1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الحياة الاسرية

الزوج و الزوجة

الآباء والأمهات

الأبناء

مقبلون على الزواج

مشاكل و حلول

الطفولة

المراهقة والشباب

المرأة حقوق وواجبات

المجتمع و قضاياه

البيئة

آداب عامة

الوطن والسياسة

النظام المالي والانتاج

التنمية البشرية

التربية والتعليم

التربية الروحية والدينية

التربية الصحية والبدنية والجنسية

التربية العلمية والفكرية والثقافية

التربية النفسية والعاطفية

مفاهيم ونظم تربوية

معلومات عامة

الاسرة و المجتمع : التربية والتعليم : التربية الروحية والدينية :

روح الوحدة في التعاليم الإسلامية

المؤلف:  الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

المصدر:  الحياة في ظل الأخلاق

الجزء والصفحة:  ص123ــ135

3-7-2022

1873

لم تظهر روح الوحدة في التعاليم الإسلامية من خلال اعتبار مبدأ التوحيد أساس جميع العقائد الإسلامية فقط، بل تعدت إلى مسألة رسائل الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، فنظر إليها الإسلام نظرة متساوية من حيث المبادئ ومختلفة في مراحلها التكاملية فقط.

وهذه الروحية ملموسة حتى في الأحكام والقوانين والضوابط العلمية الإسلامية إذ يشترط فيها تمام الإنسانية (أي البلوغ والعقل) فقط.

وتشترك جميع العبادات الإسلامية في الدعوة إلى التفكر والهداية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، ولها آثار تبعث على الانضباط والسيطرة على الأهواء النفسية الجامحة وتربية الإنسان.

وجميع العبادات الإسلامية تؤدّى بلغة واحدة مما يدل على وحدتها أيضاً، لا من منطلق كونها تخص أمة معينة من الناس، بل لأنها لغة الوحي (ولعل السبب في انتخاب اللغة العربية دون باقي اللغات لتصير لغة الوحي هو اتصافها بقلة التكلف، وسعة الكلمات والمشتقات والتركيبات اللغوية والنغمة الخاصة).

وتظهر روح الوحدة في التعاليم الإسلامية من خلال العبادات الجماعية بصورة خاصة، ولا سيما الحج الذي تتجلى فيه أسمى مظاهر روح الوحدة. فعندما يجتمع حشد من الأفراد المتباينين عن بعضهم بالمكان والأجساد والأرواح ليتوحدوا في إطار العقيدة، والمكان، والشعارات التي يرددونها، يصير لمظهرهم عظمة خاصة كعظمة وحدة نظام الكون، وهذه الصبغة، أي البناء والتكوين، هي في الحقيقة صبغة الإسلام، لذلك فهي تتناغم معه.

ولصفوف صلاة الجماعة في الإسلام مظهر، لو نظر إليه الناظر من خارج الكرة الأرضية - على سبيل الفرض - لوجده على شكل حلقات متداخلة منتظمة حول نقطة مركزية واحدة وهي الكعبة، مما يدل على الوحدة الكاملة.

واستخدم الإسلام المقاييس الطبيعية في تعبيراته عن بعض الموضوعات، التي يتساوى الجميع فيها، وليس لها صبغة قومية خاصة كالشبر وأخمص القدم.

والأشهر والسنوات القمرية الهجرية قائمة على أساس دورات القمر والشمس أو على الأصح دوران الأرض حول قرص الشمس، ومتساوية لدى الجميع، وامتيازها على الأشهر الشمسية، القائمة على أساس حركة الشمس في الأبراج، هو وضوحها وعدم الحاجة في معرفتها إلى التخصص الفني. ولا تتفاوت إلا من ناحية اختلاف الأفق، الذي هو من الخصائص الطبيعية لمناطق الكرة الأرضية؛ بعكس الأشهر المتعارفة عند بعض المبادئ المزيفة، القائمة على أساس العدد (١٩)، فقد قرروا عدد أشهر السنة تسعة عشر شهراً، وعدد أيام كل شهر منها تسعة عشر يوماً أيضاً، وأوجدوا مركباً، لا هو منسجم مع المقاييس الطبيعية، ولا هو ممكن الاستعمال دون عمليات حسابية.

وهكذا نرى أن روح الوحدة متمثلة حتى في الأعداد والمقاييس الإسلامية.

* الشرط الأول: النضج الأخلاقي:

وهو المبدأ الذي لا تعرف الدنيا في غيابه الطمأنينة والاستقرار.

فكما قلنا سابقاً نحن بحاجة، علاوة على الوحدة والنضج الفكريين، إلى النضج الأخلاقي أيضاً؛ لأجل بناء مجتمع حقيقي، بمستوى عالمي واسع يضم العالم كله. وبدونه لا يستطيع الناس أن يتحملوا وجود بعضهم، وأن يحلوا عقد احتكاك المشارب لمختلفة وتباين الآراء بأسلوب مقبول لائق.

وحاجة هذا القسم إلى مراعاة الجوانب الأخلاقية وتوجيهات الأنبياء والمرسلين أوضح من باقي الأقسام، لأن الإيمان الذي لا يستند على العمل وسنن الأنبياء ضعيف، ولا يتعدى سلسلة من الكمالات غير الضرورية والوصايا الزائدة.

ولنتطرق الآن إلى المناهج التي وضعها الإسلام لتنمية النضج الأخلاقي عند الأفراد وإعدادهم لخوض غمار الحياة الاجتماعية (ويجب الانتباه بالطبع إلى أن ما نذكره أدناه هو جزء من تعليمات واسعة، والتوفر عليها هنا خارج عن حدود الموضوع) :

1- اختلاف الناس من حيث الخلقة الروحية والجسمية والعاطفية والمعنوية كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «لو علم الناس كيف خلق الله الخلق لم يلم أحدٌ أحداً!».

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» ويشير هذا الحديث إلى اختلاف الخلقة بصورة إجمالية.

فمجرد الالتفات إلى اختلاف بنية الأفراد الروحية والعاطفية والتربوية واختلاف مقدار معلوماتهم وخبراتهم بصورة تامة سوف يؤدي إلى حل الكثير من مشاكل المعاشرة والاختلافات والمشاحنات الاجتماعية.

فكثيراً ما ينزعج الآباء والأمهات من بعض تصرفات أبنائهم ككسر إناء معين أو توسيخ ثيابهم، وقد يفرضون عليهم عقوبات شديدة على عمل صغير ويلومونهم كثيراً.

وفي حين أننا لو حققنا في الموضوع بدقة لوجدناه لا يحتاج إلى هذا القدر من الانفعال والملامة والتوبيخ.

ذلك لأن الطفل يجهل نوعية الأواني القابلة للكسر، ويجهل سبل المحافظة عليها ليقلل احتمال سقوطها وانكسارها إلى أدنى حد ولو افترضنا أنه يعرف جميع هذه المسائل، لوجدناه لا يزال يفتقر إلى التجربة العلمية الكافية حول الموضوع، ولو افترضنا وجودها، لوجدنا أن قدرته الجسمية ضئيلة.

ولا نعجب إذا اكتشفنا أن معرفتنا التي تفوق معرفة الطفل في المحافظة على هذه الأواني نابعة من تجارب وخبرات مرحلة الطفولة الوفيرة. فمرحلة الطفولة مليئة بحالات الاختبار واقتباس المعلومات التي تخص المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ولا يعرف عنه شيئاً .

ولو افترضنا أنفسنا مكان ذلك الطفل، بتلك المعلومات المتواضعة الضيقة والاستعدادات الأضيق، لاستسغنا الكثير من أعماله التي نعتبرها ذنباً ونحاسبه عليها.

ونستطيع تطبيق هذه المعايير حتى على الأفراد الكبار أيضاً، فبعض تصرفات صديقي قد تكون بنظري غير لائقة، وقد تدفعني نفسياً لقطع الصلة به، ولكن لو أخذت طبيعة محيطه التربوي بنظر الاعتبار، وضممت إليه بنيته الروحية، وأضفت إليه سلسلة أفكاره لعملت عمله لو كنت مكانه.

فمثلاً: جاري الذي يتكلم بصوت عال ويزعجني، فلو أخذت معلوماته وتركيب حنجرته وأعصابه ومقدار حساسية طبلة أذنيه، وتربيته بنظر الاعتبار لوجدت، على الرغم من تقصيره في الموضوع، أن التقصير ليس بذلك الحجم الذي كنت أتصوره.

ولا يلتبس الأمر، فنحن لا نقصد من وراء هذا الكلام أن نصحح جميع تصرفات الناس وننزههم عن التقصير، ونصبح كالجبريين لنلقي اللوم في جميع الحوادث على العلل الروحية والجسيمة والخارجية وفي الوقت نفسه لا نبغي من كلامنا إنكار أهمية التربية وضرورتها لندع الأفراد وشأنهم ليفعلوا ما شاؤوا، بل المقصود بذلك الكلام أننا لو انتبهنا إلى مثل هذه الحقائق لرفعنا من مستوى استعداداتنا لحل الخلافات ورفع الاعتراضات عن بعضنا، ولتحمل بعضنا البعض بسهولة، والسر في نفورنا من الآخرين لأدنى اختلاف في الرأي هو عدم هضمنا لهذه المسائل والفروقات .

* الشرط الثاني : العنو والصفح

قلما يُصان أحد من الخطأ والاشتباه، وأحياناً التعمد، في تضييع حقوق الآخرين، وإذا كان من المقرر أن يعمل الجميع بموجب مبدأ الانتقام لتطورت الخلافات الاجتماعية وتصاعدت يوماً بعد آخر، ومرد ذلك إلى: أولاً- عدم إمكانية السيطرة على الأعمال الانتقامية؛ فغالباً ما تتفاقم وتسير نحو الأسوأ، ثانياً - على فرض إمكانية السيطرة عليها وتحجيمها فإنه لا يمكن المساواة أبداً بين حجم الجناية في نظر الجاني من جهة، وفي نظر المجني عليه من جهة أخرى وعليه فلو أراد الأخير أن يراعي مبدأ العدالة في عمله الانتقامي ويساوي في كمية وكيفية الانتقام لما تمكن من ذلك أيضاً (في نظره) مما يجر إلى التفكير بانتقام جديد، يؤدي إلى استمرار النزاع.

وهذا أحد أسباب عدم انطفاء نيران الفتنة والحرب والنزاع بين الكثير من الطوائف والأقوام السابقة والحالية، فكل طرف يرد على خصمه بانتقام أقوى مما يؤدي إلى استمرار النزاع.

والشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقطع سلسلة الانتقامات ويطفئ نار الفتنة هو روح العفو والصفح.

والجدير بالذكر أن أصحاب العفو والصفح الذين يقطعون سلسلة النزاع لا يخدمون خصمهم فقط بل - علاوة على تحصيل فضيلة أخلاقية سامية - يتخلصون من الأضرار المستقبلية التي كانت تنتظرهم في طريق استمرار النزاع.

ولو دققنا وحققنا جيداً في الموضوع، لوجدنا أن الانتقام ليس له أي ثمرة عقلائية للمنتقم، ولا يتعدى كونه مهدئاً مؤقتاً أو نصراً وهمياً مصحوباً - دائماً - بمرارة انتقام الطرف المقابل، بينما نجد أن سكينة الصفح أعمق من ذلك بكثير، والنصر الروحي والاجتماعي الحاصل منه حقيقي وليس وهميا.

ولقد أشارت المصادر الإسلامية إلى هذا الموضوع ورغبت فيه بعبارات لطيفة واعتبرته من أهم الواجبات الإسلامية ومنها:

1- {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

أشارت الآية إلى أن الطرفين مذنبان على أية حال، فكما تحبون أن يغفر الله لكم، فاعفوا واصفحوا عن حقكم أنتم أيضاً، في الخلافات التي تحصل بينكم وبين إخوانكم.

والجدير بالانتباه هو أن كلمتي (العفو) و(الصفح) المذكورتين في الآية أعلاه هما بمعنى لغوي واحد (كما ذكر الراغب في مفرداته).

لكن الصفح أسمى من العفو؛ لأنه عبارة عن العفو المجرد من الملامة والتوبيخ والهجران، ولعل التفاوت ناشئ من أن الصفح في الأصل معناه (أعراض بصفحة الوجه) أي تناسي الموضوع تماماً.

وغير خاف أن من يمتنع عن الانتقام العادي المتعارف عليه، لكنه يذكر المقابل بذنبه عن طريق اللسان أو الهجران، فإنه لم يبلغ حقيقة العفو التي تحصل بالتناسي والتغاضي الكامل عن الموضوع.

2- {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219].

