المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17818 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
هل يجوز للمكلف ان يستنيب غيره للجهاد
2024-11-30
جواز استيجار المشركين للجهاد
2024-11-30
معاونة المجاهدين
2024-11-30
السلطة التي كان في يدها إصدار الحكم، ونوع العقاب الذي كان يوقع
2024-11-30
طريقة المحاكمة
2024-11-30
كيف كان تأليف المحكمة وطبيعتها؟
2024-11-30



تفسير الاية (1-25) من سورة الانشقاق  
  
6021   04:07 مساءً   التاريخ: 1-2-2018
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الإنشقاق /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-2-2018 6022

قال تعالى : {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [الانشقاق : 1 - 25] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

{إذا السماء انشقت} أي تصدعت وانفرجت وانشقاقها من علامات القيامة وذكر ذلك في مواضع من القرآن {وأذنت لربها} أي سمعت وأطاعت في الانشقاق عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وهذا توسع أي كأنها سمعت وانقادت لتدبير الله {وحقت} أي وحق لها أن تأذن بالانقياد لأمر ربها الذي خلقها وتطيع له {وإذا الأرض مدت} أي بسطت باندكاك جبالها وآكامها حتى تصير كالصحيفة الملساء وقيل إنها تمد مد الأديم العكاظي وتزاد في سعتها عن ابن عباس وقيل سويت فلا بناء ولا جبل إلا دخل فيها عن مقاتل {وألقت ما فيها} من الموتى والكنوز مثل وأخرجت الأرض أثقالها عن قتادة ومجاهد {وتخلت} أي خلت فلم يبق في بطنها شيء وقيل معناه ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها وتخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها {وأذنت لربها وحقت} ليس هذا بتكرار لأن الأول في صفة السماء والثاني في صفة الأرض وهذا كله من أشراط الساعة وجلائل الأمور التي تكون فيها والتقدير إذا كانت هذه الأشياء التي ذكرناها وعددناها رأي الإنسان ما قدم من خير أوشر ويدل على هذا المحذوف قوله {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا} أي ساع إليه في عملك .

 وقوله {يا أيها الإنسان} خطاب لجميع المكلفين من ولد آدم يقول الله لهم سبحانه ولكل واحد منهم يا أيها الإنسان إنك عامل عملا في مشقة لتحمله إلى الله وتوصله إليه {فملاقيه} أي ملاق جزاءه جعل لقاء جزاء العمل لقاء له تفخيما لشأنه وقيل معناه ملاق ربك أي صائر إلى حكمه حيث لا حكم إلا حكمه وقال ابن الأنباري والبلخي جواب إذا قوله {أذنت لربها وحقت} والواو زائدة كقوله {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} وهذا ضعيف والأول هو الوجه ثم قسم سبحانه أحوال لخلق يوم القيامة فقال {فأما من أوتي كتابه بيمينه} أي من أعطي كتابه الذي ثبت فيه أعماله من طاعة أو معصية بيده اليمني {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} يريد أنه لا يناقش في الحساب ولا يواقف على ما عمل من الحسنات وما له عليها من الثواب وما حط عنه من الأوزار إما بالتوبة أو بالعفو وقيل الحساب اليسير التجاوز عن السيئات والإثابة على الحسنات ومن نوقش الحساب عذب في خبر مرفوع وفي رواية أخرى يعرف عمله ثم يتجاوز عنه وفي حديث آخر ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته قالوا وما هي يا رسول الله قال ( (تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك)) .

 {وينقلب} بعد الفراغ من الحساب {إلى أهله مسرورا} بما أوتي من الخير والكرامة والمراد بالأهل هنا ما أعد الله له من الحور العين وقيل أهله أزواجه وأولاده وعشائره وقد سبقوه إلى الجنة والسرور هو الاعتقاد والعلم بوصول نفع إليه أو دفع ضرر عنه في المستقبل وقال قوم هو معنى في القلب يلتذ لأجله بنيل المشتهى يقال سر بكذا من مال أو ولد أو بلوغ أمل فهو مسرور {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} لأن يمينه مغلولة إلى عنقه وتكون يده اليسرى خلف ظهره عن الكلبي وقيل تخلع يده اليسرى خلف ظهره عن مقاتل والوجه في ذلك أن تكون إعطاء الكتاب باليمين أمارة للملائكة والمؤمنين لكون صاحبه من أهل الجنة ولطفا للخلق في الأخبارية وكناية عن قبول أعماله وإعطاؤه على الوجه الآخر أمارة لهم على أن صاحبه من أهل النار وعلامة المناقشة في الحساب وسوء المآب .

 ثم حكى سبحانه ما يحل به فقال {فسوف يدعو ثبورا} أي هلاكا إذا قرأ كتابه وهو أن يقول واثبوراه واهلاكاه {ويصلى سعيرا} أي يدخل النار ويعذب بها عن الجبائي وقيل يصير صلاء النار المسعرة وقيل يلزم النار معذبا على وجه التأبيد {إنه كان في أهله مسرورا} في الدنيا ناعما لا يهمه أمر الآخرة ولا يتحمل مشقة العبادة فأبدله الله بسروره غما باقيا لا ينقطع وكان المؤمن مهتما بأمر الآخرة فأبدله الله بهمه سرورا لا يزول ولا يبيد وقيل كان مسرورا بمعاصي الله تعالى لا يندم عليها عن الجبائي وقيل إن من عصى وسر بمعصية الله فقد ظن أنه لا يرجع إلى البعث ولوكان موقنا بالبعث والجزاء لكان بعيدا عن السرور بالمعاصي {إنه ظن أن لن يحور} أي ظن في دار التكليف أنه لم يرجع إلى حال الحياة في الآخرة للجزاء فارتكب المأثم وانتهك المحارم وقال مقاتل حسب أن لا يرجع إلى الله فقال سبحانه {بلى} ليحورن وليبعثن وليس الأمر على ما ظنه {إن ربه كان به بصيرا} من يوم خلقه إلى أن يبعثه قال الزجاج كان به بصيرا قبل أن يخلقه عالما بأن مرجعه إليه .

 ثم أقسم سبحانه فقال {فلا أقسم} سبق بيانه في سورة القيامة {بالشفق} أي بالحمرة التي تبقى عند المغرب في الأفق وقيل البياض {والليل وما وسق} أي وما جمع وضم مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى ماواه عن عكرمة وغيره وقيل وما ساق لأن ظلمة الليل تسوق كل شيء إلى مسكنه عن الضحاك ومقاتل وقيل {وما وسق} أي طرد من الكواكب فإنها تظهر بالليل وتخفى بالنهار وأضاف ذلك إلى الليل لأن ظهورها فيه مطرد عن أبي مسلم {والقمر إذا اتسق} أي إذا استوى واجتمع وتكامل وتم قال الفراء اتساقه امتلاءه واجتماعه واستواؤه لثلاث عشرة إلى ست عشرة {لتركبن طبقا عن طبق} هذا جواب القسم أي لتركبن يا محمد سماء بعد سماء تصعد فيها عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والشعبي والكلبي ويجوز أن يريد درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في المقربة من الله ورفعة المنزلة عنده وروى مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأ لتركبن بفتح الباء {طبقا عن طبق} قال يعني نبيكم حالا بعد حال رواه البخاري في الصحيح ومن قرأ بالضم فالخطاب للناس أي لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر يعني في الآخرة والمراد أن الأحوال تتقلب بهم فيصيرون على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا وعن بمعنى بعد كما قال سبحانه {عما قليل ليصبحن نادمين} أي بعد قليل .

وقال الشاعر :

قربا مربط النعامة مني *** لقحت حرب وائل عن حيال (2)

 أي بعد حيال وقيل معناه شدة بعد شدة حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء وروي ذلك مرفوعا وقيل أمرا بعد أمر ورخاء بعد شدة وشدة بعد رخاء وفقرا بعد غنى وغنى بعد فقر وصحة بعد سقم وسقما بعد صحة عن عطا وقيل حالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم خلقا آخر ثم جنينا ثم وليدا ثم رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم ناشئا ثم مترعرعا ثم حزورا ثم مراهقا ثم محتلما ثم بالغا ثم أمرد ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطرا ثم مطرخما ثم مختطا ثم صملا ثم ملتحيا ثم مستويا ثم مصعدا ثم مجتمعا والشاب يجمع ذلك كله ثم ملهوزا ثم كهلا ثم أشمط ثم شيخا ثم أشيب ثم حوقلا ثم صفتانا ثم هما (3) ثم هرما ثم ميتا فيشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يموت على سبعة وثلاثين اسما وقيل معناه لتحدثن أمرا لم تكونوا عليه في كل عشرين سنة عن مكحول وقيل معناه لتركبن منزلة عن منزلة وطبقة عن طبقة وذلك أن من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه ومن كان إلى فساد دعاه إلى فساد فوقه لأن كل شيء يجر إلى شكله وقيل لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين وأحوالهم عن أبي عبيدة وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) والمعنى أنه يكون فيكم ما كان فيهم ويجري عليكم ما جرى عليهم حذو القذة بالقذة (4) .

 ثم قال سبحانه على وجه التقريع لهم والتبكيت {فما لهم} يعني كفار قريش {لا يؤمنون} بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن والمعنى أي شيء لهم إذا لم يؤمنوا وهو استفهام إنكار أي لا شيء لهم من النعيم والكرامة إذا لم يؤمنوا وقيل معناه فما وجه الارتياب الذي يصرفهم عن الإيمان وهو تعجب منهم في تركهم الإيمان والمراد أي مانع لهم وأي عذر لهم في ترك الإيمان مع وضوح الدلائل {وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} عطف على قوله {فما لهم لا يؤمنون} أي ما الذي يصرفهم عن الإيمان وعن السجود لله تعالى إذا تلي عليهم القرآن وقيل معنى لا يسجدون لا يصلون لله تعالى عن عطا والكلبي وفي خبر مرفوع عن أبي هريرة قال قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا السماء انشقت فسجد .

 ثم قال سبحانه {بل الذين كفروا يكذبون} أي لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنهم قلدوا أسلافهم ورؤساءهم في التكذيب بالرسول والقرآن {والله أعلم بما يوعون} أي يجمعون في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب والشرك عن ابن عباس وقتادة ومقاتل وقيل بما يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة عن ابن زيد قال الفراء أصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء والقلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ثم قال {فبشرهم} يا محمد {بعذاب أليم} أي اجعل ذلك لهم بدل البشارة للمؤمنين بالرحمة .

 ثم استثنى سبحانه المؤمنين من جملة المخاطبين فقال {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} أي غير منقوص ولا مقطوع لأن نعيم الآخرة غير منقطع عن ابن عباس وقيل غير منقص ولا مكدر بالمن عن الجبائي وروي ذلك عن الحسن وقيل له من ولا منة وإنما قيل له من وله منة لأنه يقطع عن شكر النعمة وأصل المن القطع يقال مننت الحبل إذا قطعته قال لبيد :

لمعفر قهد تنازع شلوه *** غبس كواسب ما يمن طعامها (5)

وقيل ليس لأحد عليها منة فيما يكسب وفي قوله سبحانه {فما لهم لا يؤمنون} و{لا يسجدون} دلالة على أن الإيمان والسجود فعلهم لأن الحكيم لا يقول ما لك لا تؤمن ولا تسجد لمن يعلم أنه لا يقدر على الإيمان والسجود ولو وجد ذلك لم يكن من فعله ويدل قوله {لا يسجدون} على أن الكفار مخاطبون بالعبادات .

_____________________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص304-309 .

2- المربط : اسم مكان من الربط . والنعامة : اسم فرسه : والحيال : ان لا تحمل الناقة ، او الفرس . يعني ان الحرب لقمت بعد ان كانت لا تحمل . ولهذا البيت قصة ذكرها المبرد في (الكامل ج2 : 231 ط مصر) فراجع ان شئت .

3- الحزور : الغلام اذا اشتد وقوي . والباقل : الذي خرج شعره . والمطرخم : الشاب التام الحسن . واختط الغلام : نبت عذاره . الصمل : الشديد الخلق . والملهوز : الرجل خالطه الشيب . والحوقل : الشيخ المسن . والصفتان : القوي الجافي . والمهم : الشيخ الفاني .

4- القذة : ريش السهم ، يضرب مثلا للشيئين يستويان ، ولا يتفاوتان .

5- البيت من المعلقة ، والمعفر : الملقى على التراب والقهد : الابيض . والشلو : العضو . والغبسة : لون كلون الرماد والكسب : الصيد . والمعنى : ان البقرة الوحشية تجد في الطلب لفقدها ولدا القي على الارض وافتراسه ذئاب صوائد قد اعتادت الصياد .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

هذه السورة كسورتي التكوير والانفطار ، تبين أهوال القيامة ، وانقسام الناس في يوم الدين إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} .

تنشق وتنفطر حين يريد اللَّه خراب العالم الذي نحن فيه {وأَذِنَتْ لِرَبِّها} . ومعنى أذن في اللغة استمع ، يقال : حدثته فأذن لي أي استمع لي ، وعليه يكون المعنى ان السماء استجابت وأذعنت لأمر اللَّه ، وبكلمة ان اللَّه على كل شيء قدير {وحُقَّتْ} أي وحق لها ان تمتثل وتنقاد لأمره تعالى لأنها مخلوقة له وفي قبضته {وإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} . إذا قامت القيامة فقدت الأرض تماسكها وزال ما فيها من جبال وغيرها ، وعندئذ تصبح الأرض ملساء {وأَلْقَتْ ما فِيها} أي ما في جوفها من الأموات وغيرهم {وتَخَلَّتْ} . أصبح باطنها خاليا مما كان فيه {وأَذِنَتْ لِرَبِّها وحُقَّتْ} تماما كالسماء . . انه تعالى يتصرف في الكون بأرضه وسمائه خلقا وبقاء وفناء .

{يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} . المراد بالكدح هنا عمل الإنسان لنفسه من خير وشر ، والمعنى ان الإنسان غير مخلد في الحياة الدنيا ، وهو مجدّ في السير إلى ربه ، وملاقيه بأعماله لا محالة ، وليس بينه وبين لقاء اللَّه إلا الموت ، وما دام العمر في إدبار ، والموت في إقبال فما أسرع الملتقى . .

فلينظر ناظر ما ذا أعد للقاء اللَّه وحسابه ؟ {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ويَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} . كل من آمن وعمل صالحا يؤتى غدا كتابه بيمينه ، والمراد بأهله هنا المؤمنون الصالحون من أمثاله حيث يجتمعون في الجنة على سرر متقابلين ، أما الحساب اليسير فهو الخفيف الهيّن الذي لا حرج فيه ولا مشقة ، وفي الحديث : من حاسب نفسه في الدنيا هان الحساب عليه في الآخرة .

{وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ويَصْلى سَعِيراً} .

المراد بمن أوتي كتابه وراء ظهره المجرم الآثم ، والثبور الهلاك ، والسعير النار .

وتقدم مثله في الآية 14 من سورة الفرقان .

وتسأل : قال تعالى هنا : ان المجرم يعطى كتابه من وراء ظهره ، وقال في الآية 25 من سورة الحاقة : {وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ} فما هو وجه الجمع بين الآيتين ؟ .

وأجاب كثير من المفسرين بأن يمين المجرم تغل إلى عنقه يوم القيامة ، أما شماله فتجعل وراء ظهره ، فيأخذ بها كتابه . وقال الشيخ محمد عبده : إتيان الكتاب باليمين أو اليسار أو وراء الظهر هو تمثيل وتصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم . . فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر ، وهو التناول باليمين ، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر ، وتمنى لولم تكشف له ، وهذا هو التناول باليسار ، أو وراء الظهر ، إذن لا داعي إلى الجمع بين الآيتين باختراع معنى لا يليق بكتاب اللَّه كما جرى عليه كثير من المفسرين .

{إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} . كان في الدنيا ، وهوبين أهله ، يلهو ويلعب ، ولا يفكر في حساب وجزاء {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي لن يرجع بعد الموت إلى ربه ، ولا أحد يسأله عن ذنبه {بَلى} . هو راجع ومسؤول ما في ذلك ريب {إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً} لا يخفى عليه شيء من أقواله وأفعاله ، فيحاسبه عليها ان خيرا فخير ، وان شرا فشر .

 

{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق : 16 - 25]

 

{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} . سبق الكلام عن {فَلا أُقْسِمُ} أكثر من مرة . انظر تفسير الآية 75 من سورة الواقعة والآية 15 من سورة التكوير . . والشفق الحمرة الباقية في الأفق من آثار غروب الشمس ، وقد يكون الغرض من القسم هو التنبيه إلى هذا الوقت لأنه مرحلة الانتقال من النهار وأتعابه إلى الليل وراحته .

{واللَّيْلِ وما وَسَقَ} أي ضم وجمع ما تفرق وانتشر في النهار ، فأفراد الأسرة يجمعهم الليل بعد ان فرقهم عمل النهار ، وكذا الجيران والأصحاب يجتمعون في الليل للسمر ، قال الشيخ محمد عبده : لا يخفى عليك ان ما انتشر بالنهار يجتمع بالليل حتى ان جناحيك اللذين تمدهما إلى العمل في النهار تضمهما إلى جنبيك في الليل . . والليل يضم الأمهات إلى أفراخها ، ويرد السائمات إلى مناخها {والْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} . تم وتكامل نوره ليلة 13 و14 و15 ، وتسمى هذه الليالي بالليالي البيض .

{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} . هذا جواب القسم ، وقرئ بفتح الباء خطابا للإنسان ، وبضمها خطابا للناس ، والمعنى لا بد أن يمر الإنسان بالعديد من الأطوار ، فمن النطفة إلى الجنين ، ومنه إلى الطفولة ، إلى الشباب ، ثم الكهولة ، إلى الهرم وأرذل العمر . . وأيضا يلاقي في حياته ألوانا من الصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والحزن والفرح . . وكذلك الجماعات تتقدم وتتأخر . . وهكذا تتصرف الدنيا بأهلها حالا بعد حال حتى يقفوا جميعا بين يدي اللَّه للحساب والجزاء .

{فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} مع ان الأسباب الموجبة للايمان لا يبلغها الإحصاء في الآفاق وفي أنفسهم {وإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} لا يعترفون به ولا يسلمون ، وقال الشيخ محمد عبده : لا تظن ان قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم ، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم . . بلى قد بلغ واقنع فيما بلغ ، ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الايمان ، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل ، وانما هو تقصير المستدل وإعراضه عن الهدى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} بالحق مكابرة منهم وعنادا {واللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ} أي بما يضمرون في صدورهم من الأهداف والأغراض ، وما هي إلا الحرص على مناصبهم ومكاسبهم {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} جزاء بما كانوا يعملون {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} . الاستثناء هنا منقطع أي ولكن الذين آمنوا الخ ، وغير ممنون أي غير مقطوع ولا منقوص ولا يمن به عليهم . وتقدم بالحرف في الآية 8 من سورة فصلت ج 6 ص 476 .

_______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص540-543 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

تشير السورة إلى قيام الساعة ، وتذكر أن للإنسان سيرا إلى ربه حتى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه وتؤكد القول في ذلك والغلبة فيها للإنذار على التبشير ، وسياق آياتها سياق مكي .

قوله تعالى : {إذا السماء انشقت} شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله : {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} والتقدير : لاقى الإنسان ربه فحاسبه وجازاه على ما عمل .

وانشقاق السماء وهو تصدعه وانفراجه من أشراط الساعة كمد الأرض وسائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس واجتماع الشمس والقمر وانتثار الكواكب ونحوها .

قوله تعالى : {وأذنت لربها وحقت} الإذن الاستماع ومنه الأذن لجارحة السمع وهو مجاز عن الانقياد والطاعة ، و{حقت} أي جعلت حقيقة وجديرة بأن تسمع ، والمعنى وأطاعت وانقادت لربها وكانت حقيقة وجديرة بأن تستمع وتطيع .

قوله تعالى : {وإذا الأرض مدت} الظاهر أن المراد به اتساع الأرض ، وقد قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم : 48] .

قوله تعالى : {وألقت ما فيها وتخلت} أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى وبالغت في الخلو مما فيها منهم .

وقيل : المراد إلقائها الموتى والكنوز كما قال تعالى : {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة : 2] وقيل : المعنى ألقت ما في بطنها وتخلت مما على ظهرها من الجبال والبحار ، ولعل أول الوجوه أقربها .

قوله تعالى : {وأذنت لربها وحقت} ضمائر التأنيث للأرض كما أنها في نظيرتها المتقدمة للسماء ، وقد تقدم معنى الآية .

قوله تعالى : {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} قال الراغب ، : الكدح السعي والعناء ، انتهى .

ففيه معنى السير ، وقيل : الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها انتهى .

وعلى هذا فهو مضمن معنى السير بدليل تعديه بإلى ففي الكدح معنى السير على أي حال .

وقوله : {فملاقيه} عطف على {كادح} وقد بين به أن غاية هذا السير والسعي والعناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية أي إن الإنسان بما أنه عبد مربوب ومملوك مدبر ساع إلى الله سبحانه بما أنه ربه ومالكه المدبر لأمره فإن العبد لا يملك لنفسه إرادة ولا عملا فعليه أن يريد ولا يعمل إلا ما أراده ربه ومولاه وأمره به فهو مسئول عن إرادته وعمله .

ومن هنا يظهر أولا أن قوله : {إنك كادح إلى ربك} يتضمن حجة على المعاد لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع عبودية ولا تتم العبودية إلا مع مسئولية ولا تتم مسئولية إلا برجوع وحساب على الأعمال ولا يتم حساب إلا بجزاء .

وثانيا : أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب .

وثالثا : أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنه إنسان فالمراد به الجنس وذلك أن الربوبية عامة لكل إنسان .

