المتوكل وإذلاله لوزيره الرخجي ، ما رواه التنوخي في نشوار المحاضرة ( 6 / 323 ) قال : ( وصفت للمتوكل عائشة بنت عمر بن فرج الرخجي ، فوجه في جوف الليل والسماء تهطل ، إلى عمر أن احمل إلي عائشة ، فسأله أن يصفح عنها فإنها القيمة بأمره ، فأبى . فانصرف عمر وهو يقول : اللهم قني شر عبدك جعفر ثم حملها بالليل فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها ) . ( المحاسن للجاحظ / 118 ) .
وقال الطبري ( 7 / 347 ) : ( وفيها ( سنة 233 ) غضب المتوكل على عمر بن فرج ، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبس عنده ، وكتب في قبض ضياعه وأمواله ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 485 ) : ( وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد ، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ) .
وفي مروج الذهب ( 4 / 19 ) : ( وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي ، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالًا وجوهراً نحو مائة ألف وعشرين ألف دينار ، وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار ، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبة ثانية ، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم ، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة ، وألبسه جبة صوف ، ثم رضي عنه ، وسخط عليه ثالثة ، وأحدر إلى بغداد ، وأقام بها حتى مات ) .
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام ( 17 / 284 ) : ( سخط عليه المتوكل فأخذ منه ما قيمته مائة وعشرون ألف دينار . ثم صالحه على أن يرد إليه ضياعه على ماله . ثم غضب عليه وصفع ستة آلاف صفعة في أيام ، وألبس عباءة ، ثم رضي عنه ، ثم سخط عليه ونفاه . توفي ببغداد ) .
وقد وصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة ( 2 / 12 ) ، كيف بطش به المتوكل لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل ، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه ، قال : ( والخليفة أعز الله نصره لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قيام دولته ، ولقد أخذت من ماله ألف ألف دينار ، وألف ألف دينار وألف ألف دينار ، وألف ألف دينار ، فما سألني عنها ) .
فوشى به القاضي إلى المتوكل فغضب وقال لوزيره : ( يا فاعل يا صانع ، أنا أقول لك منذ دهر ، حاسب هذا الخائن المقتطع الرخّجي على أموالنا ، وأنت تدافع ، حتى حفظها الله علينا ، بقاضينا محمد بن منصور ، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر . وقال له : قد ظهرت الآن أموالنا في سقطات قوله وفلتات لسانه ، وهذه عادة الله عز وجل عند أئمة عباده ، أن يأخذ لهم أعداءهم ! أكتب الساعة بالقبض على الرخّجي وتقييده وغَلِّه وحمله ) .
وجاء به إلى سامراء وأركبه على حمار وسجنه وعذبه ، وباع أملاكه .
( 6 ) محمد بن الفرج الرخجي المؤمن الثقة !
1 . بعكس أخيه ، كان محمد بن الفرج الرخجي ( رحمه الله ) من أهل الإيمان والتقوى . في وسائل الشيعة ( 20 / 339 ) : ( محمد بن الفرج الرخجي : من أصحاب الرضا ( عليه السلام ) ثقة ، قاله الشيخ والعلامة . وذكره الشيخ أيضاً في أصحاب الجواد والهادي ( عليهما السلام ) . وقال النجاشي : إنه روى عن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) . وروى المفيد في الإرشاد ما يدل على مدحه وعلو منزلته ) .
وقال الطوسي في الفهرست / 371 : ( روى عن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) . له كتاب مسائل ، أخبرنا أحمد بن عبد الواحد قال : حدثنا عبيد الله بن أحمد قال : حدثنا الحسين بن أحمد المالكي قال : قرأ علي أحمد بن هلال مسائل محمد بن الفرج ) .
وقال الطوسي في رجاله / 364 : ( محمد بن الفرج الرخجي ، ثقة ) .
وفي خلاصة الأقوال / 239 : ( من أصحاب أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، ثقة ) .
وأورد السيد الخوئي في معجمه ( 18 / 139 ) روايات في مدحه ثم قال : ( هذه الروايات وإن كانت كلها ضعيفة ، إلا أنها تؤيد جلالة الرجل ، ومكانته عند الشيعة والإمامين الجواد والهادي ( عليهما السلام ) . ويكفي في اعتباره شهادة الشيخ بوثاقته ) .
2 . ويظهر أنه عاش نحو ثمانين سنة ، لأنه من أصحاب الإمام الكاظم ( عليه السلام ) الذي توفي سنة 183 ، فينبغي أن يكون عمره يومها نحو عشرين سنة . ثم عاصر الإمام الرضا والجواد والهادي ( عليهم السلام ) وكان حياً سنة 238 ، في الثمانينات من عمره .
قال محمد بن فرج ، كما في التهذيب ( 2 / 173 ) : ( كتبت إلى العبد الصالح ( الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ) أسأله عن مسائل فكتب إليَّ : وصلِّ بعد العصر من النوافل ما شئت وصلِّ بعد الغداة من النوافل ما شئت ) .
وفي الكافي ( 4 / 81 ) : ( كتب محمد بن الفرج إلى العسكري ( الهادي ( عليه السلام ) ) يسأله عما روي من الحساب في الصوم عن آبائك ، في عدة خمسة أيام بين أول السنة الماضية والسنة الثانية التي تأتي . فكتب : صحيح ، ولكن عُدَّ في كل أربع سنين خمساً ، وفي السنة الخامسة ستاً فيما بين الأولى والحادث ، وما سوى ذلك فإنما هو خمسة خمسة . قال السياري : وهذه من جهة الكبيسة . قال : وقد حسبه أصحابنا فوجدوه صحيحاً . قال : وكتب إليه محمد بن الفرج في سنة ثمان وثلاثين ومائتين هذا الحساب لا يتهيأ لكل إنسان أن يعمل عليه ، إنما هذا لمن يعرف السنين ومن يعلم متى كانت السنة الكبيسة لم يصح له هلال شهر رمضان أول ليلة ، فإذا صح الهلال لليلته وعرف السنين صح له ذلك إن شاء الله ) .
وكتابه الذي ذكره الشيخ الطوسي هو من مراسلاته ومسائله للإمام الكاظم والرضا والجواد والهادي ( عليهم السلام ) ، فقد تشرف بهم جميعاً وراسلهم .
3 . وصلتنا عنه مجموعةٌ من مسائل العقائد والفقه عن الإمام الجواد والهادي ( عليهما السلام )
منها : ما رواه في الكافي ( 3 / 315 ) : ( عن أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : جعلت فداك إنك كتبت إلى محمد بن الفرج تعلمه أن أفضل ما تقرأ في الفرائض بإنا أنزلناه وقل هو الله أحد . وإن صدري ليضيق بقراء تهما في الفجر ، فقال ( عليه السلام ) : لا يضيقن صدرك بهما فإن الفضل والله فيهما ) .
وما رواه في الكافي ( 2 / 547 ) : ( عن محمد بن الفرج قال : كتب إليَّ أبو جعفر بن الرضا ( عليه السلام ) بهذا الدعاء وعلمنيه ، وقال : من قال في دبر صلاة الفجر ، لم يلتمس حاجة إلا تيسرت له ، وكفاه الله ما أهمه :
بسم الله وبالله ، وصلى الله على محمد وآله ، وأفوض أمري إلى الله ، إن الله بصير بالعباد ، فوقاه الله سيئات ما مكروا . لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين . . .
قال : وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول إذا فرغ من صلاته : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وإسرافي على نفسي ، وما أنت أعلم به مني . اللهم أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت . بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أجمعين ، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي فأحيني ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي . اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية ، وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى . وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا ينقطع ، وأسألك الرضا بالقضاء ، وبركة الموت بعد العيش ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة المنظر إلى وجهك ، وشوقاً إلى رؤيتك ولقائك ، من غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهديين .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، اللهم إني أسألك عزيمة الرشاد ، والثبات في الأمر والرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عافيتك وأداء حقك . وأسألك يا رب قلباً سليما ولسانا صادقا . وأستغفرك لما تعلم وأسألك خير ما تعلم . وأعوذ بك من شر ما تعلم ، فإنك تعلم ولا نعلم ، وأنت علام الغيوب ) .
4 . ولما استشهد الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، عقد زعماء الشيعة اجتماعاً في منزله للتداول قال في الكافي ( 1 / 324 ) : ( واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر ، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده ، وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه ويسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار إليه ) . وقد ذكرنا ذلك في شهادة الإمام ( عليه السلام ) .
5 . وكانت علاقة محمد حسنة مع أخيه عمر ، مع أن عمر كان ناصبياً متشدداً ! وتقدم قول عمر في المعجزة التي رآها من الإمام الجواد ( عليه السلام ) : ( سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر ) . ( الثاقب / 517 ) .
يقصد أنه رأى معجزة من الإمام ( عليه السلام ) لو رآها أخوه لصار مغالياً فيه وجعله الله والعياذ بالله ، أو جعله شريكاً لله تعالى ، فكفر !
وكان محمد يرى أن أخاه عمر مصاباً بمرض الحسد والبغض لأهل البيت ( عليهم السلام ) وأنه مهما رأى من معجزاتهم ، لا يزداد إلا بغضاً لهم ونفاقاً .
ولكنه كان يداريه ويستفيد منه في منع غضب الخليفة عليه ، ويظهر أنه استفاد من هذه العلاقة طول خلافة المعتصم والواثق والمتوكل ، ولعل أخاه عمر اقترحه على المتوكل فعينه والياً على مصر .
ولا بد أنه استجاز الإمام الهادي ( عليه السلام ) فأجاز له أن يكون عاملاً للمتوكل . لكن لما غضب المتوكل على أخيه شمله الغضب وعزلهما وصادر أموالهما وسجنهما !
6 . وروى محمد أنه كان يتصل بالإمام الهادي ( عليه السلام ) وهو في مصر بطريق المعجزة !
ففي الخرائج : 1 / 419 ، والثاقب / 548 : قال محمد بن الفرج : ( قال لي علي بن محمد ( عليهما السلام ) : إذا أردت أن تسأل مسألة ، فاكتبها وضع الكتاب تحت مصلاك ، ودعه ساعة ، ثم أخرجه وانظر فيه ! قال : ففعلت ، فوجدت جواب ما سألت عنه موقعاً في الكتاب ) !
وهذا نوع من الاتصال أكثر تطوراً من أحدث وسائل الاتصال الألكترونية في عصرنا ، وهو يكشف عن نوع اتصال الإمام المهدي ( عليه السلام ) بوزرائه وحكام العالم .
7 . كان محمد أحد تجار بغداد الأغنياء ، وكان سنداً مالياً مهماً للأئمة ( عليهم السلام ) . ففي مناقب آل أبي طالب ( 3 / 495 ) : ( عن أمية بن علي قال : دعا أبو جعفر ( عليه السلام ) يوماً بجارية فقال : قولي لهم يتهيؤون للمأتم . قالوا : مأتم من ؟ قال : مأتم خير من على ظهرها ! فأتى خبر أبي الحسن ( الرضا ( عليه السلام ) ) بعد ذلك بأيام ، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم . محمد بن الفرج كتب إليَّ أبو جعفر : احملوا إليَّ الخمس ، فإني لست آخذه منكم سوى عامي هذا ، فقبض في تلك السنة ) .
وقال الطبري ( 7 / 347 ) عن أموال أخيه عمر المصادرة : ( وفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج وذلك في شهر رمضان ، فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبس عنده وكتب في قبض ضياعه وأمواله . . . وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار ، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيراً فرشاً ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملاً كرت مراراً ) .
8 . ولما غضب المتوكل على عمر بن فرج ، أمر الإمام ( عليه السلام ) محمداً أن يأخذ حذره .
ففي الكافي ( 1 / 500 ) عن النوفلي قال : ( قال لي محمد بن الفرج : إن أبا الحسن ( عليه السلام ) كتب إليه : يا محمد أجمع أمرك وخذ حذرك . قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما كتب إلي حتى ورد عليَّ رسولٌ حملني من مصر مقيداً ، وضرب على كل ما أملك ! وكنت في السجن ثمان سنين .
ثم ورد عليَّ منه في السجن كتاب فيه : يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي . فقرأت الكتاب فقلت : يكتب إليَّ بهذا وأنا في السجن ، إن هذا لعجب ! فما مكثت أن خلي عني والحمد لله ) .
وفي الإرشاد ( 2 / 304 ) : ( وروى أحمد بن عيسى قال : أخبرني أبو يعقوب قال : رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا ، وقد استقبل أبا الحسن ( عليه السلام ) فنظر إليه نظراً شافياً ، فاعتل محمد بن الفرج من الغد ، فدخلت عليه عائداً بعد أيام من علته ، فحدثني أن أبا الحسن ( عليه السلام ) قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجاً تحت رأسه ، قال : فكُفِّنَ فيه والله ) .