أكدت الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة أن خريجي كلية الطب في جامعة العميد غرس حان قطافه لينفعَ العبادَ والبلادَ. جاء ذلك خلال كلمة الدكتور عباس الموسوي بحفل تخرج الدفعة الأولى لطلبة كلية الطب في جامعة العميد، القاها ممثلا عن الأمانة العامة للعتبة المقدسة. أدناه نص الكلمة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وأزكى الصلاة وأتمّ التسليم على سيد من خلق، وصفوة من اصطفى، وتحيات زاكيات على الراسخين في العلم درجات أهل بيت نبيّه، أعلام الدين وقواعد العلم السبيل الواضح إلى الله، والمسلك إلى رضوانه، أبواب مدينة علمه، وسدنة رسالته. وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد، حضورنا الكريم، المحتفى بهم أبناءنا الأعزاء، بناتنا الفضليات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، نعم، فكم لهذه العتبة المقدسة: العتبة العباسية، من وقائع، وكم لها من صنائع! وكم لها من بدائع وروائع! آمنت أولاً بأنّ الله تعالى جعل قبر أمير المؤمنين عليه السلام، وقبور ولده بقاعاً من بقاع الجنة وعرصةً من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب النجباء من خلقه والصفوة من عباده، تحنّ إليهم وتحتمل المذلّة والأذى، فيعمرون قبورهم ويكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى الله ومودّةً منهم لرسوله، وتؤمن بأنّ أولئك هم المخصوصون بشفاعة النبي صلوات ربي وسلامه عليه، وهم الواردون حوضه وهم زوّاره غداً في الجنة، وتؤمن أنّ من عمّر قبورهم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس. ومن زار قبورهم عدل ذلك ثواب سبعين حجّةً بعد حجّة الإسلام وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتهم كيوم ولدته أمّه، تؤمن العتبة العباسية المقدسة بكلّ ذلك، لأنه متواتر صحيح عن النبي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، وتؤمن أن وراء ذلك بشرى النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال. ولإيمانها الراسخ هذا، كانت مشاريع عمارة العتبة المقدسة الفريدة، وكانت ضروب شتّى وفنون شتى من خدمات الزائر الكريم، وتلك أولى الصنائع، ثمّ عزمت بعد فراغها من العمران وخدمة الزائرين، إلى خدمة الدين والمذهب، وتلك صنائع يكلّ دونها العادّون، ولها شواهد ووقائع، آخرها هذا المحفل المبارك، ثم أن لها في خدمة الإنسان أنّى كان وحيث كان، روائع وبدائع لا نهاية لأمدها، فقد حرصت العتبة المقدسة على تقديم خدماتها الأخرى للمجتمع واستهدفت توفيَر الأمنِ الغذائي وتعزيز الزراعة المستدامة، ودونك بدلَ المثالِ أمثلةً، فقد اخضرّت بمشاريعها صحراءُ، وأينعت ثماراً ونخيلاً بطعوم وأصناف ما سَمِعَ بأسمائها إلا آباؤنا الأوّلون، ودونكم _ أخيراً_ الحزامَ الأخضر أيضاً، والقائمة تطول.. ولقد ضمِــنت صحياً شريحة كبيرة، مع ضمان تمتّع شريحة أخرى بأنماط عيش طيبة وصحية، وأحرزت تقدّماً في زيادة فرصِ الحصول على المياه، وأسهمت في الحد من تنامي الأوبئة، وحفظت