تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
سجود الملائكة لآدم (عليه السلام)
المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني .
المصدر: القصص القرآنية دراسة ومعطيات وأهداف
الجزء والصفحة: ج1 ، ص 44 - 62 .
29-1-2021
5738
قال تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 34] .
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف : 12] .
يظهر من سياق الآيات الواردة في سورة البقرة أنه سبحانه لما علم آدم الأسماء كلها وأمره أن ينبئ الملائكة بها ، وجه أمره سبحانه إلى الملائكة بالسجود لآدم إجلالاً له وتكريم ، فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس ، فصار آدم مسجوداً حقيقياً لهم لا قبلة لهم ، نظير الكعبة للمصلين ، ومع ذلك لم تكن الملائكة عابدين لآدم ، ولا مشركين في عبادتهم لله سبحانه ، ولم يكن أمره سبحانه بالسجود لآدم أمر بعبادته . كيف والشرك ظلم عظيم (1) ، وهو قبيح في منطق العقل والشرع ، والله سبحانه لا يأمر به . (٢)
وعلى ضوء ذلك يجب أن نقف على الفارق الموجود بين سجود الملائكة لآدم ، الذي يعتبر تكريماً له لا عبادة ، وبين سجود عبدة الأصنام ، الذي يعتبر عبادة لها .
والملائكة ما زالوا في صفوف الموحدين والمسبحين والمنزهين لله بخلاف عبدة الأصنام وهم مشركون غارقون في الشرك .
وفي بيان الفارق بين العملين وجوه ، نأتي بها تباعاً :
الأول : جعل آدم قبلة فقط
يعتمد هذا القول على أن السجود عبادة فلا يمكن تشريعه لغير الله سبحانه . ولماً كان سجود الملائكة سجوداً جماعياً متجهاً إلى نقطة واحدة جعل آدم قبلة (٣) لتوحيد اتجاههم إلى نقطة واحدة ، وكان في ذلك إجلالاً لآدم وتكريماً له .
يلاحظ على هذا الوجه أولاً : بأنه مخالف للآيات الواردة في هذا الشأن ، والتي صرحت بأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وأما القبلة فلا يسجد لها الإنسان وإنما يتجه إليها في السجود لله .
وبعبارة أخرى : قوله سبحانه : {اسْجُدُوا لِآدَمَ} نفس قوله : (اسجدوا لله) فالتفكيك بين التعبيرين غير صحيح .
وثانياً : لو كان السجود لآدم بمنزلة التوجه إلى الكعبة دون أن يكون تواضعاً وتذللاً له ، فلماذا استكبر إبليس و امتنع من السجود له وقال : {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر : 33] ؟ فامتناعه واستكباره آية أن آدم مسجوداً له لا كونه قبلة فقط .
الثاني : السجود بأمر الله سبحانه
ثم من يتحدث عن العبادة ، دون أن يضع لها حداً منطقياً يميزها عن التبجيل والتكريم ، زاعماً أن كل تذلل أمام شخص عبادة له ، وأن سجود الملائكة لآدم إنما خرج عن كونه عبادة له ، لأنه بأمر الله تعالى ، ولولا أمره سبحانه ، لكان سجودهم له عبادة . ويهذا أيضاً يفسر سجود أبوي يوسف وإخوته له في قوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف : 100] .
وهذا القول كثيراً ما يردده ويؤكد عليه مشايخ الحرمين الشريفين .
ويلاحظ عليه : بأنه لو كان سجود الملائكة لبشر مثل آدم داخلاً في الشرك موضوعاً وماهية ، تكون حقيقته كحقيقة سجود المشركين لأصنامهم وأوثانهم ، وعندئذ لا يخرج أمر الله سبحانه بالسجود لآدم عن كون السجود عبادة لآدم ، فإن الأمر لا يغير الموضوع ، غاية الأمر أن الشيء إذا كان حراماً فأمر الله سبحانه في مجال خاص يجعله مباحاً دون أن يمس ماهية الموضوع قيد شعرة . ولنمثل لذلك بمثال :
إن السب محكوم بالحرمة في الإسلام ، فإذا أمر الله سبحانه بسب المنافقين أو المشركين فأمره هذا لا يخرج السب عن واقعه ، فالسب في عامة الحالات سب ، غاية الأمر أن أمر الله سبحانه يعطي ترخيصاً في العمل ، فيخرجه من الحرمة إلى الجواز .
