على غير ما اعتادت عليه المرجعية الدينية العليا عِبر منبرها الجمعوي في كربلاء المقدسة ، من قراءة لأجزاء منتقاة مما عهده امير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام الى واليه على مصر مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه ، تطرق ممثلها سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي الى قراءة مقاطع مما كتبه الإمام علي عليه السلام الى بعض عماله ممن خان الأمانة واستحوذ على ما تحت يده من أموال العامة .
حيث اعتبر الكربلائي خلال الخطبة الثانية لصلاة الجمعة التي أقيمت بإمامته في الصحن الحسيني الشريف اليوم الجمعة 12 شعبان 1437هـ الموافق 20 آيار 2016م ، ان قراءته لمضامين هذه الرسالة ـــ رسالة امير المؤمنين لمن خان الأمانة من ولاته ـــ لا يراد منه قراءة تاريخية فقط ، إنما العظة والعبرة لمن يؤتمن اليوم على أموال الرعية خصوصا من ائتمنته الناس على أموالهم .
وبيّن سماحته في مورد شرحه لجزئيات الرسالة العلوية ، ان امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عاتب و وبخ بل وهدد الخائن بأشد العقوبات معتبرا أنه ـــ الوالي الخائن ـــ لم يرد الله تعالى والآخرة بجهاده ، إنما قصد الدنيا وغرورها ، وأن جهاد هذا الوالي سابقا كان بعيد عن خلوص النية لله جل شأنه ، لأنه لم يعرف وعد الله ووعيده لمن يستولي على أموال الرعية ، وأن عبادته إنما هي استغفال للناس ومكايدة لهم وخداعهم عن دنياهم .
كما وضّح الكربلائي التعجب الشديد الذي أبداه امير المؤمنين عليه السلام من انحراف سلوك عامله وخيانته الأمانة ، خصوصا وأن في ذلك أمرين اثنين مدعاة للتعجب ، أولهما عدم أيمان هذا الوالي الخؤون بالمعاد وعد خوفه من مساءلة الباري عز وجل ، سيما وأنه قد وظف لنفسه صورة حسنة باعتباره ممن سبق وأن كان له فضل وجهاد .
في حين كان العجب الثاني حول تقبل هذا الوالي واستساغته اخذ هذه الأموال وتلويث جميع معيشته بالمال الحرام أكلا وشربا وزيجة وما الى ذلك ، لأن في ذلك تقاطع مع الإيمان والاعتقاد بيوم الحساب ، فضلا عن كونه أيمانا ضعيفا وظاهريا ودنيويا .
وفي مود تشديد امير المؤمنين عليه السلام على محاسبة خيانة الأمانة ومنها أموال الرعية ، بيّن الكربلائي قصود الإمام علي عليه السلام في مبالغته في مطلب حفظ الأمانة وأنه لا يراقب او يجامل على حق حتى لو كان ذلك من ولديه الحسن والحسين عليهما السلام كتعبير مجازي ، وانه ليس من احد مصون عن العقاب إذا ما تخلف عن العدالة والحق وان العاطفة لا يمكن ان تتقدم الحكم الإلهي ، ولا يمكن ان تكون الروابط النسبية او السببية مانعا لإقامة العدل والحق .
وفيما يلي النص الكامل للخطبة ...
نقرأ على مسامعكم الكريمة مقاطع من كتاب الامام علي (عليه السلام) الى بعض عماله الذي خان الامانة واستحوذ على ما تحت يده من الاموال العامة ... ( كان من المقربين للإمام (عليه السلام) وجاهد معه ثم ولاه الامام على بعض ولايات المسلمين وقد ائتمنه على الرعية وكذلك على اموال الرعية لكنه خان الأمانة ، فالإمام (عليه السلام) يعاتبه ويوبخه ثم يهدده بالعقوبة بسبب الخيانة ) ..
( كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اَللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ كَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ وَ تَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ اَلشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ اَلْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ اَلْكَرَّةَ وَ عَاجَلْتَ اَلْوَثْبَةَ وَ اِخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ اَلْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَيْتَامِهِمُ اِخْتِطَافَ اَلذِّئْبِ اَلْأَزَلِّ دَامِيَةَ اَلْمِعْزَى اَلْكَسِيرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَى اَلْحِجَازِ رَحِيبَ اَلصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ اَلْحِسَابِ أَيُّهَا اَلْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي اَلْأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ حَرَاماً وَ تَبْتَاعُ اَلْإِمَاءَ وَ تَنْكِحُ اَلنِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ اَلْيَتَامَى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُجَاهِدِينَ اَلَّذِينَ أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ اَلْأَمْوَالَ وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ اَلْبِلاَدَ.. فَاتَّقِ اَللَّهَ وَ اُرْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اَللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اَللَّهِ فِيكَ وَ لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي اَلَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ اَلنَّارَ ... ) .
( وَ وَ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ اَلَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ اَلْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ اَلْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا ) .
الغرّة : الخدعة والإغفال .
الفيء : مال الغنيمة والخراج ، الازل : الخفيف الوركين فيكون سريعاً في جريه، الدامية : المجروحة والتي يخرج منها الدم.. ، الكسيرة: المكسورة اليد او الرجل ..
رحيب الصدر : بمعنى الواسع، ورحيب الصدر يقال للشخص البارد المزاج والذي يملك سعة الصدر ولا يبالي في مواجهة الأمور المثيرة ..
التأثم : التحرز من الإثم، الشعور بالذنب.
