أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2017
2384
التاريخ: 3-9-2017
2591
التاريخ: 21-8-2017
2907
التاريخ: 8-8-2017
2845
|
الماء حياة العالم، وليست حاجة أي جزء من أجزائه أمسّ من الآخر، فلا جزء ولا جزيء في الكون إلاّ وهو خاضع له، في وجوده، وفي نشوئه وبقائه، وقد أعرب عنه سبحانه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .
وإليه استند ابن عباس في حلّ لغز ملك الروم، فإنّه وجّه إلى معاوية قارورة يطلب منه أن يضع فيها من كُلّ شيء، فتحيّر معاوية واستعان بابن عباس في كشف الرمز، لعلمه بأنّه يستقي من بحر أمير المؤمنين (عليه السلام) المتموّج بالحكم والأسرار، فقال ابن عباس: " لتملأ له ماء، فإنّ اللّه يقول { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ }، فأدهش ملك الروم وتعجّب وقال: للّه أبوه ما أدهاه " .
فلا يخالج اليقين بأهمّيته الكبرى في دور الحياة أي شكّ.
وإن من يكون معروفه الذي تندى به أنامله، وتسوقه إليه جبلته، هذه المادة الحيوية، لعلى جانب ممنع من الفضل، وقد عرقت فيه شائج الرقة، وتحلّى بغريزة العطف، ونبض فيه عرق الحنان، ولا يكون إسداء مثله إلاّ عن لين ورأفة على الوجود، وإن تفاوتت المراتب بالنسبة إلى الموجدات الشريفة وما دونها، ولا يعدو الشرف والشهامة هذا المتفضّل بسرّ الحياة، فهو شريف يحب الإبقاء على مثله، أو عطوف لا يجد على الاغاثة منه، ولا على قدرته في الإعانة لسائر الموجودات جهداً ولا عطباً.
وإذا كانت الشريعة المطهّرة حثّت على السقاية ذلك الحثّ المتأكد، فإنّما تلت على الناس أسطراً نوريّة، ممّا جبلوا عليه، وعرفت الأُمة بأنّ الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المترتّب على سقي الماء في الدار الآخرة، ليكونوا على يقين من أنّ عملهم هذا موافق لرضوان اللّه وزلفى للمولّى سبحانه، يستتبع الأجر الجزيل، وليس هو طبيعي محضّ.
وهذا ما جاء عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، من فضل بذل الماء في محلّ الحاجة إليه وعدمها، كان المحتاج إليه حيواناً، أو بشراً، مؤمناً كان، أو كافراً.
ففي حديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل الأعمال عند اللّه أبراد الكبد الحرى من بهيمة وغيرها ، ولو كان على الماء، فإنّه يوجب تناثر الذنوب كما تنتثر الورق من الشجر ، وأعطاه اللّه بكُلّ قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة، وسقاه من الرحيق المختوم، وإن كان في فلاة من الأرض ورد حياض القدّس مع النبيّين .
وسأله رجل عن عمل يقرّبه من الجنّة فقال: " اشتر سقاء جديداً ثُمّ اسق فيه حتّى تخرقه، فإنّك لا تخرقه حتّى تبلغ به عمل الجنّة " .
وقال الصادق (عليه السلام): " من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيى نفساً، ومن أحيى نفساً فكأنّما أحيى الناس أجمعين " .
وقد دلّت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود، ومن هنا كان الناس فيه شرع سواء كالكلاء والنار، فلا يختصّ اللطف منه جلّ وعلا بطائفة دون طائفة.
وقد كشف الإمام الصادق (عليه السلام) السرّ في جواب من قال له: ما طعم الماء؟ فقال (عليه السلام): " طعم الحياة " .
فالسقاية أشرف شيء في الشريعة المطهّرة، تلك أهميتها عند الحقيقة، ومكانتها من النفوس، ولهذه الأهمية ضرب المثل " بكعب بن مامة الأيادي " .
وأضحت السقاية العامة لا ينوء بعبئها إلاّ من حلّ وسطاً من السؤدد والشرف وأعالي الأُمم لاساقتها، ولذا أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج، فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المُحلّى كما كان يسقيهم اللبن .
وكان ينقل الماء إلى مكة من آبار خارجها، ثُمّ حفر بئراً اسمها (العجول) في الموضع الذي كانت دار أُم هاني فيه، وهي أوّل سقاية حفرت بمكة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا:
نروي على العجول ثُمّ نَنطلق ... إنّ قصياً قد وفى وقد صدق
ثُمّ حفر قصي بئراً سمّاها (سجلة) وقال فيها :
أنا قُصّي وحَفرتُ سِجلة ... تروي الحجيج زغلة فزغلة
وكان هاشم أيام الموسم يجعل حياضاً من آدم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء إلى منى لسقايتهم، وهو يومئذ قليل .
ثُمّ إنّه حفر بئراً سمّاها (البندر) وقال: " إنّها بلاغ للناس فلا يمنع منها أحداً " .
وأمّا عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج، وزاد على ذلك أنّه لمّا حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة، لمكانها من المسجد الحرام، وفضلها على من سواها لأنها بئر إسماعيل ، وبنى عليها حوضاً، فكان هو وابنه الحرث ينزعان الماء ويملأن الحوض، فحسدته قريش على ذلك، وعمدوا إلى الحوض بالليل فكسروه، فكان عبد المطلب يصلحه بالنهار وهم يكسرونه بالليل، فلمّا أكثروا عليه إفساده دعا عبد المطلب ربّه سبحانه وتعالى، فرأى في المنام قائلاً يقول: " قل لقريش إنّي لا أحلّها لمغتسل، وهي لشارب حلّ وبل "، فنادى في المسجد بما رأى، فلم يفسد أحد من قريش حوضه إلاّ رمي بداء بجسده حتّى تركوا حوضه وسقايته ، وفي ذلك يقول خويلد بن أسد :
أقولُ ومَا قَولِي عَليهمُ بسبّة ... إليكَ ابنُ سَلمّى أنتَ حَافِرُ زَمزَمُ
حَفيرةُ إبراهِيمَ يَومَ ابنِ هَاجَر ... وَركضَةَ جِبريِل عَلى عَهد آدَمِ
ولمّا وافق قريشاً على المحاكمة عند كاهنة بني سعد بن هذيم، وكان بمشارف الشام، وسار عبد المطلب بمن معه من قومه، حيث إذا كانوا بمفازة لا ماء فيها ونفد ماؤهم استسقوا ممّن كان معهم من قريش، فأبوا أن يسقوهم، حفظاً على الماء، فأمر عبد المطلب أصحابه أن يحفروا قبوراً لهم ويدفن من يموت منهم عطشاً في حفرته ويبقى واحد، فضيعة واحد أيسر من ضيعة جماعة، وبعد أن فرغوا من الحفر قال عبد المطلب: " إنّ هذا منّا لعجز، لنضربنّ في الأرض عسى اللّه أن يرزقنا ماءً، فركب راحلته، فلمّا انبعث نبع من تحت خفها ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وشرب أصحابه وملؤوا أسقيتهم، ودعا قريشاً أن يستقوا من الماء، فأكثروا منه، ثُمّ قالوا: إنّ اللّه قد قضى لك علينا ولا نخاصمك في زمزم، إنّ الذي سقاك في هذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع راشداً.
وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء أن طرح الزبيب فيه، وكان يحلب الإبل، فيضع اللبن مع العسل في حوض من ادم عند زمزم، لسقاية الحاج " .
ثُمّ قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج ، وكان يجعل عند رأس كُلِّ جادة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاج، وأكثر من حمل الماء أيام الموسم، ووفّره في المشاعر فقيل له: (ساقي الحجيج).
أمّا أمير المؤمنين فقد حوى أكثر ممّا حواه والده الكريم من هذه المكرمة، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها، وذلك يوم بدر، وقد أجهد المسلمين العطش، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طلب الماء، فرقاً من قريش، لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء، وثار به كرمه المتدفق، فلبّى دعاء الرسول، وانحدر نحو القليب، وجاء بالماء حتّى أروى المسلمين .
ولا ينسى يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كُلِّ غيور، فإنّ معاوية لمّا نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء، حتّى كضهم الضمأ، فأنفذ إليه أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، يسألانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه اللّه تعالى لجميع المخلوقات، وكُلّهم فيه شرع سواء، فأبى معاوية إلاّ التردي في الغواية والجهل، فعندها قال أمير المؤمنين: " ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء " ، ثُمّ أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام حملة واحدة، فحمل الأشتر والأشعث في سبعة عشر ألفاً والأشتر يقول:
مِيعَادُنَا اليَومَ بَياضُ الصُبْحِ ... هَل يَصلُحُ الزَادُ بغَيرِ مِلحِ؟
والأشعث يقول:
لأورِدنّ خَيلِي الفُرَاتَا ... شِعثَ النَواصِي أو يُقَالَ مَاتَا
فلمّا أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه، أبى صاحب النفسية المقدّسة التي لا تعدوها أي مأثرة، أن يسير على نهج عدوه، حتّى أباح الماء لأعدائه، ونادى بذلك في أصحابه ، ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدوّ بأيّ صورة.
هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة، متبوّئين على منصّات المجد والخطر، متكئين على أرائك العزّ والمنعة، وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم، وطهارة أعراقهم، أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة، وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم.
وأنت إذا استشففت الخصوصيات المكتنفة بكُلِّ منها، فإنّ الصراحة لا تدعك إلاّ أن تقول بتفاوت المراتب فيها من ناحية الفضيلة.
كما لا تجد منتدحاً عن تفضيل الحسين على غيره يوم سقى الحر وأصحابه في " شراف " ، وهو عالم بحراجة الموقف، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم، ووخامة المستقبل، وإنّ الماء غداً دونه تسيل النفوس، وتشق المرائر، لكن العنصر النبوّي، والأصرة العلوية لم يتركا صاحبهما إلاّ أن يحوز الفضل.
وأني أحسب أنّ ما ناء به أبو الفضل (عليه السلام) في أمر السقاية لا يوازنه شيء من ذلك، يوم ناطح جبالاً من الحديد ببأسه الشديد، حتّى اخترق الصفوف، وزعزع هاتيك الألوف، وليس له هَمّ في ذلك المأزق الحرج إلاّ إغاثة شخصيّة الرسالة، المنتشرة في تلك الأمثال القدّسية من الذرية الطيّبة، ولم تقثعه هذه الفضيلة حتّى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذّ بشيء من الماء قبل أن يلتذّ به أخوه الإمام وصبيته الأزكياء.
هنالك حداه إيمانه المشفوع باليقين، وحنانه المرتبط بالكرم إلى أن ينكفىء إلى المخيّم ولا يحمل إلاّ مزادة من ماء، يدافع عنها بصارمه الذكر، ويزينه المثقف ولواء الحمد يرفّ على رأسه، غير أنّ ما يحمله هو أنفس عنده من نفسه الكريمة، بلحاظ ما يريده من المحافظة على تلك المزادة الملأى.
وراقه أن تكون هي الذخيرة الثمينة، مشفوعة بما هو أعظم عند اللّه تعالى، فسمح بيمينه وشماله ـ وكلتاهما يمن ـ أن تقطعا بعين اللّه، في كلاءة ما يتهالك دونه، لينال الأُمنيّة قبل المنيّة، وما خارت عزيمة العبّاس (عليه السلام) إلاّ حين أحبّ أن لو كانت المراقة نفسه لا القربة. فيا أبعد اللّه سهماً أسال ماءها، ولم يكن " سعد العشيرة " طالباً للحياة بعده لو لم يأته العمود الطائش، ألا لعنة اللّه على الظالمين.
ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه في الأيام العشرة سُمّي " السقا "، نصّ عليه أبو الحسن في المجدي، والداودي في عمّدة الثالب، وابن إدريس في مزار السرائر، وأبو الحسن الديار البكري في تاريخ الخميس ج2 ص317، والنويري في نهاية الأرب ج2 ص341، والشبلنجي في نور الأبصار ص93، والعلاّمة الحجة محمّد باقر القايني في الكبريت الأحمر ج2 ص34 .
ولصاحب هذا اللقب فيوضات على الأُمة لا تحد، وبركات لا تحصر:
هو البَحرُ مِن أيّ النَواحِي أتَيتَهُ ... فِلجتُهُ المَعرُوفِ والجُودِ سَاحِله
ومن ذلك ما ذكره العلاّمة السند السيّد محمّد بن آية اللّه السيّد مهدي القزويني (قدس سره) في كتاب " طروس الإنشاء " قال: " في سنة 1306 هـ انقطع نهر الحسينية، وعاد أهل كربلاء يقاسون شحّة الماء، وكضّة الظمأ، فأمرت الحكومة العثمانية بحفر نهر في أراضي السيّد النقيب السيّد سلمان، فمنع النقيب ذلك، واتفق أن زرت كربلاء، فطلب أهلها أن أكتب إلى النقيب، فكتبت إليه ما يشجيه، وعلى حالهم يبكيه:
في كَربلا لَك عُصبةُ تَشكُوا الظَمَا ... من فَيضِ كَفِّكَ تستمِدُ رَوُاءهَا
وأراكَ يَا سَاقِي عُطَاشى كَربَلا ... وأبوُكَ سَاقِي الحَوضَ تَمنعُ مَاءَها
فأجاز النقيب حفر النهر، وانتفع أهل كربلاء ببركة هذا اللقب الشريف (السقا).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|