أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-5-2016
3732
التاريخ: 29-09-2015
1733
التاريخ: 23-1-2023
1167
التاريخ: 1-02-2015
1893
|
قام الرسل بإبلاغ رسالات الله سبحانه إلى الناس ، دون أن يبغوا أجراً منهم ، بل كان عملهم خالصاً لوجهه سبحانه ، لأنّ إبلاغ رسالاته كانت فريضة إلهية على عواتقهم ، فكيف يطلبون الأجر للعمل العبادي الذي لا يبعثهم إليه إلاّ طاعة أمره وطلب رضاه ، ولذلك كان شعارهم دوماً ، قولهم {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] .
فقد ذكر سبحانه على لسان الأنبياء تلك الآية في سورة الشعراء ، ونقلها عن عديد من أنبيائه ، نظراء : نوح (1) ، هود (2) صالح (3) لوط (4) شعيب (5).
وقد جاء هذا الشعار في سور أُخرى نقلها القرآن الكريم عن رسله وأنبيائه ، فقد كانوا يخاطبون أُمَمهم بقولهم :
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29] .
{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود: 51] .
فإذا كان هذا موقف الأنبياء من أُمَمهم ، فكيف يصح للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطلب الأجر ؟! بل هو أولى بأن يكون عمله خالصاً لله ، لأنّه خاتم الرسل وأفضلهم ، وقد كان يرفع ذلك الشعار أيام بعثته ، بأمر منه سبحانه ويتلو قوله تعالى : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] .
هذه هي حقيقة قرآنية لا يمكن إنكارها ، ومع ذلك نرى انّه سبحانه يأمره في آية أُخرى بأن يطلب منهم مودة القربى أجراً للرسالة.
ويقول : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] .
فكيف يمكن الجمع بين هذه الآية ، وما تقدم من الآية الخاصَّة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) والآيات الراجعة إلى سائر الأنبياء ، فانّهم عليهم السلام كانوا على نهج واحد ؟ هذا هو السؤال المطروح في المقام.
والإجابة عليه تتوقَّف على نقل ما ورد حول الموضوع في القرآن الكريم ، فنقول : الآيات التي وردت حول أجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصناف أربعة :
الثاني : ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : فيقول سبحانه : {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47] .
الثالث : ما يُعرّف أجره ، بقوله : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] فكان اتخاذ السبيل إلى الله هو أجر الرسالة.
الرابع : ما يجعل مودة القربى أجراً للرسالة ، ويقول : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
فهذه العناوين الأربعة لابدّ أن ترجع إلى معنى واحد ، وهذا هو الذي نحاول أن نسلّط عليه الأضواء.
الجواب : انّ لفظة الأجر يطلق على الأجر الدنيوي والأُخروي غير انّ المنفي في تلك الآيات بقرينة نفي طلبه عن الناس هو الأجر الدنيوي على الإطلاق ، ولذلك لم ينقل التاريخ أبداً أن يطلب نبي لدعوته شيئاً بل نقل خلافه.
هذه هي قريش تقدَّمت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي طليعتهم أبو الوليد ، فتقدم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : يا بن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر ، مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا ، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك ، طلبنا لك الطبَّ ، وبذلنا فيه أموالنا حتي نُبرئك منه ، فانّه ربما غلب التابع علي الرجل حتى يداوىٰ منه ، أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمع منه ، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني قال : أفعل ، فقال : {بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 1 - 5] .
ثمّ مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها يقرؤها عليه. فلمّا سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه ، ثمّ انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السجدة منها ، فسجد ثمّ قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك. (6)
هذا النصّ وغيره يعرب عن أنّ مدار الإثبات والنفي هو الأجر الدنيوي بعامة صوره ، وهذا أمر منفي جداً لا يليق لنبي أن يطلبه من الناس.
قال الشيخ المفيد : إنّ أجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التقرُّب إلى الله تعالى هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على الله تعالى في عدله وجوده وكرمه ، وليس المستحق على الأعمال يتعلَّق بالعباد ، لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً ، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره. (7)
إذا عرفت ذلك ، فنقول :
إنّ مودة ذي القربى وإن تجلّت بصورة الأجر حيث استثنيت من نفي الأجر ، لكنّه أجر صوري وليس أجراً واقعياً ، فالأجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكنّه في المقام يرجع إلى المحب قبل رجوعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وذلك لأنّ مودة ذي القربى تجرّ المحب إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة ، ويجعلهم أُسوة في دينه ودنياه ، ومن الواضح انّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحب. قال الصادق عليه السلام : « ما أحب الله عزّ وجلّ من عصاه » ثمّ تمثَّل ، فقال :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته انّ المحبّ لمن يحب مطيع (8)
وسيوافيك انّ المراد من ذوي القربىٰ ليس كلّ من ينتمي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنسب أو سبب ، بل طبقة خاصة من أهل بيته الذين عرفهم بأنّهم أحد الثقلين في قوله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ». (9)
فإذا كان المراد من ذوي القربى هؤلاء الذين أنيط بهم أمر الهداية والسعادة فحبُّهم ومودَّتهم يرفع الإنسان من حضيض العصيان والتمرد إلى عزّ الطاعة.
إنّ طلب المودة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعد ما فحصه وكتب وصفة : لا أُريد منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة ، فانّ عمل المريض بوصفة الطبيب وإن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر ، ولكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.
وعلى ذلك فلابدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، كأن يقول : قل لا أسألكم عليه أجراً ، وإنّما أسألكم مودة ذي القربى ، وليس الاستثناء المنقطع أمراً غريباً في القرآن بل له نظائر مثل قوله : {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] وعلى ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية ، حيث طرح السؤال ، وقال : فإن قال قائل : فما معنى قوله : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] أو ليس هذا يفيد انّه قد سألهم مودة القربى لأجره على الأداء ؟
قيل له : ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجّة العقل والقرآن ، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنّه استثناء منقطع ، ومعناه قل لا أسألكم عليه أجراً لكنّي ألزمكم المودة في القربىٰ واسألكموها ، فيكون قوله : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } كلاماً تاماً ، قد استوفىٰ معناه ، ويكون قوله : ( إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) كلاماً مبتدأً ، فائدته لكن المودة في القربى سألتكموها ، وهذا كقوله : {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31] . والمعنى فيه لكن إبليس ، وليس باستثناء من جملة. (10)
وعلى ضوء ذلك يظهر معنى قوله سبحانه : {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] . وقد تبَّين انّ حبّ الأولياء والصالحين لصالح المحب قبل أن يكون لصالحهم.
كما تبيَّن معنى قوله سبحانه في شأن ذلك الأجر : {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] .
فانّ اتخاذ السبيل لا يخلو من أحد احتمالين :
1. مودَّة القربى والتفاني في حبهم الذي سينتهي إلى العمل بالشريعة الموجب لنيل السعادة.
2. نفس العمل بالشريعة الذي يصل إليها الإنسان عن طريق حبهم ومودتهم.
وبذلك ترجع الآيات الثلاث إلى معنى واحد من دون أن يكون بينهما أي تناف واختلاف.
وقد جاء الجمع بين مفاد الآيات الثلاث في دعاء الندبة الذي يشهد علو مضامينه على صدقه ، حيث جاء فيه :
« ثمّ جعلت أجر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مودّتهم في كتابك ، فقلت {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، وقلت : {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] ، وقلت : {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] ، فكانوا هم السبيل إليك ، والمسلك إلى رضوانك ».
وإلى ذلك يشير شاعر أهل البيت ويقول :
موالاتهم فرض ، وحبهم هدى وطاعتهم ودٌّ ، وودُّهم تقوا
وقد استعمل القرآن الكريم لفظة القربى في عامة الموارد بالمضاف ، فتارة بلفظة ذي ، قال سبحانه : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 83] .
وأُخرى بلفظة ذوي ، قال سبحانه : {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة : 177] .
وثالثة : بلفظة « أُولي » ، قال سبحانه : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] .
وقد جاءت مرَّة واحدة دون إضافة وهي نفس الآية المباركة ، فلأجل ذلك يلزم تقدير شيء مثل لفظة « أهل » كما قدَّره الزمخشري أو لفظاً غير ذلك مثل كلمة « ذي » أو « ذوي » أو « ذوي قربى ».
إلى هنا تمَّت الإجابة عن السؤال الأوّل حول الآية.
السؤال الثاني (12)
دلَّت الآية الكريمة على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرض مودة ذي القربىٰ ، على المسلمين ولكن يبقى هنا سؤال وهو انّ الآية تحتمل وجهين :
أ : أن يكون المراد مودَّة ذوي القربىٰ من أقرباء النبي وأهل بيته.
ب : أن يكون المراد ودّ كلّ مسلم أقربائه وعشيرته ومن يمتُّ إليه بصلة ، وليس في الآية ما يدل على المعنى الأوّل.
أقول : إنّ ذي القربىٰ كما علمت بمعنى صاحب القرابة والوشيجة النسبية ، ويتعيَّن مورده بتعيُّن المنسوب إليه ، وهو يختلف حسب اختلاف موارد الاستعمال ، ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام ، وهي : الأشخاص المذكورون في الآية أو ما دلَّ عليه سياق الكلام.
فتارة يراد منه الأقرباء دون شخص خاص ، مثل قوله سبحانه : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] .
وقوله سبحانه : {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] .
فانّ ذكر النبي والذين آمنوا معه آية على أنّ المراد قريب كلّ إنسان ، كما أنّ جملة {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} آية أنّ المراد كل إنسان قريب إليه.
وأمّا قوله سبحانه : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ } فالفعل المتقدّم عليه يعني ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ ) آية انّ المراد أقرباء السائل ، مثل قوله سبحانه : {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] .
فانّ لفظة ( عَلَىٰ رَسُولِهِ ) آية أنّ المراد أقرباء الرسول.
وعلى ذلك فلابدّ من الرجوع إلى القرائن الحافَّة بالآية وتعيين المراد منه ، وبذلك ظهر أنّ المراد هو أقرباء الرسول.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ناقداً انتخاب الخليفة الأوّل في السقيفة لأجل انتمائه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة :
وإن كنت بالقربىٰ حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب (13)
إنّ سورة الشورىٰ سورة مكية ، فلو كان المراد من ذوي القربىٰ هو عترته الطاهرة ، أعني : عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فلم يكن يومذاك بعض هؤلاء كالحسن والحسين عليهما السلام ؟
والجواب : إنّ الميزان في تمييز المكي عن المدني ، أمران ، وكلاهما يدلاّن على أنّ الآية نزلت في المدينة المنورة.
الأمر الأوّل : دراسة مضمون الآيات
فقد كانت مكافحة الوثنية والدعوة إلى التوحيد والمعاد هي مهمة النبي قبل الهجرة ، ولم يكن المجتمع المكّي مؤهلاً لبيان الأحكام والفروع أو مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولذلك تدور أغلب الآيات المكّية حول المعارف والعقائد والعبرة بقصص الماضين ، وما يقرب من ذلك.
ولمّا استتب له الأمر في المدينة المنورة واعتنق أغلب سكّانها الإسلام حينها سنحت الفرصة لنشر الإسلام وتعاليمه ولمناظرة اليهود والنصارى حيث كانوا يثيرون شبهاً ويجادلون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت آيات حول اليهود والنصارى في السور الطوال.
فلو كان هذا هو الميزان بغية تميّز المكّي عن المدني ، فالآية مدنية قطعاً دون ريب لعدم وجود أيَّة مناسبة لسؤال الأجر أو طلب مودة القربى من أُناس لم يؤمنوا به بل حشَّدوا قواهم لقتله ، بخلاف البيئة الثانية فقد كانت تقتضي ذلك حيث التفَّ حوله رجال من الأوس والخزرج وطوائف كثيرة من الجزيرة العربية.
الأمر الثاني : الاعتماد على الروايات والمنقولات
فلو كان هذا هو الميزان فقد صرح كثير منهم بأنّ أربعة آيات من سورة الشورى مكّية ، حتى أنّ المصاحف المطبوعة في الأزهر وغيره ، تصرح بذلك وتُقرأ فوق السورة هذه الجملة : سورة الشورى مكية الآيات إلا ثلاث وعشرين وأربع وعشرين وسبع وعشرين.
أضف إلى ذلك انّ كثيراً من المفسّرين والمحدِّثين صرحوا بذلك. (14)
وهذا هو البقاعيّ مؤلف « نظم الدرر وتناسب الآيات والسور » يصرح بأنّ الآيات مدنيّة ، كما نقله المحقّق الزنجاني في « تاريخ القرآن ». (15)
السؤال الرابع
الإنسان مفطور على حب الجميل وكراهة القبيح فيكون الودّ أمراً خارجاً عن الاختيار ، فكيف يقع في دائرة السؤال ويطلبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين مع أنّه كذلك ؟.
والجواب : أوّلاً : انّ الحبّ لو كان أمراً خارجاً عن الاختيار فلا يتعلَّق به الأمر ، كما لا يتعلَّق به النهي ، مع أنّه سبحانه ينهى عن ود من حادَّ الله ورسوله ، ويقول : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] .
كما أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو إلى التراحم والتعاطف النابعين عن الود والحب ، ويقول : « مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ». (16)
كلّ ذلك يدل على أنّ الودّ والبغض ليس على النسق الذي وصفه السائل ، ولذلك نرى الدعوة الكثيرة إلى الحب في الله والبغض في الله.
قال الإمام الصادق عليه السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله ». (17)
وقد كتب الإمام علي عليه السلام إلى عامله في مصر مالك الأشتر رسالة قال فيها : « واشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ». (18)
روى الخطيب في تاريخه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : « عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب عليه السلام ». (19)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ». (20)
روى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : « من أحبني فليحب عليّاً ». (21)
وأخرج أحمد في مسنده عن الرسول : « من أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمُّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة ». (22)
وثانياً : أنّ الإيصاء إنّما لا يفيد إذا لم يتوفر في الموصى له ملاك الحب والود كما إذا كان الرجل محطّاً للرذائل الأخلاقية ، وأمّا إذا كان الموصى له إنساناً مثالياً متحلياً بفضائل الأخلاق ومحاسنها ، فانّ الإيصاء به يعطف النظر إليه وبالتالي يجيش حبّه كلَّما تعمَّقت الصلة به.
وحاصل الكلام : أنّ دعوة الناس إلى الحبّ تقوم على إحدى دعامتين :
الأُولى : الإشادة بفضائل المحبوب وكمالاته التي توجد في نفس السامع حبّاً وولعاً إليه.
الثانية : الإيصاء بالحب والدعوة إلى الودّ ، فانّه يعطف نظر السامع إلى الموصى له ، فكلَّما توطَّدت الأواصر بينهما وانكشفت آفاق جديدة من شخصيته ازداد الحبّ والود له. وعلى كلّ تقدير فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المحبوب التام لعامة المسلمين ، فحبُّه لا ينفك عن حبّ من أوصى بحبِّه وأمر بودّه.
وخير ما نختم به هذا البحث حديث مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نقله صاحب الكشاف حيث قال ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشَّره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد يُزفُّ إلى الجنة كما تزفُّ العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح الله له في قبره بابين إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيساً من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة ». (23)
وروى أيضاً : انّه لما نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودَّتهم ؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : « علي وفاطمة وابناهما ». (24)
__________________________________
1 و 2 و 3 و 4 و 5. الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
6. السيرة النبوية : 1 / 293 ـ 294.
7. تصحيح الاعتقاد : 68.
8. سفينة البحار : مادة حبَّب.
9. أخرجه الحاكم في مستدركه : 3 / 148 ، وقال : هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ؛ وأخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحته على شرط الشيخين أقول : هذا حديث متواتر وقد ألَّف غير واحد من المحقّقين رسائل حوله.
10. تصحيح الاعتقاد : 68.
11. الكشاف : 3 / 81 في تفسير الآية.
12. مضي السؤال الأوّل : 260.
13. شرح ابن أبي الحديد : 18 / 416.
14. انظر الكشاف : 3 / 81 ؛ تفسير الرازي : 7 / 665 ؛ تفسير أبي السعود في هامش تفسير الرازي نفس الصفحة ؛ تفسير أبي حيان : 7 / 516 ؛ تفسير النيسابوري : 6 / 312.
وأمّا من المحدّثين كمجمع الزوائد للهيتمي : 9 / 168 ؛ الصواعق المحرقة : 101 ـ 135 ،
15. تاريخ القرآن : 57.
16. مسند أحمد : 4 / 270.
17. سفينة البحار : 2 / 11 مادة الحبّ.
18. نهج البلاغة : قسم الرسائل : الرسالة 53.
19. تاريخ بغداد : 4 / 410.
20. حلية الأولياء : 1 / 86.
21. مسند أحمد : 5 / 336 ؛ صحيح مسلم : كتاب الفتن : 119.
22. مسند أحمد : 1 / 77.
23. الكشاف : 3 / 82 ، تفسير سورة الشورىٰ ، ط عام 1367.
24. الكشاف : 3 / 81.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|