أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-10-2017
10811
التاريخ: 9-10-2017
8657
التاريخ: 8-10-2017
3393
التاريخ: 9-10-2017
12537
|
قال تعالى : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح: 27، 29].
{لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} قالوا إن الله تعالى أرى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أن المسلمين دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا مكة قال المنافقون ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام فأنزل الله هذه الآية وأخبر أنه أرى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الصدق في منامه لا الباطل وأنهم يدخلونه وأقسم على ذلك فقال {لتدخلن المسجد الحرام} يعني العام المقبل {إن شاء الله آمنين} قال أبو العباس ثعلب استثنى الله فيما يعلم ليستثني الناس فيما لا يعلمون وقيل أن الاستثناء من الدخول وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة وقد مات منهم أناس في السنة فيكون تقديره لتدخلن كلكم إن شاء الله إذ علم الله أن منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها فأدخل الاستثناء لأن لا يقع في الخبر خلف عن الجبائي وقيل أن الاستثناء داخل على الخوف والأمن فأما الدخول فلا شك فيه وتقديره لتدخلن المسجد الحرام آمنين من العدو إن شاء الله فهذه الأقوال الثلاثة للبصريين وقيل إن أن هنا بمعنى إذ أي إذ شاء الله حين أرى رسوله ذلك عن أبي عبيدة ومثله قوله وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين قال معناه إذ كنتم وهذا القول لا يرتضيه البصريون.
{محلقين رءوسكم ومقصرين} أي محرمين يحلق بعضكم رأسه ويقصر بعض وهو أن يأخذ بعض الشعر وفي هذا دلالة على أن المحرم بالخيار عند التحلل من الإحرام إن شاء حلق وإن شاء قصر {لا تخافون} مشركا {فعلم} من الصلاح في صلح الحديبية {ما لم تعلموا} وقيل علم في تأخير دخول المسجد الحرام من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بينهم والصلح المبارك موقعه {فجعل من دون ذلك} أي من قبل الدخول {فتحا قريبا} يعني فتح خيبر عن عطا ومقاتل وقيل يعني صلح الحديبية .
[عمرة القضاء]
وكذلك جرى الأمر في عمرة القضاء في السنة التالية للحديبية وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودخل مكة مع أصحابه معتمرين وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة وعن الزهري قال بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) بين يديه إلى ميمونة بنت الحرث العامرية فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحرث فزوجها العباس رسول الله فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمر أصحابه فقال اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم فاستكف(2) أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه وهم يطوفون بالبيت وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) متوشحا بالسيف يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله *** قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله *** اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله *** ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله *** يا رب إني مؤمن لقيله
إني رأيت الحق في قبوله
ويشير بيده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنزل الله في تلك العمرة الشهر الحرام بالشهر الحرام وه وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) اعتمر في الشهر الحرام الذي صد فيه ثم قال سبحانه {هو الذي أرسل رسوله} يعني محمدا {بالهدى} أي بالدليل الواضح والحجة الساطعة وقيل بالقرآن {ودين الحق} أي الإسلام {ليظهره على الدين كله} أي ليظهر دين الإسلام بالحجج والبراهين على جميع الأديان وقيل بالغلبة والقهر والانتشار في البلدان وقيل أن تمام ذلك عند خروج المهدي (عليه السلام) فلا يبقى في الأرض دين سوى دين الإسلام {وكفى بالله شهيدا} بذلك .
ثم قال سبحانه {محمد رسول الله} نص سبحانه على اسمه ليزيل كل شبهة . تم الكلام هنا ثم أثنى على المؤمنين فقال {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} قال الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أن كانوا يتحرزون من ثياب المشركين حتى لا تلتزق بثيابهم وعن أبدانهم حتى لا تمس أبدانهم وبلغ تراحمهم فيما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه ومثله قوله أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين {تريهم ركعا سجدا} هذا إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها {يبتغون فضلا من الله ورضوانا} أي يلتمسون بذلك زيادة نعمهم من الله ويطلبون مرضاته {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} أي علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشد بياضا عن ابن عباس وعطية قال شهر بن حوشب يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر وقيل هو التراب على الجباه لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية وقيل هو الصفرة والنحول عن الضحاك قال الحسن إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى وقال عطاء الخراساني دخل في هذه الآية كل من صلى الخمس.
{ذلك مثلهم في التوراة} يعني أن ما ذكر من وصفهم هوما وصفوا به في التوراة أيضا تم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه عن الضحاك وقيل ليس بينهما وقف والمعنى ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل جميعا عن مجاهد والمعنى كمثل زرع أخرج شطأه أي فراخه {ف آزره} أي شده وأعانه وقواه وقال المبرد يعني أن هذه الأفراخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها {فاستغلظ} أي غلظ ذلك الزرع {فاستوى على سوقه} أي قام على قصبه وأصوله فاستوى الصغار مع الكبار والسوق جمع الساق والمعنى أنه تناهى وبلغ الغاية.