ما حفظت من موتٍ محتوم، ولولا غصةٌ في الحلق من تذكّر الماضي القريب لاستعرضنا صنيعها في زمن الكورونا بل صنائعَها وما أكثرَها! ومن قبلُ كان وباءُ داعش الذي كاد أن يقضمَ النسلَ والحرث، لولا نهج سيّدِها سيدِ النجفِ إمامنا السيد السيستاني دام ظلّه، الذي تتشرّف أنّها تستنّ بهديه، وتنهل من فيض ممثّله متولّيها الشرعي الذي يرسم لها الرؤية والرسالة والأهداف، سماحة السيد أحمد الصافي أدام الله خدمته وعزّه. ولها في ميدان التعليم قصة تروى؛ ضمِنت فيها تعليماً نوعياً مميزاً، منصفاً، وعزّزت فرصَ التعليم لفئات محرومة مدى حياتهم، كما أنّ لها في محو الأمية باعاً محموداً ولها في تمكينِ المرأة، وتوفيرِ فرصِ العملِ اللائق بها، وحقِّها في التعليم مجال طيّب وخصّصت مشاريع فكرية لا نفاد لعددها، وأخرى ثقافية، وشجّعت الابتكار واحتضنت المواهب وآمنت بعقول أهلِها العراقيين تحفيزاً وتعزيزاً وتشجيعاً لإدامة الابتكار.. نعم أيّها الخرّيجون، فإنّ قائمة الخدمات تطول، وإن وجوه الخدمة تتعدّد، ويبقى من أوسم تلك الوجوه، هو التربية والتعليم؛ فهو ممّا تعتزّ به، وتفاخر، وتنوّع الأساليب، وتلتمس الوسائل لعنايتها به؛ فقد كانت خدمته في صميم رؤيتها ورسالتها وأهدافها، ومنها أنّ الزمنَ أرانا تصاعداً مخيفاً في إفرازاتِ المشهدِ الجامعي، التي بدأت تهدّدُ منظومةَ القيمِ الأخلاقيةِ التي لها في نفوسِنا ما يُشبهُ القداسةَ.. وكعادتنا فإنّنا لا نملأ الفضاء نقداً وتقريعاً وتجريحاً، بل دعونا القائمين على هذا الشأنِ، إلى أن يُحِدّوا من تسارُعِهِ المخيفِ فيضعوا المحدّداتِ الأخلاقيَّةَ والقيودَ الاجتماعيةَ التي تضبطُ جموحَهُ، وتُحِدُّ من إفرازاتِه التي لا يجمعُها والوسطَ الجامعيَّ أيُّ جامع.. وذكرناهم بما نشأنا عليه، وما انطوى عليه الواجب، كما ذكرناهم بإجراءٍ صنعَه المختصون بالشأن الطبي قديماً، فهم حين رأوا ما أفرزه الميدانُ الطبّي من تطوراتٍ؛ دعتْهم الحاجةُ إلى إيجادِ نظمٍ وقوانينَ وعلمٍ للأخلاق الطبيةِ بوصفه اعتراضاً على جموعِ التطورِ العلميِّ الطبيِّ الحديثِ، وشططِهِ العلمي الذي اجتاح كرامةَ الانسانِ وأسهمَ في استباحةِ جسدِه.. وما زلنا نرنو بعين الأمل وننتظر ذلك اليومَ الذي تأخذ فيه إدارةُ الجامعاتِ دورَها الرقابيَّ المهنيَّ والوظيفيَّ والأخلاقيَّ والتربويَّ والعلميَّ، للإعلان عن ضوابطَ وأنظمةٍ وتعليماتٍ تُـــقَنَّنُ وفقَ إجراءاتٍ مُنضَبطةٍ ذاتِ سلوكٍ تعبيريِّ حقيقيّ، تضبطُ أخلاقياتِ الحرمِ الجامعي، وتكبحُ جماحَ ما تسلّلَ إليه من عاداتٍ وتقاليدَ دخيلةٍ، للحيلولةِ دونَ انتهاكِ حُرمةِ دورِ العلم، والمحافظةِ على كرامةِ طلّابِها؛ فالعلم والأخلاق صنوان لا يفترقان ومنها تقديم نموذجٍ إيجابيّ يُحتذى، فكانت جامعتا الكفيل والعميد، النموذجين، فمن شاء أن يتخذ إليهما أو إلى تقليدهما سبيلاً فهما متاحان... فمن لم يرد فذلك من عنده وما على الرسول إلّا البلاغ المبين. ويبقى لجامعتينا، ولأخريات مثلهن فضلُ محاولةِ تصحيحِ المسار، وإيقادُ الضوءِ في نهايةِ النفق منها توفير فرص دراسية رصينة لأبنائنا ممّن يحصلون على معدّلاتٍ عالية جداً، لكن طاقات جامعاتنا الحكومية لا تستوعبهم، فيطوون المسافات الشاسعة، ويتغرّبون عن أهليهم، ويدرسون بجامعات خارج البلاد لا تلبّي طموحهم بتعليم مهني رصين، وتقذف بهم في بيئات لا يجمع بعضها ومجتمعنا أيُّ جامع، ولن يكونوا في أعمارهم الغضة بمنأى عن التأثّر بها، ومنهم من يردّ بخفَّي حنين. لأنّ الغالبية العظمى منهم لا طاقة له على السفر ولوازمه، وفئة منهم لا يحالفه الحظّ بالقبول هناك فيطوي ضلوعه على حسرةٍ مزمنة تقضم كلّ أمل عنده، وفئة يقبلون ومن هذه الفئة من تحفّ به العناية فتقرّ به عيون وتسرّ نفوس، ومنهم من يكتسب علماً ويفقد قيماً، ومنهم من يرد إلى البلاد ولا يعلم من بعد علمٍ شيئاً. لقد عاينت العتبة العباسية المقدسة المشهدَ كلّه، وتفاصيلَه وحركاتِه وسكناتِه، وطرحت البديل لبنيها، وفصلت النموذج على مقاس الحلم وها أنتم اليوم غرس تلك البذرة التي أينعت وحان قطافها، لتنفعَ العبادَ والبلادَ كنا قد راهنا سابقاً على أصالة هذه الثمرة، وطيب منبتها، والفضاء الذي نمت تحت سمائه؛ فهو فضاء الطهر والقداسة، واليوم نرسم بكم لوحة من لوحات تعظيم الطبّ وتوقير الطبيب. وسنباهي بكم، ونشكر الخالق الجليل جلّ اسمه الذي به تتمّ الصالحات، ونتلو آيات حمده وشكره، فله الحمد بجميع محامده كلّها على جميع نعمه كلّها... نعم فكثير من الطلبة وقليل من ذويهم من ينسى أنها لحظة حمد وشكر؛ففيها يهب الله هذا الطالب نعمةً حُرِم منها الكثيرون؛ فكم من إنسان استفحل الفقر عليه، فحال دون وصوله إلى هذه اللحظة، وكم من إنسان أصابه المرض في مقتلٍ فأقعده، فإذا هو طريح الفراش، أو قعيد الدار، فلم يعش هذه اللحظة، وكم من إنسان حُرِم نعمة وجود أبيه فتصدى للكسب والعمل وكدح كي يعيش غيره، فترك مقاعد الدرس، وكم من إنسان ابتلي بظرف قاهر، جعله يحلم بحياة طبيعية تجود عليه بفرصة الدراسة، وكم من إنسان تبع هواه، فأضاع نفسه، وضيّع مستقبله، ونأى بنفسه عن نعيم هذه اللحظة أليس يجدر بنا أن نحمده جلت قدرته، لأنّنا لم نكن من ضمن هؤلاء، أليس حرياً بنعمه أن تُحمدَ، وآلائه أن تُشكر! فالحمد لله حمداً يوازي نعمائه التي أفاء بها علينا، ويوافي ضروب آلائه، التي مكّننا بها من مواصلة الدراسة، وسهّل لنا دروبها، لنصل إلى هذه اللحظة الفارقة. إليكم وأنتم تترجمون الفرح مراسيم ومناسك ترضي العرف والدين، لتكون رصيداً يعتزّ به الوالدان والولدان، وذخيرة إن استعادتها الذاكرة في المستقبل، فإنّها ممّا يفخر بها المرء شاباً وكهلاً، إليكم لهذا، ولغيره، مزيداً من التقدير، وطوبى لكم وحسن مآب، شكراً للوالدين او من قام مقامهما، وأسرٍ عمرت بهما أو بذكرهما، شكراً للأساتذة الأفاضل، للعمادة، والأقسام، شكراً لرئاسة الجامعة ومجلسها الموقّر، شكراً لكلّ من كان وراءَ إقامةِ هذا المحفلِ.. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين وصلّى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته