تمرّ على الأمّة الإسلامية في يوم (24 ذي الحجّة الحرام) ذكرى مباهلة الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، ففي مثل هذا اليوم استجاب نصارى نجران الى دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما دعاهم الى المباهلة، فكثيرةٌ هي الأيّام المباركة والمواقف المشرّفة التي تميّز بها أهلُ بيت النبوّة والرسالة(عليهم السلام) فارتقوا بواسطتها أعلى منازل المقرّبين من الحضرة القدسيّة المباركة، ويومُ المباهلة هو أحد الشواهد المبرّزة والمعظّمة لمكانة أصحاب العصمة والطهارة، وهو يومٌ تألّق نورُهُ بين الأيّام المشعّة في الرسالة المحمدية، ويومٌ مشهود حقّت فيه كلمةُ الله العُليا وتمّت فيه الغلبةُ للإسلام، وإذا وقفت على أحداثه فإنّما تقف على عظمة الرسالة المحمدية وأصحابها.
تسمّى الآية (61) من سورة آل عمران بآية المباهلة، وهي: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، والمعنى اللّغويّ للمباهلة هو الملاعنة والدعاء على الطرف الآخر بالدمار والهلاك، ويتّضح ذلك في تفسير قوله عَزَّوجَلَّ: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} -كما ورد في تفسير الكشّاف للزمخشري- أي ثم نتباهل بأن نقول: بهلة الله على الكاذب منّا ومنكم. والبهلة "بالفتح والضم: اللعنة. وبهله الله: لعنه وأبعده من رحمته، من قولك «أبهله» إذا أهمله. ثمّ استُعمِلَ في كلّ دعاءٍ يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً، وقد نزلت هذه الآية حسب أغلب المفسّرين في المحاججة التي وقعت بين رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) ونصارى نجران.
حيث كتب النبيّ(صلَّى الله عليه وآله) كتاباً إلى "أبي حارثة" أسقف نَجران دعا فيه أهالي نَجران إلى الإسلام، فتشاور أبو حارثة مع جماعة من قومه وهو حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وله فيهم شرف ومنزلة، وكان ملوك الرّوم قد بنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في الدين، فآل الأمر إلى إرسال وفدٍ مؤلّف من ستّين رجلاً من كبار نجران وعلمائهم لمقابلة الرسول(صلَّى الله عليه وآله) والاحتجاج أو التفاوض معه، وما إن وصل الوفدُ إلى المدينة حتى جرى بين النبيّ وبينهم نقاشٌ وحوارٌ طويل لم يؤدِّ إلى نتيجة، عندها دعاهم النبيّ الى المباهلة -بأمرٍ من الله- فقبلوا ذلك وحدّدوا لذلك يوماً، وهو اليوم الرابع والعشرون من شهر ذي الحجّة سنة (10هـ)، وقد اختار الله سبحانه وتعالى للنبيّ في آية المباهلة الأشخاص الذين يباهل بهم بعد نزول الآية آنفة الذكر، وهم (أبناؤه) الحسنان و(نساؤه) فاطمة الزهراء و(نفسه) علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين).
لكن في اليوم الموعود عندما شاهد وفدُ نصارى نجران أنّ النبيّ(صلَّى الله عليه وآله) قد اصطحب أعزّ الخلق إليه وهم علي بن أبي طالب وابنته فاطمة والحسنان(عليهم صلوات الله وسلامه)، وقد جثا الرسول(صلَّى الله عليه وآله) على ركبتيه استعداداً للمباهلة، انبهر الوفدُ بمعنويّات الرسول وأهل بيته لما حباهم الله تعالى من جلاله وعظمته، وأبى المباهلة.
قال العلّامةُ الطريحي صاحبُ كتاب (مجمع البحرين): "وقالوا: حتى نرجع وننظر، فلمّا خلا بعضهم إلى بعض قالوا للعاقِب وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه وأمره، واسمه عبد المسيح وكان ذا رأي عندهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم أنّ محمداً نبيّ مرسَل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهَل قومٌ نبيًّا قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن أبيتم إلّا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، وذلك بعد أن غدا النبيّ آخذاً بيد علي والحسن والحسين(عليهم السَّلام) بين يديه، وفاطمة(عليها السَّلام) خلفه، فخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم أبو حارثة، فقال الأسقف: إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها. فلا تباهلوا، فلا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم إنّا لا نُباهِلُك ولكن نصالحك، فصالحهم رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) على أن يؤدّوا إليه في كلّ عام ألفي حُلّة، ألف في شهر صفر وألف في شهر رجب، وعلى عارية ثلاثين درعاً وعارية ثلاثين فرساً وثلاثين رمحاً.
فقال النبي(صلَّى الله عليه وآله): "والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمُسخوا قردةً وخنازير ولأضطرم عليهم الوادي ناراً، ولما حال الحولُ على النصارى كلّهم حتّى يهلكوا".
وفي مثل هذا اليوم أيضاً تصدّق أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) بخاتمه للسائل أثناء ركوعه في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فنزلت الآية: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) المائدة:55.