حَدَرت: أسرعت اليهم من مادة حَدَر بمعنى الهبوط والنزول الى الاسفل.
شبه الامام (عليه السلام) احد عماله الذي خان الامانة واستحوذ على ما تحت يده من الاموال العامة بمن لم يرد الله تعالى والاخرة بجهاده بل اراد الدنيا والمال فلم تكن نيته خالصة لوجه الله تعالى في امر الجهاد وبمن لم يكن على معرفة بينة بوعد الله ووعيده بالعقاب لمن يستولي على اموال الاخرين بغير حق، وكذلك شبهه بمن يستغفل الناس ويكيدهم عن دنياهم فلم يكن له غرض من عبادته الا خدعة المسلمين عن دنياهم ..
( فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ اَلشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ اَلْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ اَلْكَرَّةَ ) .
أي ترصد الفرصة في اخذه وانتهزها حينما وجدها مانحة له في اخذ المال بأسرع بالوثوب على الخيانة في اخذ المال، وشبّه اختطافه لما اخذه من المال باختطاف الذئب الازل دامية المغري الكسيرة، ووجه الشبه بسرعة اخذه له وخفته له في ذلك ..
ان قراءة هذه الرسالة لا يراد منها فقط قراءة رسالة تاريخية لحادث خيانة من قبل احد عمال الامام (عليه السلام) بل يراد العظة والاعتبار للأشخاص الذين يؤتمنون الآن على اموال الرعية واموالهم ويشمل من ائتمنه الناس على ذلك .
وخصّ الذئب الأزل وشبهه به لأن خفة الوركين تعينه على سرعة الوثبة والاختطاف، ودامية المغري الكسيرة لأنها امكن للاختطاف لعدم قدرتها على الهروب والدفاع عن نفسها .
( فَحَمَلْتَهُ إِلَى اَلْحِجَازِ رَحِيبَ اَلصَّدْرِ بِحَمْلِهِ ) ...
ثم اخبر في معرض التوبيخ له انه حمل هذا المال الى وطنه في الحجاز وكنى بكونه رحيب الصدر به إمّا عن سروره وفرحه به او عن كثرة ما حمل منه فحدرت الى اهلك ، وكأنك باستحواذك على هذا المال العام وعدم تحرزك منه كأنك تحسبه ميراث ورثته من أبيك وأمك ...
قوله (عليه السلام) : ( فَسُبْحَانَ اَللَّهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ ... ) .
ويظهر الامام (عليه السلام) تعجبه الشديد من هذا السلوك المنحرف لعامله ... فقد استفهم الامام (عليه السلام) على سبيل التعجب من حاله ، والإنكار عليه على أمرين :
الأول :
عن أيمانه بالمعاد وخوفه من مناقشة الله تعالى يوم الحساب ، ثم نبهه انه كان معدوداً ومحسوبا عنده وفي نظره من اهل الايمان ومن ذوي العقول وعبر عنه بـ ( كان ) على انه في الماضي كان كذلك أي من اهل الايمان والعقول ولكن لم يبق عنده كذلك كما كان في الماضي .
الثاني :
عن كيفية استساغته للشراب والطعام ، مع علمه انه ما يأكله ويشربه وينكح به له او لعياله من هذا المال لكون مال المسلمين اليتامى منهم والمساكين والمجاهدين أفاء الله تعالى عليهم لمنفعة ومعيشة عباده وتعمير بلادهم ، وفيه إشارة الى ان جميع حياتك ومعيشتك ملوثة بالحرام .
وهذه إشارة الى ان الشخص الذي يؤمن بالقيامة والمعاد والحساب على اكتساب الاموال واخذها ومصدرها لا يجوز له ان يتصرف في اموال المسلمين مثل هذا التصرف القبيح والمستهجن، فمثل هذا العمل يتقاطع مع الايمان والاعتقاد بيوم الحساب ـــ او يكون أيمانه ضعيفا وظاهريا واما من قلبه ـــ متعلق بالدنيا وقد نسي ونسي يوم القيامة وما سيواجهه من محاسبة على إعمالنا .
( فَاتَّقِ اَللَّهَ وَ اُرْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ ... ) .
أمره بعد التوبيخ الطويل بتقوى الله تعالى و رّد اموال المسلمين وتوعده انه ان لم يفعل ذلك ثم امكنه الله من ان يعذر الى الله فيه ان يبلغ اليه بالعذر فيه ويقتله ...
( وَ وَ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ اَلَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ اَلْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ اَلْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا... ) .
الهوادة : المصالحة والمصانعة لشخص بميل اليه وعاطفة نحوه..
اقسم ان ولديه على قربهما منه وكرامتهما عليه لو فعلا كفعله من الخيانة لم يراقبهما في ذلك حتى يأخذ الحق منهما ويزيح الباطل عن مظلمتهما من مال او غيره ...
ومراده ان غيرهم بطريق اولى في عدم المراقبة له ...
ومن البديهي ان مراد الامام (عليه السلام) لا يعني ابدا ان يقوم الامام الحسن والحسين عليهما السلام بغصب اموال بيت المال بل المراد بيان المبالغة في هذا المطلب ، وانه لا احد مصون عن العقاب في حال تخلفه عن الحق والعدالة ...
ويبين الامام (عليه السلام) في هذا المقطع من كتابه من موقع التأكيد على ان المسائل العاطفية لا ينبغي ابدا ان تتدخل في الاحكام الالهية ولا ينبغي ان يكون التعامل وفقاً للروابط العائلية والنسبية على حساب إقامة العدل والحق .