أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-10-2017
2354
التاريخ: 4-10-2017
2356
التاريخ: 4-10-2017
2416
التاريخ: 4-10-2017
2415
|
قبل أن أبدأ بشرح بعض كلمات الخطبة أجلب إنتباه القارئ الذكي إلى بعض ما يرويه الراوي لهذه الخطبة ، وهو قوله :
فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها
يقال : خفرت الجارية : إذا استحت أشد الحياء ، فهي خفرة. ومن الطبيعي أن المرأة الخفرة يمنعها حياؤها من أن ترفع صوتها ، أو تخطب في مكان مزدحم ، فمن الواضح أنها إذا لم تمارس الخطابة لا تقوى على النطق والتكلم كما ينبغي ، ولكن راوي هذه الخطبة يقول : فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها أي : لم أر أقوى منها على التكلم ، وأقدر على الخطابة ، رغم كونها شديدة الحياء.
كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين ، وقد كان له أسلوب خاص ، ومستوى رفيع في كلامه وخطبه ، يمتاز عن كلام غيره ، وفي أعلى قمة الفصاحة والبلاغة ، وجودة التعبير ، وعلو المستوى الأدبي والعلمي.
فمن ناحية : كان يسترسل في كلام .. دون أي توقف أو شرود ذهني ، وكان ينطق بالحروف .. دون أي تلكؤ في التلفظ ، فقد كان في غاية التمكن من الكلام والخطابة.
ومن ناحية أخرى : كانت الكلمات الأدبية الرفيعة منقادة له بشكل عجيب ، فهي تنبع من لسانه نبعاً طبيعياً .. دون أي تكلف أو تحضير مسبق ، وكان لصوته نبرة معينة.
وراوي هذه الخطبة كان ممن رأى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسمع كلامه ، وها هو الآن .. يستمع إلى كلام السيدة زينب (عليها السلام) وبالمقارنة بين الكلامين يظهر له أن خطبة السيدة زينب صورة طبق الأصل لكلام أبيها ، من ناحية الأسلوب والبيان والمستوى وغير ذلك.
وقد أومات إلى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس .
في ذلك المجتمع المتدفق بالسيل البشري ، وفي ذلك الجو المملوء بالهتافات والأصوات المرتفعة من الناس ، وأصوات الأجراس المعلقة في أعناق الإبل.
في بلدة إنتشر في جميع طرقها الآلاف من الشرطة كي يخنقوا كل صوت يرتفع ضد السلطة ، ويراقبوا حركات الناس وسكناتهم بكل دقة ، ويقضوا على كل إنتفاضة متوقعة.
في هذه الظروف وصل موكب آل رسول الله إلى الكوفة ، محاطاً بالحرس ، عملاء بني أمية ، وشر طبقات البشر ، وأرجس جميع الأمم.
في تلك الأجواء والظروف أشارت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) إلى الناس أن اسكتوا. فتصرفت في الانسان والحيوان والجماد. إحتبست الانفاس في صدور الناس ، ووقفت الإبل وسكنت عن الحركة ، وسكنت الأجراس المعلقة فوق الإبل.
نعم ، بإشارة واحدة ، وبتلك الروح القوية ، والنفس المطمئنة استولت على الموقف.
فقالت : الحمد الله ، والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار ...
افتتحت كلامها بحمد الله ، ثم الصلاة على أبيها ، رسول الله (صلى الله عليه واله) وهذا منتهى البلاغة ، فإنها ـ بهذا الإفتتاح ـ عرّفت نفسها ـ لتلك الجماهير المتجمهرة ـ بأنها بنت رسول الله ، فالحفيدة تعتبر بنتاً ، كما إن الجد يعتبر أباً ، ولهذا قالت : الصلاة على أبي : محمد (صلى الله عليه واله) ، ومما يستفاد من هذا التعبير هو التأكيد على مسألة مهمة جداً وهي مسألة بنوّة أولاد السيدة فاطمة لرسول الله (صلى الله عليه واله) كما هو صرح آية المباهلة في قوله تعالى قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ...
وقد كان أئمة أهل البيت : يؤكدون على هذه النقطة ، كما أن أعداءهم النواصب كانوا يحاولون ـ دائماً ـ التشكيك والمناقشة فيها ، وقد ذكرنا كلمة موجزة حول هذه النقطة في كتابنا : فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد.
أما بعد ، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر
الختل : الغدر ، وقال البعض : هو الخدعة عن غفلة . وفي نسخة : والختر : وهو شبه الغدر ، لكنه أقبح أنواع الغدر .
لقد كانت لهذه الكلمات أشد الأثر في نفوس أهل الكوفة ، فإنها قد أوجدت فيهم اليقظة والوعي بصورة عجيبة ، حتى شعروا أن ضمائرهم بدأت تؤنبهم ، وان وجدانهم صار يوبخهم على جرائمهم الفجيعة وجناياتهم العظيمة.
فقد ذكرتهم كلمات السيدة زينب (عليها السلام) بماضيهم المخزي وتاريخهم الأسود ، حيث صدر منهم الغدر مرات عديدة ، فمنها :
1 ـ في يوم صفين عند تحكيم الحكمين ، غدر أهل الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي كان الحق يتجسد فيه بأكمل وجه ، وخذلوه بتلك الكيفية المؤلمة!
2 ـ وحينما قتل الإمام أمير المؤمنين تهافت أهل الكوفة على مبايعة إبنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
وعندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن ، خذله أهل الكوفة وقعدوا عن نصرته غدراً منهم ، فخلا الجو لمعاوية وفعل ما فعل ، وضرب الرقم القياسي في الجريمة واللؤم!
3 ـ وبعد موت معاوية أرسل أهل الكوفة إثني عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) أيام إقامته في مكة ، يطلبون منه التوجه إلى العراق لينقذهم من الإستعمار الأموي الغاشم وضمنوا رسائلهم الأيمان المغلظة ، والعهود المؤكدة .. لنصرة الإمام والدفاع عنه بأموالهم وأنفسهم.
فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل ، فبايعه الآلأاف من أهل الكوفة ، ثم تفرقوا عنه وغدروا به ، وفسحوا المجال للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد أن يلقي القبض على مسلم بن عقيل ويقتله ، واجتمع أطفال الكوفة وشدوا حبلاً برجل مسلم ، وجعلوا يسحبون جثمانه الطاهر في أسواق الكوفة .. بمرأى من الناس!!!
4 ـ وحينما لبى الإمام الحسين (عليه السلام) رسائل أهل الكوفة وجاء إلى العراق ، ووصل إلى أرض كربلاء ، ومعه عائلته والصفوة الطيبة من رجال أهل بيته ، خرج أهل الكوفة ، وقتلوا جميع من كان مع الإمام ، وأخيراً .. قتلوا الإمام الحسين عطشاناً وبتلك الكيفية المقرحة للقلوب ، ثم أحرقوا خيام الإمام ، وأسروا عائلته ونساءه وأطفاله ، وقطعوا الرؤوس من الأبدان ورفعوها على رؤوس الرماح ، وجاءوا بها من كربلاء إلى الكوفة هذا هو الملف الأسود ، المليء بالغدر والخيانة.
فحينما نظرت السيدة زينب (عليها السلام) إلى دموع أهل الكوفة ، وسمعت أصوات بكائهم لم تنخدع بهذه المظاهر الجوفاء ، بل وجهت خطابها إلى جميع الحاضرين هناك ، ولعلها كانت تقصد بكلامها الذين إشتركوا في جريمة فاجعة كربلاء .. بشكل أو بآخر ، ولم تقصد كل من كان حاضراً وسامعاً لخطابها:
أتبكون؟!
إعتبرت السيدة زينب (عليها السلام) بكاءهم ـ لدى المقايسة مع ما قاموا به من الجرائم ـ نوعاً من النفاق والتلون المشين ، فإن رجالهم الذين باشروا الجريمة ـ وهي مجزرة كربلاء الدامية ـ ونساءهم هن اللواتي قمن بتربية أولئك الرجال على الغدر ، وهاهم يبكون!!
يبكون وهم يشاهدون تلك الرؤوس المقدسة على رؤوس الرماح ، ويشاهدون حفيدات الرسالة وبنات الإمامة على النياق .. بتلك الحالة المقرحة للقلوب!
من الطبيعي أن يبكي كل من يشاهد هذه المشاهد ، ولكن ..
ما هي فائدة هذا البكاء؟!
ولماذا عدم القيام بتغيير أنفسهم؟!
لماذا عدم بناء نفوسهم ونفسياتهم؟!
لماذا عـدم الهجوم على مـن أصدر الأوامر وهـو الطاغية ابن زياد وحاشيته الفاسدة؟!
إن الحاكم الطاغي لا يستطيع الظلم والتعدي إلا مع وجود الأرضية المساعدة والأجواء الملائمة للظلم والطغيان. والناس ـ بنفاقهم وخذلانهم لآل الرسول الكريم ـ هم الذين مهدوا للظالمين القيام بتلك الفاجعة المروعة!
وهذا درس لكل مجتمع يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويريد أن يعيش في ظل حكومة عادلة.
فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة .
رقأت الدمعة : سكنت أو إنقطعت بعد جريانها وجفت. الرنة : الصوت الحزين عند البكاء.
لما رأت السيدة زينب (عليها السلام) ذلك البكاء الذي كله نفاق .. دعت عليهم ، ومن ذلك القلب الملتهب بالمصائب والأحزان ، دعت أن تمر عليهم ظروف وأحوال تجعل بكاءهم متواصلاً ودموعهم مستمرةً في الجريان ، لا تهدأ ولا تنقطع ، ولا تهدأ رنتهم ، أي : بكاءهم المصحوب بالنحيب والعويل ، بعد أن قاموا بتلك الأعمال الإجرامية.
وهنا .. نقطة مهمة يجب أن لا نغفل عنها ، وهي : رغم أن في أغلب المجتمعات يوجد الأخيار والأشرار ، والطيبون وغيرهم ، ومدينة الكوفة كانت كذلك إلا أن الطابع العام عليهم في ذلك اليوم كان هو التلون كل يوم بلون ، والغدر ، وقلة الإلتزام بالأسس الدينية.
من هنا .. فإذا جاءهم حاكم طاغ ، وعرف منهم هذه الطبائع والصفات المذمومة يسهل عليه التسلط عليهم واتخذاهم مساعدين وأعواناً له في تحقيق أهدافه الإجرامية الفاسدة.
وهم ـ أيضاً ـ يتسارعون إلى التجاوب والتعاطف معه ، غير مبالين بنتائج ذلك.
وعلاج هذا المجتمع هو التكلم معهم بكل صراحة ، وبالكلام اللاذع ، فالملف الأسود لأهل الكوفة كان يقتضي أن تواجههم السيدة زينب (عليها السلام) بهذه الشدة وبأعلى درجات التوبيخ والشجب والمؤاخذة إزاء ما اقترفوه من جرائم متتالية ، كل واحدة منها تهتز منها الجبال.
نعم .. لم يكن ينفع معهم ـ يومذاك ـ إلا هذا الأسلوب من الكلام اللاذع ، فلم تعد النصائح والمواعظ تؤثر فيهم!
والسيدة زينب ـ بملاحظة أنها إمرأة ، وأنها بنت الإمام أمير المؤمنين ـ كانت لها القدرة على التعنيف في الكلام مع الناس ، ولإمتلاكها القدرة العظيمة على البيان والخطابة ، فقد كانت مؤهلة للقيام بهذا الدور الكبير ، لإيقاظ بعض تلك الضمائر الميتة من سباتها العميق.
ولا نعلم ـ بالضبط ـ كيفية إلقائها للخطبة من ناحية درجة الحماس والحرارة ، ولكننا نعلم أنها ورثت الخطابة من جدها رسول الله إمام الفصاحة ، ومن والدها : إمام نهج البلاغة!!