ولذلك اشتهر بين الاصوليين أن التخصيص غير التخصص ، فالثاني خروج موضوعي والأول خروج حكمي ، فلو قال : أكرم العلماء إلا زيداً وكان زيد عالم ، فاستثناؤه زيد يعد إخراجاً من الحكم لا إخراجاً من الموضوع ، فهو عالم من العلماء غاية الأمر لا يجب إكرامه ، بخلاف ما إذا قال : لا تكرم زيداً الجاهل ، فخروجه خروج تخصصي من الموضوع .
الثالث : العبادة هي الخضوع عن اعتقاد خاص
الإشكال مبني على تعريف العبادة بكونها مطلق الخضوع والتذلل ، وعلى هذا يصبح سجود الملائكة لآدم من أقسام العبادة . ولكن هذا التفسير مردود جداً ، إذ ليست العبادة هي مطلق الخضوع والتذلل وإلا لا تجد على أديم الأرض موحداً منزهاً عن الشرك . وهذا القرآن ينطق بأن يعقوب وزوجته وأولاده قد خروا أمام يوسف ساجدين ، وعند ذاك تذكر يوسف ما رآه في سالف الأيام : {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف : 100]
وكان يوسف قد قصّ رؤياه على أبيه قائلاً : {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4] .
كيف يكون مطلق التذلل عبادة للمتذلل له ، والله سبحانه في كتابه الحكيم يأمر الولد بالخضوع لوالديه ، قائلاً عز من قائل : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء : 24] ؟!
وإذا كان مطلق الخضوع والتذلل من مصاديق العبادة ، كان خضوع الجنود لقادتهم عبادة لهم أيضاً .
كل ذلك يكشف عن تغاير العبادة مع التذلل والخضع ، وإن كان اللغويون فسروها بالتذلل والخضوع .
قال ابن منظور : أصل العبودية : الخضوع والتذلل ويقول الراغب : العبودية إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنها نهاية التذلل .
وقال الفيروز ابادي : العبادة : الطاعة . (4)
وأنت جد عليم ، بأن الجميع تفسير بالأعم وان العبادة أخص من هذه التعاريف ضرورة ان كل تذلل ، أو كل طاعة ليسا عبادة للمتذلل له أو المطاع ، وإلا صح أن نعد إطاعة الرسول وأولي الأمر التي أوجبها الله تعالى بقوله : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء : 59] -صح أن نعدها- عبادة لهم !!!
تحديد العبادة تحديداً منطقياً
إن حل الإشكال رهن تحديد العبادة وتعريفها ، تعريفاً منطقيا ، يكون جامعاً لعامة افراده ومانعاً عن الانحياز ، فهناك تعاريف ثلاثة يهدف الجميع إلى أمر واحد ، واليك بيانها :
١ . العبادة عبارة عن : الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المعبود ، فما لم يكن القول والعمل ناشئين من الاعتقاد بالإلوهية لا يكون الخضوع والتعظيم عبادة .
والمراد من الإلوهية هو الاعتقاد بكونه إله العالم وخالقه ومدبره ، وأن أزمة الأمور كلها أو بعضها بيده ، فهذا هو المراد من الإله في عامة الآيات ، وأما تفسيرها بالمعبود فهو تفسير بالازم . فالإله ولفظ الجلالة «الله» بمعنى واحد إلا أن الثاني علم دون الأول .
والذي يدل على ذلك (العبادة : هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بالإلوهية) فهو يأمر بعبادة الله وينهى عن عبادة غيره ، محجاً بأنه لا إله غيره . أن كل نبي يهتف في قومه : {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف : 59] .
فالعبودية من شؤون إله الكون ومدبره كلا أو بعضاً . ومن هذه الناحية اعتقد المشركون بإلوهية الأوثان والأصنام حيث كانوا يثبتون لها بعض شؤون الإله كحق الشفاعة والمغفرة ، أو العزة (5) والنصر في الحرب . (6) وبكلمة واحدة : كانوا يسؤونهم برب العزة في بعض شؤون الإله كما يحكي عنهم قوله سبحانه : {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 97 ، 98] وأين عقيدتهم وأعمالهم هذه من عقيدة الملائكة بأن آدم خليفة الله في أرضه ، كرمه الله تعالى بتعليم الأسماء أو من عقيدة المسلم الموحد ، الذي لا يرى للنبي وأولي الأمر شيئاً من هذه المقامات ولا يسويهم برب العالمين . بل يرى أنهم عباد صالحون مطيعون لله أوابون ، آتاهم الله فضلاً عظيم ، ولهم عند الله زلفى وحسن مآب .
٢. العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد انه رب يملك شأنا من شؤون وجوده وحياته في آجله وعاجله ، سواء كان أمراً مادياً كالعزة والنصر ، أم معنوياً كمغفرة الذنوب .
والمقصود من الرب ، هو المالك لشؤون الشيء ، المتكفل لتدبيره وتربيته ، ولذلك تكون العبودية في مقابل الربوبية .
ويدل على ذلك طائفة من الآيات التي تعلل الأمر بحصر العبادة في الله وحده بأنه الرب لا غير ، وإليك بعض هذه الآيات :
{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة : 72] .
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92] .
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران : 51] .
وقد ورد مضمون هذه الآيات في آيات أخرى هي : يونس : ٣ ؛ الحجر : ٩٩ ؛ مريم : ٦٥ ، ٣٦ ؛ الزخرف : ٦٤ .
٣. العبادة هي الخضوع أمام من نعتقد أنه إله العالم ، أو من فوض إليه أعماله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة التي تعد من الأفعال الكونية ، أو التقنين والتشريع وحق الشفاعة والمغفرة التي تعد من الأفعال التشريعية .
إن الموحد يعبد الله سبحانه بما أنه قائم بهذه الأفعال ، من دون أن يفوض شيئاً منها إلى مخلوقاته ، ولكن المشركين مع اعتقادهم بأن آلهتهم وأربابهم ، مخلوقون لله تبارك وتعالى ، فإنهم يعتقدون أيضاً انه فوض إلى آلهتهم أمور التكوين والتشريع كلها أو بعضها ، ومن أجل هذا كانوا يستمطرون بالأنواء والأصنام (7) ، ويطلبون الشفاعة منهم بتصور انهم مالكون لحق الشفاعة ، ويطلبون منهم النصرة والعزة في الحرب بزعم ان الأمر بيدهم وانه فوض إليهم .
وعلى ضوء هذه التعاريف الثلاثة يظهر الفرق الجوهري بين التوحيد في العبادة والشرك فيها ، فكل خضوع نابع عن اعتقاد خاص بإلهية المخضوع له وربوبيته أو تفويض الأمر إليه فهو عبادة للمخضوع له سواء كان ذلك الاعتقاد الخاص في حق المعبود حقاً -كما في الله سبحانه -أو باطلاً كما في حق الأصنام وكل معبود غيرها .
فظهر أن كل خضوع ناجم عن هذا النوع من الاعتقاد ، عبادة للمخضوع له .
وأما لو كان الخضوع مجرداً عن هذه العقيدة فهو تعظيم وتكريم ، وليس بعبادة ، ولا يكون الخاضع مشركا ، ولا عمله موصوفاً بالشرك ، غاية الأمر انه قد يكون حلالاً كما في الخضوع للأنبياء والأولياء ومن وجب له حق بالتعليم والتربية ، وقد يكون حراما ًكالسجود للنبي (صلى الله عليه وآله) والولي (عليه السلام) وغيرهما لا لأنه عبادة للمسجود له ، بل لأنه لا يجوز السجود لغيره سبحانه في الشريعة الإسلامية .
وبمثل هذا التبيان تتميز العبادة عن التعظيم ، فتقبيل المصحف وضرائح الأنبياء وما يمت إليهم بصلة إذا كان فارغاً عن اعتقاد الألوهية والربوبية والتفويض فهو ليس عبادة للمخضوع له .
كل ذلك يعرب عن أن سجود الملائكة لآدم لم يكن من سنخ العبادة ، بل كان تكريماً وتعظيهاً .
نعم يجرم السجود في الشريعة الإسلامية لكل بشر لا بما أنه عبادة ، بل بما أنه حاك عن أفضل صور العبادة في مواردها ، فهو حرام مطلقاً إلا لله سبحانه ، سواء أكان عبادة أم غير عبادة .
هل كان السجود لشخص آدم ؟
ظاهر بعض الآيات أن السجود كان لشخص آدم حيث قال تعالى : {اسْجُدُوا لِآدَمَ} . فكأن آدم بشخصه وعينه هو المسجود له دون غيره ، وهناك نظر آخر غير بعيد عن ظاهر بعض الآيات الأخر وهو أن السجود له كان رمزاً للسجود له ولذريته ، وذلك لوجهين :
١. انه يوجد في ذرية آدم أنبياء ورسل وأولياء وأوصياء ، سيرتقون مراتب عالية فلا بدعة أن يكون السجود له سجوداً رمزياً له ولغيره . كل ذلك تكريماً لهم في بدء الخليقة .
٢. أنه تبارك وتعالى ينسب خلقة آدم وتصويره إلى أولاده حتى ينسب هبوطه إلى الأرض إليهم ، ويقول : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} [الأعراف : 11] .
ويقول تعالى : {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف : 24] .
كل ذلك يشعر بأن ما وصف به أبونا آدم (عليه السلام) صح أن توصف به ذريته ، والله العالم .
هل كان إبليس من الملائكة ؟
ظاهر بعض الآيات أن إبليس كان من الملائكة وذلك بحكم الاستثناء المحمول على الاستثناء المتصل ، في قوله سبحانه : {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر : 30 ، 31] .
ومع ذلك فصريح بعض الآيات أنه كان من الجن ، كقوله سبحانه : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف : 50] .
فقوله : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج عن طاعة أمر ربه ، ومعنى قوله : { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } اي كان من ذلك الخلق .
ويدل على عدم كونه ملكاً أمران :
أ. انه سبحانه يصف الملائكة بأوصاف تلازم العصمة، كقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء : 26 ، 27]
وقوله فيحقهم : {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل : 50] وقوله في وصف دأبهم على تسبيح الرب : {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء : 20] .
فأين هذه الصفات التي وصفت بها الملائكة مما تفوه به إبليس : {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر : 33] .
ب. إن ظاهر بعض الآيات أن لإبليس أولاداً وذرية قبيلاً، قال سبحانه وهو يتحدث عن إبليس : {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف : 50] . وقال : {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف : 27] . ويظهر أيضاً أن الجن (الذين ينتمي إليهم إبليس ، كما مر بنا قريبا) يتكاثرون ، وأن فيهم رجالاً ونساء ، قال تعالى : {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن : 6] .
أما الملائكة فليس فيهم ذكور وإناث، ومن هنا فند سبحانه قول المشركين المعتقدين بأن الملائكة إناث ، وقال : {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف : 19] .
وهنا يطرح السؤال التالي : إذا لم يكن إبليس من صنف لملائكة فما هو الوجه في استثناء إبليس منهم ؟
والجواب : أنه سبحانه خاطب الملائكة بالسجود لآدم وإبليس حينئذ كان معهم ، وفي الوقت نفسه خص إبليس بخطاب اخر ، والذي يعرب عن تخصصه بالخطاب ، وراء خطاب الملائكة ، قوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف : 12] .
وعندئذ صارت الوحدة المكانية والاشتراك في التكليف مبرراً لاستثناء إبليس عند ذكر سجود الملائكة .
وإلى ذلك يشير الطبرسي بقوله : إن استثناء الله تعالى إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم ، وإنما استثناه منهم لأنه كان مأموراً بالسجود معهم فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم . (8)
وفي الحديث عن جميل بن دراج عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئاً من أمر السماء ؟ قال : «لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء وكان من الجن وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة ترى أنه منهم وكان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها، فلما أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان». (9)
وثمة من يذهب إلى أن الجن صنف من الملائكة ، ولأجل ذلك صح استثناء إبليس منهم ، نقل هذا الرأي الشيخ الطوسي (10) وغيره ، وتبناه صاحب المنار قائلاً : وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهرياً يميز أحدهما عن الآخر وإنما هو اختلاف أصناف ، عندما تختلف أوصاف ، كما تشير إليه الآيات .
فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات : 158] . (11)
ولكن هذا الرأي مما ينبغي التأمل فيه ، لأن القرآن حيثما يذكر الملائكة يقرن ذكرهم بالمدح والثناء المطلق ، على خلاف الجن والإنس (أعني الكثير منهم) الذي يقترن ذكرهم فيه بالذم ، كقوله سبحانه : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام : 112] ، وقوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف : 179] إلى غير ذلك من لآيات .
وأين هذا من الملائكة الرافلين في رياض القدس... ؟! والله العالم .
