الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
أبو الشبل البرجميّ
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: ص : 467ـ469
14-7-2019
2576
أبو الشبل (1) البرجميّ
اسمه عاصم بن وهب، ولد بالكوفة ونشأ وتأدّب بالبصرة، يقول أبو الفرج:
«قدم إلى سامرّاء في أيام المتوكل ومدحه، وكان طبّا نادرا، كثير الغزل، ماجنا فنفق عند المتوكل بإيثاره العبث، ونادمه وخصّ به فأثرى» ثم يذكر بعض مديحه للمتوكل وما أسبغ عليه من عطاياه. ويبدو من اصطفاء المتوكل له أنه كان ظريفا خفيف الروح، ويقصّ ابن المعتز بعض نوادره، مما يدل على أنه كان فكه المحضر. وكان خليعا مثل الحسين بن الضحاك يسرف على نفسه في المجون ويتهالك على اللذات، ويطلبها في الحانات وفي الديارات، ويقول من ترجموا له إنه كان عاكفا على الشراب لا يفارقه، ولا يوجد إلا سكران قد أخذ منه السكر مأخذا شديدا. ويقولون إنه كان يتطرّح في الديارات والحانات ومواطن اللهو، لا يغبّها ولا يتأخر عنها، بل دائما في حانة أو في دير أو في بستان أو متنزّه وقد شرب وأغرق في الشرب حتى لم يعد يستطيع أن يقف على قدميه، بل لم يعد يستطيع حراكا. وكان كثير الاختلاف إلى دير أشموني بقرية قطربّل شماليّ بغداد وكانت القرية أشبه بحانة كبيرة يختلف إليها أصحاب البطالة والمجون. وكان عيد هذا الدير في اليوم الثالث من أكتوبر، وكان يجتمع فيه كل من ببغداد من أهل الطرب واللهو، يخرجون إليه جماعات، منهم من يركب السفن النهرية بدجلة، ومن يركب الخيل المطهمة، وينزلون في أكناف القرية وحاناتها وديرها الكبير ضاربين خيامهم وفساطيطهم، وكلّ قد أعدّ ما استطاع لقصفه ولهوه، والقيان تعزف عليهم، وآلات الطرب تسمع في كل مكان، والناس يطربون ويشربون وقد يرقصون طربا واستحسانا لما يسمعون. وطبيعي أن يتأثر الماجن الكبير أبو الشبل .
ص467
بمناظر هذا العيد، وقد أخذ الشراب منه مأخذا عظيما فيتغنّى بمثل قوله:
شهدت مواطن اللذّات طرّا … وجبت بقاعها بحرا وبرّا
فلم أر مثل أشموني محلاّ … ألذّ لحاضريه ولا أسرّا
به جيشان من خيل وسفن … أناخا في ذراه واستترّا
كأنهما زحوف وغى ولكن … إلى اللذات ما كرّا وفرّا
سلاحهما القواقز والقناني … وأكواس تدور هلمّ جرّا (2)
وضربهما المثالث والمثاني؟ ؟ ؟ … إذا ما الضرب في الحرب استحرّا
وكان مثل الحسين وعامة مجّان عصره يكثر من الغزل، وكان يستهتر فيه أحيانا ويتهتك ويتمدح بالتهتك والاستهتار مسفّا في شعره. وكأنما كان ينظم مثل هذا اللون من الغزل للمجان من أمثاله مشيعا فيه غير قليل من الفحش. وكان ينظم بجانبه غزلا آخر لا يسفّ فيه هذا الإسفاف، بل يبقى فيه على مروءته وكرامته إن كان للمجان من أضرابه فضل من كرامة، على شاكلة قوله:
بأبي ريم رمى قل … بي بألحاظ مراض (3)
وحمى عيني أن تل … تذّ طيب الإغتماض
كلما رمت انبساطا … كفّ بسطي بانقباض
أو تعالى أملي في … هـ رماه بانخفاض
فمتى ينتصف المظ … لوم والظالم قاضي
والأبيات خفيفة. ولكنه لا يلحق الحسين بن الضحاك في عذوبة نغمه وخفة روحه وحرارة عاطفته. وكان الحسين أعف منه لسانا إذ لم يكن يسف إلى الفحش إسفافه. وقد عمّر عمرا طويلا حتى وهن العظم منه واشتعل الرأس شيئا وبلغ من الكبر عتيّا. وكان طبيعيّا أن ينصرف عنه حينئذ الجواري. وفى ذلك يقول:
عذيري من جواري الحىّ … إذ يرغبن عن وصلى
ص468
رأين الشيب قد ألب … سني أبّهة الكهل
فأعرضن وقد كنّ … إذا قيل أبو شبل
تساعين فرقّعن ال … كوى بالأعين النّجل (4)
ومرّ بنا هجاء الخنساء جارية هشام المكفوف له، وله فيها هجاء مسف إسفافا شديدا، وهو في هجائه يفحش إلى درجة بعيدة تؤذى الأذواق السليمة. وكان قد اشترى كبشا لعيد الأضحى فظل يعلفه ويسمّنه، وأفلت يوما منه على قنديل كان يسرجه بين يديه وعلى سراج وقارورة للزيت، فكسر القنديل وانصبّ الزيت على ثيابه وكتبه وفراشه، فلما رأى منه ذلك ذبحه قبل الأضحى، ونظم قصيدة في رثاء قنديله يقول فيها:
يا عين بكّى لفقد مسرجة … كانت عمود الضياء والنور
صينيّة الصين حين أبدعها … مصوّر الحسن بالتصاوير
مسرجتي كم كشفت من ظلم … جلّيت ظلماءها بتنوير
إن كان أودى بك الزمان فقد … أبقيت منك الحديث في الدّور
ومضى يصور كيف انتقم للمسرجة، فذبح الكبش ومزقه بالمدى وألقى به في القدور وكيف أن السّنانير والحدأة والغربان والكلاب طعمت من لحمه وعظامه، وكان ذلك عرسا لها جميعا بدون مزامير ومغنين. وتلك عاقبة البغي، مصرعه وخيم.
ودخل داره بعض أصدقائه ورأى أن يعبث به، ولفته ثلث قرطاس كان يحتفظ به أبو الشبل، فأخذه ولم يعلمه بما صنع، فلما مرت بعض أيام جاء صديقه، فأنشده مرثية طويلة لذلك الجزء من القرطاس، وفيه يقول:
فكر تعترى وحزن طويل … وسقيم أنحى عليه النّحول
ليس يبكي رسما ولا طللام … حّ كما تندب الرّبى والطّاول (5)
إنما حزنه على ثلث كا … ن لحاجاته فغالته غول (6)
ص469
كان للسرّ والأمانة والكت … مان إن باح بالحديث الرسول
وضحك صديقه طويلا. واعترف له بأخذه، وردّه عليه. وهذا هو أبو الشبل ماجن خليع، يسرف في الخلاعة والمجون، بل في الاستهتار والتهتك، وهو مع ذلك صاحب نوادر، لا نوادر يحكيها فحسب، بل نوادر حدثت له كان يحكيها وينظم فيها أشعاره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في أبي الشبل وأخباره وأشعاره طبقات الشعراء لابن المعتز ص 380 والأغاني (طبع دار الكتب المصرية) 14/ 193 ومعجم الشعراء للمرزباني ص 123 والديارات للشابشيّ ص 50 وما بعدها.
(2) القواقز: القداح كما مرّ. والأكواس: الكئوس.
(3) الريم: الظبى خالص البياض.
(4) الكوى: الخروق في الأبواب والنوافذ.
(5) مح: عفا ودرس.
(6) غالته: أهلكته.