أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-9-2017
9566
التاريخ: 24-9-2017
7451
التاريخ: 25-9-2017
48409
التاريخ: 24-9-2017
31529
|
قال تعالى : {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 16 - 20].
ضرب سبحانه لليهود والمنافقين مثلا فقال {كمثل الشيطان} أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان {إذ قال للإنسان اكفر} وهو عابد بني إسرائيل عن ابن عباس قال إنه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرءون على يده وأنه أتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها قتلها ودفنها فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا فذكر ذلك له فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا يكبر علي ذكره فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم فسار الملك والناس فاستنزلوه(2) فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال أنا الذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصك مما أنت فيه قال نعم قال اسجد لي سجدة واحدة فقال كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة فقال أكتفي منك بالإيماء فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل الرجل فهو قوله {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}.
{فلما كفر قال إني بريء منك} ضرب الله هذه القصة لبني النضير حين اغتروا بالمنافقين ثم تبرأوا منهم عند الشدة وأسلموهم وقيل أراد كمثل الشيطان يوم بدر إذ دعا إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما رأى الملائكة رجع القهقرى وقال إني أخاف الله وقيل أراد بالشيطان والإنسان اسم الجنس لا المعهود فإن الشيطان أبدا يدعو الإنسان إلى الكفر ثم يتبرأ منه وقت الحاجة عن مجاهد وإنما يقول الشيطان {إني أخاف الله رب العالمين} يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه أنهما صارا إلى النار بقوله {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} يعني عاقبة الفريقين الداعي والمدعو من الشيطان ومن أغواه من المنافقين واليهود أنهما معذبان في النار {وذلك جزاء الظالمين} أي وذلك جزاؤهم ثم رجع إلى موعظة المؤمنين فقال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} يعني ليوم القيامة والمعنى لينظر كل امرىء ما الذي قدمه لنفسه أ عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه ويرديه فإنه وارد عليه قال قتادة إن ربكم قرب الساعة حتى جعلها كغد وأمركم بالتدبر والتفكر فيما قدمتم {واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} إنما كرر الأمر بالتقوى لأن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب والثانية أ المعاصي في المستقبل وقيل إن الثانية تأكيد للأولى {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي تركوا أداء حق الله {فأنساهم أنفسهم} بأن حرمهم حظوظهم من الخير والثواب وقيل نسوا الله بترك ذكره بالشكر والتعظيم فأنساهم أنفسهم بالعذاب الذي نسي به بعضهم بعضا كما قال فسلموا على أنفسكم أي ليسلم بعضكم على بعض عن الجبائي ويريد به بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع عن ابن عباس {أولئك هم الفاسقون} الذين خرجوا من طاعة الله إلى معصيته {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} أي لا يتساويان لأن هؤلاء يستحقون النار وأولئك يستحقون الجنة {أصحاب الجنة هم الفائزون} بثواب الله الظافرون بطلبتهم .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص438-439.
2- في نسخة : فاستزلوه.
قال تعالى :{كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهً رَبَّ الْعالَمِينَ} . قال المنافقون لبني النضير : قاتلوا محمدا ، ونحن معكم في القتال وفي الجلاء ، ولما نزل بهم البلاء اختفى المنافقون في أوكارهم ، وما ظهر لهم عين ولا أثر ، وقد شبه سبحانه حال المنافقين هذه مع بني النضير بحال الشيطان مع الإنسان الأثيم ، يغريه بالفساد والضلال ، ويمنيه السلام ، فإذا جد الجد تركه للعذاب والهلاك ، وتبرأ منه ومن عمله ، وتظاهر بالخوف من اللَّه .
وتقدم مثله في الآية 48 من سورة الأنفال ج 3 ص 491 والآية 22 من سورة إبراهيم ج 4 ص 438 {فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ} . الضمير في عاقبتهما يعود إلى الشيطان والإنسان الذي وقع في شباكه ، والمعنى واضح ويتلخص بأن كلا من الخادع والمخدوع في جهنم وساءت مصيرا .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً} الذي أنتم في قبضته ، ومن يتق اللَّه يجعل له من أمره يسرا {ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} . كل ما يعمله الإنسان في هذه الحياة يقدم عليه في اليوم الآخر ، والناقد البصير ينظر إلى دنياه نظرة من يترك فيها من الصالحات لا من يأخذ من ملذاتها وكفى {واتَّقُوا اللَّهً إِنَّ اللَّهً خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} .
انه تعالى يعلم من آمن به قولا وعملا ، ومن آمن به كفكرة يذكرها في أقواله ، وينساها في أفعاله ، وكرر سبحانه الأمر بالتقوى مبالغة في الحث والترغيب .
{ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهً فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ} . نسوا العمل بأمر اللَّه ، فأنساهم العمل لمصلحة أنفسهم ، وما ينفعها يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه ، وأغش الناس من نسي نفسه ولم يعمل لسلامتها من الهلاك {أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} لأنهم لم ينتفعوا ببيان اللَّه ، ويتعظوا بمواعظه {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} . وكيف يستوي الصالح والطالح ، والشقي
والسعيد ؟ . وتقدم هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية 18 من سورة السجدة ج 6 ص 183 .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص293-294.
قوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} إلخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة.
وظاهر سياق يفيد أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس والإشارة إلى غرور الشيطان للإنسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له وتسويل الإعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة والأماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة وعاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سرابا يغره وخيالا يلعب به تبرأ منه الشيطان ولم يف بما وعده وقال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين.
وبالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعدهم النصر ثم الغدر بهم وخلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوة الإنسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة.
وقيل: المراد بالتمثيل الإشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر وسيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وقيل: المثل السابق المذكور في قوله: {كمثل الذين من قبلهم قريبا} مثل كفار مكة يوم بدر - كما تقدم - والمراد بالإنسان في هذا المثل أبو جهل وبقول الشيطان له اكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].
وعلى هذا الوجه فقول الشيطان: {إني أخاف الله رب العالمين} قول جدي لأنه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدر وأما على الوجهين الأولين فهونوع من الاستهزاء والإخزاء.
قوله تعالى: {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان والإنسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الإنسان وإضلاله والإنسان في اغتراره به وضلاله، وإشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير وغدرهم بهم وعاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب وإصرارهم على المشاقة والمخالفة، ومعنى الآية ظاهر.
وقوله تعالى : {يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ ولْتَنظرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَت لِغَدٍ واتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) ولا تَكُونُوا كالّذِينَ نَسوا اللّهَ فَأَنساهُمْ أَنفُسهُمْ أُولَئك هُمُ الْفاَسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ }:
الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أشير فيها إلى مشاقة بني النضير من اليهود ونقضهم العهد وذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم وأخراهم، وتحريض المنافقين لهم على مشاقة الله ورسوله وهو الذي أهلكهم، وحقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم ونسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم وصلاح عاجلهم وآجلهم فتاهوا وهلكوا.
فعلى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يذكر ربه ولا ينساه وينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازما لا يفارقه.
وهذا هو الذي يرومه قوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه ولا ينسوه وينظروا في أعمالهم التي على صلاحها وطلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة ويوبخوها ويزجروها على ما اقترفت من سيئة ويستغفروا.
وذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته وكبريائه من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية ولا كمال للإنسان فوقه.
وذلك أن الإنسان عبد محض ومملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، وكمال الشيء محوضته في نفسه وآثاره فكمال الإنسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال وأن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع والخشوع والذلة والاستكانة والفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة والعزة والغنى وأن تجري أعماله وأفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شيء من هذه المراحل الذات والصفات والأفعال.
ولا يتم له النظر إلى ذاته وصفاته وأفعاله بنظرة التبعية المحضة والمملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شيء شهيد وبكل شيء محيط وهو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أوينساه.
وعندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ، ويعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، ويظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته وجهات نقصه من خضوع وخشوع وذلة وفقر وحاجة.
ويتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور واستمرار الذكر، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُو وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [الأعراف: 205، 206] وقال: { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38].
وإلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله ومعرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص والحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: {لو أنزلنا هذا القرآن} إلى آخر الآيات.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} إلى آخر الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله وبأمر آخر وهو النظر في الأعمال التي قدموها ليوم الحساب أ هي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخش عقاب الله عليها ويتدارك بالتوبة والإنابة وهو محاسبة النفس.
أما التقوى وقد فسر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات والمحرمات جميعا كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات وفعل المحرمات.
وأما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الإصلاحي ثانيا من عامل في عمله أوصانع فيما صنعه لتكميله ورفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل والصنع.
فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله فيما وجه إليهم من التكاليف فيطيعوه ولا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الأعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أ صالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله ويستغفروه.
وهذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل وعدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الإيمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم وإلى ذلك يلوح لفظ الآية {ولتنظر نفس}.
فقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الإيمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا واستغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة وإصلاح أمور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة وعلقه بنفس ما منكرة فقال: {ولتنظر نفس} وفي هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاما بحسب الطبع عتاب وتقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم.
وقوله: {ما قدمت لغد} استفهام من ماهية العمل الذي قدمت لغد وبيان للنظر، ويمكن أن تكون {ما} موصولة وهي وصلتها متعلقا بالنظر.
والمراد بغد يوم القيامة وهو يوم حساب الأعمال وإنما عبر عنه بغد للإشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه، ولتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل ولتر ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أ هو عمل صالح أو طالح وهل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود.
وقوله: {واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} أمر بالتقوى ثانيا و{إن الله خبير} إلخ، تعليل له وتعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيرا بالأعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة والنظر فيها من حيث إصلاحها وإخلاصها لله سبحانه وحفظها عما يفسدها، وأما قوله في صدر الآية: {اتقوا الله} فالمراد به التقوى في أصل إتيان الأعمال بقصرها في الطاعات وتجنب المعاصي.
ومن هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، والثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها وإخلاصها.
وظهر أيضا أن قول بعضهم: إن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد ومثله ما قيل: إن الأولى في أداء الواجبات والثانية في ترك المحرمات، ومثله ما قيل: إن الأمر الثاني لتأكيد الأمر الأول فحسب.
قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} إلخ، النسيان زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه ويتوسع فيه مطلق على مطلق الإعراض عن الشيء بعدم ترتيب الأثر عليه قال تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [الجاثية: 34].
والآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب والجزاء عملا صالحا تحيى به أنفسكم ولا تنسوه.
ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي ترتبط بها صفات الإنسان الذاتية من الذلة والفقر والحاجة فيتوهم الإنسان نفسه مستقلة في الوجود ويخيل إليه أن له لنفسه حياة وقدرة وعلما وسائر ما يتراءى له من الكمال ونظراؤه في الاستقلال سائر الأسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه وتتأثر عنه.
وعند ذلك يعتمد على نفسه وكان عليه أن يعتمد على ربه ويرجو ويخاف الأسباب الظاهرية وكان عليه أن يرجو ويخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه وكان عليه أن يطمئن إلى ربه.
وبالجملة ينسى ربه والرجوع إليه ويعرض عنه بالإقبال إلى غيره، ويتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه من كمالات الوجود وإليه تدبير أمره مستمدا مما حوله من الأسباب الكونية وليس هذا هو الإنسان بل الإنسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله وهكذا، وما له من الكمال كالوجود والعلم والقدرة والعزة والغنى وهكذا فلربه وإلى ربه انتهاؤه ونظراؤه في ذلك سائر الأسباب الكونية.
والحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لأن انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ وآكد، ولم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: ولا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير وأقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيرا به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير وبني قينقاع ومن حاله حالهم في مشاقة الله ورسوله.
فقال: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} ثم فرع عليه قوله: {فأنساهم أنفسهم} تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: {أولئك هم الفاسقون} فدل على أنهم فاسقون حقا خارجون عن زي العبودية.
والآية وإن كانت تنهى عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله ومراقبته.
فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الأولى تأمر بمحاسبة النفس والثانية تأمر بالذكر والمراقبة.
قوله تعالى: "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون" قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة انتهى.
والسياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله وبأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون.
والآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما وهما الذاكرون لله والناسون له لا بد للإنسان أن يلحق بأحدهما وليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان ولا يبالي الإنسان بأيهما لحق؟ بل هناك راجح ومرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح والرجحان لقبيل الذاكرين لأنهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.
________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص187-194.
حيل الشيطان والمهالك:
يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصّة بني النضير والمنافقين ورسم خصوصية كلّ منهم في تشبيهين رائعين:
يقول سبحانه في البداية: {كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم}(2).
تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الإعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم، خاصّة وأنّ الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.
ويعتقد البعض أنّ المقصود بقوله: {الذين من قبلهم} هم مشركو مكّة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكلّ كبريائهم في غزوة «بدر»، وأنهكتهم ضربات مقاتلي الإسلام، لأنّ هذه الحادثة لم يمرّ عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني النضير، ذلك لأنّ حادثة بني النضير ـ كما أشرنا سابقاً ـ حدثت بعد غزوة «اُحد»، وغزوة بدر قبل غزوة اُحد بسنة واحدة، وبناءً على هذا فلم يمض وقت طويل بين الحادثتين.