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً .
شبهت السيدة زينب أهل الكوفة بالمرأة التي نقضت غزلها ، وهذا التشبه مستقى من القرآن الكريم ـ ويا له من مستوى رفيع في البلاغة والأدب الراقي ـ وإليك بعض التوضيح :
قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم .
وقد جاء في كتب تفسير القرآن الكريم أن امرأةً حمقاء من قريش ، تسمى بـ ريطة بنت عمرو بن كعب كانت تغزل ـ مع جواريها ـ الصوف والشعر ـ من الصباح إلى نصف النهار ـ وتصنع بذلك خيوطاً جاهزة للنسيج ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن طوال هذا الوقت ، ولا يزال دأبها ذلك.
من بعد قوة أي : كانت تنكث غزلها من بعد إحكام وإتقان وإستحكام وفتل للغزل ، في المرة الأولى وكأنها تريد أن تصنع من ذلك الغزل أقمشة. فبعد النكث والنقض كان يفقد الصوف معظم قوته.
انكاثاً جمع نكث ، وهو الصوف والشعر ، يبرم ـ ويعمل منه الخيوط ـ ثم ينكث : أي : ينقض ويفل ليغزل مرةً ثانية.
وقد شبه الله تعالى ناقض العهد بتلك المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة وإتقان.
تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم
أيمان ـ جمع يمين ـ : وهو القسم والحلف.
الدخل : المكر والخيانة.
أي : كانوا يحلفون بالوفاء بالعهد ، ويضمرون في أنفسهم الخيانة. وكان الناس يطمئنون إلى عهدهم ..
لكن أولئك كانوا ينقضون العهد.
وبعد هذا التمهيد .. نقول : لقد شبهت السيدة زينب (عليها السلام) أهل الكوفة بتلك المرأة الحمقاء ، من ناحية عدم الوفاء بعهودهم ونقضهم لها. بسبب صفة الغدر المتجذرة في نفسياتهم اللئيمة ، البعيدة عن الإنسانية ، وعن التفكير في نتائج الأمور ومضاعفاتها.
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف
الصلف : صلف الرجل : تمدح بما ليس عنده ، إعجاباً بنفسه وتكبراً .
ويقال : أصلفت الرجل إذا أبغضته ومقته ، ويعبر عن البخيل ـ أيضاً ـ بهذه الكلمة.
هذا ما ذكره علماء اللغة ، ولكن الذي يتبادر إلى الذهن ـ من كلمة الصلف ـ : هو الوقح ، ولا مانع من تفسير الكلمة بهذا المعنى .. فبكاؤهم بعد ارتكابهم تلك الجرائم يدل على شدة وقاحتهم وقلة حيائهم.
النطف : المتلطخ بالعيب.
والصدر الشنف
الشنف : شدة البغض .
والشنف : المبغض.
والمعنى : الصدر الذي يحتوي على شدة البغض والعداء لأهل البيت :.
وملق الإماء
الملق ـ بفتح اللام ـ الود واللُطف ، وأن تعطي باللسان ما ليس في القلب والفعل .
والمعنى : أنكم مجتمع للصفات الرذيلة ، ففيكم حالة التملق والتذلل لمن لا يستحق ذلك من الحكام الخونة أمثال : يزيد وابن زياد اللئيمين ، وحاشيتهما القذرة ، فكما أن الإماء ـ جمع أمة ـ : وهي العبدة. يتملقن إلى المالك لجلب مودته ، ويعطينه باللسان من الود والمشاعر ما ليس في قلوبهن ، بل يفكرن في مصالحهن حتى لو استوجب ذلك لهن التذلل والتملق والخضوع لمن ليس أهلاً لذلك ، أنتم ـ يا أهل الكوفة! كذلك تتملقون إلى حكامكم .. من منطلق المصالح ، لا الإخلاص والوفاء!
وغمز الأعداء
الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب ولعل السيدة زينب (عليها السلام) تقصد من هذه الكلمة : أنكم يا أهل الكوفة انتم غمز الأعداء ، أي : إن الأعداء ( وهم : ابن زياد وحاشيته ) ينظرون إليكم من جانب عيونهم غمزاً .. ويتعاملون معكم بمنتهى التحقير والإذلال ، فلا كرامة لكم عندهم ، بل يريدونكم عبيداً وخدماً وجسوراً للوصول إلى أهدافهم .. من دون أن يكنوا إليكم أية محبة أو تقدير أو إحترام. فيعتبر هذا الكلام ـ من السيدة زينب ـ تنبيهاً لأهل الكوفة على مدى فقدان عزة النفس لديهم ، حيث جعلوا أنفسهم أدوات طيعة وذليلة بيد أفراد لؤماء ، وهم ناسين للكرامة التي أرادها الله تعالى للبشر.
إننا نرى ـ في زماننا هذا ـ أن الموظفين المتكبرين لا يرفعون رؤوسهم ليستمعوا إلى ما يقوله المراجع لهم ، بل ينظرون إليه بجانب عيونهم تحقيراً وإذلالاً له!!
وهكذا كانت نظرة الحكام إلى أعوانهم والمتعاطفين معهم.
ثم ذكرت السيدة زينب (عليها السلام) مثالاً آخر لبيان حقيقة أهل الكوفة والكشف عن واقعهم ، وأن ظاهرهم يختلف ـ تماماً ـ عن باطنهم ، وأن ما يقولونه بألسنتهم ، فشبهتهم بالأعشاب التي تنبت وتنمو في أماكن وسخة وغير صحية ، فقالت (عليها السلام) :
أو كمرعى على دمنة
المرعى : محل العشب الذي يسرح فيه القطيع.
الدمنة : المحل الذي تتراكم فيه أرواث الحيوانات وابوالها وتختلط مع التراب في مرابضهم ، فتتلبد وتتماسك الأوساخ المتكونة من الروث والبول والتراب ، ثم ـ بسبب الرطوبة الموجودة ـ ينبت هناك نبات أخضر ، جميل المنظر واللون ، ولكن الجذور نابتة في مكان وسخ مليء بالجراثيم والميكروبات!
كذلك أهل الكوفة كان لهم ظاهر حسن ، وكانت لهم حضارة عريقة ، لكن باطنهم وواقعهم كان قبيحاً ، يشتمل على الخبث والغدر ، والخيانة والكذب والنفاق ، والجرأة على الله تعالى ، وسحق القيم والمفاهيم ، وعدم التخلق بالفضائل ، والتي من أبرزها : الوفاء بالعهد ، وترجيح الدين على كل شيء.
هذا .. ونعود لنذكر ـ مرةً أخرى ـ أنه كان في الكوفة جمع غفير من المؤمنين الأخيار الطيبين ، لكن الأشرار ـ بتعاونهم مع الحكم الفاسد ـ كانوا قد شكلوا هذه الواجهة القبيحة ، وكونوا هذه السمعة السيئة لجميع أهل البلد!!
ثم ذكرت السيدة زينب (عليها السلام) مثالاً آخر فقالت :
وكفضة على ملحودة
اللحد : القبر. الملحودة : الجثة الموضوعة في القبر.
إذا وضعت علامة مصنوعة من الفضة على قبر رجل منحرف دينياً ، فسوف يكون ظاهر القبر جميلاً ، لكن الجثة التي في داخل القبر جيفةً متعفنة. كذلك أهل الكوفة كانوا أهل التمدن والحضارة والثقافة ، لكنهم في الباطن كانوا بمنزلة الجيفة ، حيث تجمعت فيهم المساوئ الأخلاقية ، كنقض العهد والغدر والخيانة وغيرها ، فكونت لهم سوء الملف والسوابق المخزية.
وفي نسخة : كقصة على ملحودة
والقصة : هي : الجص : وهي البودرة والتراب المطبوخ الذي يخلط مع الماء فيصير طيناً ابيض اللون ، ويوضع ذلك الطين ما بين الطابوق ويكون سبباً لتماسك أجزاء البناء .
فما فائدة ذلك القبر الذي يجصص ـ ليكون جميل الظاهر ـ ، لكنه يتضمن جثماناً نتناً لرجل خبيث أو إمرأة منحرفة؟!!
وقد يستفاد ـ من بعض كتب التاريخ ـ أن المتفرجين والمستمعين لخطاب السيدة زينب (عليها السلام) إنقسموا إلى ثلاث أقسام :
1 ـ قوات الشرطة التابعين لابن زياد.
2 ـ المحايدين.
3 ـ الأفراد الذين تفاعلوا مع كلمات خطبة السيدة زينب (عليها السلام) وتأثروا بكلامها ، وبدأوا يبكون!!
كيف لا .. وهم يسمعون صوتاً يشبه صوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من ابنته الشجاعة!
ولعلها كانت تخطب في ساحة كبيرة من ساحات مدينة الكوفة ، حيث كانت تستوعب أكبر قدر ممكن من الجماهير : المستمعين والمتفرجات ، الذين وقفوا على جانبي الطريق ، أو على سطوح دورهم ينظرون ويستمعون.
ألا : ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون
هذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى : ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون .
والمعنى : بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة ، أن سخط الله اليهم. والمعنى ـ هنا ـ يا أهل الكوفة : إن أعمالكم قد أوجبت عليكم غضب الله وسخطه ، والبقاء الدائم في نار جهنم.
أتبكون وتنتحبون ؟!
الإنتحاب : رفع الصوت بالبكاء الشديد.
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً
إشارة إلى قوله تعالى : فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً ، والمعنى : فليضحك هؤلاء المنافقون قليلاً ، لأن الضحك ـ حتى لو إستمر ـ فإنه ينتهي بفناء الدنيا ، وهو قليل لدى المقايسة مع بكائهم الدائم في يوم القيامة ، لأن ذلك : يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وهم يبكون فيه كثيراً .. وباستمرار.
وهذا تهديد وإنذار من السيدة زينب لأهل الكوفة ، وليس أمراً لهم بالضحك ، بل أمر بالتقليل من الضحك ، ـ وتهديد ضمني ـ أن لا مبرر لضحك وفرح يتعقبه بكاء طويل وعذاب مستمر.
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها
يقال : ذهب بها : أي إستصحبها. والعار : كل شيء
يلزم منه عيب أو كل ما يعير به الإنسان من قول أو فعل ، أو يلزم منه عيب أو سب.
والشنار : العيب والعار والأمر المشهور بالشنعة.
ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً
ترحضوها : تغسلوها.
غسل : ما يغسل به ، كالماء والمواد المنظفة المزيلة للأوساخ.
قد يقوم الإنسان بجريمة صغيرة يستطيع محاصرة مضاعفاتها ، وقد تكون الجريمة كبيرة جداً تأبى أن يحاصر أحد مضاعفاتها وآثارها ، أو ينسب الغفلة أو السهو والإشتباه إلى مباشر تلك الجريمة ، ويجعل الإعتذار سبباً وطريقاً للعفو عن ذلك المجرم وإغلاق ملفه. فالمعنى : لا يمكن لكم التخلص من مضاعفات هذه الجناية العظمى ، فقد تعلقت الجريمة بأعناقكم ، وسجلت
في التاريخ .. بحيث لا يمكن تغطيتها أو إنكارها!! أو ذكر توجيهات واهية وسخيفة لهذا الجرم العظيم والذنب الجسيم!
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة؟
رحض : رحض الثوب : غسله.
أي : كيف تغسلون عن أنفسكم ، وتمحون وتمسحون عن ملفكم هذه الفاجعة العظيمة ، وهي قتل ولد رسول الله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه واله)؟!
وبعبارة أخرى :
كيف وبأي وجه يمكن لكم أن تبرروا قتل سليل خاتم النبوة؟! والسليل : هو الولد.
كيف يمكن لكم غسل هذا الذنب العظيم عن أنفسكم؟!
وهل هناك مجال للإعتذار في ارتكاب جريمة بهذا الحجم ومع تلكم الكيفية والملحقات؟؟!!
ومعدن الرسالة؟ وسيد شباب أهل الجنة؟
إن الإمامة : هي إمتداد للرسالة ، وكما أن الرسول يختاره الله تعالى .. لا الناس ، كذلك الإمام والخليفة ..
يختاره الله تعالى أيضاً .. وليس الناس
والإمام الحسين (عليه السلام) هو الخليفة الشرعي الثالث لرسول الله (صلى الله عليه واله) في أمته.
فلم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) رجلاً مجهولاً خامل الذكر ، غير معروف عند الناس ، بل كان مشهوراً عند جميع المسلمين بكل ما للعظمة والجلالة والقداسة من معان ، وأحاديث رسول الله في مدحه والثناء عليه .. كانت محفوظة في ذاكرة الجميع ، وآيات القرآن الكريم كانت تمجده بما هو أهل لذلك ، فـ آية التطهير تشهد له بالعصمة والطهارة عن كل رجس ، وآية إطعام الطعام تنبئ عن نفسيته التي بلغت القمة في الإخلاص وحب الخير للآخرين ، و آية القربى جعلت إظهار المحبة ومشاعر الود له أجراً لبعض أتعاب الرسول الكريم ، و آية المباهلة اعلنت أنه الإبن المميز للرسول الأقدس (صلى الله عليه واله) وأنه واحد من أهل البيت الذين بدعائهم يغير الله تعالى الموازين الكونية.
وأحاديث النبي العظيم حول مكانته ومنزلة أخيه الإمام الحسن .. كانت أشهر من الشمس في رائعة النهار ، كقوله (صلى الله عليه واله) : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، الحسن والحسين إمامان .. إن قاما وإن قعدا حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً .
وكانت هذه الأحاديث وأمثالها قد ملأت آذان صحابة الرسول وتابعيهم .. المنتشرين في كل البلاد .. وخاصة الكوفة.
فجريمة قتل الإمام الحسين لا يمكن أن تقاس بجريمة قتل غيره من الأبرياء ، لأن المقتول ـ هنا ـ عظيم فوق كل ما يتصور ، فيكون حجم جريمة قتله أكبر وأعظم من جريمة قتل أي بريء ، فلا يمكن لأهل الكوفة أن يغسلوا عن أنفسهم هذه الجريمة الكبرى.
ثم استمرت السيدة زينب بذكر سلسلة من جوانب العظمة المتجمعة في أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) لتبين ـ للناس ـ حجم الخسارة الفادحة ، ومضاعفات هذا الفراغ الذي حصل في كيان الأمة الإسلامية ، وهو قتل الإمام المنتخب من عند الله تعالى لهداية البشر ، فقالت (عليها السلام) :
وملاذ خيرتكم
الملاذ : الملجأ ، والحصن الآمن الذي يحتمى به ويلجأ إليه في الشدائد.
خيرتكم : المؤمنين الأبرار ، المتفوقين في درجة إيمانهم بالله تعالى ، وفي جوانبهم الأخلاقية والإيمانية ، كالتقوى ، والعقيدة الراسخة ، وحماية وحراسة الدين ، تقديم الدين على كل مصلحة .. مادية كانت أو غيرها!!
ومفزغ نازلتكم
المفزع : من يفزع إليه ، ويلتجأ إليه.
النازلة : الشديدة من شدائد الدهر .. تنزل بالقوم وقيل : النازلة : هي المصيبة الشديدة.
ومنار حجتكم
المنار : محل إشعاع النور. والحجة : الدليل والبرهان للإستدلال على حقيقة شيء.
المنار : محل على سطح الدار ، كان الإنسان الكريم يشعل النار فيه ليلاً ليعلن للناس أن هنا محلاً للضيافة ، فيستدل بنور تلك النار التائهون عن الطريق ، أو المسافرون الذين وصلوا إلى البلد لتوهم ، وهم يبحثون عن مأوى يلجأون إليه حتى يحين الصباح.
وتطلق هذه الكلمة ـ حالياً ـ على الأضواء الكشافة القوية في درجة الإضاءة التي توضع على أبراج المراقبة في مطارات العالم ، لإرشاد الطائرات إلى محل المطار ، وخاصةً في الليالي التي يخيم الضباب على سماء المدينة.
لقد جعل الله تعالى الإمام الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى ، ينير الدرب لكل تائه أو متحير ، ولكن الناس تجمعوا عليه وكسروا المصباح ، وهم غير مبالين بما ينتج عن ذلك من مضاعفات ، ففي الظلام تقع حوادث السرقة والسطو على المنازل والبيوت ، وجرائم الإغتصاب والقتل ، والضياع عن الطريق ، والسقوط في الحفائر ، وغير ذلك.
أما مع وجود المصباح فلا تحدث هذه الجرائم والمآسي.
ولم يكن الإمام الحسين مناراً مادياً فقط .. بل كان مناراً لمن يبحث عن الحقيقة ، ويسأل عن الدين ، ويريد الحصول على رد الشبهات ، وما يتبادر إلى بعض الأذهان من تشكيكات. ولذلك فقد عبرت السيدة زينب عن الإمام الحسين بـ منار حجتكم .
ومدرة سنتكم
السنة : العام القحط ، وقيل : السنة المجدبة وقيل : غلب إطلاق كلمة السنة على القحط ، مثل ما غلب إطلاق كلمة الدابة على الفرس .
هذا هو معنى السنة.
ولم أعثر ـ في المعاني التي ذكرت في كتب اللغة معنى لكلمة مدرة ـ يتناسب مع كلمة سنتكم ، ويحتمل أن يكون تصحيفاً لكلمة ومدد أي : من يزودكم بالمؤن المادية في سنوات القحط والجدب ، ويخلصكم من المجاعة والموت. أو يزودكم بالأدلة المعنوية حينما تحتارون في قضاياكم الدينية ، ومشاكلكم العائلية ، وتتلاعب بأفكاركم التشكيكات والأفكار المنحرفة أو المستحدثة ، فتعيشون في ضياع .. لا تفرقون بين السنة والبدعة ، وبين القول الحق والأقوال الباطلة المصبوغة بصبغة الدين!
ثم زادت السيدة زينب (عليها السلام) من درجة توبيخ الناس ، محاولة منها لإيقاظ تلك الضمائر ، ولتعلن لهم أنهم سوف لا يصلون إلى أي هدف تحركوا من أجله فقاموا بهذه الجريمة النكراء. فقالت : ألا ساء ما تزرون
أي : بئس ما حملتم على ظهوركم من الذنوب والجرائم ، فهي من نوع لا يبقي أي مجال لشمول غفران الله وعفوه .. لكم.
وبعداً لكم وسحقاً
بعداً : أي : أبعدكم الله تعالى .. بعداً عن رحمته وغفرانه.
سحقاً : هلاكاً وبعداً ، يقال : سحق سحقاً : أي : بعد أشد البعد.
فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي
خاب : لم ينل ما طلب ، أو إنقطع رجاؤه.
تبت الأيدي ، التب : الخسران والهلاك وقيل : القطع والبتر.
وخسرت الصفقة
الصفقة : معاملة البيع أو أية معاملة أخرى. والمعنى أنكم ـ يا أهل الكوفة ـ خسرتم المعاملة ، معاملة بيع الدين والآخرة في قبال الدنيا ، فمن الجنون أن يبيع الإنسان ذلك في قبال عذاب مستمر مزيج بالإهانة والتحقير ، وبثمن قتل إبن رسول الله ، كل ذلك وهو يدعي أنه مسلم!!
ولعل المعنى : أنكم بعتم الحياة في ظل حكومة الإمام الحسين (عليه السلام) بالحياة في ظل سلطة يزيد ، وذهبتم إلى حرب الإمام الحسين لتحافظوا على كرسي يزيد من الإهتزاز ، ولكن معاملتكم هذه .. خاسرة ، فسوف لا تتهنؤون في ظل حكومته ، فلا كرامة ولا أمان ولا مستقبل زاهر!!
إن الدين والإنضواء تحت لواء من اختاره الله تعالى هو الذي يوفر للإنسان الحياة السعيدة والعزة والكرامة.
أما الإعراض عن ذلك فسوف يجر الويلات لكم ، فتتوالى عليكم حكومات جائرة ، فتعيشون حياةً ممزوجة بالتعاسة والذل ، الشامل لجميع جوانب حياتكم الدينية والاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها.
وهنا أدمجت السيدة زينب (عليها السلام) كلامها بالقرآن الكريم واستلهمت منه ذلك فقالت : وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة
قال تعالى : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ...} [البقرة: 61] .
وبؤتم بغضب من الله أي رجعتم وقد احتملتم معكم غضباً من الله تعالى ، وسوف يسبب لكم هذا الغضب العقاب الأليم والبعد عن رحمة الله وغفرانه ، بكل تأكيد.
وإن الجريمة .. مهما كان حجمها أكبر فسوف يكون غضب الله أشد ، وبالتالي يكون العذاب أكثر إيلاماً وأشد إهانةً وتحقيراً ، ويكون بعد المجرم عن عفو الله وغفرانه أكثر مسافة!
وضربت عليكم الذلة والمسكنة
ضربت : أي كتبت : فلقد كتب الله تعالى لكم الذل ، وقدر لكم المسكنة ، بسبب كفرانكم بنعمة وجود الإمام الحسين (عليه السلام) والغدر به.
الذلة والذل : يعني الهوان ، وهو العذاب النفسي المستمر ، بسبب الشعور بالحقارة والنقص والخوف من إعتداء الآخرين!
المسكنة : الفقر الشديد والبؤس والتعاسة.
ثم بدأت السيدة زينب (عليها السلام) بوضع النقاط على الحروف ، وذلك بالتحدث عن الأبعاد الأخرى لحجم هذه الجريمة ـ أو الجرائم ـ النكراء فقالت :
ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم .
الكبد : كناية عن الولد ، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) أنه قال : أولادنا أكبادنا... .
فريتم : الفري : تقطيع اللحم.
لقد شبهت السيدة زينب الإمام الحسين بكبد رسول الله ، وشبهت جريمة قتل الإمام بقطع كبد الرسول الكريم ، وكم يحمل هذا التشبيه في طياته من معان بلاغية ، وحقائق روحانية ، إذ من الثابت أن مكانة الكبد في الجسم لها غاية الأهمية.
فكم يبلغ الإنحراف بمن يدعي أنه مسلم أن يقتل إماماً هو بمنزلة الكبد من رسول الله (صلى الله عليه واله)؟
وأي كريمة له أبرزتم ؟
كريمة الرجل : إبنته ، فالسيدة زينب (عليها السلام) بنت السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) فهي ـ إذن ـ حفيدة الرسول الكريم ، والحفيدة تعتبر بنتاً للرجل ، وقد كان النبي الكريم يعبر عن السيدة زينب ـ منذ الأيام الأولى من ولادتها ـ بكلمة بنتي .
وكانت هذه البنت المكرمة المحترمة تعيش في دارها خلف ستار الحجاب والعفاف وتحافظ على حجابها اكثر من محافظتها على حياتها ، ولكن أهل الكوفة هجموا على خدرها وخيامها ، وسلبوا حجابها ، ثم أسروها وأبرزوها إلى الملأ العام! وكانت هذه المصيبة أشد من جميع المصائب وقعاً على قلبها .. بعد مصيبة مقتل أخيها الإمام السحين (عليه السلام).
أيها القارئ الكريم .. توقف قليلاً لتفكر وتعرف عظم الفاجعة : إذا كان سلب الحجاب عن إمرأة مؤمنة عفيفة عادية أصعب عليها من ضربها بالسكاكين على جسمها .. فما بالك بسلب الحجاب عن سيدة المحجبات وفخر المخدرات : زينب الكبرى (عليها السلام)؟!
فهذه الجريمة ـ لوحدها ـ تعتبر من أعظم الجرائم التي ارتكبها أهل الكوفة تجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه واله)!! فكل ضمير حر لا يمكن له أن ينسى هذه الجريمة!!
ولم تقتصر هذه المصيبة على السيدة زينب (عليها السلام) بل شملت أخواتها الطاهرات من آل رسول الله ، والنسوة اللواتي كن معها في قيد الأسر.
وأي دم له سفكتم
أتعلمون ـ يا أهل الكوفة ـ أي دم لرسول الله سفكتم!!
لقد اعتبرت السيدة زينب (عليها السلام) الدم الذي سفك من الإمام الحسين ـ يوم عاشوراء ـ هو دم رسول الله (صلى الله عليه واله) إذ من الثابت أن الدم الذي كان يجري في عروق الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن كدماء سائر الناس ، لأن الإمام الحسين لم يكن رجلاً عادياً كبقية البشر ،
فكل قطرة من دمه الطاهر كان جزءاً من دم رسول الله ، فالإمام الحسين : هو من أهل البيت ، وأهل البيت : كتلة واحدة ، وقد صرح النبي الكريم بهذا المعنى يوم قال : اللهم : إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي ، لحمهم لحمي ودمهم دمي ، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم ، انا سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم ... إنهم مني وأنا منهم ...
فالذين أراقوا دم الإمام الحسين هم ـ في الواقع ـ قد أ راقوا دم رسول الله (صلى الله عليه واله) وهم يدعون أنهم مسلمون!!
وأي حرمة له هتكتم
حرمة الرجل : ما لا يحل إنتهاكه ، وحرم الرجل أهله.
وهتك الحرمة : يعني إهانة كرامة رسول الله (صلى الله عليه واله) في قتل إبنه الحسين وسبي كريماته وبناته ، والهجوم عليهن في خيامهن .. بكل وحشية!
وأي إهانة أكبر من هذه الإهانة؟!
لقد كانت المرأة تمتاز في الإسلام بصيانة معينة ، وكان كل من يهينها يستحق الذم واللوم من الجميع ، ولكن أهل الكوفة ـ وبأمر من يزيد الطاغية وابن زياد اللعين ـ قاموا بأبشع أنواع الجرائم في مجال إهانة رسول الله وإهدار كرامته!!
ولذلك نقرأ في كتاب واحد من أبرز علماء أهل السنة هذا الكلام : إذا دافعنا عن يزيد ، واعتذرنا له في قتله الإمام الحسين بأنه كان يرى منه منافساً له في الخلافة ، فبماذا وكيف نعتذر له في سبيه لبنات رسول الله وأسرهن بتلك الكيفية المؤلمة ، ثم الإنتقال بهن من بلد إلى بلد؟ .
ثم استمرت السيدة زينب (عليها السلام) تصف فاجعة كربلاء الدامية وملحقاتها من سبي النساء الطاهرات .. بهذه الأوصاف المتتالية :
لقد جئتم بها .. أي بهذه الجريمة التي لا مثيل لها في تاريخ البشر.
صلعاء : وهي الداهية الشديدة ، أو الأمر الشيدد. ولعل المراد : الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء.
عنقاء : الداهية وقيل : عنق كل شيء بدايته.
فلعل المعنى أن هذه الجريمة سوف تكون بداية لسلسلة من الأزمات والويلات لكم ، فلا تتوقعوا خيراً بعد عملكم الشنيع هذا.
شوهاء قبيحة وفي نسخة : سوداء.
فقماء : العظيمة أو الشديدة هذا بعض ما ذكره اللغويون ، ولعل معنى فقماء أي معقدة بشكل لا يمكن معرفة طريق إلى حلها أو التخلص من مضاعفاتها.
خرقاء ، كطلاع الارض أي ملؤها.
وملء السماء لعل المعنى أن حجم هذه الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معين ، بل هي بحجم الأرض كلها ، والسماء والفضاء كليهما. أي : أن حجمها أكبر من أن يتصور.
فإن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وفقدان الأمة إياه يعني :
أولاً : إبتلاء كل حر في العالم ـ في جميع الأجيال القادمة ـ بالحزن والأسى حينما يقرأ تفاصيل فاجعة كربلاء ، فحتى لو لم يكن مسلماً يشعر بالحزن وتتسابق دموع عينيه بالهطول ، ويشعر بالإنزعاج والتذمر من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء.
ثانياً : لقد حرم البشر .. ـ بمختلف دياناتهم وطبقاتهم
وأعمارهم وأجيالهم وبالادهم ـ من بركات وجود الإمام الحسين (عليه السلام) والتي كانت تبقي آثاراً إيجابية مستمرةً ودائمةً إلى آخر عمر الدنيا!
ثالثاً : إن هذه الجريمة ـ بحجمها الواسع ـ فتحت الطريق أمام كل من يحمل نفساً خبيثة في أن يقوم بكل ما تسول له نفسه وتمليه عليه نفسيته في مجال الظلم والإعتداء على الآخرين ، وعدم التوقف عند أي حد من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين.
وقد صرح الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا المعنى ـ حينما كان يقاتل أهل الكوفة بنفسه ـ فقال : ... أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ....
أفعجبتم أن مطرت السماء دما
إن المصادر والوثائق التاريخية التي تصرح بأن السماء أمطرت دماً بعد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) كثيرةً جداً.
وكان ذلك المطر أحمر يشبه الدم في لونه وغلظته .. وهذه الحقيقة الكونية مذكورة في كتب الشيعة والسنة ، القديمة منها والحديثة.
وكان هذا المطر الأحمر كإعلان سماوي ـ على مستوى الكون ـ لفظاعة حادث قتل الإمام الحسين (عليه السلام) واستنكاراً لهذه الجريمة النكراء ، ولكن .. ما أكثر العبر وأقل الإعتبار .
وقد بقيت آثار تلك الدماء من ذلك المطر على جدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مدة تقرب من سنة كاملة.
لقد كان ذلك المطر تنديداً بفظاعة الجريمة ، وإنذاراً للعاقبة السيئة لأهل الكوفة في يوم القيامة.
ولعذاب الآخرة أخزى
أي : إن العقاب الصارم لقتلة الإمام الحسين (عليه السلام) سوف لا يقتصر ولا ينحصر بالعذاب الدنيوي ، والصفعات الدنيوية المتتالية ، بل إن العذاب الإلهي ينتظرهم في الآخرة.
إن الدنيا سوف تنتهي ويخرج كل إنسان من قاعة الإمتحان ، وعندها يكون المجرمون في قبضة محكمة العدالة الإلهية ، فمن يخلصهم ـ في ذلك اليوم ـ من رسول الله جد الحسين؟!
وأنتم لا تنصرون
أي : لا تجدون من ينصركم يوم القيامة ، ومن ينجيكم من العذاب الأليم ، لأن طرف النزاع : هو الإمام المظلوم البريئ المقتول : الإمام الحسين (عليه السلام) ذاك الرجل العظيم الذي زين الله تعالى العرش الأعلى باسمه إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة ومن الواضح أنه سوف لا يتنازل عن حقه .. مهما كانت نفسيته المقدسة عالية وفوق كل تصور. لأن المجرمين ضربوا أرقاماً قياسية في اللؤم والخبث والغدر والجناية!
والمخاصم لأهل الكوفة : هو أشرف الخلق وأعز البشر عند الله تعالى : وهو سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه واله) وهو أيضاً لا يتنازل عن دم إبنه الحبيب العزيز ، وعن سبي بناته الطاهرات!
والمحامي : هو جبرئيل سيد أهل السماء ، حيث يقف ظهراً لرسول الله في قضية ملف مقتل الإمام الحسين (عليه السلام).
ونوعية الجريمة وحجمها ومضاعفاتها .. تأبى شمول الغفران والعفو الإلهي لها ، لعدم وجود الفوضى في أجهزة القضاء الإلهية ، فاللازم إعطاء كل ذي حق حقه.
هذا أولاً ..
وثانياً : إن من آثار هذه الجريمة النكراء : هو أنها تمنع المجرم من التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله ، كما صرح بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام).
ويجب علينا أن لا ننسى أن كبار قواد جيش الكوفة .. كانوا من الذين قد كتبوا إلى الإمام الحسين بأن يأتي إليهم في الكوفة ، ووعدوه بالنصر .. حتى لو آل الأمر إلى القتل والقتال ، وإلى التضحية ببذل دمائهم وأرواحهم ، وختموا رسائلهم بتوقيعاتهم وأسمائهم الصريحة. إلى درجة أن البعض منهم أعطى لنفسه الجرأة في أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الكلمات : إن لم تأتنا فسوف نخاصمك غداً ـ يوم القيامة ـ عند جدك رسول الله !!
فهم ـ إذن ـ كانوا يعرفون الإمام الحسين ، وليس من يعرف كمن لا يعرف والأحاديث الشريفة تقول : إن الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً .. قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً .
فلا يستخفنكم المهل
المهل ـ بضم الميم ـ جمع المهلة : وهي بمعنى الإنظار والإمهال وعدم العجلة.
أي : لا يصير الإمهال والتأخير في الإنتقام سبباً لخفة نفوسكم وانتعاشها من الطرب والفرح ، وبذلك تأخذكم سكرة الإنتصار والظفر. فالإنتصار الذي يتعقبه العذاب الأليم ـ مع فاصل زمني قصير ـ لا يعتبر إنتصاراً حقيقياً ، بل هو سراب مؤقت ، لا يعترف به العقلاء ، فـ لا خير في لذة وراءها النار !
إن الإمهال ليس دليلاً على الإهمال ، فإن الله تعالى قد يمهل ، ولكنه ( سبحانه ) لا يهمل.
وبناءً على هذا .. فلا يكون الإمهال سبباً لتصور خاطئ منكم بأن علة تأخير العقاب هي أن الجريمة قد تم التغاضي والتغافل عنها ، ولسوف تنسى بمرور الأيام ، لأنها شيء حدث وانتهى .. بلا مضاعفات لاحقة ، أو أن الإنتقام غير وارد حيث أن الأمور قد فلتت من اليد.
كلا..ليس الأمر كذلك ، بل شاء الله تعالى أن يجعل الدنيا دار إمتحان لجميع الناس : الأخيار والأشرار ، وقرر أن يدفع كل من يخالف أوامر الله ضريبة مخالفته .. إن عاجلاً أو آجلاً.
فعدم تعجيل العقوبة لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين على العالم كله. لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ، كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب .. مع ملاحظة سائر أسرار الكون. ولا مناقشة في الأمثال.
قال تعالى : {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [إبراهيم: 42-43] .
وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال : ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه .
فإنه لا يحفزه البدار
يحفزه يقال : تحفز في مشيه : أي جد وأسرع فهو محتفز : أي : مستعجل والحفز : الإعدال في الأمر للبطش وغيره.
البدار يقال : بدر إلى الشيء مبادرةً وبداراً : أسرع وبدر فلاناً بالشيء : عاجله به.
تقول السيدة زينب (عليها السلام) : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم .. ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها : إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته.
هذا أولاً ..
وثانياً .. لقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله (صلى الله عليه واله) سأل ربه أن لا يعاجل أمته بالعذاب في الدنيا ، واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن.
فمعنى قول السيدة زينب (عليها السلام) : فإنه لا يحفزه البدار أي : لا يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية ، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية. ونقرأ في الدعاء : ولا يمكن الفرار من حكومتك .
ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد
فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله ظهوروه ) وينتقم من قتلة الإمام الحسين .. في الدنيا ، أما في الآخرة .. فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين (عليه السلام).
المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع.
قال الراوي : فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم . ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : بأبي أنتم وأمي!! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|