أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-02
417
التاريخ: 26-10-2014
2145
التاريخ: 2024-09-07
335
التاريخ: 2023-07-24
1005
|
الكلام في المطلق والمقيد كالكلام في العام والخاص من حيث انه من المباحث المهمة التي وظفها المفسرون في الكشف عن المراد من النص القرآني مع الإشارة الواضحة من قبلهم الى الوضع الاصطلاحي لهذا المبحث تحت عنوان الاطلاق والتقييد، وقد ضارع الاصوليون المفسرين في اعمال هذا المبحث، اذ تناولوه من وجهة أصولية لها مقوماتها وحيثياتها التي لا تتنافى والأداء التفسيري لهذا المبحث، وان كانت تختلف في بعض النواحي الاستعمالية للاصطلاح.
والاطلاق والتقييد في أساسه من المباحث اللغوية التي اتسمت بها اللغة العربية التي بلغت بها درجة من التكامل اهلتها لان ينزل بها اقدم واجل كتاب يعنى بجوانب حياة الانسان كافة، حيث اتسعت لمضامين القرآن الكريم وتفسيره بما ينتظمه من علوم القرآن المتصلة باللغة، وذلك مما لا يتأتى الا للغة ناضجة متراصة البنيان، ولا شط ان تأسيس مباحث الاطلاق كما هي في العموم على فرض ان الالفاظ هي قوالب للمعاني تعبر عن كليات في المطلق والعام، حيث ان دلالات هذه الالفاظ بمقتضى القوى الذهنية للإنسان والتي تتمثل بالنظرة الشمولية للمدركات لأول وهلة، ثم بزيادة التبصر والتأمل لوحظت هذه الموودات سواء اكانت ذهنية ام خارجية، فنظر اليها بلحاظ المصاديق والافراد، وعلى ذلك نشا لحاظ التقييد والتخصيص بموجب الحاجة الإنسانية في الخطابات والمحاورات وبما الهم الله تعالى هذا الكائن من قوة التفكير.
الا ان دلالة العام على افراده بمقتضى وضع الفاظ العموم للشمول والاستيعاب، ودلالة المطلق على تمام الطبيعة بمقتضى المقدمات التي يعرف من المتكلم انه مريد لها، وهذ المقدمات تسمى مقدمات الحكمة، فإنها حيث تتم تكون نتيجتها اثبات الاطلاق في موضوع الحكم، بمعنى ان تمام الموضوع لحكمه المجعول انما هي الطبيعة معراة عن جميع القيود، وذلك حيث يكون الامر دائرا بين كون الموضوع هي نفس الطبيعة او هي مقيدة. فالدال على الإرادة الاستعمالية في العموم نفس الواضع اللغوي، وفي الاطلاق هو المقدمات(1).
وعلى ذلك تجدر الإشارة الى مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها دلالة الاطلاق، فاذا تمت هذه المقدمات جاز التمسك بالإطلاق، وهي من الأسس الأولية لعمل المفسر يجملها البحث بالآتي:
1- امكان التقييد والاطلاق بالنسبة الى كل من الموضوع مثل ما جاء في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] او المتعلق – أي متعلق الموضوع-، مثل ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، فما لم يكن قابلا للقسمة الا بعد فرض تعلق الحكم به، فانه يستحيل فيه التقييد فيستحيل فيه الاطلاق، فما لا يمكن تقييده لا يقال فيه انه مطلق(2)، كما في البغي المقصود به الظلم في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الأعراف: 33].
فالحق لا يدخل تحت البغي في هذه الآية حتى يقال ان البغي قيد ((بغير الحق))، فلما امتنع الاطلاق امتنع التقييد، وذلك لعدم امكان تقسيم البغي الى حق وغير حق.
وذلك غير البغي في قوله تعالى :{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75].
فقيد الفرح، واطلق المرح لان الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه، وقد يكون بالباطل فيذم عليه. اما المرح فلا يكون الا باطلا، فلا يقبل التقييد(3).
2- أساس دلالة الاطلاق هي كون المتكلم حكيما عاقلا ملتفتا الى ما يقول وما يريد ببيانه وما لا يريده، وما يحتاجه في بيان ذلك، وهذا مفروغ منه لدى المفسر للنص القرآني، اذ انه تعالى خالق العق ويخاطب العقلاء بمقتضاه، وهو جل شانه الحكيم المطلق، وكون القرآن الكريم بيانا للناس لا ريب فيه(4).
3- ان يكون المتكلم قاصدا بيان ما يتعلق بمراده، وعدم قصد الإهمال، بل في مقام البيان التفصيلي، فلو كان الكلام في مقام الإهمال او الاجمال – ولو لحكة أخرى – ولم يبن المراد تفصيلا، فلا يتم الاطلاق، فلو كان قاصدا للأجمال – لحكمة ما – أي انه ملتفت للأجمال ليرتب عليه غرضا من أغراض الخطاب كالتقرير والمبالغة والتشويق(5)، او لقصد الاختبار والامتحان، كما في بعض الخطابات القرآنية، مثل ما جاء في امر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده عليه السلام، في قوله تعالى:
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } [الصافات: 101، 106].
فلا ينعقد ظهور للأمر بالذبح، بعد وضوح ان الامر كان للابتلاء(6).
4- ان يكون المتكلم في حالة بيان تمام مراده، حتى يصح الاطلاق، اما لو فرض انه في صدد بيان بعض المراد من دون بعض، كما في قوله تعالى:
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
اذ ان الله تعالى شانه قدم ذكر بعض المحرمات واخر بعضها في بيان آخر، بحسب حكمة التدرج او غيرها في بيان المراد(7).
5- ان لا ينصب المتكلم قرينة – لفظية او حالية او مقالية او عقلية – على خلاف الاطلاق، ولابد ان تكون هذه القرينة معلومة للمخاطب باها تنافي الاطلاق، وهذا يتم بالنسبة الى من قصد افهامه، او الفرد الأول من المخاطبي، اما من لم يقصد افهامه – ولو بلحاظ قصوره- فلا يمكن ان يفهم منها التقييد، اذ لا يمتنع ان ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد افهامه، فلا يمكن لمن لم يقصد افهامه ان يحتج بكلام المتكلم على تعيين مراده، اذ لعله نصب قرينة خفية عليه، علمها المخاطب فقط، او انه نصب قرينة الا انها ليست للاحتراز الذي يفيد التقييد، اذ تكون قرينة توضيحية يفهمها المخاطب خاصة(8).
وعلى هذا الأساس يبتني لزوم الرجوع في تحديد مطلقات القرآن الكريم الى النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) ومن ارتضاه الله تعالى اماما في تعيين المطلق، أولا قبل اعمال أي منشأ عقلائي او غيره، اذ قد تكون هناك قرينة دقيقة تخفى على غير المخاطب المقصود الأول بالإفهام بما هو رسول الله وبما هو رئيس الامة(9)، تجعل ما يظهر للمشتغل بالتفسير اطلاق الخطاب حال كونه مما نصب الله تعالى عليه قرينة صرفته عن ذلك الاطلاق لا يعرفها الا ذلك الذي اختصه الباري جل شانه، فهو المخاطب الأول بما هو رئيس ومعصوم (عليه السلام).
6- ان القدر المتيقن في مقام التخاطب، اذا لم يبلغ مرتبة الانصراف(10)، فوجوده كعدمه غير مانع عن الاطلاق، فالقدر المتيقن في مقام التخاطب الراجع الى كون بعض الافراد او الحالات مما كان عند المخاطب معلوم الحكم بمجرد القاء الخطاب، لا بعد التأمل مما لا يضر بالإطلاق بعد كون الافراد والحالات اجنبية عن تعلق الحكم بها في باب الاطلاق(11).
فان انصراف الذهن من اللفظ الى بعض مصاديق معناه، او بعض اصنافه يمنع من التمسك بالإطلاق، الا اذا كان انصراف الذهن ناشئا من ظهور اللفظ في المقيد
بمعنى ان اللفظ نفسه ينصرف منه المقيد لكثرة استعماله فيه وشيوع ارادته منه، فلا شك في انه حينئ1 لا مجال للتمسك بالإطلاق، لان هذا الظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيد بالتقييد اللفظي، ومعه لا ينعقد للكلام ظهور في الاطلاق حتى يتمسك بأصالة الاطلاق التي هي مرجعها في الحقيقة الى اصالة الظهور(12).
اما اذ كان الانصراف غير ناشئ من اللفظ بل كان من سبب خارجي، كغلبة وجود الفرد المنصرف اله الذي يجعله مألوفا قريبا الى الذهن من دون ان يكون للفظ تأثر في هذا الانصراف، -كانصراف الذهن من لفظ (الماء) في العرق مثلا الى ماء دجلة او الفرات- فلا اثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في اطلاقه، فلا يمنع من التمسك بأصالة الاطلاق، لان هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم إرادة المقيد بخصوصه من اللفظ، لذا يسمى هذا الانصراف باسم (الانصراف البدوي)(13)، ويمثل له بقوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
فان المنصرف بدواعي ظروف النزول بيع الجاهلية الذي يدخل فيه بيه الملامسة والمنابذة(14)، وهما غير شرعيين، لا يشمل أنواع البيوع المتأخرة مع تصحيحها شرعا كبيع المعاطاة او بيع الفضولي اذا اجازه المالك. والمقطوع به غير ذلك على وفق الأدلة الشرعية التي تكفلت بيان البيوع الشرعية، وهي قرائن معتبرة.
فعلى ذلك لابد للمفسر من تشخيص الانصراف انه من أي النحوين في بيان المراد، ليتثبت في مواضع دعوى الانصراف، وهو يحتاج الى ذوق عال وسليقة مستقيمة. وقلما تخلو آية كريمة في بيان مراد معين من دعاوى الانصراف(15).
فالتقييد والتخصيص هما من الدلالات الرمزية اللغوية التي تواكب التطور الإنساني تبعا لحاجته الاستعمالية للألفاظ وعلاقتها بالمعاني، والقرآن الكريم خطاب الهي للإنسان على موجب ما يفهمه من الدلالة الرمزية للغة، فوظف القرآن الكريم هذه الدلالات لإيصال المعنى المراد بوساطة الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله)، الى جميع الناس.
والمطلق لغة: (الطاء واللام والقاف اصل صحيح مطرد واحد وهو يدل على التخلية والارسال يقال انطلق الرجل ينطلق انطلاقا ثم ترجع الفروع اليه)(16)، فالإرسال للدلالة على انعدام القيد عما يمكن ان يقيد، والتخلية للدلالة على رفع الموانع، يقال اطلق الناقة من عقالها أي: لا عقال عليها، واطلقه، فهو مطلق وطليق: سرحه(17).
والمطلق اصطلاحا: لا يبتعد عن المنشا اللغوي، وان تغيرت الصياغة لتصبح الدلالة اخص، وتعريفه كسائر تعريفات المصطلحات من قبيل شرح الاسم، وهو مما يجوز ان لا يكون بمطرد ولا بمنعكس(18). فعر ف بتعريفات، منها انه: (اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه)(19)، او انه: (ما دل على شايع في جنسه، بمعنى كونه حصة محتملة لحصص كثيرة)(20)، او هو (الدال على الماهية بلا قيد)(21). و(المراد بالمطلق في القرآن الكريم، هو اللفظ الذي لا يقيده قيد، ولا تمنعه حدود، ولا تحتجزه شروط، فهو جار على اطلاقه)(22). وهو يؤدي تارة بلفظ مفرد ماهية شائعة في جنسها، مشتركة بين أنواع عديدة بحيث يصلح لان يفهم منه ما تنطبق عليه تلك الطبيعة او الماهية، مثل (الرقبة) حيث انه قابل للانطباق على الصغير والكبير والحر والعبد امسلما كان ام ذميا..(23).
وأخرى بلفظ مركب من جملة متالفة من جزئين هما ركنا الاسناد، مثل: (قول الزور) حيث انه قابل للانطباق على سائر وجوه الكذب والافتراء والبهتان...)(24).
والتقييد لغة: من القيد: وهو واحد القيود. وقد قيدت الدابة. وقيدت الكتاب: شكلته. وهؤلاء اجمال مقاييد، أي مقيدات، ويقال للقد الذي يضم عرقوبي الرحل: قيد(25). فهو يستعار في كل حبس عن الاطلاق، قال ابن فارس: (القيد وهو معروف، ثم يستعار في كل شيء يحبس)(26)، ويكون مانعا عن الخروج والتصرف في الدائة التي احتواها، جاء في الحديث الشريف: (قيد الايمان الفتك)(27) أي ان الايمان يمنع عن الفتك، كما يمنع القيد عن التصرف فكانه جعل الفتك مقيدا(28).
والقيد اصطلاحا: ما يلحق المطلق ويمنع اطلاقه، او يحبس الشيوع ويضيق دائة دلالته، ويقصر انطباقه، لذا عرفوا المقيد بانه (ما يدل لا على شايع في جنسه)(29) او (ما اخرج من شياع)(30) مثل (رقبة مؤمنة)، فإنها أخرجت عن سائر الرقاب غير المؤمنة. فالمقيد هو ما يقيد بقرينة دالة على معنى معين بذاته لا تتعداه الى سواه(31)، فيضيق دائرة شيوعه، ويحدده لدى التلقي.
ولابد من الإشارة الى ان التقييد بتفاوت بحسب كثرة القيود وقلتها، فانه ربما يقيد بوصف واحد او بأكثر من وصف، كما في قوله تعالى:
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5].
فهذه الاوصاف قيدت (خيرا منكن) وضيقت الدائرة اكثر فاكثر.
وعلى ذلك فلابد للمشتغل بالتفسير من الإحاطة بالأسس الضابطة لتوظيف دقائق هذا العلم في فهم المراد من كلام الله تعالى في القرآن الكريم، ومن هذه الضوابط:
1- التثبت من حد المطلق والمقيد. اذ ان بيان المعنى انما يتم بعد معرفة مدلول اللفظ(32).
2- التثبت من توافر المقدمات التي يتوقف عليها اعمال اطلاق المعنى على اكثر من متعلق، فقد تكون الآية ليست بصدد بيان تمام المراد او غيره، فلابد من ملاحظة ما يكتنف المعنى من القرائن، فان وصف الاطلاق والتقييد ليس للفظ، فان اللفظ لا يستعمل فيه التضييق والسعة، وانما للمعنى فان الشيوع معنى مدلول عليه باللفظ، اذ ان الاطلاق والتقييد ليس تابعا لوضع اللفظ للمعنى حتى يكون من اوصاف الالفاظ(33)، كإطلاق التحريم في قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].
اذ دلت على تحريم النكاح من دون غيره، وذلك ان الذهن يسبق عند الاطلاق الى تحريم النكاح(34).
3- التنبه الى أساليب الاطلاق ودواعيه لتسريته على الافراد والمصاديق الصالحة للانطباق، كما لو حذف المفعول به من جملة فعلية ، كقوله تعالى:
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
فحذف مفعول الاعطاء فدل على انه إعطاء مطلق غير مقيد بشيء(35).
او البناء للمجهول، كما في قوله تعالى:
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [النساء: 86].
فبناء (حييتم) للمجهول، دل على وجوب الرد على مطلق المحيي(36).
وصيغة افعل التفضيل المعرفة بـ(أل) مع حذف المفضل عليه، كما في قوله تعالى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
اذ ان صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل، فلما لم يذكر المفضل عليه، علم ان المراد مطلق الاتصاف، لا تفضيل شيء على شيء(37).
ومجيء الفعل الماضي مسندا الى الله تعالى لدلالته على الاستمرار وعدم التقييد بالزمن، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ، الى غير ذلك(38).
4- الإحاطة بأساليب التقييد وادواته، اذ ان التقييد قد يكون بالصفة، كما في قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] ، وقيد الصبر بالجميل ليدل على انه كان واقعا على الوجه المحمود، الذي يقصد به وه الله تعالى(39).
او الحال كما في قوله تعالى:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
اذ قيد الاضطرار المبيح بحال كون المضطر غير باغ(40).
او التمييز، كما في قوله تعالى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104].
اذ قيد مطلق الخاسرين، يستدعيه مقام بيان خسران عمل الذين يعملون اعمالا ويحسبون أعمالهم مرضية لله تعالى(41).
او المفعول لأجله، كما في قوله تعالى:
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } [البقرة: 265].
فقيد الانفاق بما يراد به مرضاة الله تعالى ليخرج مطلق الانفاق اذ ان جهاته عديدة(42) ، وغير ذلك من التقييدات(43).
5- الأصل في القيود انها احترازية، ولكن ينبغي ملاحظة صلاحية القيد للتقييد- اخراج خصة خاصة- اذ ان بعض القيود تخرج عن حد الاحترازية، فتفيد التوضيح او انها سيقت جريا على الاستعمال الغالب(44)، فالقيد التوضيحي المتروك في
الحدود غالبا هو ما لا يفيد اخراج شيء من الحد، وانما فائدته مجرد الايضاح والبيان، لا تضييق دائرة المطلق(45).
6- انعام النظر في اتحاد السبب وتغايره، واتحاد المتعلق وافتراقه، بالنسبة الى المطلق والمقيد، وملاحظة القرائن والظروف التي تحف بالخطاب، ومراعاة مقتضى اللغة، لأجراء الاطلاق او التقييد(46).
فاذا ورد مطلق ومقيد، فاما ان يكون بينهما تعلق، ويجب تنزيل المطلق على المقيد. واما ان لا يكون بينهما تعلق: فان كانا مختلفين، كان المطلق على اطلاقه، كان يأمر بالصلاة، ثم يأمر بالصيام متتابعا، وان كان متعلقهما متفقا، وكان سببهما واحدا، ودلت قرينة على المراد باحدهما هو الآخر، كان المطبق مقيدا بتلك الصفة، لان المأمور به واحد، والتقييد يقتضي اشتراطه، فلو لم يقيد المطلق به لكان غيره وان لم يعلم ان المراد بأحدهما هو الآخر، كان المطلق على اطلاقه، والمقيد على تقييده، وتغايرا. وان كان سببهما مختلفا، بقى المطلق على اطلاقه، ولا يجب تقييده بالصفة الا لدلالة(47). وهذا يسري في آيات الاحكام ، ويسري أيضا في آيات الاخبار والقصص لمعالجة المطلق والمقيد وبيان دلالته واثرها على المعنى المفاد من الخبر او القصة(48).
وغير ذلك من الأسس التي يبتني عليها بيان سعة الموضوع وضيقه. ومما يذكر من التقييد الوارد على متعلق في آية اخبار، ما جاء في اطلاق استغفار الملائكة لمن في
الأرض، في قوله تعالى:
{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5].
فأفادت الآية استغفار الملائكة لمطلق اهل الأرض سواء اكان مؤمنا ام كافرا، وقد قيد هذا الاطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر: 7].
فجعل استغفار الملائكة وحملة العرش للذين آمنوا(49)، فلا ريب ان الآية الأولى يراد منها المقيد وان كانت مطلقة بحسب الظاهر الاولي. وهذا المورد مما يمكن فيه دعوى اعتبار القدر المتيقن في مقام التخاطب، لبلوغه مرتبة الانصراف، اذ لا ريب في ان استغفار الملائكة ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم(50)، وكون الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين بصريح القرآن الكريم(51)، فيقطع بخروجهم عن دائرة اطلاق استغفار الملائكة، وان كانوا داخلين تحت دلالة (من في الأرض) ، فالاستغفار لا ينفع الا للمؤمن، فلا معنى لاخبار الحكيم باستغفار لا يترتب اثر عليه، بدلالة قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80].
فان انصراف الذهن من اللفظ الى بعض مصاديق معناه، او بعض اصنافه يمنع من التمسك بالإطلاق، فلا شك في انه حينئذ لا مجال للتمسك بالإطلاق، لان هذا الظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيد بالتقييد اللفظي، ومعه لا ينعقد للكلام ظهور في الاطلاق حتى يتمسك بأصالة الاطلاق.
فبعد التثبت من كون الآية الأولى لها قوة السريان والشيوع لولا المانع وهو المقيد، تبين انها من المطلق، اذ ان المعنى انما يتم بعد معرفة مدلول اللفظ، اذ ان الاطلاق والتقييد ليس تابعا لوضع اللفظ للمعنى حتى يكون من اوصاف الالفاظ، والتنبه الى أساليب الاطلاق ودواعيه لتسريته على الافراد والمصاديق الصالحة للانطباق، فالاستغفار الذي هو طلب المغفرة، لالا يصلح من قبل الملائكة لغير المؤمن، فجاء الايمان كوصف مقيد للمغفرة في الآية الأخرى، احترازا عن توهم دخول الكافر تحت الاطلاق في (من في الأرض)، فتبين ان الحكيم جل شانه لم يكن في مقام البيان من جهة الانطباق على جميع المصاديق بعد تيقن خروج كثير من المخلوقات بالضرورة اللفظية لدلالة (من) الموصولة على العاقلين، وخروج الكفار من دائرة الاطلاق للقدر المتيقن، فان لم يتم فيقيد بدلالة الآية الحاصرة للاستغفار بالمؤمنين.
وبهذا العرض يتضح مدى أهمية علم المطلق والمقيد والاسس المنهجية التي يبتني عليها في البيان التفسيري للنص القرآني عموما، اذ لا تنحصر الحاجة الى (المطلق والمقيد) في العملية الاستنباطية ليقال ان هذا العلم مختص بعلم الأصول للتأسيس لاستخراج الاحكام الفقهية، فان المعنى الذي تنتظمه جميع الآيات من الاحكام والعقائد والقصص والاخبار تدخل في عمل المفسر ولو على نحو الاجمال، فلا مناص للمفسر من التثبت من تلك الأسس المنهجية التي تضبط العملية التفسيرية عموما في أي منهج من مناهج التفسير.
ـــــــــــــــــــــ
1) محمد المؤمن القمي – تسديد الأصول: 1/557.
2) ينظر: محمد علي الكاظمي الخراساني – فوائد الأصول: 1 ق2/146 ومحمد رضا المظفر – أصول الفقه: 1/ 238-239.
3) ينظر: الطبرسي – مجمع البيان: 8/ 457.
4) ينظر: محمد رضا المظفر – أصول الفقه: 1/ 239 و240.
5) ينظر: النسفي – تفسير النسفي: 1/207 والسيوطي – الاتقان: 192 وأبو السعود- تفسير ابي السعود: 6/257 والآلوسي- تفسير الآلوسي: 9/111 وعبد الرحمن بن ناصر السعدي -تيسير الكريم الرحمن: 165.
6) ينظر: محمد سعيد الحكيم- المحكم في أصول الفقه: 2/180.
7) ينظر: محمد رضا المظفر- أصول الفقه: 1/240.
8) ينظر: محمد تقي الرازي – هداية المسترشدين: 1/223 والآلوسي – تفسير الآلوسي: 14/31 وحمد حسين الطباطبائي – تفسير الميزان: 7/204.
9) ينظر: محمد الروحاني- منتقى الأصول: 4/216.
10) ينظر: محمد المؤمن القمي – تسديد الأصول: 1/120.
11) ينظر: محسن الحكيم – حقائق الأصول: 1/ 555-556.
12) ينظر: محمد رضا المظفر – أصول الفقه: 1/42-44.
13) ينظر: المصدر نفسه.
14) بيع المنابذة: ان يشتري الثوب من دون تعيين ثم يأخذ الثوب الذي ينبذه اليه البائع، وبيع الملامسة: ان يشترط البائع: ان لمست السلعة فقد وجب البيع، وهما من بيوع الجاهلية التي ابطلها الإسلام. ينظر: محمد قلعجي- معجم لغة الفقهاء: 114 و461.
15) ينظر: محمد رضا المظفر -أصول الفقه: 1/42-44.
16) ابن فارس- معجم مقاييس اللغة: 3/420.
17) ينظر: ابن منظور- لسان العرب: 10/226-227.
18) ينظر: محمد كاظم الخراسان -كفاية الأصول: 243.
19) الآمدي- الاحكام في أصول الاحكام: 3/3، أبو زهرة- أصول الفقه: 391.
20) ابن الشهيد الثاني- معالم الدين: 150.
21) السيوطي- الاتقان: 2/82.
22) محمد حسين علي الصغير -مصطلحات أساسية في حياة علوم القرآن- مجلة مآب- ع2:ص8.
23) ينظر: القرطبي -تفسير القرطبي: 5/315.
24) ينظر: الطبري -جامع البيان: 17/202 والجصاص -احكام القرآن: 3/314 والثعلبي- تفسير الثعلبي: 7/21.
25) ينظر: الجوهري- الصحاح: 2/529، 4/1518.
26) معجم مقاييس اللغة: 5/44.
27) الصنعاني- المصنف: 5/299.
28) ينظر: ابن الاثير- النهاية: 4/130.
29) ابن الشهيد الثاني- معالم الدين: 150.
30) المصدر نفسه.
31) ينظر: محمد حسين علي الصغير –(مصطلحات أساسية في علوم القرآن/5) (محاضرات القيت على طلبة الدراسات العليا -جامعة الكوفة).
32) مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار- مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر: 44.
33) ينظر: القرافي – نفائس الأصول: 3/76 ومحمد باقر الصدر- دروس في علم الأصول: 1/ 207.
34) ينظر: المقداد السيوري- كنز العرفان: 1/156.
35) ينظر: محمد حسين الطباطبائي- تفسير الميزان: 20/310.
36) ينظر: الرازي – تفسير الرازي: 10/209.
37) ينظر: الشنقيطي- أضواء البيان: 6/30.
38) ينظر: سيروان عبد الزهرة الجنابي- الاطلاق والتقييد: 50-110.
7- الطبرسي- مجمع البيان: 5/375.
40) الآلوسي- تفسير الآلوسي: 8/45.
41) الطبري- جامع البيان: 16/ 44.
42) ابن عطية الاندلسي- المحرر الوجيز: 3/309.
43) ينظر: عبد الأمير كاظم زاهد- قضايا لغوية قرآنية: 100-101.
44) ينظر: مصطفى الخميني- تفسير القرآن الكريم: 2/424 ومحمد حسين الطباطبائي- الميزان في تفسير القرآن: 4/241 و254 و319 وج16/211.
45) ينظر: محمد تقي الرازي- هداية المسترشدين: 2/472.
46) ينظر: الزركشي- البرهان: 2/15.
47) ينظر: المحقق الحلي- معارج الأصول: 91- 92 والسيوطي- الاتقان: 2/83.
48) ينظر: الطبرسي- مجمع البيان: 1/ 377-378 والزركشي- البرهان: 1/389 وج2/422 والثعالبي- تفسير الثعالبي: 1/198 ومحمد حسين الطباطبائي- الميزان في تفسير القرآن: 1/80 وج2/212.
49) ينظر: محمد حسين الطباطبائي- الميزان في تفسيرالقرآن: 1/246.
50) ينظر: الآلوسي- تفسير الآلوسي: 22/ 43.
51) ينظر: ابن عطية الاندلسي- المحرر الوجيز: 5/26.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|