في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسّرين إشارة إلى قصّة يهود «بني قينقاع»، التي حدثت بعد غزوة بدر، وإنتهت بإخراجهم من المدينة.
وطبيعي أنّ هذا التّفسير مناسب أكثر ـ حسب الظاهر ـ بإعتباره متلائماً أكثر مع يهود بني النضير، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهدّدون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية ـ كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله ـ إلاّ أنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
«وبال» بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل) بمعنى المطر الغزير، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً ويقلق الإنسان من عاقبته المرتقبة، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.
ثمّ يستعرض القرآن الكريم تشبيهاً للمنافقين حيث يقول سبحانه: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال انّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين}(3).
ما المقصود بـ «الإنسان» في هذه الآية؟
هل هومطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة، ويسير به في طريق الكفر والضلال، ثمّ إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم؟.
أوأنّ المقصود به شخص خاصّ أو(إنسان معيّن) كأبي جهل وأتباعه، حيث أنّ ما حصل لهم في غزوة بدر كان نتيجة تفاعلهم مع الوعود الكاذبة للشيطان، وأخيراً ذاقوا وبال أمرهم وطعم المرارة المؤلمة للهزيمة والإنكسار، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 48].
أوأنّ المقصود منه هنا هو(برصيصا) عابد بني إسرائيل، حيث إنخدع بالشيطان وكفر بالله، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه وإبتعد عنه، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله ...؟
التّفسير الأوّل هو الأكثر إنسجاماً مع مفهوم الآية الكريمة، أمّا التّفسيران الثاني والثالث فنستطيع أن نقول عنهما: إنّهما بيان بعض مصاديق هذا المفهوم الواسع.
وعلى كلّ حال فإنّ العذاب الذي يخشاه الشيطان ـ في الظاهر ـ هو عذاب الدنيا، وبناءً على هذا فإنّ خوفه جدّي وليس هزلا أو مزاحاً، ذلك لأنّ الكثير من الأشخاص يخشون العقوبات الدنيوية المحدودة، إلاّ أنّهم لا يأبهون للعقوبات البعيدة المدى ولا يعيرون لها إهتماماً.
نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اُتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.
وتتحدّث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة، حيث النار خالدين فيها، فيقول سبحانه عنهم: {فكان عاقبتهما أنّهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين}(4).
وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق، والشيطان وحزبه، هو الهزيمة والخذلان، وعدم الموفّقية، وعذاب الدنيا والآخرة، في الوقت الذي تكون ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء، وعاقبته الخير ونهايته الإنتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.
وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان إستنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين، حيث يقول تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}(5).
ثمّ يضيف تعالى مرّة اُخرى للتأكيد بقوله: {واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون}.
نعم، التقوى والخوف من الله يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.
إنّ تكرار الأمر بالتقوى هنا تأكيد محفّز للعمل الصالح، كما أنّ الرادع عن إرتكاب الذنوب هو التقوى والخوف من الله تعالى.
واحتمل البعض أنّ الأمر الأوّل للتقوى هو بلحاظ أصل إنجاز الأعمال، أمّا الثاني فإنّه يتعلّق بطبيعة الإخلاص فيها.
أو أنّ الأوّل ملاحظ فيه إنجاز أعمال الخير، بقرينة جملة (ما قدّمت). والثاني ملاحظ فيه ما يتعلّق بتجنّب المعاصي والذنوب.
أو أنّ الأوّل إشارة إلى التوبة من الذنوب الماضية، والثاني (تقوى) للمستقبل.
إلاّ أنّه لا توجد قرينة في الآيات لهذه التفاسير، لذا فإنّ التأكّد أنسب.
والتعبير بـ (غد) إشارة إلى يوم القيامة، لأنّه بالنظر إلى قياس عمر الدنيا فإنّه يأتي مسرعاً، كما أنّ ذكره هنا بصيغة النكرة جاء لأهميّته.
والتعبير بـ (نفس) دلالة على مفرد، ويمكن أن تعني كلّ نفس، يعني كلّ إنسان يجب أن يفكّر بـ (غده) بدون أن يتوقّع من الآخرين إنجاز عمل له، وما دام هو في هذه الدنيا فإنّه يستطيع أن يقدّم لآخرته بإرسال الأعمال الصالحة من الآن إليها.
وقيل أنّه إشارة إلى قلّة الأشخاص الذين يفكّرون بيوم القيامة، كما نقول: (يوجد شخص واحد يفكّر بنجاة نفسه) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، كما أنّ خطاب {يا أيّها الذين آمنوا} وعمومية الأمر بالتقوى، دليل على عمومية مفهوم الآية.
وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر الله سبحانه، حيث يقول تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم}.
وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر الله تعالى، وذلك بالتوجّه والإنشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه وإستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كلّ الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في صحيفة أعمالنا .. ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.
والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ القرآن الكريم يعلن هنا ـ بصراحة ـ أنّ الغفلة عن الله تسبّب الغفلة عن الذات، ودليل ذلك واضح أيضاً، لأنّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلى إنغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية، وينسى خالقه، وبالتالي يغفل عن إدّخار ما ينبغي له في يوم القيامة.
ومن جهة اُخرى فانّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدّسة وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي، والغنى اللامحدود .. وكلّ ما سواه مرتبط به، ومحتاج لذاته المقدّسة .. كلّ ذلك يسبّب أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنياً عن المبدأ(6).
وأساساً فإنّ النسيان ـ بحدّ ذاته ـ من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.
وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور، بل إنّ نسيان الذات هومن أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله، ولهذا يقول سبحانه: {اُولئك هم الفاسقون).
وممّا يجدر بيانه أنّ الآية لم تقل «لا تنسوا الله»، بل وردت بعبارة {ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وهي في الحقيقة بيان مصداق حسّي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة نسيان الله تعالى.
والظاهر أنّ المقصود في هذه الآية هم المنافقون والذين اُشير لهم في الآيات السابقة، أوأنّ الملاحظ فيها هم يهود بني النضير، أوكلاهما.
وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
ومع وجود قدر من التفاوت بين الآيتين، أنّه ذكر نسيان الله هناك كسبب لقطع رحمة الله عن الإنسان، وفي هذه الآية محل البحث سبب لنسيان الذات. وبالتالي فإنّ الآيتين تنتهيان إلى نقطة واحدة. «فلاحظ»
وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين: الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد، والجماعة الغافلة عن ذكر الله، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن الله بنسيان ذاتها.
حيث يقول سبحانه: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنّة}.
ليس في الدنيا، ولا في المعتقدات، وليس في طريقة التفكير والمنهج، وليس في طريقة الحياة الفردية والإجتماعية للإنسان وأهدافه، ولا في المحصّلة الاُخروية والجزاء الإلهي .. إذ أنّ خطّ كلّ مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض .. متعارض في كلّ شيء وكلّ مكان وكلّ هدف .. إحداهما تؤكّد على ذكر الله والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .. والاُخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان(7).. وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق طريقين، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل، أو بالقسم الثاني، وليس غيرهما من سبيل آخر.
وفي نهاية الآية نلاحظ حكماً قاطعاً حيث يضيف سبحانه: {أصحاب الجنّة هم الفائزون}.
فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضاً، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتّقين، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.
ونقرأ في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه فسّر (أصحاب الجنّة) بالأشخاص الذين أطاعوه، وتقبّلوا ولاية علي (عليه السلام). وأصحاب النار بالأشخاص الذين رفضوا ولاية علي (عليه السلام)، ونقضوا العهد معه وحاربوه(8)
وطبيعي أنّ هذا أحد المصاديق الواضحة لمفهوم الآية، ولا يحدّد عموميتها.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص92-97.
2 ـ هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم.
3 ـ بالرغم من أنّ التعبير بـ (كمثل) في هذه الآية وفي الآية السابقة متشابهان، فإنّ بعض المفسّرين اعتبر الإثنين دليلا على مجموعة واحدة، إلاّ أنّ القرائن تبيّن بوضوح أنّ الأوّل يحكي وضع يهود بني النضير، والثاني يحكي وضع المنافقين، وعلى كلّ حال فإنّ هذه العبارة أيضاً خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم كمثل الشيطان.
4 ـ «عاقبتهما» خبر «كان» ومنصوب، و(إنّهما في النار) جاءت بمكان اسم كان و«خالدين» حال لضمير «هما».
5 ـ «ما» في (ما قدّمت لغد) هل أنّها موصولة أو إستفهامية؟ هناك إحتمالان، والآية الشريفة لها القدرة على تقبّل الإحتمالين، بالرغم من أنّ الإستفهامية أنسب.
6 ـ الميزان، ج19، ص253.
7 ـ حذف المتعلّق أي متعلّق «لا يستوي» دليل على العموم.
8 ـ نور الثقلين، ج5، ص292.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|