{يعجب الزراع} أي يروع ذلك الزراع أي الأكرة الذين زرعوه قال الواحدي هذا مثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه فالزرع محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله وكانوا في ضعف وقلة كما يكون أول الزرع دقيقا ثم غلظ وقوي وتلاحق فكذلك المؤمنون قوى بعضهم بعضا حتى استغلظوا واستووا على أمرهم {ليغيظ بهم الكفار} أي إنما كثرهم الله وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين بتوافرهم وتظاهرهم واتفاقهم على الطاعة ثم قال سبحانه {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي وعد من أقام على الإيمان والطاعة {منهم مغفرة} أي سترا على ذنوبهم الماضية {وأجرا عظيما} أي ثوابا جزيلا دائما .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص210-213.
2- استكف الناس حوله : أحاطوا به ينظرون اليه.
{لقد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ ومُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ } . يدل ظاهر الآية والحديث المتواتر ان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى في منامه انه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وطافوا بالبيت العتيق كما يشاؤن ، وقد حلق البعض رؤوسهم ، وقصر آخرون ، فأخبر النبي أصحابه بما رأى ، ففرحوا واستبشروا وظنوا انهم داخلوا مكة في العام الذي كانت فيه الرؤيا ، وسار النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بهم متجها إلى مكة ، ولما بلغوا الحديبية صدهم المشركون ، وعاد المسلمون إلى المدينة كما أسلفنا . . . وهنا وجد المنافقون منفذا للطعن وقالوا : ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ، فأين تأويل الرؤيا ؟ . وذهلوا أو تجاهلوا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يعين وقت الدخول ، وقال قائل لرسول اللَّه : ألم تقل : لتدخلن المسجد الحرام آمنين ؟ . قال : نعم ، ولكن لم أقل في هذا العام ، ولما كان العام القادم وهو السابع للهجرة دخل المسلمون مكة معتمرين ، وطافوا بالبيت كما يشاؤن ، وحلق من حلق ، وقصر من قصر ، ومكثوا ثلاثة أيام رجعوا بعدها إلى المدينة ، وتسمى هذه العمرة عمرة القضاء ، وفيها نزل قوله تعالى : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} حيث تحقق ما رآه الرسول وأخبر به .
{فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا } . لقد علم اللَّه ان في تأجيل العمرة إلى ما بعد صلح الحديبية مصلحة يجهلها المسلمون ، وهي تجنب القتال ، واسلام العديد من المشركين الذين صدوا الرسول والصحابة عن المسجد الحرام عام الحديبية { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } . ذلك إشارة إلى تأويل الرؤيا بدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين ، والمراد بالفتح صلح الحديبية ، أوهو وفتح خيبر ، والمعنى ان هذا الصلح والذي بعده أيضا بأيام وهو فتح خيبر - قد تحققا قبل تأويل الرؤيا ، وهما نصر كبير تماما كدخول المسجد الحرام {هُو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} . المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبالهدى ودين الحق الإسلام ، وقد ظهر وانتشر في شرق الأرض وغربها ، لأنه يدعو إلى العمل من أجل حياة أفضل ، وينهى عن كل ما من شأنه أن يقف حجر عثرة في طريقها . وتقدم
مثله في الآية 33 من سورة التوبة ج 4 ص 34 {وكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً } على أنه يظهر الإسلام على الدين كله.
الصحابة والقرآن :
حكى سبحانه في كتابه العزيز ان موسى بن عمران دعا بني إسرائيل إلى القتال بأمر من اللَّه ، فقالوا له : {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. وأيضا حكى ، عظمت كلمته ، ان قوم السيد المسيح حاولوا قتله وصلبه ، وان حوارييه قالوا له : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} ؟ . ولما قال لهم نبيهم : {اتَّقُوا اللَّهً} . {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها} - 113 المائدة . وأنزل جل وعز سورة خاصة في ذم المنافقين من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وغيرها عشرات الآيات ، وأيضا أنزل الكثير في المدح والثناء على المتقين الأبرار منهم ، من ذلك قوله : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} - 18 الفتح . وقوله : {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ والأَنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ} - 101 التوبة .
وقوله : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ } يجتمع المجرمون يدا واحدة على صيد الفريسة ، ثم يتناحرون على أكلها . . . أما المخلصون فإنهم على نهج واحد لا تلون فيه ولا اختلاف على شيء ، إخوان في دين اللَّه يتعاطفون ويتعاونون فيما بينهم تماما كالأسرة الواحدة ، وأعوان للحق وأهله ، وحرب على الباطل وحزبه . . . وهذه هي بالذات صفة الخلص من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بشهادة اللَّه تعالى حيث عطفهم على نبيه الكريم ، ووصفهم وإياه بالغضب للَّه والرضا للَّه . . .
وأدرك هذا الدكتور طه حسين ، وهو الأديب الذي يفهم بالإشارة ولحن الدلالة ، قال في كتاب (مرآة الإسلام) : (لم يكن اسلام الأنبياء طاعة ظاهرة ، وانما كان إسلامهم أوسع وأعمق وأصدق ما يمكن أن يكون الإسلام ، وإسلام الصالحين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كذلك لم يكن ضيقا يقف عند الطاعة الظاهرة ، وانما كان أوسع وأعمق من هذا) .
ثم ضرب الدكتور طه عمار بن ياسر مثلا على هذا الإسلام الواسع العميق وقال : {كان عمار بن ياسر يقاتل مع علي بصفين في حماس أي حماس ، وهو شيخ قد بلغ التسعين أو تجاوزها ، وكان يقاتل عن ايمان أي ايمان بأنه يدافع عن الحق ، وكان يوم قتل يحرض الناس ويقول : من رائح إلى الجنة ؟ اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه . . . وكان قتل عمار تثبيتا لعلي والصالحين من أصحابه ، وتشكيكا لمعاوية ومن معه ، ذلك ان كثيرا من المهاجرين والأنصار رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يمسح رأس عمار ويقول له : ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية) .
{تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } أي ان منظرهم يوحي إلى الرائي بأنهم من أهل الركوع والسجود ، وان لم يرهم راكعين ساجدين {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } . ليس المراد بأثر السجود هنا سواد الجبهة ، كلا فإن أكثر هذا السواد أو الكثير منه رياء ونفاق ، وانما المراد به الصفاء والاشراق الذي يحدث بالوجه من أثر العبادة ، والمعنى ان الصحابة ركعوا وسجدوا رغبة في مرضاة اللَّه وثوابه ، وخوفا من غضبه وعقابه ، وقد تجلى أثر ذلك في وجوههم لكل متوسم ، لأن العبادة الخالصة لوجهه تعالى تحدث في نفس العابد المخلص طهرا وصفاء تظهر دلائله على صفحات الوجه تماما كما تظهر عليه دلائل الحزن والفرح .
{ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ومَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ } . هذا كناية عن ان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يكونون في البداية قليلا ، ثم يزدادون ويكثرون . . . وتوضيح هذه الكناية أو هذا المثل ان التوراة والإنجيل قد بشّرا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، ووصفا أصحابه بزرع نما وأينع وكثرت ثماره وفروعه ، واشتبك بعضها ببعض ، واستقامت على أصولها ، وبلغت غايتها من القوة والكثافة {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } بحسنه ونموه . . . وغير بعيد أن يكون المراد بالزراع هنا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما دام المراد بالزرع أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه هو الذي رفعهم إلى ما بلغوه من العظمة وعلو الدرجات ، وبفضله انتصروا في المعارك التي خاضوها في عهده ومن بعده . وقال سبحانه {الزراع} ولم يقل الزارع تعظيما لشأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) . نقول هذا على سبيل الاحتمال ، وقد سبقنا إليه من قرأ
{الزارع} . {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً } .
المعنى واضح . وتقدم مثله في الآية 9 من سورة المائدة ج 3 ص 26.
هل الاثنا عشرية باطنيون ؟
نشر الأديب المصري الدكتور مصطفى محمود على التوالي 13 مقالا في مجلة {صباح الخير} ، تكلم فيها عن إعجاز القرآن ، وقصة الخلق ( 2 ) ، وبعض الموضوعات الغيبية ، ثم جمع المقالات في كتاب أسماه (محاولة لفهم عصري للقرآن) وطبع ووزع في الشهر الثالث أو الرابع من سنة 1970 ، وفي مقال (رب واحد ودين واحد) عد المؤلف الشيعة الاثني عشرية مع الفرق الباطنية ، وانهم تماما كالبابية والخوارج يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا ، فكتبت إليه بأن الاثني عشرية أبعد الناس عن هذه البدع والضلالات ، وان كتبهم تشهد بذلك ، وهي في متناول كل يد ، وأرشدته إلى بعضها ، والى ما قاله شيوخ الأزهر المنصفين عن الشيعة الإمامية كالمرحوم الشيخ شلتوت ، وغيرهم ممن نشروا في مجلة(الإسلام) التي تصدر في القاهرة عن (دار التقريب) .
وفي مساء 5 - 4 - 1970 ارتفع صوت الهاتف ، وإذا بالدكتور مصطفى محمود يكلمني من (تريونف اوتيل) ببيروت . . واجتمعنا لأول مرة ، وتحدثنا عن كتابه (اللَّه والإنسان) ، وردي عليه بكتاب (اللَّه والعقل) . . . ثم موعد ولقاء ببيتي في اليوم التالي ، وكان حديثنا عن الإسلام والباطنية ، فقال الأديب المصري فيما قال : (ان بعض الشيعة يفسرون مرج البحرين يلتقيان بعلي وفاطمة) .
قلت له : هل من العدل والمنطق أن تدان طائفة تبلغ عشرات الملايين بقول واحد منها لا يمثل إلا نفسه ؟ وهل من الضروري إذا فسر شيخ آية قرآنية تفسيرا باطنيا أن تكون طائفته باطنية تدين بالتفسير الباطني للقرآن ، وإذا فسر أديب مصري بيتا من الشعر تفسيرا رمزيا أن يكون جميع الشعراء وكل من يفسر الشعر في مصر رمزيين . وان للشيعة الاثني عشرية كتبا في العقائد تسالموا عليها وأجمعوا على الأخذ بها ، كأوائل المقالات للشيخ المفيد ، وقواعد العقائد لنصير الدين الطوسي ، وشرحه للعلامة الحلي ، وما جاء في شرح التجريد من التوحيد وصفات اللَّه والقضاء والقدر والنبوة والإمامة والمعاد .
وكانت تظهر أمامي - وأنا أبحث وأنقب في المصادر - تفاسير باطنية لشيوخ من السنة ، فأهملها لأنها لا تلتقي مع تفسيري وغايتي في شيء . . . وحين احتج الدكتور بمرج البحرين فكرت طويلا لعلي أتذكر تفسيرا واحدا من تلك التفاسير لأنقض به قول الدكتور ، فخذلتني الذاكرة وأنا في أشد الحاجة إلى مؤازرتها . . .ثم انتقلنا إلى موضوع آخر . . . ومن الصدف اني كنت أفسر سورة الفتح حين جرى النقاش بيننا ، وفي اليوم التالي وصلت بالتفسير إلى قوله تعالى : {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ} وإذا بي أقرأ في تفسير روح البيان لإسماعيل حقي والتسهيل للحافظ بن أحمد الكلبي ، وهما من أهل السنة ، قرأت فيهما ما نصه بالحرف : {كزرع أخرج شطأه بأبي بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي} . فانتقل بي هذا التفسير الباطني إلى ما قرأته منذ زمان في كتاب حياة الإمام أبي حنيفة للسيد عفيفي ان السيوطي قال :
(ذكر العلماء ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بشّر بالإمام مالك في حديث : (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة) وبشّر بالإمام الشافعي في حديث : (لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما) وبشّر بالإمام أبي حنيفة في حديث : (لوكان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس) .
وفي الحال اتصلت هاتفيا بالدكتور مصطفى محمود ، وقرأت له تفسير الكلبي وحقي ، وقلت له : هل تجيزني أن أنسب هذا التفسير إلى جميع السنة واجعلهم والبابيين سواء كما فعلت أنت ونسبت الاثني عشرية إلى ما نسبت لا لشيء إلا لأن واحدا منهم قال ما قال ؟ فما زاد في الجواب شيئا على قوله : (تمام . . . تمام( .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص101-105.
2- وأجاد في تصوير الموسيقى الباطنية في القرآن . انظر ما كتبناه بهذا العنوان في ج 6 ص 300 .
قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون} الخ، قيل: إن صدق وكذب مخففين يتعديان إلى مفعولين يقال: صدقت زيدا الحديث وكذبته الحديث، وإلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث وكذبته فيه، ومثقلين يتعديان إلى مفعول واحد يقال: صدقته في حديثه وكذبته في حديثه.
واللام في {لقد صدق الله} للقسم، وقوله: {لتدخلن المسجد الحرام} جواب القسم.
وقوله: {بالحق} حال من الرؤيا والباء فيه للملابسة، والتعليق بالمشية في قوله: {إن شاء الله} لتعليم العباد والمعنى: أقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا التي أراه لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شر المشركين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون المشركين.
وقوله : {فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا} {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، والمراد بقوله: {من دون ذلك} أقرب من ذلك والمعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه ولم تعلموه، ولذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحا قريبا ليتيسر لكم الدخول كذلك.
ومن هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبية فهو الذي سوى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين ويسر لهم ذلك ولولا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلا بالقتال وسفك الدماء ولا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبية وما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.
ومن هنا تعرف أن قول بعضهم : إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، وأما القول بأنه فتح مكة فأبعد.
وسياق الآية يعطي أن المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دخولهم المسجد آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، أنهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلما خرجوا قاصدين مكة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبية وصدوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.
ومحصله : أن الرؤيا حقة أراها الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صدق تعالى في ذلك، وستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون، لكنه تعالى أخره وقدم عليه هذا الفتح وهو صلح الحديبية ليتيسر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون إلا بهذا الطريق.
قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} إلخ، تقدم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، وقوله: {وكفى بالله شهيدا} أي شاهدا على صدق نبوته والوعد إن دينه سيظهر على الدين كله أو على أن رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.
والآية خاتمة السورة تصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصف الذين معه بما وصفهم به في التوراة والإنجيل وتعد الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات وعدا جميلا، وللآية اتصال بما قبلها حيث أخبر فيه أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.
قوله تعالى: {محمد رسول الله} إلى آخر الآية، الظاهر أنه مبتدأ وخبر فهو كلام تام، وقيل: {محمد{ خبر مبتدإ محذوف وهو ضمير عائد إلى الرسول في الآية السابقة والتقدير: هو محمد، و{رسول الله} عطف بيان أو صفة أو بدل، وقيل: {محمد} مبتدأ و{رسول الله} عطف بيان أو صفة أو بدل و{الذين معه} معطوف على المبتدإ و{أشداء على الكفار} إلخ، خبر المبتدإ.
وقوله: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} مبتدأ وخبر، فالكلام مسوق لتوصيف الذين معه والشدة والرحمة المذكورتان من نعوتهم.
وتعقيب قوله: {أشداء على الكفار} بقوله: {رحماء بينهم} لدفع ما يمكن أن يتوهم أن كونهم أشداء على الكفار يستوجب بعض الشدة فيما بينهم فدفع ذلك بقوله: {رحماء بينهم} وأفادت الجملتان أن سيرتهم مع الكفار الشدة ومع المؤمنين فيما بينهم الرحمة.
وقوله: {تراهم ركعا سجدا} الركع والسجد جمعا راكع وساجد، والمراد بكونهم ركعا سجدا إقامتهم للصلاة، و{تراهم{ يفيد الاستمرار، والمحصل: أنهم مستمرون على الصلاة، والجملة خبر بعد خبر للذين معه.
وقوله: {يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الابتغاء الطلب، والفضل العطية وهو الثواب، والرضوان أبلغ من الرضا.
والجملة إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الركوع والسجود كان الأنسب أن تكون حالا من ضمير المفعول في {تراهم} وإن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الحياة مطلقا كما هو الظاهر كانت خبرا بعد خبر للذين معه.
وقوله: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} السيما العلامة و{سيماهم في وجوههم} مبتدأ وخبر و{من أثر السجود} حال من الضمير المستكن في الخبر أو بيان للسيما أي إن سجودهم لله تذللا وتخشعا أثر في وجوههم أثرا وهو سيما الخشوع لله يعرفهم به من رآهم، ويقرب من هذا المعنى ما عن الصادق (عليه السلام) أنه السهر في الصلاة.
وقيل: المراد أثر التراب في جباههم لأنهم كانوا إنما يسجدون على التراب لا على الأثواب.
وقيل: المراد سيماهم يوم القيامة فيكون موضع سجودهم يومئذ مشرقا مستنيرا.
وقوله: {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} المثل هو الصفة أي الذي وصفناهم به من أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم إلخ، وصفهم الذي وصفناهم به في الكتابين التوراة والإنجيل.
فقوله: {ومثلهم في الإنجيل} معطوف على قوله: {مثلهم في التوراة} وقيل: إن قوله: {ومثلهم في الإنجيل} إلخ، استئناف منقطع عما قبله، وهو مبتدأ خبره قوله: {كزرع أخرج شطأه} إلخ، فيكون وصفهم في التوراة هو أنهم أشداء على الكفار - إلى قوله -: {من أثر السجود}، ووصفهم في الإنجيل هو أنهم كزرع أخرج شطأه إلخ.
وقوله: {كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع} شطء النبات أفراخه التي تتولد منه وتنبت حوله، والإيزار الإعانة، والاستغلاظ الأخذ في الغلظة، والسوق جمع ساق، والزراع جمع زارع.
والمعنى: هم كزرع أخرج أفراخه فأعانها فقويت وغلظت وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.
وفيه إشارة إلى أخذ المؤمنين في الزيادة والعدة والقوة يوما فيوما ولذلك عقبه بقوله: {ليغيظ بهم الكفار}.
وقوله: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} ضمير {منهم} للذين معه، و{من} للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا النظم ويفيد الكلام اشتراط المغفرة والأجر العظيم بالإيمان حدوثا وبقاء وعمل الصالحات فلوكان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [التوبة: 101] ، أو آمن أولا ثم أشرك وكفر كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى- إلى أن قال – وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } [محمد: 25].
أو آمن ولم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك وآية التبين في نبأ الفاسق وأمثال ذلك لم يشمله وعد المغفرة والأجر العظيم.
ونظير هذا الاشتراط ما تقدم في قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} ويؤيده أيضا ما فهمه ابن عباس من قوله تعالى: {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} حيث فسره بقوله: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء، وقد تقدمت الرواية.
ونظير الآية أيضا في الاشتراط قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ- إلى أن قال - وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55] .
وقيل: إن {من} في الآية بيانية لا تبعيضية فتفيد شمول الوعد لجميع الذين معه.
وهو مدفوع - كما قيل - بأن {من} البيانية لا تدخل على الضمير مطلقا في كلامهم، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم} مبني على إرجاع ضمير {تزيلوا} إلى المؤمنين وضمير {منهم} للذين كفروا، وقد تقدم في تفسير الآية أن الضميرين جميعا راجعان إلى مجموع المؤمنين والكافرين من أهل مكة فتكون {من} تبعيضية لا بيانية.
وبعد ذلك كله لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولا مطلقا من غير اشتراط بالإيمان والعمل الصالح وكانوا مغفورين - آمنوا أو أشركوا وأصلحوا أو فسقوا - لزمته لزوما بينا لغوية جميع التكاليف الدينية في حقهم وارتفاعها عنهم وهذا مما يدفعه الكتاب والسنة فهذا الاشتراط ثابت في نفسه وإن لم يتعرض له في اللفظ، وقد قال تعالى في أنبيائه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 88] ، فأثبته في أنبيائه وهم معصومون فكيف فيمن هو دونهم.
فإن قيل: اشتراط الوعد بالمغفرة والأجر العظيم بالإيمان والعمل الصالح اشتراط عقلي كما ذكر ولا سبيل إلى إنكاره لكن سياق قوله: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} يشهد باتصافهم بالإيمان وعمل الصالحات وأنهم واجدون للشرط. وخاصة بالنظر إلى تأخير {منهم} عن قوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} حيث يدل على أن عمل الصالحات لا ينفك عنهم بخلاف قوله في آية النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور: 55] ، كما ذكره بعضهم، ويؤيده أيضا قوله في مدحهم {تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} حيث يدل على الاستمرار.
قلنا: أما تأخير {منهم} في الآية فليس للدلالة على كون العمل الصالح لا ينفك عنهم بل لأن موضوع الحكم هو مجموع {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ولا يترتب على مجرد الإيمان من دون العمل الصالح أثر المغفرة والأجر ثم قوله: {منهم} متعلق بمجموع الموضوع فمن حقه أن يذكر بعد تمام الموضوع وهو{الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وأما تقدم الضمير في قوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم} فلانة مسوق سوق البشرى للمؤمنين والأنسب لها التسريع في خطاب من بشر بها لينشط بذلك وينبسط لتلقي البشرى.
وأما دلالة قوله: {تراهم ركعا سجدا} إلخ، على الاستمرار فإنما يدل عليه في ما مضى إلى أن ينتهي إلى الحال، وأما في المستقبل فلا ومصب إشكال لغوية الأحكام إنما هو المستقبل دون الماضي إذ مغفرة الذنوب الماضية لا تزاحم تعلق التكليف بل تؤكده بخلاف تعلق المغفرة المطلقة بما سيأتي فإنه لا يجامع بقاء التكليف المولوي على اعتباره فيرتفع بذلك التكاليف وهو مقطوع البطلان.
على أن ارتفاع التكاليف يستلزم ارتفاع المعصية ويرتفع بارتفاعها موضوع المغفرة فوجود المغفرة كذلك يستلزم عدمها.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص237-247.
رؤيا النّبي الصادقة:
هذه الآية ـ أيضاً ـ ترسم جانباً آخر من جوانب قصة الحديبيّة المهمّة، والقصة كانت على النحو التالي:
رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكّة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة، فحدّث أصحابه عن رؤياه فسُرّوا جميعاً، غير أنّه لمّا كان جماعة من أصحابه يتصوّرون أنّ تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون من الدخول إلى مكّة أصابهم الشك والتردّد... ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا النّبي غير صادقة؟ ألم يكن البناء أن نعتمر هذا العام؟! فأين هذا الوعد؟ وأين صارت هذه الرؤيا الرحمانية؟!
فكان جواب النّبي لهم: هل قلت لكم أنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟!
فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنّبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة... تقول الآية: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}(2) فما رآه النّبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.
ثمّ تضيف الآية قائلة: {لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا} وكان في هذا التأخير حكمةٌ: {فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً}.
وقوله تعالى : {هُو الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً( 28 ) مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الاِْنجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّاَلِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}:
(أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم):
في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين» أي «صلح الحديبيّة» احداهما تتعلّق بعالميّة الإسلام والثانية تتعلّق بأوصاف أصحاب النّبي وخصائصهم وما وعدهم الله سبحانه به!
فالأولى منهما تقول: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً}.
وهذا وعد صريح وقاطع من الله سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان.
أي لا تعجبوا لو أخبركم اللّه عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالإنتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على إيذائكم، كما لا تعجبوا أن يبشّركم الله بالفتح القريب ـ فتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة» وسيكون الإسلام باسطاً ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان...
ولِمَ لا يكون كذلك ومحتوى دعوة النّبي هداية الله إذ «أرسله بالهدى» ودينه «دين الحق» ويستطيع كلّ ناظر غير منحاز أن يرى حقّانيته في آيات القرآن وأحكام الإسلام الفرديّة والإجتماعية والقضائية والسياسية! وكذلك تعليماته الأخلاقية والإنسانية. وأن يعرف علاقة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله حقّاً من خلال إخباره بالمغيّبات وتنبّؤاته التي تقع في المستقبل بصورة قاطعة.
أجلْ: إنّ منطق الإسلام المتين ومحتواه الغني الغزير يطهّر الأرض من أديان الشرك الملوّثة، وتخضع له الأديان السماوية المحرّفة الأُخرى وأن يشدّ بأسلوبه الشائق(3) القلوب إليه.
ولكن ما المراد بـ «الظهور على الدين كلّه»؟ أهو الظهور المنطقي؟! أم الظهور (والغلبة) العسكريان؟! هناك اختلاف بين المفسّرين..
يعتقد جماعة منهم أنّ هذا الظهور هو الظهور المنطقي والاستدلالي فحسب وهذا الأمر متحقق، لأنّ الإسلام متفوّق من حيث الإستدلال والقدرة المنطقية على جميع الأديان.
ولكنّ جماعة آخرين فسّروا هذا الظهور بالغلبة الظاهرية وغلبة القوة، وموارد استعمال كلمة «يظهر» ومشتقاتها أيضاً دليل على الغلبة الخارجية... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي أرواحنا فداء إن شاء الله.
وكما نقل عن بعض أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام»(4).
وسبق أن بحثنا في هذا المجال في نفس هذا التّفسير ذيل الآية (33) من سورة التوبة المشابهة لهذه الآية محل البحث.
وهنا ملاحظة تلتفت النظر إليها وهي أنّ البعض ذهب إلى أنّ التعبير بالهدى إشارة الى استحكام العقائد الإسلامية، في حين أنّ التعبير بـ «دين الحق» ناظرٌ إلى حقّانية فروع الدين، إلاّ أنّه لا دليل لدينا على هذا التقسيم، والظاهر أنّ الهداية والحقّانية هما في الأصول والفروع معاً...
وفي عود الضمير في «ليظهره» هل يعود على الإسلام أم على النبي؟ للمفسّرين احتمالان، إلاّ أنّ القرائن تدل بوضوح على أنّ المقصود هودين الحق، لأنّه قريب من الضمير، هذا من حيث النظم والسبك اللغوي، كما أنّ المناسب ظهور الدين على الدين الآخر لا ظهور الشخص على الدين ـ أيضاً ـ.
وآخر ما نريد بيانه في شأن هذه الآية أنّ جملة {كفى بالله شهيداً} إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ هذا التوقع أو التنبّؤ لا يحتاج إلى أي شاهد، لأنّ شاهده الله، ورسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً لا تحتاج إلى شاهد آخر، لأنّ الشاهد هو الله أيضاً، وإذا لم يوافق سهيل بن عمرو وأمثاله على كتابة عنوان (رسول الله) بعد اسم النّبي محمّد فليس ذلك مدعاة للتأثر أبداً.
وفي آخر آية وصفٌ بليغٌ لأصحاب النّبي الخاصّين والذين كانوا على منهاجه على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورُجولتهم في الحديبيّة والمراحل الأُخر كما أنّه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى القرون والأعصار!...
فتقول الآية في البداية: (محمّد رسول الله).
سواء رضي به خفافيش الليل كسهيل بن عمر وأم لم يرضَ به؟! واخفوا أنفسهم عن هذه الشمس التي أشرقت على العالم أجمع أم لم يُخفوا؟! فالله يشهد على رسالته ويشهد بذلك العارفون.
ثمّ تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم: (والذين معه أشدّاء على الكفّار).
وصفتهم الثانية أنّهم: (رحماء بينهم).
أجل: هم منطلق للمحبّة والرحمة فيما بينهم كما أنّهم نار ملتهبة وسد محكم بوجه أعدائهم الكفّار...
وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين: «الرحمة» و «الشدّة»... لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلاً، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفّار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانياً...
ثمّ تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثّالث فتقول: {تراهم ركّعاً سجّداً}.
هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين: «الركوع والسجود» على أنّها حالة دائمية لهم، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر الله الحق، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.
أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) فهم لا يعملون رياءً ولا يبتغون من الخلق الثواب، بل هدفهم رضا الله وفضله فحسب، والباعث على تحرّكهم في حياتهم جميعاً هو هذا الهدف ليس إلاّ!...
حتى التعبير بـ «فضلاً» يدل على أنّهم معترفون بتقصيرهم ويرون أعمالهم أقل من أن يطلبوا الثواب من الله، بل إنّهم مع كلّ عبادتهم وأعمالهم الصالحة ما يزالون قائلين: لولا فضلك يا ربّنا فالويل لنا..
أمّا الوصف الخامس فهوعن سيماهم المشرق إذ تقول الآية: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}(5).
«سيما» في الأصل معناها العلامة والهيأة، سواءً أكانت هذه العلامة في الوجه أم في مكان آخر وإن كانت في الإستعمال العرفي تشير إلى علامة الوجه! والأثر الظاهريّ له...
وبعبارة أُخرى أنّ قيافتهم تدلّ بصورة جيدة أنّهم أناس خاضعون أمام الله والحق والقانون والعدالة، وليست العلامة في وجوههم فحسب، بل في جميع وجودهم وحياتهم تبدو هذه العلامة...
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى بأنّ «السيماء» هي الأثر الظاهر في الجبهة من السجود أو أثر التراب عليها من مكان السجدة... غير أنّ هذه الآية كما يظهر لها مفهوم أوسع ترتسم ملامحه على وجوه هؤلاء الرجال الربّانيين...
وقال بعضهم: هذه الآية إشارة إلى إشراق وجوههم يوم القيامة كالبدر من كثرة سجودهم....
وبالطبع يمكن أن تكون جباههم ووجوههم على هذه الهيّأة يوم القيامة إلاّ أنّ الآية تتحدّث عن وضعهم الظاهري في الدنيا...
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق في تفسير هذه الجملة أنّه قال: «هو السهر في الصلاة!»(6).
ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني كلّها!...
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف: {ذلك مثلهم في التوراة}!
فهذه حقيقة مقولة قبلاً وأوصافٌ وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام...
ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير بـ(والذين معه) يحكي عن معيّة النّبي في كلّ شيء، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره ـ وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.
ثمّ يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع}(7).
«الشطأ»: معناه الفسيل أو البرعم الذي يخرج إلى جانب الساق الأصلي للزرع... و«آزره» مشتقٌّ من المؤازرة أي المعاونة.
و«استغلظ» مشتقٌّ من مادة الغلظة، أي أنّه متين...
وجملة «استوى على سوقه» مفهومها أنّ هذا الزرع بلغ قدراً من المتانة بحيث ثبت على سيقانه: و«سوق» جمع ساق ـ والتعبير بـ«يعجب الزرّاع» يعني أنّ هذا الزرع يكون سريع النمو كثير البراعم وافر النتاج إلى درجة يُسرّ به الزراع ويعجبون منه، والطريف أنّ وصفهم الثّاني في الإنجيل جاء على خمسة أمور أيضاً هي:
1 ـ أخراج الشطأ. 2 ـ والمؤازرة للنموّ. 3 ـ والإستغلاظ. 4 ـ والإستواء. 5 ـ والنموالمعجب.
وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدّث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية...
وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدّث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).
أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة... وتتنامى براعمهم دائماً ويثمرون ويتآزرون كلّ حين... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوماً بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي!...
أجل، إنّهم لا يتكاسلون في حركتهم المتّجهة إلى الإمام دائماً، وهم في حال عبادتهم مجاهدون، وفي حال جهادهم عابدون ظاهرهم سوي، وباطنهم سليم، وعواطفهم صادقة، ونيّاتهم خالصة، وهم مظهر غضب الله بوجه أعداء الحق، ومظهر الرحمة بوجه إخوانهم.
ثمّ تضيف الآية معقّبةَ: أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته: {ليغيظ بهم الكفّار}(8).
ويضيف القرآن مختتماً هذه الآية المباركة: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}.
بديهي أنّ أوصاف أصحاب النّبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما: أي أنّ الله وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمروا بالإيمان والعمل الصالح، وإلاّ فإنّ من كان يوماً مع النّبي ويوماً آخر مع سواه وعلى خلاف طريقته فلا يُشملون بهذا الوعد أبداً.
والتعبير بـ «منهم» مع الإلتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّ الأصل في كلمة «من» في مثل هذه الموارد التبعيض، وظاهر الآية يُعطي هذا المعنى أيضاً، وهذا التعبير يدلُّ على أنّ أصحاب النّبي ينقسمون قسمين ـ فطائفة منهم ـ يواصلون إيمانهم وعملهم الصالح وتشملهم رحمة الله الواسعة وأجره العظيم، وطائفة يحيدون عن نهجه فيحرمون من هذا الفيض العظيم!...
وليس معلوماً السبب في إصرار بعض المفسّرين على أنّ «من» في كلمة «منهم» بيانيّة حتماً، في حين لو ارتكبنا خلاف الظاهر وقلنا إنّ من هنا بيانية فكيف يمكن أن ندع القرائن العقلية هنا، فلا أحد يدّعي أبداً أنّ جميع أصحاب النّبي معصومون وفي هذه الصورة يزول احتمال أنّ كلّ واحد منهم بقي على عمله الصالح وإيمانه، ومع هذه الحال فكيف يعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم دون قيد وشرط سواءً عملوا الصالحات في طول مسيرتهم، أو أن يعملوا الصالحات في وقت، ثمّ ينحرفوا من منتصف الطريق!...
وهذه اللطيفة تستدعي الإلتفات وهي أنّ جملة: (والذين معه) لا تعني المرافقة الجسدية مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمصاحبة الجسمانية لأنّ المنافقين كانوا على هذه الشاكلة أيضاً... بل المراد من «معه» هو المعيّة من جهة أصول الإيمان والتقوى قطعاً... فبناءً على هذا لا يمكننا أن نستنتج حكماً كليّاً من الآية الآنفة في شأن جميع المعاصرين والمجالسين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
__________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص70-81.
2 ـ «صدق» فعل ماض قد يستوفي مفعولين كما هي الحال في الآية الآنفة فرسوله مفعول به أوّل والرؤيا مفعول ثان، وقد يستوفي هذا الفعل مفعولاً واحداً يتعدّى إلى المفعول الثّاني بفي كقولك صدقته في حديثه.
3 ـ يجري على ألسنة الناس وبعض الأدباء قولهم هذا أسلوب شيّق، وهذا التعبير خطأ،
والصحيح «شائق» أي مثير للشوق أمّا الشيّق فهو المشتاق (المصحّح).
4 ـ تفسير مجمع البيان، الجزء 5، ص25، وتفسير القرطبي ج7، ص4692نقل هذه الرواية
عن النّبي أيضاً ذيل الآية 55 من سورة النور،.
5 ـ سيماهم: مبتدأ و«في وجوههم» خبره و «من أثر السجود» قد يكون حالاً عن السيماء
والأفضل أن تعد (من) نشوية أي: «سيماهم في وجوههم وهذه السيماء والعلامة من أثر
سجودهم».
6 ـ «من لا يحضره الفقيه» و«روضة الواعظين»، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5،
ص78.
7 ـ هناك كلام بين المفسّرين في جملة «ومثلهم في الإنجيل» أهي جملة مستقلة ووصف آخر
عن أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)غير ما وُصفوا في التوراة، أم هي معطوفة على
جملة ذلك مثلهم في التوراة؟ فيكون الوصفان مذكورين في كتابين سماويين! الظاهر أنّ الآية ذكرت الوصفين كلاًّ على حدة في كتاب سماوي ولذلك كرّرت كلمة «مثلهم» ولوكان هذا الوصف معطوفاً على السابق لاقتضت الفصاحة أن يكون التعبير: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل.
8 ـ يرى كثير من المفسّرين أنّ اللام في جملة «ليغيظ بهم الكفّار» هي لام التعليل، فيكون
مفهوم الجملة: إنّ هذه القوّة والقدرة جعلها الله نصيب أصحاب محمّد ليغيظ بهم الكفّار..
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|