قوله تعالى : {فأما من أوتي كتابه بيمينه} تفصيل مترتب على ما يلوح إليه قوله : {إنك كادح إلى ربك} أن هناك رجوعا وسؤالا عن الأعمال وحسابا ، والمراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب ، وقد تقدم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء والحاقة .

قوله تعالى : {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} الحساب اليسير ما سوهل فيه وخلا عن المناقشة .

قوله تعالى : {وينقلب إلى أهله مسرورا} المراد بالأهل من أعده الله له في الجنة من الحور والغلمان وغيرهم وهذا هو الذي يفيده السياق ، وقيل : المراد به عشيرته المؤمنون ممن يدخل الجنة ، وقيل المراد فريق المؤمنين وإن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة ، والوجهان لا يخلوان من بعد .

قوله تعالى : {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} الظرف منصوب بنزع الخافض والتقدير من وراء ظهره ، ولعلهم إنما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لرد وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء : 47] .

ولا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم وبين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى : {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه{ : الحاقة : 25 وسيأتي في البحث الروائي التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم .

قوله تعالى : {فسوف يدعوا ثبورا} الثبور كالويل الهلاك ودعاؤهم الثبور قولهم : واثبوراه .

قوله تعالى : {ويصلى سعيرا} أي يدخل نارا مؤججة لا يوصف عذابها ، أو يقاسي حرها .

قوله تعالى : {إنه كان في أهله مسرورا} يسره ما يناله من متاع الدنيا وتنجذب نفسه إلى زينتها وينسيه ذلك أمر الآخرة وقد ذم تعالى فرح الإنسان بما يناله من خير الدنيا وسماه فرحا بغير حق قال تعالى بعد ذكر النار وعذابها : {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون{ : المؤمن : 75 .

قوله تعالى : {إنه ظن أن لن يحور} أي لن يرجع والمراد الرجوع إلى ربه للحساب والجزاء ، ولا سبب يوجبه عليهم إلا التوغل في الذنوب والآثام الصارفة عن الآخرة الداعية إلى استبعاد البعث .

قوله تعالى : {بلى إن ربه كان به بصيرا} رد لظنه أي ليس الأمر كما ظنه بل يحور ويرجع ، وقوله : {إن ربه كان به بصيرا} تعليل للرد المذكور فإن الله سبحانه كان ربه المالك له المدبر لأمره وكان يحيط به علما ويرى ما كان من أعماله وقد كلفه بما كلف ولأعماله جزاء خيرا أوشرا فلا بد أن يرجع إليه ويجزي بما يستحقه بعمله .

وبذلك يظهر أن قوله : {إن ربه كان به بصيرا} من إعطاء الحجة على وجوب المعاد نظير ما تقدم في قوله : {إنك كادح إلى ربك} الآية .

ويظهر أيضا من مجموع هذه الآيات التسع أن إيتاء الكتب ونشر الصحف قبل الحساب كما يدل عليه أيضا قوله تعالى : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء : 13 ، 14] .

ثم الآيات كما ترى تخص إيتاء الكتاب من وراء الظهر بالكفار فيقع الكلام في عصاة المؤمنين من أصحاب الكبائر ممن يدخل النار فيمكث فيها برهة ثم يخرج منها بالشفاعة على ما في الأخبار من طرق الفريقين فهؤلاء لا يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم لاختصاص ذلك بالكفار ولا بيمينهم لظهور الآيات في أن أصحاب اليمين يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة ، ولا سبيل إلى القول بأنهم لا يؤتون كتابا لمكان قوله تعالى : {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} الآية المفيد للعموم .

وقد تخلص بعضهم عن الإشكال بأنهم يؤتون كتابهم باليمين بعد الخروج من النار .

وفيه أن ظاهر الآيات إن لم يكن صريحها أن دخول النار أو الجنة فرع مترتب على القضاء المترتب على الحساب المترتب على إيتاء الكتب ونشر الصحف فلا معنى لإيتاء الكتاب بعد الخروج من النار .

واحتمل بعضهم أن يؤتوا كتابهم بشمالهم ويكون الإيتاء من وراء الظهر مخصوصا بالكفار كما تفيده الآيات .

وفيه أن الآيات التي تذكر إيتاء الكتاب بالشمال - وهي التي في سورة الواقعة والحاقة وفي معناها ما في سورة الإسراء أيضا - تخص إيتاء الكتاب بالشمال بالكفار ويظهر من مجموع الآيات أن الذين يؤتون كتابهم بشمالهم هم الذين يؤتونه من وراء ظهورهم .

وقال بعضهم من الممكن أن يؤتوا كتابهم من وراء ظهورهم ويكون قوله : {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} من قبيل وصف الكل بصفة بعض أجزائه .

وفيه أن المقام لا يساعد على هذا التجوز فإن المقام مقام تمييز السعداء من الأشقياء وتشخيص كل بجزائه الخاص به فلا مجوز لإدغام جمع من أهل العذاب في أهل الجنة .

على أن قوله : {فسوف يحاسب} إلخ وعد جميل إلهي ولا معنى لشموله لغير مستحقيه ولو بظاهر من القول .

نعم يمكن أن يقال : إن اليسر والعسر معنيان إضافيان وحساب العصاة من أهل الإيمان يسير بالإضافة إلى حساب الكفار المخلدين في النار ولوكان عسيرا بالإضافة إلى حساب المتقين .

ويمكن أيضا أن يقال إن قسمة أهل الجمع إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال غير حاصرة كما يدل عليه قوله تعالى : {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة : 7 - 11] فمدلول الآيات خروج المقربين من الفريقين ، ومثلهم المستضعفون كما ربما يستفاد من قوله تعالى : {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 106] .

فمن الجائز أن لا يكون تقسيم أهل الجمع إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال تقسيما حاصرا لجميعهم بل تخصيصا لأهل الجنة من المتقين وأهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين وبالشمال لمكان الدعوة إلى الإيمان والتقوى ونظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثم بيان حال المتقين والمكذبين فحسب وليس ينحصر الناس في القبيلين ، ونظيره ما في سورة النبإ والنازعات وعبس والانفطار ، والمطففين وغيرها فالغرض فيها ذكر أنموذج من أهل الإيمان والطاعة وأهل الكفر والتكذيب والسكوت عمن سواهم ليتذكر أن السعادة في جانب التقوى والشقاء في جانب التمرد والطغوى .

قوله تعالى : {فلا أقسم بالشفق} الشفق الحمرة ثم الصفرة ثم البياض التي تحدث بالمغرب أول الليل .

قوله تعالى : {والليل وما وسق} أي ضم وجمع ما تفرق وانتشر في النهار من الإنسان والحيوان فإنها تتفرق وتنتشر بالطبع في النهار وترجع إلى مأواها في الليل فتسكن .

وفسر بعضهم {وسق} بمعنى طرد أي طرد الكواكب من الخفاء إلى الظهور .

قوله تعالى : {والقمر إذا اتسق} أي اجتمع وانضم بعض نوره إلى بعض فاكتمل نوره وتبدر .

قوله تعالى : {لتركبن طبقا عن طبق} جواب القسم والخطاب للناس والطبق هو الشيء أو الحال الذي يطابق آخر سواء كان أحدهما فوق الآخر أم لا والمراد به كيف كان المرحلة بعد المرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربه من الحياة الدنيا ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحياة الآخرة ثم الحساب والجزاء .

وفي هذا الإقسام - كما ترى - تأكيد لما في قوله : {يا أيها الإنسان إنك كادح} الآية وما بعده من نبإ البعث وتوطئة وتمهيد لما في قوله : {فما لهم لا يؤمنون} من التعجيب والتوبيخ وما في قوله : {فبشرهم بعذاب} إلخ من الإنذار والتبشير .

وفي الآية إشارة إلى أن المراحل التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه مترتبة متطابقة .

قوله تعالى : {فما لهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} الاستفهام للتعجيب والتوبيخ ولذا ناسب الالتفات الذي فيه من الخطاب إلى الغيبة كأنه لما رأى أنهم لا يتذكرون بتذكيره ولا يتعظون بعظته أعرض عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخاطبه بقوله : {فما لهم لا يؤمنون} إلخ .

قوله تعالى : {بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون} {يكذبون} يفيد الاستمرار ، والتعبير عنهم بالذين كفروا للدلالة على علة التكذيب ، والإيعاء كما قيل جعل الشيء في وعاء .

والمعنى : أنهم لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنهم اتبعوا أسلافهم ورؤساءهم فرسخوا في الكفر واستمروا على التكذيب والله يعلم بما جمعوا في صدورهم وأضمروا في قلوبهم من الكفر والشرك .

وقيل : المراد بقوله : {والله أعلم بما يوعون} أن لهم وراء التكذيب مضمرات في قلوبهم لا يحيط بها العبارة ولا يعلمها إلا الله ، وهو بعيد من السياق .

قوله تعالى : {فبشرهم بعذاب أليم} التعبير عن الإخبار بالعذاب بالتبشير مبني على التهكم ، والجملة متفرعة على التكذيب .

قوله تعالى : {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} استثناء منقطع من ضمير {فبشرهم} والمراد بكون أجرهم غير ممنون خلوه من قول يثقل على المأجور .

____________________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص216-221 .

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

نحو الكمال المطلق :

تبدأ السّورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول : {إذا السماء انشقت} (2) (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها) ، كإشارة الآيتين (1 و2) من سورة الإنفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه : {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار : 1 ، 2] .

وتحكي الآية التالية حال السماء : {وأذنت لربّها وحقّت} .

فلا يتوهم أن السماء بتلك العظمة بامكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر اللّه . . بل ستستجيب لأمر اللّه خاضعة طائعة ، لأنّ إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة ، ولا يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جلّ وعلا .

«أذِنَتْ» : من (الاذن) على وزن (اُفق) ، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه ، وفي الآية : كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له .

«حُقّت» : من (الحق) ، أي : وحق لها أن تنقاد لأمر ربّها .

وكيف لها لا تسلّم لأمره عزّوجلّ ، وكلّ وجودها وفي كلّ لحظة من فيض لطفه ، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت .

نعم ، فالسماء والأرض مطيعتان لأمر ربّهما منذ أوّل خلقهما حتى نهاية أجلهما ، كما تشير الآية (11) من سورة فصّلت عن قولهما في ذلك : {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11] .

وقيل : يراد بـ «حقّت» : إنّ الخوف من القيامة سيجعل السماء تنشق . . ولكنّ التّفسير الأول أنسب .

وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضاً : {وإذا الأرض مدَّت} .

فالجبال ـ كما تقول آيات قرآنية اُخرى ـ ستندك وتتلاشى ، وستستوي الأرض في كافة بقاعها ، لتلمّ جميع العباد في عرصتها ، كما أشارت الآيات (105 ـ 107) من سورة طه إلى ذلك : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه : 105 - 107] !

فمحكمة ذلك اليوم من العظمة بحيث تجمع في عرصتها جميع الخلق من الأولين والآخرين ، ولابدّ للأرض من هذا الانبساط الواسع .

وقيل في معنى الآية : إنّ اللّه عزّوجلّ سيمدّ الأرض يوم القيامة أكثر ممّا هي عليه الآن لتسع حشر الخلائق جميعاً (3) .

وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية : {وألقت ما فيها وتخلّت} .

والمعروف بين المفسّرين أنّ الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض ، مرتدين لباس الحياة من جديد .

وقد تناولت آيات اُخرى هذا الموضوع ، كالآية (2) من سورة الزلزال : {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة : 2] ، والآيتين (13 و14) من سورة النازعات : {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات : 13 ، 14] .

وقال بعض المفسّرين : إنّ المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضاً .

وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية ، يقول : إنّ المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج ، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض ، وستهدأ الأرض بعد أن يخلو باطنها من هذه المواد .

والجمع بين المعاني التي وردت في تفسير الآية ، ممكن .

و . . . : {وأذنت لربّها وحقّت} .

فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة اُمور ، فمن جهة : إنّ الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكلّ شيء آخر ، ومن جهة اُخرى : فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادّة في مسير عالم الخليقة ، ومقدّمة للدخول في مرحلة وجود جديدة ، ومن جهة ثالثة ، فكلّ ما سيجري سينبأ بعظمة قدرة الخالق المطلقة ، وخصوصاً في مسألة المعاد .

نعم ، فسيرضخ الإنسان ، بعد أن يرى باُمّ عينيه وقوع تلك الحوادث العظام ، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة .

وتبيّن الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له : {يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه} .

«الكدح» : ـ على وزن مدح ـ السعي والعناء الذي يخلق أثراً على الجسم والروح ، ويقال : ثور فيه كدوح ، أي آثار من شدّة السعي .

وجاء في (تفسير الكشّاف) و (روح المعاني) و (تفسير الفخر الرازي) : الكدح : جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده : إذا خدشه .

والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية ، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء ، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا ، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان اللّه ونيل حسن مآب الآخرة؟!

فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم ، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي .

وما ذكر «لقاء اللّه» في الآية إلاّ لتبيان أنّ حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود ، ولا يتوقف إلاّ بانتهاء عجلة حياة الدنيا ، ولا فرق في توجيه معنى «اللقاء» سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية اللّه المطلقة ، أو بمعنى لقاء جزاء اللّه من عقاب أو ثواب ، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني .

نعم ، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب ، والراحة الحقة . . هناك ، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد .

وكان نداء الآية مخاطباً عموم «الإنسان» ، ليشير إلينا بأن اللّه عزّوجلّ قد وضع القدرة والقوّة اللازمة لهذه الحركة الإلهية المستمرة في وجود وتكوين هذا المخلوق ، والذي جعل من أشرف المخلوقات قاطبة .

واستعمال كلمة «ربّ» فيه إشارة إلى ثمّة ارتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة اُخرى .

نعم ، فمشوار حركة الوجود قد بدأ من العدم ، والأقدام سائرة في خطوها صوب لقاء اللّه ، شاء ذلك الموجود أمّ أبى .

وقد تحدثت لنا آيات قرآنية اُخرى عن السير التكاملي المستمر للمخلوقات نحو خالقها سبحانه وتعالى ، ومنها .

الآية (42) من سورة النجم : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم : 42] .

والآية (18) من سورة فاطر : {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [فاطر : 18] . . بالإضافة إلى آيات مباركات اُخر .

وإلى ذلك المطاف ، ستنفصل البشرية إلى فريقين : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } [الانشقاق : 7 - 9] .

فالذين ساروا على هدي المخطط الربّاني لحركة الإنسان على الأرض ، وكان كلّ عملهم وسعيهم للّه دائماً ، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه ، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم ، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب ، وهو مدعاة للتفاخر والإعتزاز أمام أهل المحشر .

وحينما توضع أعمال هؤلاء في الميزان الإلهي الذي لا يفوته شيء مهما قلّ وصغر ، فإنّه سبحانه وتعالى : سييّسر حسابهم ، ويعفو عن سيئاتهم ، بل ويبدل لهم سيئاتهم حسنات .

أمّا ما المراد من «الحساب اليسير»؟ فذهب بعض إلى أنّه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المدافة في كتاب الأعمال .

وحتى جاء في الحديث الشريف : «ثلاث مَن كنّ فيه حاسبه اللّه حساباً يسيراً ، وأدخله الجنّة برحمته . قالوا : وما هي يا رسول اللّه ؟! قال : تعطي من حرمك ، وتصل مَن قطعك ، وتعفو عَمَّن ظلمك» (4) .

وجاء في بعض الرّوايات ، أنّ الدقّة والتشديد في الحساب يوم القيامة تتناسب ودرجة عقل وإدراك الإنسان .

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) ، أنّه قال : «إنّما يداق اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على ما آتاهم من العقول في الدنيا» (5) .

ووردت أقوال متفاوتة في تفسير كلمة «الأهل» الواردة في الآية (إلى أهله) .

فمنهم مَن قال : هم الزوجة والأولاد المؤمنين ، لأنّه سيلتحق بهم في الجنّة ، وهي بحدّ ذاتها نعمة كبيرة ، لأنّ الإنسان يأنس بلقاء مَن يحب ، فكيف وسيكون معهم أبداً في الجنّة!

ومنهم مَن قال : الأهل : الحور العين اللاتي ينتظرنّهم في الجنّة .

وآخرين قالوا : هم الاُخوة المؤمنين الذين كانوا معه في الدنيا .

ولا مانع من قبول كلّ هذه الأقوال في معنى الآية وما رمزت له .

 

وقوله تعالى : {وَأَمَّا مَن أُوتِىَ كِتَبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} .

 

الذين يستلمون كتابهم من وراء ظهرهم :

بعد أن عرضت الآيات السابقة أحوال فريق أصحاب اليمين ، تأتي الآيات أعلاه لتعرض لنا أحوال الفريق الآخر ، وتوصف لنا كيفية إعطاء كتاب كلّ منهم مشرعة لتقديم المشاهد الاُخرى : {وأمّا مَن اُوتي كتابه وراء ظهره} . .فيصرخ وينادي الويل لي لقد هلكت {فسوف يدعو ثبوراً} ، {ويصلى سعيراً} .

ذكرت الآية بأن المجرمين سيؤتون كتبهم من وراء ظهورهم ، في حين أنّ آيات اُخرى تقول بأنّ المذنبين سيعطى كتاب كلّ منهم بيده الشمال .

فهل من تأليف فيما بين العرضين ؟

للمفسّرين جملة آراء في ذلك ، منها : قيل : إنّ يدهم اليمنى تُغلّ إلى أعناقهم ، ويعطون الكتاب باليد اليسرى من وراء ظهورهم إيغالاً في إذلالهم وإخجالهم .

وقيل : إنّ كلتي يديهم تربط من خلفهم ـ كما يفعل بالأسير ـ ويعطون الكتاب باليد اليسرى من وراء الظهر .

وقيل أيضاً : ستكون وجوه المجرمين من الخلف ، بدلالة الآية (47) من سورة النساء : {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء : 47] ، فيعطون كتبهم من وراء ظهورهم وبيدهم اليسرى ، كي يقرؤوها بأنفسهم .

والأنسب أن نقول : سيأخذ أصحاب اليمين كتبهم بافتخار ومباهاة في يدهم اليمنى ، وكلّ منهم يقول : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة : 19] ، ولكن المجرمين سيأخذون كتبهم بأيديهم اليسرى وبسرعة ويضعونها وراء ظهورهم خجلاً وذلاً ، ولكي لا يطّلع على ما فيها أحد ، ولكن ، هيهات . . فكلّ شيء جينئذ بارز ، كيف لا وهو «يوم البروز» ! . . .

{يدعو ثبوراً} : يصرخ بالويل والثبور ، كما هو متعارف عليه عند نزول بلاء ، أو وقوع حادث شديد الخطورة  ، و«الثبور» : الهلاك .

ولكنّ صراخه سوف لا يدر عليه نفعاً أبداً أبداً ، ولابدّ من نيله جزاء ما اقترف : {ويصلى سعيراً} أي يدخل نار جهنم .

وتبيّن الآية التالية علّة تلك العاقبة المخزية : {إنّه كان في أهله مسروراً} .

سروراً ممتزجاً بالغرور ، وغروراً احتوشته الغفلة والجهل بربّ الأرباب سبحانه وتعالى ، فالسرور المقصود في الآية ، هو ذلك السرور المرتبط بشدّة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة .

وبديهي فالسرور والإرتياح ليس مذموم بذاته ، ولكنّ السرور المذموم هو الذي يغفل فيه الإنسان عن ذكر مولاه عزّوجلّ ، ويغرق به في بحر شهواته الموصل إلى التيه والضلالة والجهل . أمّا سرور المؤمن بلطف اللّه ونعمائه ، وبشاشته عند مصاحبة إخوانه ، فما احلاها وأزكاها .

ويتقرب لنا المعنى من خلال الآية التالية : {إنّه ظنّ أن لن يحور} .

فاعتقاده الفاسد وظنّه الباطل الدائر على نفي المعاد ، مصدر سروره وغروره وهوما سيوصله إلى الشقاء الأبدي ، لأنّه ابتعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى بعد أن أوقعته شهواته في هاوية الإستهزاء بدعوة الأنبياء (عليهم السلام) الربانية ، حتى أوصلته حالته المرضية تلك لأنّ يستمر في استهزاءه وسخريته حتى في حال عودته إلى أهله ، كما أشارت الآية (31) من سورة المطففين : {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } [المطففين : 31] ، وكما وردت الإشارة أيضاً على لسان علماء بني إسرائيل حينما خاطبوا قارون الثري المغرور الجاهل : {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص : 76]

«لن يحور» : لن يرجع ، من (الحور) ـ على زنة غور ـ بمعنى : الرجوع ، التردد ، الذهاب ، والإياب (سواء كان في العمل أو الفكر) ، و«حار الماء» في الغدير : تردد فيه ، ويقال «المحور» : للعود الذي تجري عليه البكرة وتدور حوله والمحاورة و (الحوار) : المراودة في الكلام ، و (تحير في الأمر) : تردد فيه بين أن يقدم أولا يقدم .

وقيل : أصل الكلمة (حبشي) .

وروي عن ابن عباس أنّه قال : (ما كنت أدري ما معنى «حور» حتى سمعت أعرابية تقول لإبنتها : «حوري» أي ارجعي) (6) .

وربّما كان استعمال كلمة «الحواري» في نعت أصحاب عيسى (عليه السلام) أو أي مقرّبين لأحد ، رُبّما كان لكثرة ترددهم عليه .

وقيل : حورت الشيء ، أيّ بيضته ، وسمّي أنصار عيسى (عليه السلام) الحواريين لتبييضهم قلوب النّاس بالمواعظ الهادية ، و«الحور العين» إشارة إلى بياضهنّ ، أو لشفّافية بياض عيونهنّ .

وقيل أيضاً : إنّ سبب تسميتهنّ بـ «الحور العين» يعود إلى تحير العين في جمالهنّ الخارق .

وعلى أيّة حال ، فيقصد من الكلمة في الآية المبحوثة ، الرجوع والمعاد ، لإيضاح أنّ عدم الإيمان بالمعاد يؤدي إلى الوقوع في اُتون الغفلة والغرور وارتكاب المعاصي .

ولنفي العقائد الضالة ، تقول الآية : {بلى إنّ ربّه كان به بصيراً} .

فكل أعمال الإنسان تسجل وتحصى عليه ، لتعرض يوم الحساب في صحيفته .

والآية تشارك الآية السابقة : {يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه} في كونها دليلاً على المعاد أيضاً . فتأكيد الآيتين على كلمة «ربّ» يدل على أن الإنسان في سيرة التكاملي صوب ربّه لا ينتهي بالموت ، وأنّ الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون هدفاً وغاية لهذا الخلق العظيم وهذا المسار التكاملي . . .

وكذلك كون اللّه «بصيراً» بأعمال الإنسان وتسجيلها لابدّ من اعتباره مقدمةً للحساب والجزاء وإلاّ لكان عبثاً ، وهذا ما لا يكون .

 

فوقوله تعالى : {لاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقَاً عَن طَبَق (19) فَمَا لَهُم لاَ يُؤمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيهِمُ القُرءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم (24) إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون}

 

سُنّة التغيّر !

لمزيد من إيضاح ما ورد في الآيات السابقة بخصوص سير الإنسان التكاملي نحو خالقه سبحانه وتعالى . . تأتي الآيات لتقول : {فلا اُقسم بالشفق} .

{والليل وما وسق} ، أي : وما جمع . 

{والقمر إذا اتسق} ، أي : إذا اكتمل .

{لتركبُنّ طبقاً عن طبق} .

«لا» في «لا اُقسم» : زائدة ، وجاءت للتأكيد .

وثمّة مَن اعتبرها (نافية) ، أي : لا اُقسم ، لأنّ الأمر من الوضوح ما لا يحتاج فيه إلى قسم ، أو أنّ القسم بهذا الموضوع لا يليق وأهميته ، أو أنّ ما اُقسم به من الأهمية بحيث يليق أنّ لا يقسم به .

إلاّ أنّ الأوّل (كونها زائدة جاءت للتأكيد) أقرب من البقية .

«الشفق» : اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس ، و (الإشفاق) : عنايه مختلطة بخوف ، لأنّ (المشفق) يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه (7) .

ويقول الفخر الرازي : تركيب لفظ «الشفق» في أصل اللغة لرقّة الشيء ، ومنه يقال : ثوب شفق ، كأنّه لا تماسك له لرقته ، و (الشفقة) : رقة القلب .

(والظاهر أنّ قول الراغب أقرب للصواب) .

وعلى أيّة حال ، فـ «الشفق» هو وقت الغروب ، وقد اُختلف في تعيين وقته ما بين الحمرة التي تظهر في الاُفق الغربي عند بداية الليل ، وبين ما يظهر بعد الحمرة من بياض ، والمشهور بين العلماء والمفسّرين هو التعيين الأوّل ، وهو المستعمل على لسان الاُدباء أيضاً حيث يشبهون دماء الشهداء بالشفق .

إلاّ أنّ البعض اختار التعيين الثّاني ، على ما يبدو عليه من ضعف ، وخصوصاً إذا ما اعتبرنا (الرّقة) هي الأصل اللغوي للكلمة ، حيث أنّها ستتناسب مع الحمرة الخفيفة الرقيقة دون الثّاني .

وعلى أية حال ، فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما في هذه الظاهرة السماوية الجميلة من معان ، فمنه تُعلن حالة التحول العام من النهار إلى الليل ، إضافة لما يتمتع به من بهاء وجمال ، وكونه وقت صلاة المغرب .

وأمّا القسم بالليل ، فلما فيه من آثار كثيرة وأسرار عظيمة (وقد تناولنا ذلك مفصلاً) (8) .

«ما وسق» (9) : إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى مساكنها عند حلول الليل (بلحاظ كون الوسق بمعنى جمع المتفرق) (10) ، فيكون عندها سكناً عاماً للكائنات الحيّة ، وهومن أسرار وآثار الليل المهمّة ، كما أشارت الآية (61) من سورة غافر إلى ذلك : {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر : 61] .

(إذا اتسق) : من (الإتساق) ، وهو الإجتماع والإطراد ، وتريد الآية به ، اكتمال نور القمر في الليلة الرابعة عشر من الشهر القمري ، حيث يكون بدراً .

ولا يخفى ما لروعة البدر في تمامه ، فنوره الهادئ الرقيق يكسو سطح الأرض ، وهومن الرقّة واللطافة بحيث لا يكسر ظلمة الليل وسكونه ، ولكنّه ينير درب سالكيه! فهو آية كبرى من آيات اللّه ، ولذا جاء القسم به .

وينبغي الإلتفات إلى الصلة الموجودة فيما أقسمت الآيات بهن : (الشفق ، الليل ، ما اجتمع فيه ، والقمر في حالة البدر) وجميعها موضوعات مترابطة ويكمل بعضها البعض الآخر ، وتشكل بمجموعها لوحة فنية طبيعية رائعة ، وتحرّك عند الانسان التأمل والتفكير في عظمة ودقّة وقدرة الخالق في خلقه ، ويمكن للإنسان العاقل بتأمل هذه التحولات السريعة من التوجه إلى قدرته جلّ شأنه على المعاد ما يحمل بين طياته من تغيّرات في عالم الوجود .

والأمر المثير هو أنّ القرآن الكريم يشير هنا إلى اُمور متتابعة الوقوع ، فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلناً عن بداية حلول الليل ، الذي تتجه الكائنات الحية فيه إلى بيوتها ، ثمّ يخرج القمر بدراً تامّاً (علماً بأنّ البدر في ليلة تمامه يخرج مع بداية الليل!) .

ثمّ يأتي جواب القسم الوارد في الآيات أعلاه : {لتركبنّ طبقاً عن طبق} ، إشارة إلى المراحل والتحولات التي يمرّ بها الإنسان في حياته .

وقد ذكرت تفاسير مختلفة لهذه الآية المباركة ، منها :

1 ـ يقصد بها تلك الحالات المختلفة التي يمرّ بها الإنسان في كدحه وسيره المضني نحو اللّه جلّ وعلا ، فيبدأ بحالة الدنيا ، ثمّ ينتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القيامة والآخرة (مع ملاحظة أنّ «طبق» من (المطابقة) ، وهي جعل الشيء فوق شيء آخر بقدرة ، وجاءت أيضاً بمعنى ، المنازل التي يطويها الإنسان في عملية صعوده) .

2 ـ يقصد بها تلك الحالات التي يمرّ بها الإنسان منذ كونه نطفةً حتى يموت ، (وقد عدّها البعض (37) حالة) .

3 ـ يقصد بها تلك الحالات التي يعيشها الإنسان في حياته من : سلامة ومرض ، سرور وغم ، اليسر والعسر ، السلم والحرب . . .الخ .

4 ـ يقصد بها تلك الحالات الصعبة التي ستواجه الإنسان يوم القيامة حتى يفرغ من حسابه ، ويتجه إلى مصيره (الجنّة أو النّار) .

5 ـ يقصد بها تلك الحالات التي مرّت بها الأقوام السالفة بحلاوتها ومرّها ، وكذلك الإشارة إلى ألوان التكذيب والإنكار الذي يقع في هذه الاُمّة ، وهذا المعنى قد ورد في حديث ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) .

ولا يمنع من اعتبار كلّ ما جاء في التفاسير أعلاه مصاديق لمعنى الآية .

وقيل : إنّ شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المخاطب في الآية ، والآية تشير إلى طبقات السماء التي طواهنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه .

ولكن ، بلحاظ وجود الضم على «الباء» في «لتركُبنّ» ، يتّضح لنا أنّ المخاطب جمع وليس فرد هذا من جهة ، ولو رجعنا إلى الآيات السابقة لرأينا النداء موجه إلى النّاس كافة من جهة اُخرى ، وعليه ، فهذا التّفسير بعيد عن مرام الآية .

وعلى آية حال ، فعدم استقرار الإنسان على حال ثابتة يدلل على فقر الإنسان واحتياجه ، لأنّ كلّ متغيّر حادث ، وكلّ حادث له محدث ، كما وإنّ عدم استقرار هذا العالم علامة على حركة الإنسان المستمرة نحو اللّه والمعاد ، وكما قالت الآية : (يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه) .

ومن كلّ ما سبق . . يخرج القرآن الكريم بنتيجة : {فما لهم لا يؤمنون} .

فمع وضوح أدلة الحق ، مثل أدلة : التوحيد ، معرفة اللّه ، المعاد ، بالإضافة إلى ما من الآفاق في آيات مثل : خلق . . . الليل والنهار ، الشمس والقمر ، النور والظلمة ، شروق الشمس وغروبها ، الشفق ، ظلمة الليل ، اكتمال القمر بدراً ، وكذلك الآيات التي في نفس الإنسان منذ أن يكون نطفة في رحم اُمّه ، وما يطويه من مراحل حتى يكتمل جنيناً ، مروراً بما يمرّ به من حالات في حياته الدنيا ، حتى يدركه الموت . . فمع وجود كل هذه الأدلة والآيات لِمَ لا يؤمنون؟! . .

وينتقل بنا العرض القرآني من كتاب (التكوين) إلى كتاب (التدوين) ، فيقول : {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق : 21] .

القرآن كالشمس يحمل دليل صدقه بنفسه ، وتتلألأ أنوار الإعجاز من بين جنباته ، ويشهد محتواه على أنّه من الوحي الإلهي وكل منصف يدرك جيداً لدى قراءته له أنّه فوق نتاجات عقول البشر ولا يمكن أن يصدر من انسان مهما كان عالماً ، فكيف بإنسان لم يتلق تعليماً قط وقد نشأ في بيئة جاهلية موبوءة بالخرافات! . . .

ويراد بـ «السجود» هنا : الخضوع والتسليم والطاعة (11) ، أمّا السجود المتبادر إلى الذهن بوضع الجبين على الأرض ، فهو أحد مصاديق مفهوم السجود ، ولعل هذا هوما ورد في الرّوايات من سجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قراءته لهذه الآية .

والسجود في هذه الآية مستحب عند فتاوى فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) ، فيما يوجب ذلك فقهاء المذاهب الاربع ، إلاّ (مالك) ، فإنّه يقول بالسجود عند الإنتهاء من تلاوة السّورة (12)  .

وتأتي الآية التالية لتقول : (بل الذين كفروا يكذّبون) .

والتعبير عن ممارسة تكذيب الكافرين في الآية بصيغة المضارع المستمر ، للإشارة إلى تكذيبهم المتعنت المستمر واصرارهم ولجاجتهم وليس تكذيبهم بسبب ضعف أدلة الحق ، بل من أجل روح التعصب الأعمى للأسلاف والدنيا والمصالح المادية والحاكمة على قلوبهم المريضة ، وأهوائهم الشيطانية .

وببيان جدّي وتهديد جدّي ، تقول الآية التالية : {واللّه أعلم بما يوعون} .

فاللّه تعالى أعلم بدافع ونيّة وهدف ذلك التكذيب ، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا يجزون إلاّ بما كسبت أيديهم .

«يوعون» : من (الوعاء) وهو الظرف ، كما هو مستقى من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : «إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها» .

ثمّ . . . : {فبشرهم بعذاب أليم} .

عادةً ما تستعمل «البشارة» للأخبار السارة ، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبيخ .

والحال ، إنّ البشارة الحقّة للمؤمنين خالصة بما ينتظرهم من نعيم ، وما للكاذبين إلاّ الغرق في بحر من الحسرة والندم ، وما هم إلاّ في عذاب جهنم يخلدون .

ويستثني المؤمنون من تلك البشرى المخزية : {إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} .

«ممنون» : من (المنّ) ، وهو القطع والنقصان ، (ومنه «المنون» بمعنى الموت) .

وإذا ما جمعنا كلّ هذه المعاني ، فستكون النعم الاُخروية على عكس الدنيوية الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنّة هذا وذاك ، حيث أنّها لا تنقطع ولا تنقص وليس فيها منّة .

أمّا الإستثناء الذي ورد في الآية السابقة ، ففيه بحث : هل أنّه «متصل» أو «منقطع» .

قال بعض المفسّرين : إنّه منقطع ، أي : إنّ القرآن الكريم انتقل بالآية من الحديث حول الكفار الذي عرض في الآيات السابقة ، إلى الحديث عن المؤمنين وما ينتظرهم من أجر وثواب .

والأقرب لسياق الآيات أن يكون الإستثناء متصلاً ، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على ذلك ، لأنّ الآية تقول : إنّ العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب مَن يؤمن منهم ويعمل صالحاً وعلاوة على ذلك ، سيكون له أجر غير ممنون .

__________________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص196-210 .

2 ـ «إذا» ، أداة شرط ، حُذف جزاؤها ، والتقدير : (إذا السماء انشقت . . . لاقى الإنسان ربّه فحاسبه وجازاه) .

3 ـ الفخر الرازي ، في تفسيره للآية المذكورة .

4 ـ مجمع البيان ، في تفسير الآية .

5 ـ تفسير نور الثقلين ، ج5 ، ص537 .

6 ـ مفردات الراغب ، وتفسير الفخر الرازي ، وغيرهما .

7ـ مفردات الراغب .

8 ـ راجع تفسير الآيات (71 ـ 73) من سورة القصص .

9 ـ «ما» : موصولة ، واحتمال كونها (مصدرية) ضعيف ، ضميرها محذوف ، والتقدير : (وما وسقه) .

10ـ وجاء «الوسق» ، أيضاً بمعنى حمل بعير ، أوستين صاعاً (وكل صاع يقرب من ثلاثة كيلوات) ، وهو مأخوذ من الإجتماع أيضاً .

11ـ ومن الشواهد على هذا المعنى ، بالاضافة إلى شهادة الآيات السابقة واللاحقة ، إنّ السجود بمعنى وضع الجبين على الأرض عند تلاوة القرآن إنّما يجب في مواضع محدودة جدّاً ويستحب في مواضع اُخرى ، وفي مواضع اُخرى لا هو بالواجب ولا بالمستحب ـ وحينما تقول الآية : {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق : 21] فقد اُطلقت القول ، والإطلاق والحال هذه يراد به التسليم للقرآن .

12ـ روح البيان ، ج1 ، ص1382 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .