تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
من النواة إلى الفضاء العميق
المؤلف: والتر لوين ووارن جولدستين
المصدر: في حب الفيزياء
الجزء والصفحة: ص17–18/ ص20–35
2024-01-04
1109
يا له من عجب عجاب، لقد كان والد أمي عامل نظافة لا يجيد القراءة والكتابة. لكنني بعد جيلين صرت أستاذًا كبيرًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وإنني مدين بالكثير لنظام التعليم الهولندي؛ فقد ارتدت كلية الدراسات العليا بجامعة دلفت للتكنولوجيا بهولندا وضربت ثلاثة عصافير بحجر واحد.
فقد شرعتُ منذ البداية في تدريس الفيزياء. ولكي أسدد رسوم الدراسة، تعين علي أن أحصل على قرض من الحكومة الهولندية، ولو قمت بالتدريس بدوام كامل لعشرين ساعة على الأقل أسبوعيًا تخصم الحكومة في كل عام خُمس ذلك القرض. لكن للتدريس ميزة أخرى، ألا وهي أنني لن أضطر إلى الخدمة بالجيش. فقد كانت الحياة العسكرية أسوأ ما يمكن أن يحدث لي كانت ستكون كارثة عظيمة. فلدي حساسية تجاه جميع أنواع السلطة – تلك هي شخصيتي – وكنتُ أعلم أن الأمر سينتهي بي إلى التشاحن مع ا القادة ثم مسح الأرضيات. ولذلك فقد درست الرياضيات والفيزياء بدوام كامل لاثنين وعشرين ساعة وجها لوجه مع تلاميذ في مدرسة لبنان الثانوية بروتردام ما بين أعمار السادسة عشرة والسابعة عشرة. وهكذا تجنبتُ الخدمة بالجيش ولم أضطر إلى تسديد القرض، وواصلت تحضير الدكتوراه في ذات الوقت. كما أنني تعلمت التدريس. لقد كنتُ أجد متعتي في تدريس طلبة المدارس الثانوية وفي تغيير أفكار أولئك الشبان بطريقة إيجابية دائمًا كنتُ أحاول أن أجعل صفوف الدراسة أكثر إثارة للاهتمام، وممتعة للطلاب في ذات الوقت، رغم أن المدرسة نفسها كانت صارمة للغاية. كانت قاعات الدراسة ذات نوافذ علوية، وكان هناك واحد من نُظّار المدرسة يقف فوق كرسي ويتلصص على المدرسين من النافذة. هل تصدق هذا؟
لكنني لم أتقيد بفكر المدرسة، ولأنني كنتُ في كلية الدراسات العليا فقد كان الحماس يغلي في داخلي كان هدفي هو إيصال هذا الحماس إلى الطلاب، وأن أساعدهم على مشاهدة جمال العالم الذي يحيطهم بطريقة جديدة، وأن أغيرهم بحيث يرون عالم الفيزياء جميلا، وأن يفهموا أن الفيزياء موجودة في كل مكان وتتخلل حياتنا. لكنني وجدت أن ما يهم ليس ما أدرسه، وإنما ما أكشفه لهم. فتغطية المواضيع في قاعة الدرس قد تكون ممارسة مملة، وهذا هو ما يشعر به الطلاب. لكن من ناحية أخرى يساهم الكشف عن القوانين الفيزيائية وتوضيحها من خلال المعادلات في عرض عملية الاكتشاف بما فيها من جدة وإثارة، وهو الأمر الذي يحب الطلاب أن يكونوا جزءا منه.
كما أنه قد تسنى لي أن أفعل هذا بطريقة مختلفة بعيدًا عن قاعات الدرس بمسافات كبيرة. فقد كانت المدرسة ترعى في كل سنة إجازة لمدة أسبوع كامل، يصطحب فيها أحد المعلمين الأطفال، في رحلة إلى موقع بدائي للتخييم على مسافة بعيدة نسبيًا. ولقد خرجتُ في هذه الرحلة ذات مرة، وأحببتها أنا وزوجتي هويبرثا. فهناك طبخنا معا، ونمنا في الخيام. ولأننا كنا بعيدين جدا عن أضواء المدينة، فقد أيقظنا الأطفال ذات مرة في منتصف الليل، وأعطيناهم شراب الشوكولاتة الساخنة، ثم أخرجناهم من الخيام لينظروا إلى النجوم أريناهم المجموعات النجمية والكواكب، وتمكنوا من رؤية مجرة درب التبانة في أزهى صورها.
لم أكن وقتها أدرس الفيزياء الفلكية ولا أدرسها – الواقع أنني كنتُ أصمم تجارب لاكتشاف بعض أصغر الجسيمات الموجودة في الكون – لكن الفلك كان لا يفتأ يسحرني الحقيقة أن أي فيزيائي عاش على ظهر هذه الأرض، يحمل في قلبه حبا للفلك. والكثير منهم بنوا تلسكوباتهم الخاصة وهم في المدرسة الثانوية. حتى إن صديق عمري وزميلي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جورج كلارك، صنع وصقل مرآة يبلغ قطرها ست بوصات كي يضعها في تلسكوب عندما كان في المدرسة الثانوية. لماذا يحب الفيزيائيون الفلك إلى هذه الدرجة؟ واحد من أسباب ذلك أن الكثير من التطورات التي حدثت في الفيزياء – من نظريات عن الحركات المدارية – قد نتجت عن أسئلة وملاحظات ونظريات فلكية. لكن هناك سبب آخر أيضًا، وهو أن علم الفلك وعلم الفيزياء واحد؛ وهو الأمر الجلي للناظر في السماء الذي يرى الكسوف والمذنبات والشهب والعناقيد المغلقة والنجوم النيوترونية وانفجارات أشعة جاما والطائرات والأسدمة الكوكبية والمستعرات العظمى وعناقيد المجرات والثقوب السوداء.
في الريف، استطعتُ أن أري طلابي مجرة أندروميدا، المجرة الوحيدة التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة، والتي تبعد عنا نحو 2,5 مليون سنة ضوئية (15 مليون تريليون ميل)، وهي بمقاييس المسافات الفلكية تعتبر ملاصقة لنا. وتتكون هذه المجرة من 200 مليار نجم. تخيل ذلك، 200 مليار نجم نراها نحن رقعة باهتة مشوشة. كما تمكنا من رؤية كثير من النيازك التي يسميها معظم الناس شهبا. فلو جلس المرء يراقب في صمت فسيلاحظ واحدا منها كل أربع دقائق أو خمس لم تكن هناك أقمار صناعية وقتها، لكنك الآن تستطيع أن تشاهد كما كبيرًا منها في السماء. هنالك ما يزيد عن ألفي قمر صناعي يدور حول الأرض، ولو ركزت بصرك خمس دقائق في السماء، فإنني شبه متيقن من أنك سترى أحدها، خاصة لو نظرت إلى السماء في الساعات القلائل التي تعقب الشروق أو تسبق الغروب، حيث لا تكون الشمس قد أشرقت على القمر الصناعي نفسه أو غربت عنه، ويظل ضوء الشمس يعكسه على عينيك. وكلما ازداد بعد القمر الصناعي، ومن ثم ازداد الفارق الزمني بين غروب الشمس على الأرض وغروبها على القمر الصناعي، تأخرت رؤيتك له أثناء الليل ويمكنك تمييز الأقمار الصناعية فورًا لأنها أسرع ما يتحرك في السماء (عدا النيازك)؛ وإذا رأيتها تومض، فاعلم أنها طائرة وليست قمرا صناعيا.
كنتُ أحب بشكل خاص أن أشير إلى كوكب عطارد؛ ليراه الناس ونحن نتأمل النجوم في السماء. ولأنه الكوكب الأقرب إلى الشمس، فهو كذلك الأصعب في رؤيته بالعين المجردة. ولا تتأتى الظروف المثالية لرؤيته إلا خلال أربع وعشرين صباحًا ومساءً فقط في السنة كلها. تستغرق دورة عطارد حول الشمس ثمانية وثمانين يومًا فقط، وهو السبب الذي لأجله هذا الكوكب باسم الإله الروماني الرسول سمي ذي السرعة الخارقة؛ أما السبب الذي يصعب لأجله رؤية مداره فهو قربه الشديد من الشمس. فعندما ننظر إليه من الأرض لا نجده يبعد عن الشمس إلا بقدر 25 درجة، وهو القدر الذي يقل عن الزاوية التي تفصل عقربي الساعة عندما تشير إلى الحادية عشرة. لا تستطيع أن تراه إلا بعد الغروب بقليل وقبل الشروق، عندما يكون في أبعد ما يمكن أن يكون عن الشمس حسبما نراه من الأرض. في الولايات المتحدة نجده دائما قريبًا من الأفق، وقد لا يتسنى للمراقب رؤيته إلا إذا كان في الريف. يا للروعة إذا تسنى لك أن تراه حقا.
إن التأمل في السماء يجعلنا نرى مدى اتساع هذا الكون. لو واصلنا النظر إلى السماء ليلا وتركنا أعيننا تتكيف مع السماء بالقدر الكافي، فسنتمكن من رؤية ذلك البناء الخارق للامتدادات القصوى لمجرتنا مجرة درب التبانة وهي بنية بارعة الجمال، مؤلفة مما بين 100 مليار إلى 200 مليار نجم متجمعة كأنها محبوكة في نسيج شفيف دقيق للغاية. إن الكون أكبر من أن يُدرك، لكن يمكنك أن تبدأ إدراكه بتأمل درب التبانة. بحسب تقديراتنا الحالية، توجد في الكون مجرات بذات عدد النجوم الموجودة في مجرتنا. والحقيقة أن معظم ما تراه التلسكوبات عند رصد الفضاء العميق هو مجرات – فمن المستحيل تمييز نجم مفرد من مسافات بعيدة جدا – وكل واحدة من تلك المجرات تحتوي على مليارات النجوم أو تأمل ذلك الاكتشاف الحديث لأضخم بناء في الكون المسمى بحائط المجرات العظيم الذي رسم خريطته مسح سلووان الرقمي للسماء، وهو مشروع ضخم جمع مجهودات ما يزيد عن ثلاثمائة ومهندس وفلكي، وخمس وعشرين جامعة ومعهدًا بحثيًّا. كما أن التلسكوب الذي خصصه مشروع سلووان يظل يراقب السماء كل ليلة، وقد بدأ تشغيله عام 2000، وسوف يواصل عمله حتى عام 2014. يمتد هذا الحائط العظيم بطول مليار سنة ضوئية. هل دار رأسك؟ لو لم يحدث ذلك، فلتعلم أن الكون الذي يمكن رؤيته (لا كامل الكون بل الجزء الذي نستطيع رؤيته تبلغ مساحته نحو 90 مليار سنة ضوئية.
تلك هي قوة الفيزياء نستطيع أن نعرف منها أن كوننا مؤلف من نحو 100 مليار مجرة. كما نعرف منها كذلك أن من بين كل المادة الموجودة في الجزء المرئي لنا من الكون، 4 في المائة مادة عادية، وهي التي تتشكل منها النجوم والمجرات (وأنا وأنت). وهناك نحو 23 بالمائة الباقية منها يسمى بالمادة المظلمة (غير مرئية). إننا نعلم بوجودها لكننا لا نعرف كنهها. أما الـ 73 بالمائة والتي هي الكتلة الأعظم من الطاقة. في الكون فتسمى بالطاقة المظلمة، وهي أيضا غير مرئية؛ ولا يعلم أحد كنهها كذلك. وهو ما يعني أننا نجهل بكنه 96 بالمائة من الكتلة / الطاقة الموجودة في الكون. لقد أماطت الفيزياء اللثام عن الكثير، لكن ما زال هناك ألغاز كثيرة لم تُحل، وهو الأمر الذي أراه محفزًا جدًّا.
تستكشف الفيزياء نطاقات بالغة الضخامة، وفي الوقت ذاته تسبر أغوار أصغر النطاقات، بل أصغر دقائق المادة كالنيوترينو الذي يمثل شظية من البروتون. تلك النطاقات الصغيرة هي التي أنفقتُ عليها جل وقتي في بداية عملي بهذا المجال، أقيس وأرسم الخرائط الخاصة بانطلاق الجسيمات والإشعاع من النويات المشعة. وهذا يندرج تحت الفيزياء النووية، لكنه ليس تحت الفيزياء النووية المتخصصة في صناعة القنابل. لقد كنتُ أدرس سلوكيات المادة عند مستوى أولي.
لعلك تعلم أن غالبية المواد التي تراها وتستطيع لمسها، مؤلفة من عناصر كالهيدروجين والأكسجين والكربون، مجمعةً معًا في شكل جزيئات، وأن أصغر وحدة في العنصر هي الذرة المؤلفة من نواة وإلكترونات. تذكر أن النواة تتألف من بروتونات ونيوترونات. يتألف الهيدروجين، الذي هو العنصر الأخف وزنا والأوفر في الكون، من بروتون واحد وإلكترون واحد. لكنّ هناك نوعًا من أنواع الهيدروجين يحتوي على نيوترون وبروتون في نواته، وهو نظير الهيدروجين الذي هو صورة أخرى من ذات العنصر، ويسمى اليوتيريوم. بل هناك أيضًا نظير ثالث من الهيدروجين بنواته اثنان من النيوترونات وبروتون واحد، ويسمى التريتيوم. لكن جميع نظائر أي عنصر بها ذات عدد البروتونات، لكنها تتباين في عدد النيوترونات وكذلك تتباين العناصر في عدد نظائرها. فمثلًا للأكسجين ثلاثة عشر نظيرًا، بينما للذهب ستة وثلاثون نظيرا.
من بين هذه النظائر ما هو مستقر، أي أنه يمكن أن يستمر إلى الأبد أو ما هو نحوه. لكن غالبيتها غير مستقرة وهي وسيلة أخرى للقول بأنها مشعة، والنظائر المشعة تضمحل، أي إنها أجلا أو عاجلا سوف تتحول إلى عناصر أخرى. بعض تلك المواد التي تتحول إليها هذه المواد المشعة مستقر، ومن ثم يتوقف الاضمحلال الإشعاعي، لكن بعضًا منها غير مستقر، ومن ثم يتواصل الاضمحلال حتى الوصول إلى الحالة المستقرة من بين نظائر الهيدروجين كلها نجد منها واحدًا مشعًا فقط، وهو التريتيوم الذي يتحول إلى نظير مستقر هو الهيليوم. ومن بين الثلاثة عشر نظيرا للأكسجين ثلاثة الستة مستقرة، ومن بين والثلاثين نظيرا للذهب واحد مستقر فقط.
لعلك تذكر أننا نقيس مدى سرعة اضمحلال النظائر عن طريق «عمر النصف» لها، وهو الذي يتدرج من ميكرو ثانية (جزء من مليون جزء من الثانية) إلى مليارات السنين. فلو قلنا إن عمر النصف للتريتيوم يقدر بنحو اثني عشر عامًا، فإننا نعني أنه في أي عينة لدينا من التريتيوم سيضمحل نصف النظير في غضون اثني عشر عاما (ولن يتبقى إلا ربعها فقط بعد أربعة وعشرين عامًا) يعتبر الاضمحلال النووي واحدًا من أهم العمليات التي من خلالها يتم تحويل العديد من العناصر المختلفة وإنشاؤها. لكنها ليست من ضروب الخيمياء. والواقع أنني خلال دراستي للدكتوراه اعتدتُ مشاهدة النظير المشع للذهب يضمحل إلى الزئبق، لا العكس الذي كان خيميائيو العصور الوسطى يودون أن يفعلوه. لكن رغم هذا هناك الكثير من نظائر الزئبق والبلاتينوم كذلك تضمحل متحولة إلى الذهب. لكن نظيرًا واحدًا للبلاتينوم ونظيرًا واحدًا للزئبق يضمحلان متحولين إلى ذهب مستقر من ذلك النوع الذي تحب أن تضعه حول إصبعك.
كان هذا العمل مشوقا بشكل هائل؛ فقد كنتُ أحمل نظائر مشعة تضمحل في يدي حرفيًّا. كان أمرًا خارقًا. فقد كانت نصف عمر النظائر التي أعمل عليها يبلغ يوما أو بضعة أيام. فمثلا كان لذهب – 198 نصف عمر يقدر بما يزيد عن اليومين ونصف بقليل؛ لذلك فقد تعين عليَّ العمل بسرعة. فكنت أقود سيارتي من دلفت إلى أمستردام؛ لأنهم كانوا يستخدمون هناك المسرع الدوراني لتصنيع تلك النظائر، ثم أعود مسرعًا إلى دلفت فهناك كنت أذوب النظائر في الحمض كي أحولها إلى الصورة السائلة، ثم أضعها على غشاء رقيق وأدخلها في مكشاف الجسيمات.
كنت أحاول التحقق من صحة نظرية تتعلق بالاضمحلال النووي، وهي نظرية تنبأت بمقدار إشعاع جاما، نسبة إلى جميع إشعاعات الإلكترون المنبعثة من النويات، وكان عملي هذا يتطلب قياسات دقيقة. كان هذا العمل قد أنجز بالفعل على العديد من النظائر المشعة، لكن بعض القياسات الحديثة جاءت مغايرة لما تنبأت به تلك النظرية. اقترح علي مشرفي البروفيسور آلدرت وابسترا أن أحاول تحديد موضع الخطأ، أفي النظرية أم في القياسات كان ذلك عملا ممتعًا للغاية كما لو أنني أعمل على أحجية معقدة بشكل ساحر. كان التحدي يتمثل في أن تكون قياساتي أكثر دقة وتحديدًا من قياسات الباحثين الآخرين الذين أتوا من قبلي. والإلكترونات صغيرة الحجم جدا حتى إن بعضهم يقول إنها ليس لها حجم من الناحية الفعلية – يقل عرضها عن جزء من ألف تريليون جزء من السنتيمتر – ويبلغ الطول الموجي لأشعة جاما أقل من جزء من مليون جزء من السنتيمتر. ولقد زودتني الفيزياء بوسائل اكتشافها وإحصائها. وذلك هو أمر آخر أحبه في الفيزياء التجريبية، أنها تجعلنا «نلمس» ما هو غير مرئي.
كي أحصل على القياسات التي أريدها كان علي أن أستنزف العينة قدر ما أستطيع، لأنني كلما حظيت بعدد أكبر حظيت بدقة أعظم. وكثيرًا ما واصلت العمل لنحو ستين ساعة متصلة دون نوم لأنني كنتُ مهووسا بعض الشيء.
والدقة للفيزيائي التجريبي مفتاح لكل شيء والدقة هي الشيء الوحيد المهم هنا، والقياسات التي لا تنبئ بدرجة الدقة التي تتمتع بها لا معنى لها على الإطلاق. تكاد كتب الفيزياء الجامعية تتجاهل هذه الفكرة البسيطة القوية الجوهرية. لكن معرفة درجة الدقة هو أمر أساسي في كثير من أمورنا الحياتية.
خلال عملي في النظائر المشعة كان تحقيقي لدرجة الدقة تلك أمرًا غاية في الصعوبة، لكنني خلال ثلاث سنوات أو أربع ازددت براعة في إجراء القياسات. وبعد أن أجريت تحسينات على بعض المستكشفات صارت دقيقة إلى حد هائل. كنتُ أثبت النظرية وأنشر النتائج، ثم صار هذا العمل في النهاية أطروحتي للدكتوراه. وكان أكثر ما أرضاني بشكل خاص هو أن نتائجي كانت حاسمة جدا، وهو الأمر الذي لا يتأتى كثيرًا. فكثيرا ما يحدث في الفيزياء وفي العلوم عامة أن لا تأتي النتائج قاطعة. لكنني كنت محظوظا بالوصول إلى تلك النتيجة الحاسمة. لقد حللت أحجية وأثبت نفسي فيزيائيا، وساهمت في رسم تلك المنطقة المجهولة الخاصة بعالم ما دون الذرات. كنت وقتها في التاسعة والعشرين من عمري وكنت شديد الحماس لما قمت به من مساهمة عظيمة. ليس من المقدر لنا جميعًا أن نكتشف اكتشافات عظيمة ضخمة كما فعل نيوتن وأينشتاين، لكن لا تزال هناك الكثير من المناطق البكر القابلة للاستكشاف.
كما أن الحظ حالفني ونلتُ درجتي في وقت كانت حقبة جديدة من استكشاف طبيعة الكون تتفتح. فقد كان الفلكيون يقومون باكتشافات بسرعة مذهلة، إذ كان بعضهم يستكشف الغلاف الجوي لكل من المريخ والزهرة مفتشين عن بخار الماء. بعضهم اكتشف أحزمة الجسيمات المشحونة التي تدور حول خطوط الحقول المغناطيسية الموجودة في الأرض والتي نعرفها اليوم باسم أحزمة فان آلن. والبعض الآخر اكتشف مصادر ضخمة قوية للموجات الراديوية المعروفة باسم الكوازارات أو أشباه النجوم (المصادر الراديوية شبه النجمية). وفي عام 1965 اكتُشف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB) – آثار الطاقة التي أطلقها الانفجار العظيم، والتي هي دليل قوي على نظرية الانفجار العظيم التي تفسر أصل العالم والتي يثور بشأنها الكثير من الجدل. ولم يمض وقت طويل حتى اكتشف الفلكيون عام 1967 فئة جديدة من النجوم، سُمّيت فيما بعد النجوم النابضة (أو النابضات).
كان بإمكاني أن أواصل العمل في الفيزياء النووية؛ لأنه كانت تتم بها أيضًا اكتشافات هائلة. وكان جل هذا العمل في بحث واستكشاف مملكة الجسيمات دون الذرية الآخذة في الاتساع بسرعة، واستكشاف الكواركات على وجه الخصوص، والتي اتضح أنها لبنات بناء البروتونات والنيوترونات. فتلك الكواركات تتسم بتنوع كبير في أنماطها السلوكية، لدرجة أن الفيزيائيين كي يصنفوها خلعوا عليها ما أسموه بالتنوعات، على غرار كوارك علوي وكوارك سفلي، وكوارك غريب وكوارك ساحر، وكوارك قمي وكوارك قعري. كان اكتشاف الكوارك واحدة من تلك اللحظات الجميلة في العلم التي تتأكد فيها فكرة نظرية. فقد تنبأ الفيزيائيون النظريون بوجود الكواركات، ثم وجدها زملاؤهم التجريبيون. ولكم اندهشوا عندما وجدوا المادة أكثر تعقيدا في أساساتها عما كان معروفًا من قبل. فمثلا صرنا اليوم نعرف أن البروتونات تتكون من كواركين علويين وكوارك سفلي واحد ملتصقين معًا بواسطة قوة نووية شديدة، تتخذ شكل جسيمات غريبة أخرى تسمى جلوونات مؤخرًا قدر بعض الفيزيائيين كتلة الكوارك العلوي على أنها تساوي حوالي 0.2% من كتلة البروتون، في حين قدروا كتلة الكوارك السفلي بنحو 0,5% من كتلة البروتون. لم تعد تلك هي النواة التي عرفها جدك من قبل.
إنني على يقين أن مملكة الجسيمات دون الذرية تلك كانت ستكون مجالا ساحرًا لأعمل فيه، لكنني عن طريق محض مصادفة سعيدة، قد اتضح لي أن المهارات التي تعلمتها بهدف قياس الإشعاع المنبعث من النواة نافعة جدًّا. في استكشاف الكون. وفي عام 1965 تلقيتُ دعوة من البروفيسور برونو روسي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كي أعمل على علم فلك الأشعة السينية التي كانت وقتها مجالًا جديدا بالكلية، إذ إنه لم يظهر إلا قبل سنوات قلائل بالمعنى الحرفي للعبارة، فقد دشنه روسي عام 1959.
كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أفضل شيء حدث في حياتي. فقد كان عمل روسي على الأشعة الكونية عملا أسطوريا. كان قد سبق له أن ترأس قسما في لوس آلاموس خلال الحرب، وتفوق في إجراء قياسات الرياح الشمسية، التي تسمى أيضا البلازما بين الكوكبية، والتي هي تيار من الجسيمات ذات الشحنة التي تطردها الشمس، والتي تجعل شفقنا القطبي يتجه شمالا و«يدفع» أذيال المذنبات بعيدا عن الشمس. والآن خطرت بباله فكرة أن يفتش في الكون عن الأشعة السينية. وكان عمله هذا محض استكشاف، ولم يكن يملك أدنى فكرة عما إذا كان سيعثر على هذه الأشعة أم لا. في ذلك الوقت كان المرء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يستطيع العمل على أي فكرة تطرأ في ذهنه إذا استطاع إقناع الناس هناك بقابليتها للتنفيذ.
لقد استخدم روسي حدسه في اكتشاف الأشعة السينية القادمة من الفضاء الخارجي. ففي عام 1959 ذهب إلى واحد من طلابه السابقين وهو مارتن آنيس، الذي كان يترأس وقتها مؤسسة بحثية بكامبريدج تسمى المؤسسة الأمريكية للعلوم والهندسة، وقال له: «لننظر ما إذا كانت توجد أشعة سينية هناك»، وقد كان. فقد قام الفريق الذي شكلته المؤسسة الأمريكية للعلوم والهندسة، بقيادة ريكاردو جياكوني الذي سيحصل فيما بعد على جائزة نوبل، بوضع ثلاثة من عدادات جايجر مولر في صاروخ أطلقوه في الثامن عشر من يونيو عام 1962. لم يستغرق هذا الصاروخ سوى ست دقائق بسرعة تفوق الثمانين كيلومترًا (نحو خمسين ميلا) كي يتجاوز الغلاف الجوي للأرض، وهو الأمر الذي يعد ضرورة، لأن الغلاف الجوي يمتص الأشعة السينية.
الأكيد أنهم اكتشفوا الأشعة السينية، والأهم من ذلك أنهم استطاعوا إثبات كون تلك الأشعة السينية آتية من مصدر يقع خارج النظام الشمسي. كان الأمر بمثابة قنبلة غيرت وجه علم الفلك بأسره. لم يكن أحد يتوقع ذلك، ولم يستطع أحد أن يفكر في أسباب معقولة لسبب وجودها في الفضاء الخارجي، بل لم يفهم أحد، في الواقع، تلك النتائج. ما فعله روسي هو أنه ألقى بتلك الفكرة في الهواء ليرى ما إذا كانت ستفلح، وهذا هو الحدس الذي جعل منه عالِمًا عظيمًا.
كان فيزيائيو الجسيمات يكتشفون المزيد من المكونات الأساسية للنواة، مزيلين بذلك الغموض المتعلق بما يجعل النواة متماسكة، بأن اكتشفوا بوزونات دبليو W وزد Z التي تحمل التفاعلات النووية «الضعيفة»، واكتشفوا الكواركات والجلوونات التي تحمل التفاعلات «القوية».
لقد مكنتنا الفيزياء من رؤية ما حدث في الأزمنة السحيقة، ومن رؤية حدود الكون القصوى، ومن تشكيل تلك الصورة المذهلة المعروفة باسم حقل هابل العميق الفائق، التي كشفت عن وجود ما يبدو عددًا لا متناهيا من المجرات لا يصح أن تنهي قراءة هذا الفصل دون البحث عن حقل هابل الفائق العميق على الشبكة العنكبوتية، بل إن من أصدقائي من جعلوا هذه الصورة حافظة لشاشات حواسيبهم.
يبلغ عمر الكون نحو 13.7 مليار سنة. لكن ولأن الفضاء نفسه يتمدد بشكل هائل منذ حدوث الانفجار العظيم صرنا اليوم نشاهد مجرات تكونت بعد ما بين أربعمائة وثمانمائة مليون سنة تلت الانفجار العظيم، وصارت الآن تبعد عنا أكثر من 13.7 مليار سنة ضوئية. والآن صار الفلكيون يقدرون المسافة التي تفصلنا عن حافة الكون في جميع الاتجاهات بنحو 47 مليار سنة ضوئية. وبسبب تمدد الكون صارت الكثير من المجرات القصية تتحرك مبتعدة عنا بسرعة تفوق سرعة الضوء. قد يبدو ذلك صادمًا بل ومستحيلا بالنسبة لأولئك الذين نشأوا على المفهوم الذي وضعه آينشتاين في نسبيته الخاصة، والذي يقول بأنه لا يمكن لشيء أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء. لكن، ووفقا للنسبية العامة التي وضعها آينشتاين لا حدود للسرعة التي تتباعد بها مجرتان إحداهما عن الأخرى عندما يكون الفضاء نفسه يتمدد الآن صار لدى العلماء أسباب كثيرة لأجلها يرون أننا نعيش في العصر الذهبي لعلم الكونيات، وهو العلم الذي يدرس أصل الكون بأسره وتطوره.
لقد أوجدت الفيزياء تفسيرات لجمال أقواس قزح وهشاشتها، ولوجود الثقوب السوداء، ولحركة الكواكب بتلك الطريقة التي تتحرك بها، ولما يحدث عند انفجار النجوم، ولتزايد سرعة دوران الراقصة على الجليد عندما تضم ذراعيها إلى صدرها، ولانعدام أوزان رواد الفضاء عندما يصعدون إلى الفضاء الخارجي، وللكيفية التي تشكلت بها العناصر في الكون ونجحوا في التوصل إلى زمن بداية الكون، وللكيفية التي تُصدر بها آلة الناي الموسيقى، ولكيفية توليد الكهرباء التي تحرك أجسادنا كما تحرك اقتصادنا وللشكل الذي بدا عليه الانفجار الكبير. لقد رسمت الفيزياء الحدود الدنيا للفضاء دون الجزئي والحدود القصوى للكون.