المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01
المختلعة كيف يكون خلعها ؟
2024-11-01
المحكم والمتشابه
2024-11-01

الظاهرات الجيومورفولوجية في المناطق الجيرية الرطبة (مناطق الكارست)- الاودية الجافة
14/9/2022
موكب دفن (إبي)
2024-08-22
البولي بروييلين
9-4-2018
بوييه، كلود سرفيه ماتياس
20-10-2015
حلم السنط الكاذب Salix False Red Mite
8-7-2021
وصف الاعمال الترابية
2023-08-26


ما الذي يؤثر في الطفل التربية أم الوراثة ؟  
  
5651   12:28 مساءً   التاريخ: 29-4-2017
المؤلف : الشيخ حسان محمود عبد الله
الكتاب أو المصدر : مشاكل الاسرة بين الشرع والعرف
الجزء والصفحة : ص60-83
القسم : الاسرة و المجتمع / التربية والتعليم / مفاهيم ونظم تربوية /

منذ البداية وقع الخلاف في هذه النقطة بين أربع مدارس أساسية هي :

1ـ التأثير المطلق للوراثة :

ذهب أصحاب هذا الرأي الى القول بأن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية , بمعنى أن للجينات الوراثية (الكروموسومات) التأثير المطلق في تكوين شخصية الطفل ولا قيمة لأية عملية تربية أو إعداد , وقد وصلوا الى حد القول بأن القضايا النفسية تنتقل من الأبوين الى الأبناء كما تنتقل الجينات الوراثية بينهم . فكما ينتقل لون البشرة الأسود من الأبوين الى الابن فكذلك تنتقل طباع الاهل الحادة أو الهادئة الى ابنهم , والأب الأسود طفلا خلاسيا فكذلك ينتقل هجين من الطباع الى الطفل إن كان الأهل أي الأبوين مختلفي الطباع .

2- التأثير المطلق للتربية :

المدرسة الثانية تعتمد على إنكار أي أثر للوراثة , في عملية تنشئة الطفل وان الأثر الوحيد والمطلق هو للتربية التي يمارسها الأهل . وقد ذهب العالم النفساني الأميركي واطسون الى حد أن قال متحديا: (اعطني اثني عشر طفلا وهيئ لي الظروف المناسبة , أجعل ممن اريد منهم طبيبا حاذقا, أو أستاذا فريدا, أو مهندسا بارعا, أو رساما, وحتى لو شئت لصا, أو شحاذا)(1). وهذا يعني إنكار أي دخالة للوراثة في عملية التنشئة والإعداد للطفل .

3- لكل من التربية والوراثة أثر في تنشئة الطفل :

ذهب أصحاب هذا الرأي الى القول أن لكل من الوراثة والتربية أثر في تنشئة الولد فتتكون شخصيته من مجموع العاملين, والسؤال الأساسي الذي يجب على اصحاب هذا الرأي الإجابة عنه هو من له الأُثر الأبلغ في التنشئة هذه وبناء شخصية الطفل, وقد ذهب بعضهم الى القول أنه بمقدار ما تكون عملية التربية فعالة وناجحة بمقدار ما خففت من عامل الوراثة في حين أنها بمقدار ما كانت فاشلة وغير مؤثرة يكون تأثير الوراثة أكبر , فإذا ما انعدمت كليا خرج الولد متأثرا كليا بعامل الوراثة وكان نسخة طبق الأصل عن والديه.

4- المدرسة الإسلامية:

يعتمد هذا الرأي على مجموعة عوامل تؤثر في تنشئة الطفل وليس مجرد عامل واحد وهي وإن أعطت التربية العنصر الأساسي في هذه العملية, إلا أنها لم تُخْفِ أو لم تهمل ما للعوامل الأخرى من أثر فيها , ونستند في معرفة هذا الرأي الى مجمل الآيات والروايات التي تتحدث عن هذه المسألة , وتتلخص هذه الفكرة بما يلي :