بالرغم من أن المشهور بين المفسرين عن معنى العفو المذكور في الآية أعلاه هو ما زاد عن مؤونة الفرد وعياله، أو ما زاد عن قوت سنته، وكون الآية في سياق آيات الإنفاق يؤيد هذا المعنى أيضاً، إلا أنه لا يستبعد أبداً أن يكون المراد من العفو المذكور في هذه الآية هو نفس معناه المشهور والمعروف الذي يستعمل في المواضع الأخرى، والسر في العدول عن الإجابة عن سؤال الإنفاق المالي إلى الإنفاق الأخلاقي (العفو) هو كون الإنفاق لا ينحصر بالمال فقط ليسأل عنه بكثرة وإلحاح، بل الأهم منه هو العفو عما للفرد في ذمة الآخرين، وبديهي أن يكون هذا العفو (الإنفاق الأخلاقي) أصعب من الإنفاق المادي لدى عامة الناس؛ لأنه ضد غريزة الانتقام، في حين أنه أفضل من الانتقام بكثير في توطيد دعائم النظام والعدالة الاجتماعية. وهذا النوع من العدول عن جواب سؤال معين إلى جواب سؤال آخر موجود بصورة متواترة في القرآن الكريم، وهو من مميزاته فإنه على خلاف ما هو متعارف، لا يتقيد في إجاباته بالأسئلة المطروحة، بل يلاحظ الحاجة الواقعية للسائل، ويجيب طبقاً لها، كما أجاب عن سبب تغير شكل الهلال في أيام الشهر المختلفة، فاستعاظ عنه بتعديد فوائده ونتائجه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].

3- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث والذي نفسى بيده لو كنت حلافاً لحلفت عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده بها عزا يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»(1).

4- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فتعافوا يعزكم الله»(2).

5- عن الباقر عليه السلام: «الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة»(3).

٦- عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمهما عفواً»(4).

ونلاحظ من الأحاديث أعلاه، أن النصر أحد النتائج المباشرة للعفو.

ولعل السر في ذلك هو كون الانتقام عند الاقتدار الطبيعي ناشئ من غريزة حيوانية يمكن ملاحظتها في الحيوانات أيضاً، لكن العفو والصفح من علائم الشخصية الإنسانية، ويعبر عن نوع من السيطرة على النفس ونخوة وعظمة الروح القادرة على إخماد نار الغضب والانتقام المحرقة، لذا فالعفو والصفح ميزات لمكانة وشخصية الفرد، وازدياد يزيده عزا وفخرا.

علاوة على ذلك فإن الانتقام لم يتمكن أبداً من كسب ود وعواطف الآخرين لصالح المنتقمين، بينما نرى ما للعفو والصفح من أثر بليغ في كسب الرأي العام وإثارة العواطف والمشاعر لجانب العافي مما يُعَد بذاته أحد العوامل المؤثرة في تحقيق النصر.

* الشرط الثالث: مقابلة الإساءة بالإحسان:

لقد أشارت الأحاديث والآيات الشريفة إلى مرحلة أهم وأسمى من العفو والصفح، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان.

ولا ريب في كون هذا العمل من أسمى تجليات الروح الإنسانية، ويحتاج إلى تربية أخلاقية، ويخلق شفافية روحية خاصة، وله أثر بليغ في ترقيق القلوب المليئة بالعداوة والبغضاء.

وهو أيضاً أفضل درس يمكن تلقينه للمعتدين والمجرمين ، ثم هو القصاص الوحيد الذي لا يخلق أي رد فعل سلبي في نفوس المجرمين ولا يدعوهم إلى اعتداء جديد.

وهذه النقاط بأجمعها هي التي توجت هذه الفضيلة وجعلتها من أهم الطرق لإنهاء الخلافات والعداوات.

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34، 35].

والأثر العجيب لخصلة (الدفع بالتي هي أحسن) في إنهاء الخلافات ينشأ في الواقع من كون المجرمين يعيشون حالة انتظار دائم لتلقي الرد والانتقام من الخصم، وقد يقرون باستحقاقهم مثل هذا الانتقام، ولكن لو قوبلت إساءتهم بالإحسان، بعكس انتظارهم واستحقاقهم، لتحركت القوى الكامنة في ضمائرهم، وولدت حاجزاً باطنياً أمام نفوسهم، سيعتبره وجدانهم دليلاً على طهارة الطرف المقابل من جهة، وعلى تلوثهم بالذنوب من جهة أخرى، وسيضغط عليهم شدة لتغيير أسلوبهم، وهذا الضغط بدرجة من الشدة بنحو قلما يتمكن أحد من التغاضي عنه ومواصلة أسلوبه العدائي، ولذلك نجد أن أغلب الأعداء يغيرون أسلوبهم بهذه الطريقة ويرضخون للانعطاف والتسوية.

وقد ذكرت الأخبار، الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، هذه الصفة المتميزة بوصفها أفضل وأسمى الصفات الإنسانية:

1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبة: «ألا أخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة: العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك»(5).

ويلاحظ أن ثلاثاً من الجمل الأربع المذكورة في الحديث الآنف الذكر تتعلق بدفع السيئة بالحسنة، وجملة واحدة فقط تتعلق بموضوع العفو والصفح.

2- عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام أنه قال: ثلاث لا يزيد الله بهن المرء المسلم إلا عزاً. الصفح عمن ظلمه، وإعطاء من حرمه، والصلة لمن قطعه»(6).

ويؤكد هذا الحديث في عبارتين من عباراته الثلاث دفع السيئة بالحسنة، وفي العبارة الأولى يؤكد العفو والصفح.

تبيه:

يجب عدم الالتباس والخلط بين موضوع العفو والصفح وموضوع الاستسلام للعدو، الاستسلام من علائم الضعف والذل، وفقدان الشخصية، والعفو يدل على كرم الفرد وسمو شخصيته، لكنه ينحصر دائماً بالمسائل الخاصة التي يكون للفرد فيها القدرة على الانتقام، ولا يشمل المسائل العامة وحقوق المجتمع، وحتى بعض المسائل الخاصة كأن يتسبب العفو في تشجيع المقابل على مثل تلك الحالات، فلا يسوغ فيها العفو.

* الشرط الرابع: اجتناب الفظاظة والغلظة:

يُعد استخدام أسلوب القوة في حل المشاكل الاجتماعية وخصوصاً المشاكل العالمية والدولية - واحداً من أهم عوامل الاختلافات والنزاعات المعقدة والحوادث الخطيرة المؤسفة.

فاللجوء إلى القوة يحرك عرق الحقد في القلوب ويضرم نار الانتقام فيها، ولا ينحصر تأثيره في عدم تخفيف حدة التوترات والمشاكل فقط، بل غالباً ما يزيد من حدتها ومن حجمها كما نلاحظ نشوء كثير من المشاكل الراهنة من هذا المصدر.

وهذا الأسلوب مليء بالأضرار، وينتهي دائماً بثمن باهظ يسبب لسالكيه خسائر باهظة، ولكنه - على الرغم من جميع عيوبه ومخاطره وعواقبه الوخيمة - الطريق الأول الذي يختلج في ذهن الفرد لحل مشاكله، والسر في ذلك هو ان اللجوء إلى الطرق السلمية وترك الغلظة له صبغة عقلائية، بينما نجد أن أعمال العنف لها جانب شعوري، وكلنا نعلم أن النضج والتكامل العقلي في الإسلام يعتبر آخر مرحلة من مراحل نضجه، في حين أن مراحل التكامل الشعوري تسبقها، وأغلب الأفراد يعيشون في المراحل الشعورية.

وتُعد الطفولة مرحلة تربية الإحساسات، ويتضح من خلال مطالعة دقيقة في وضع الأفراد الحاليين والمجتمعات الحديثة أنهم يعيشون مرحلة الطفولة الأخلاقية والعقلية، لذلك فهم يميلون إلى أعمال العنف.

وعلى الرغم من كون هذا الطريق غير مجد في حل المشاكل، لكنه يجوز اللجوء إليه في حالة انسداد جميع الطرق الباقية.

فقلما يلجأ فرد أو شعب ناضج إلى هذا الأسلوب لحل مشاكله الاجتماعية؛ لأنه يمكن حل أغلبها بالطرق السلمية وبقوتي العقل والأخلاق.

ولقد أولى الإسلام هذه المسائل الحياتية أهمية خاصة ووردت أخبار كثيرة عن الأئمة المعصومين حول أثر الرفق في الحياة الإنسانية وذكرت نتائجه الإيجابية بعبارات مختلفة، ودعت المسلمين إليه وحثتهم عليه، وهناك باب خاص في كتب الحديث بعنوان (الرفق) تحتوي أحاديث كثيرة، نكتفي بذكر بعضها لنبين رأي الإسلام في هذا المجال :

1- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن في الرفق الزيادة والبركة، ومن يُحرم الرفق يُحرم الخير».

2- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: «لو كان الرفق خلقاً يُرى ما كان فيما خلق الله شيء أحسن منه».

فيُفهم من هذا الحديث أن العنف من أقبح الرذائل المتوقعة للروح الإنسانية.

3- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : «ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله تعالى، أرفقهما بصاحبه».

4ـ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: «مَن قسم له الرفق قسم له الإيمان».

وفسر المرحوم الفيض الكاشاني في «الوافي» في أحد أحاديث هذا الباب علاقة (الرفق) بالإيمان وقال: اللجوء إلى العنف يُفلت زمام الأمور والسيطرة على الأعصاب من يد الإنسان، وقد يصدر منه كل خطأ حتى ألفاظ الكفر!.

ويمكن تفسير هذه العلاقة بصورة أخرى أيضاً وهي أن الخشونة غالباً ما تصير مصدراً للنظرة المتشائمة وسوء الظن بالمخلوقين الذي ينتهي إلى الخالق فيما بعد، وكل هذه الصفات تتناقض مع الإيمان الكامل، وبعبارة أخرى إن الذين يتصفون بالعنف سيخسرون أصدقاءهم، ويؤدي بهم الحال إلى الانزواء والعزلة الاجتماعية، التي تسبب سوء الظن بالخالق والمخلوق مما يتنافى مع روح الإيمان.

5- عن الباقر عليه السلام أيضاً: «إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه».

وعنه عليه السلام أيضاً: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(7).

والجدير ذكره هنا أن الكثير من أعداء الإسلام يحاولون اتهامه بالقسوة مستدلين على دعواهم بالغزوات الإسلامية، ويحاولون دس السم عن هذا الطريق، مع أن مجرد مطالعة سيرة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الغزوات، وأسلوب معاملته لأعدائه الذين كانوا متعطشين لدمه الطاهر، حين وقفوا في طريق دعوته كالسد المنيع، وكذلك تعامله مع الأسرى والغلول المهزومة ومجروحي الحرب، هي بذاتها من ألمع فصول التاريخ الإسلامي وخير شاهد على حب الإسلام للرفق وترك الغلظة.

والأهم من هذا هو محاولات البعض اتهام حملة الإسلام بالعنف ، - كروحانيي الدين المسيحي في القرون الوسطى - ولعل التصرفات المشينة والممارسات القاسية التي تصدر من بعض البسطاء الذين لم يواكب عقلهم الاجتماعي عقلهم العلمي، تعطي حججاً كثيراً لهؤلاء.

ومن هنا يلزم علينا اتباع جميع الأوامر الموجهة إلينا بخصوص ترك الغلظة ومراقبة حركاتنا في المجتمع، لكي نعكس الصورة الحقيقية اللامعة للإسلام عن طريق الرفق واللين، ونغسل أدمغة البعض من الإشاعات المسمومة...؛ وأن نشرح فلسفة الغزوات والحروب الإسلامية؛ لكي تتضح صفتها الدفاعية أو الكفاحية من أجل نيل الحرية في بعض الأحيان، بصورة تامة.

وأيضاً ينبغي عدم الاشتباه في أن اللين والرفق وترك الخشونة لا يعني الاستسلام لمنطق القوة والخشونة للأعداء المتربصين ومصاصي الدماء والمستعمرين والمستغلين، بل كما ورد في القرآن الكريم في سورة الفتح: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، وكذلك رحماء بالذين انتصروا عليهم وأمنوا مكرهم.

________________________________

(١) إحياء العلوم، الغزالي، ج٣، ص ١٨٢، عن عدة من أصحاب الصحاح الستة.

(٢) الوافي، ج ١ ، ص ٨٣، أبواب الإيمان.

(3) و(4) - الوافي ج١ ، ص  ٨٣ - أبواب الإيمان.

(5) الوافي، ج ١ ، ص٨٣ أبواب جنود الإيمان.

(6) الوافي، ج١، ص٨٣ أبواب جنود الإيمان.

(7) الوافي، ج١، ص ٦٨، أبواب جنود الإيمان.