حقيقة استكبار إبليس
ورد في الآيات القرآنية أن إبليس عصى أمر ربه مستكبرا، وأنه - حسب زعمه - خير من آدم ، إذ خلق من نار وآدم من طين . وظاهر هذه الآيات التي مضى ذكر قسم منها أنه استكبر على آدم ، ولم يستكبر على الله تعالى . ويؤيد ذلك كلام إبليس عندما أمر بالسجود لآدم على ما رواه هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) قال : (أمر إبليس بالسجود لآدم وقال : يا ري وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها». (12)
ولكن الغور في أعماق القصة وما جاء في ذيل الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يكشف لنا أنه تكبر في الباطن على الله تبارك وتعالى .
وذلك لوجوه :
١. لو كان إبليس مسلماً ومطيعاً لله تعالى من صميم وجوده لما أقدم على عصيانه ومخالفة أمره، ولذا أبى الله تعالى أن يستجيب لطلبه بإعفائه من السجود، قائلاً عز من قائل - كما في الرواية المذكورة آنفاً-: (إني أحب أن أطاع من حيث أريد) ، (13) ومعنى ذلك أن آية التسليم هي النزول على أوامر الله سبحانه من غير تفريق بين أمر وآخر.
٢. تمثل مخالفة إبليس لأمر الله بالسجود لآدم -اغتراراً بأصله- استخفافاً بمالك الملك والملكوت ، تماماً كتكذيب الأنبياء الذي عده سبحانه تكذيباً لآياته ، حيث قال جل شأنه : {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33] . فكأن تكذيب النبي له وجهان : ظاهره تكذيب النبي ، وباطنه إنكار لآيات الله سبحانه وتكذيب لها . وعلى ضوء ذلك فاستكباره على آدم هو ظاهر القصة، واستكباره على الله باطنها وكلاهما صحيحان .
٣. لما استكبر إبليس واعتصم بأنا نتيه في مكان قدسي لا يعصي الله فيه أحد ، خاطبه سبحانه بقوله : {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف : 13] .
ومعنى ذلك أن اللائق بكل من حل بهذا المكان أن يخلع عنه رداء التكبر ، ولذلك امر بالهبوط من هذا المكان .
٤. من مظاهر التكريم لآدم وإعلاء شأنه أنه سبحانه أضاف الروح التي أجراها فيه إلى نفسه، ثم أمر الملائكة وإبليس بالسجود له، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر : 29] .
كما أنه سبحانه ندد بإبليس لاستكباره وامتناعه من السجود لما خلقه بيديه ، وهو كناية عن اهتمامه بخلقه وقدرته على الخلق والإيجاد ، قال تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص : 75] . وفي الآيتين إشعار بأنه استكبر على خالقه ، حيث لم يسجد لمخلوق كان لله فيه عناية خاصة، نفخ فيه من روحه ، وخلقه بيديه .
استمهال إبليس
إنه سبحانه بعدما طرد إبليس من رحته ، استمهله هذا بقوله : {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف : 14] ، فأجابه سبحانه تارة بقوله : {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف : 15] دون أن يجدد بوقت ، وأخرى بالتحديد إلى يوم الوقت المعلوم : {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر : 37 ، 38] .
ومع أن إبليس طلب الإمهال إلى يوم يبعثون ، لكنه سبحانه أمهله إلى يوم الوقت المعلوم كما عرفت ، لأن الموجودات الإمكانية عامة تذوق الموت في النفخة الأولى ومنهم إبليس ثم إنهم يبعثون في النفخة الثانية التي تقوم القيامة بعدها، قال سبحانه : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر : 68] .
وهنا يرد هذا التساؤل : لماذا أمهل الله سبحانه إبليس بعد أن طرده عن حظيرة القدس ؟
ويجاب بوجهين :
١. ان إبليس ممن عبد الله سبحانه ستة آلاف سنة، وإن كان قد أحبط عمله بالكبر ساعة واحدة، لكنه سبحانه كرامة منه أمهله مكافأة لما عبد.
قال الإمام علي (عليه السلام) في بعض خطبه : «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة» . (14)
٢. لقد أمهل الله الشيطان ليتميز من يفتتن بإغوائه عمن يدبر عنه ولا يطيعه .
ولماً أيقن إبليس بتلبية طلبه في الإمهال، أظهر ما في نفسه من العداء لآدم وذريته والرغبة في الانتقام منهم ، قائلاً : {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف : 16 ، 17] .
وقد حلف في موضع آخر بعزته سبحانه، قائلاً : {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 82] .
إن العداوة التي تمكنت من نفس إبليس منذ أن استحق اللعنة الأبدية لاستكباره وامتناعه من السجود لآدم ، والتي قادته إلى الثأر منه ومن ذريته ، إن هذه العداوة ، لتدعو الإنسان إلى الحذر من وساوسه ونفثاته ، والتحفظ من الوقاع في شباكه وحبائله ، وهو لا ينفك عن خداع الناس والكيد لهم لإفسادهم وإضلالهم .
أما الجاحدون العاصون فيصغون إليه ويغترون به ، فيستحوذ على قلو بهم ، وأما المؤمنون المعتصمون بالله اللاهجون بذكره ، فهم منه بمنجاة : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل : 99 ، 100] .
والشيطان نفسه قد اعترف بعجزه عن إغواء المخلصين، واضطر إلى أن يقول : {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر : 39 ، 40] .
ثم إن سلطانه على الذين يتبعونه ليس من باب الجبر والقهر ، بأن يأخذ بزمام حياتهم بيده ، ويلقيهم في المهاوي والمهالك ، وإنما يتجلى سلطانه بالإغراء والخداع ، وتزويق الباطل وزخرفته ، أو ما يعبر عنه القرآن بالتزيين والهمز والوسوسة في الصدور : {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحجر : 39] ، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون : 97] ، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف : 20] .
وقائع لا مثاليات
إن المتقين - هم- الذين يؤمنون بالغيب ويتلقون ما يذكره القرآن حول خلقة آدم وتعليمه الأسماء وسجود الملائكة وتمرد إبليس عن السجود وإخراجه عن حظيرة القدس ، يتلقون ذلك كحقائق وواقعيات دون أن يتسرب الريب إلى قلوبهم في جانب من هذه القصص .
وأما الذين انبهروا بالعلوم المادية واغتروا بأدواتها فحاولوا أن يصبوا المسائل الغيبية الخارجة عن إطار التجربة والمشاهدة في قوالب مادية ، وحاولوا عندما وقفوا أمام هذه الآيات التي تذكر حقائق غيبية لا مجال لمعرفتها بالحس والتجربة، -حاولوا -أن يأولوا بأمور خيالية ومثالية ، مدعين أن ما يذكره القرآن الكريم في هذا الصدد قد وقع في عالم الخيال الذي هو أشبه بالمنامات . أو أتها كنايات عن النزاع بين جنود العقل وجنود الجهل ، أو قوى الخير وقوى الشر، وهم بصنعهم هذا يحسبون — واهمين - أنهم قد نجحوا في التوفيق بين التصديق بما يذكره القرآن الكريم وبين ما تفرضه التجربة والعلوم المادية .
وما لا شك فيه أن هؤلاء وإن كانوا من المسلمين لكن انبهارهم بالعلوم التجريبية وبما حققته من تقدم في حقل المادة ، قد هيمن على أفكارهم ومشاعرهم ، فجعلتهم لا يطمئنون إلا إلى ما أثبته العلم ، وصدقته التجربة ، وكأن الخط وآخره هو ما تسطره هذه العلوم ، فليس وراءها حقيقة، كما ليس وراء عبادان قرية .
ولكن الإنسان القوي الإيمان بالغيب والوحي ، والذي ملأ نور القرآن قلبه وفكره يؤمن بالغيب كله دون أن يخضعه لآراء الآخرين وتجاربهم ، ومن هنا يصف الله سبحانه في كتابه المجيد بأنه هدى للمتقين ويصف هؤلاء المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة . (15)
______________________
١. {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13] .
٢. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...} [الأنعام : 148] .
٣. نقله الشيخ الطوسي في «التبيان في تفسير القرآن» عن الجبائي والبلخي وجماعة .
4. راجع لسان العرب ، والمفردات ، والقاموس ، مادة «عبد) .
5. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم : 81] .
6. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس : 74] .
7. جاء في السيرة النبوية لابن هشام : ٧٩/١ أن أول من أدخل الوثنية إلى مكة هو عمرو بن لحي ، حيث استصحب معه من أرض الشام صنماً يقال له (هبل) ، فنصبه في مكة ، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه .
8. مجمع البيان : ٨٢/١.
9. مجمع البيان : ٨٢/١.
10. التبيان في تفير القرآن : ٠١٥٢/١
11. تفسير المنار : 1 / 265 .
12. بحار الأنوار : ١٤٥/١١.
13. بحار الأنوار: ١٤٥/١١.
14. نهج البلاغة، الخطبة القاصعة رقم ٩٢.
15. لاحظ البقرة : ٣ .