الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الحسين بن الضحاك
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: ص: 463ـ466
6-7-2019
3643
الحسين (1) بن الضحاك
ولد بالبصرة ونشأ بها، ثم تركها إلى بغداد لعصر الأمين. وربما قبل عصره، فقد عاش دهرا طويلا، وكان ظريفا، فاتخذه الأمين نديما له، ونادم من بعده المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر ابنه. وقد جزع جزعا شديدا حين توفى الأمين، ورثاه مراثي كثيرة، وكان مما قال فيه باكيا متفجعا.
هلا بقيت لسدّ فاقتنا … فينا وكان لغيرك التّلف
قد كان فيك لمن مضى خلف … فاليوم أعوز بعدك الخلف
فلما جاء المأمون من خراسان إلى بغداد علم بموقفه منه، وأنه طالما نظم أشعارا ضد طاهر بن الحسين قائده في حرب الأمين كما نظم أشعارا يبكى بها بغداد حين ضربها طاهر بالمجانيق. وكان أشد ما أسخطه عليه البيتان السالفان ودعاؤه فيهما عليه بالتلف، فلما ذكر له في الشعراء قال: لا حاجة لي به ولا يرى وجهى إلا على قارعة الطريق أي في مواكبه العامة. وظل لا يقرب القصر طوال خلافة المأمون، بل لقد بارح بغداد إلى البصرة، حتى إذا خلفه المعتصم استقدمه من موطنه وقرّبه منه، فمضى يمدحه وينال جوائزه، وقد أقطعه كما أقطع رجال
ص463
حاشيته دارا في سامرّاء، واتخذه الواثق نديما له، وله فيه مدائح كثيرة، وخلفه المتوكل فسلكه في ندمائه، وكذلك صنع ابنه المنتصر، وله فيه مدائح مختلفة مثل أبيه، ومن قوله في تهنئته له بالخلافة:
هنتك أمير المؤمنين خلافة … جمعت بها أهواء أمة أحمد
وأعجب المنتصر بالقصيدة، فقال له: إن في بقائك بهاء للملك، ولحق بعده عصر المستعين، وفيه توفى سنة 251 للهجرة.
وكان يعرف باسم الخليع لكثرة مجونه وعكوفه على الخمر، حتى أصبح اسمه مقرونا باسم أبي نواس أكبر ماجن في العصر السابق، وهو مثله فارسي الأصل، وكان يصحب في شبابه، ويبدو أنه تمثل أشعاره تمثلا نادرا وخاصة أشعار الخمر والمجون، حتى اختلط الأمر على القدماء فنسبوا كثيرا من أشعاره إلى أبي نواس، وزعم نفر منهم أن أبا نواس كان يحاكيه في بعض أشعاره، والصحيح أن الحسين هو الذى كان يحاكى أستاذه وأستاذ الخمر والمجون في العربية عامة. ويقول ابن المعتز إنه كان أنقى من أبي نواس شعرا وأقل تخليطا منه، وهي ملاحظة صحيحة غاية الصحة، فإن أبا نواس كان يختلط بأبناء الشعب البغدادي من المجّان وغيرهم في الحانات بالكرخ وغير الكرخ وفى الأديرة، وكان لا يرتفع بلغته وألفاظه عنهم، بل كان يدنو منهم دنوّا شديدا. وكان ينظم كثيرا من خمريّاته في أثناء سكره، فبدا في أشعاره تخليط كما لاحظ ابن المعتز، فهو تارة يرتفع حين ينظم في مجلس الأمين أو في مجلس بعض الوزراء والنابهين، وتارة يسفّ حين ينظم في مجالس العامة، وخاصة حين يخاطب غلمان الحانات وكانوا أخلاطا من الفرس ممن لا يحسنون العربية الفصيحة. أما الحسين فكان في جمهور حياته يعيش في قصور الخلفاء والوزراء وأبنائهم، فكان يعنى أشد العناية بلغته وألفاظه، ولا يكتفى فيها بالفصاحة بل يطلب أيضا الرصانة والجزالة حينا، وحينا العذوبة والنعومة وما يلائم الأذواق الرفيعة في المجتمع، لذلك قل التخليط عنده كما يلاحظ ابن المعتز، بل كاد ينعدم انعداما، ولذلك أيضا شاع في أشعاره النقاء والصفاء إذ كان يطلب فيها دائما أن تلذ الأسماع والأفئدة. وظاهرة ثانية يختلف فيها عن أستاذ المجون والخمر في عصره هي شيء من الحشمة المصطنعة في مجونه، فهو لا يذيع فيه ما يذيعه
ص464
أبو نواس من الفحش، لأنه كان يعيش في أوساط الخلفاء والوزراء وأبنائهم، فكان يحتشم وقلما يعلن أنه يقترف إثما منكرا، أما أبو نواس فلم يكن يعرف شيئا من الحشمة ولا كان يخفى شيئا من آثامه. وليس معنى ذلك أن الحسين كان أقل من أبي نواس مجونا وشغفا بالخمر، فقد كان مثله مفتونا بها فتنة شديدة، وكان يطلبها في الحانات وفي الأديرة وكان دائم الاختلاف إليها، ومن طريف ما نظمه في دير سابر بقرب بغداد وخمره المعتقة قوله:
وعواتق باشرت بين حدائق … ففضضتهنّ وقد حسن صحاحا (2)
اتبعت وخزة تلك وخزة هذه … حتى شربت دماءهن جراحا
أبرزتهنّ من الخدور حواسرا … وتركت صون حريمهنّ مباحا
وهو يصور فتنته بزقاق الخمر الممتلئة التي لم يمسسها أحد قبله، وقد ضحكت الطبيعة في دير سابر من حوله، وهو يفتح الزقاق ويشرب من دمائها أرطالا. وكان يختلف إلى ديارات العراق عامة، وله في دير سرجس بالقرب من الكوفة قصيدة بديعة، يقول فيها:
أخوىّ حىّ على الصّبوح صباحا … هبّا ولا تعدا النديم رواحا
مهما أقام على الصّبوح مساعد … وعلى الغبوق فلن أريد براحا (3)
عودا لعادتنا صبيحة أمسنا … فالعود أحمد مغتدى ومراحا
هل تعذران بدير سرجس صاحبا … بالصّحو أو تريان ذاك جناحا
إنى أعيذكما بألفة بيننا … أن تشربا بقرى الفرات تراحا (4)
عجّت قواقزنا وقدّس قسّنا … هزجا وأصخبنا الدّجاج صياحا (5)
وهو يتلطف إلى صاحبيه في آخر الليل ويدعوهما أن يتناولا معه الصبوح كما تناولاه بالأمس، ويعذراه ولا يريا في ذلك جناحا ولا إثما، ويستحلفهما بما
ص465
بينهما وبينه من ألفة ومودة وأخوة ألا يشربا ماء الفرات النمير، بل يشربا معه صبوحه المسكر المحبب إلى نفسه. وكان أبو عيسى بن الرشيد يدفع غلامه «يسرا» إلى معابثته فكان ينظم فيه بعض غزله، وكذلك كان المتوكل يدفع غلامه «شفيعا» إلى العبث به، وكان وضئ الوجه مثل يسر فكان ينظم فيه أيضا بعض الغزل.
وواضح أنه غزل كان يراد به إلى الهزل وإضحاك المتوكل وأبي عيسى. وله في الغزل عامة شعر كثير من مثل قوله:
وصف البدر حسن وجهك حتى … خلت أنى-وما أراك-أراكا
وإذا ما تنفّس النّرجس الغ … ضّ توهّمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعلّلني في … ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا
لأدومنّ يا حبيبي على الو … دّ لهذا وذاك إذ حكياكا
والقطعة رائعة التصوير وتسيل عذوبة، وهي عذوبة تشيع في كثير من أشعاره الغزلية والخمرية، وهي طبيعية لشاعر كان يعيش في قصور الحلفاء ومجالسهم، ويسمع في كل ليلة أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل لون، مما جعل أذنه الموسيقية ترهف إرهافا شديدا، فإذا كثير من شعره يتحول ألحانا وأنغاما خالصة على شاكلة قوله:
عالم بحبّيه … مطرق من التّيه
يوسف الجمال وفر … عون في تعدّيه
وهو غير مكترث … للذي ألاقيه
لا وحقّ ما أنا من … عطفه أرجّيه
ما الحياة نافعة … لي على تأبّيه
النعيم يشغله … والجمال يطغيه
والقطعة من وزن عباسي حديث هو وزن المقتضب، وهي تطير عن الفم بخفة. ولم يقف تأثير الغناء وآلات الطرب لعصره في شعره عند الملاءمة بين
ص466
جرس الكلمات، بل تجاوز ذلك إلى الأوزان، فكان يفزع إلى مجزوءاتها كثيرا إرضاء لآذان السامعين، وحتى يتيح للمغنين والمغنيات في شعره الفرص كي يجهروا بألفاظه ويهموا بها حسب حاجاتهم الغنائية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في ترجمة الحسين بن الضحاك وأشعاره ابن المعتز ص 268 وتاريخ بغداد 8/ 54 والأغاني (طبع دار الكتب) 7/ 143 ومعجم الأدباء وابن خلكان ومرآة الجنان 2/ 156 وشذرات الذهب 2/ 123 وأشعار الخليع الحسين بن الضحاك جمع وتحقيق عبد الستار فراج (طبع دار الثقافة ببيروت).
(2) العواتق: زقاق الخمر.
(3) الصبوح: شرب الصباح، والغبوق: شرب الماء.
(4) الماء القراح: الماء الصافي.
(5) القواقز: القداح. وقدس القس: رتل بعض التراتيل.