يكون الطفل في بداية حياته بعد ولادته صفحة بيضاء لا يعرف شيئا مطلقا ولكنه في نفس الوقت الذي يكون فيه كذلك يكون ممتلكا لفطرة أودعها الله سبحانه وتعالى فيه , هذه الفطرة التي فطره الله عز وجل عليها هي التعلق بالمطلق الذي هو الباري عز وجل وحب الخير والصدق وكل ما هو جميل حسن, وكره الشر والكذب وكل ما هو قبيح , فتتدخل هنا التربية التي يكون لها التأثير الأبلغ في عملية ملء الصفحة الفارغة للطفل بالقيم والتي يريدونه أن يؤمن بها , وتأكيد أو نفي ما فطره الله سبحانه وتعالى عليه , ومع كل ذلك يكون للوراثة تأثير ما فيه هذه العملية ولكنها غير آبية عن التغيير فإن للتربية أثر في تأكيدها , أو نفيها وهنا لا يغفل أصحاب هذه المدرسة

ما للبيئة التي يعيش فيها الولد من تأثير عليه من خلال الأصحاب والمدرسة والشارع .

ـ أدلة كل رأي من الشرع الحنيف :

يقوم بعض المفكرين من أصحاب هذه المدرسة بنسبة هذا الرأي للإسلام آخذين بعض الآيات الكريمة والأحاديث والروايات الشريفة كدليل على الرأي الذي يتبنونه متناسين الآيات الكريمة والروايات الشريفة الأخرى وهم بذلك يبنون رأيا خطأً انطلاقاً من استعمال خاطئ لأسس الاستدلال الشرعي ؛ لأنه لا يمكن من الناحية الإسلامية أن نستند الى آية دون آيات أخرى ولا الى رواية دون رواية أخرى, فالإسلام منظومة متكاملة لا ينظر إليه من زوايا مع تجهيل الزوايا الأخرى وهذا ما نهى عنه الإسلام من خلال قوله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] .

لذلك لا يمكن ان نقبل من هؤلاء هذا الاستدلال وهذا ما سنوضحه عند استعراض الأدلة على كل رأي وسنرى هذا الموضوع بشكل أساسي عند عرض رأي المدرسة الإسلامية حيث سنسترشد بكل أنواع الآيات الكريمة والروايات الشريفة .

1ـ أدلة أصحاب رأي التأثير المطلق للوراثة :

استند بعض اصحاب راي التأثير المطلق للوراثة الى بعض الأحاديث الشريفة وسأقوم بعرض بعضها وكيفية الاستدلال بها وهي على الشكل التالي : ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى اله عليه واله)أنه قال:(الشقي من شقي في بطن أمه, والسعيد من سعد في بطن أمه)(2).

وانطلاقا من هذا الحديث الشريف ذهب هؤلاء الى أنه لا اختيار للإنسان في المصير الذي يذهب إليه سواء أكان هذا المصير هو السعادة أم الشقاء, وبالتالي فما هو نفع التربية اذاً طالما ان الإنسان مكتوب عليه في النهاية ان يكون سعيدا دون أن يكون له اختيار في تحوله نحو الشقاء أو أن يكون شقيا في حين أنه مكتوب عليه أن يكون سعيدا في نهاية الأمر ولا يستطيع تغيير هذا القدر .

وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (تزوجوا في الحجز الصالح , فإن العرق دساس)(3) .

ومعنى الحجز ـ بالكسر والضم ـ كما في النهاية:(الحجز بالضم والكسر : الاصل . وقيل بالضم الأصل والمنبت)(4) .

واستندوا انطلاقا من هذا الحديث الشريف لتأكيد رأيهم من أن لا دخالة للتربية في التأثير على شخصية الطفل إذ طالما أن العرق والأصل هو الحاكم فساعتئذ لن يكون لتربية أي أثر.

وفي حديث آخر لأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) انه قال: (حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق)(5) .

وأيضا فهذا الحديث الشريف اعتبر دليلا على عدم تأثير التربية وأن الخصال الحميدة فضلا عن الخصال السيئة هو تابعة لكرم الأعرق أو لؤمها .

وهناك حادثة مهمة حصلت في التاريخ استدل بها البعض على هذا التوجه وهو الأمر الذي حصل بين أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وابنه محمد بن الحنفية حيث قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ما نصه :(دفع أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل رايته الى محمد ابن الحنيفة (عليه السلام), وقد استوت الصفوف, وقال له: أحمل , فقال: يا أمير المؤمنين أما ترى السهام وكأنها شآبيب المطر ! فدفعه في صدره , فقال : أدركك عرق من أمك , ثم أخذ الراية فهزها , ثم قال :

اطعن بها طعن أبيك تُحمد

لا خير في حرب إذا لم تُوقد

بالمشرفي والقنا المسدد

ثم حمل وحمل الناس خلفه , فطحن عسكر البصرة)(6) .

ومن خلال هذه الحادثة استند البعض الى أن كلام أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) هذا معناه أن الحالة التي انتابت محمد بن الحنفية (عليه السلام) ناتجة عن وضع موصوف به أهل أمه ولا خيار لهم فيه .

وللتوسع أكثر في هذا المجال سأعرض لبعض أنواع الوراثة من خلال الأحاديث الشريفة وهي على الشكل التالي :

أ‌- وراثة الشرف :

من الأمور التي قيل إن الإنسان يرثها مسألة وراثة الشرف بحيث إن الكريم من كرم نسبه واللئيم من لؤم نسبه وقد ورد في ذلك عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (إذا كرم اصل الرجل كرم مغيبه ومحضره)(7) .

فمن خلال هذا الحديث يظهر ان أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) يعتبر أن كرم الإنسان ناتج عن كرم أصله , بل أكثر من ذلك فقد ورد في بعض الأحاديث أن على الإنسان أن يختار لتحقيق أهدافه وقضاء حوائجه بكرام الأنفس والأصول على أساس أنهم يرثون من خلال أصلهم وحسبهم الشريف ما يدفعه لقضاء حوائج الناس فقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) أنه قال:(عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس والأصول ينجح لكم عندهم من غير مطال ولا مَنْ) (8) .

فمن خلال هذا الحديث الشريف يظهر أن كرام النفوس يقومون بقضاء حوائج الناس من غير أية إطالة ولا منَّ لأن حسبهم هذا يدفعهم لذلك وراثيا ومن خلال تركيبتهم الجينية .

ب‌- الأسر المنحطة :

ورد في جملة من الأحاديث النهي عن التقرب من الاسر المنحطة ذلك أن لهذه الأسر تأثيراً ينقلونها لأبنائهم وراثيا, وهذه الأحاديث كثيرة جدا سنأخذ منها بعضها وهي على الشكل التالي: ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: قام رسول (صلى الله عليه واله) خطيبا فقال:(أيها الناس إياكم وخضراء الدمن , قيل يا رسول الله وما خضراء الدمن ؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء) (9) .

فنهى رسول الله (صلى الله عليه واله) عن الزواج من المرأة وإن كانت حسناء إذا كان منبتها أي المكان الذي نبتت به وولدت فيه ومنه أمها وأباها منبت سوء , ذلك لانتقال عاداتهم إليها وتأثرها بهم .

وكذلك ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر أنه قال: (ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة, ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة , فإنهم جماع من الكرم , وشعب من العرف)(10) .

فإن نصيحة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر رضوان الله سبحانه وتعالى

عليه بأن يختار من ذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة دليل على الأقل على تأثير النسب والوراثة في تكوين شخصية الإنسان فمن كان من ذوي الأحساب الكريمة فهو كريم والعكس صحيح أيضا .

ج ‌- الجنون :

ومن الامور التي حذر منها الإسلام في كثير من الأحاديث مسألة عدم الارتباط الزوجي من امرأة مجنونة فإن ذلك سيؤدي حتما الى أن يكون الولد, أو من يليه من الاحفاد مصابا بالجنون،  وفي ذلك أحاديث كثيرة منها ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) فيما رواه عنه محمد بن مسلم أنه قال: (سأله بعض أصحابنا عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء أيصلح له أن يتزوجها وهي مجنونة ؟ قال: لا ولكن إن كانت عنده أمة مجنونة لا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها)(11) .

فإن تركيز الإمام الباقر (عليه السلام) على عدم الزواج مطلقا من المرأة المجنونة وعدم استيلادها دليل على الخوف من أن يأتي الولد مجنونا كأمه وهو دليل على انتقال هذه المسألة من خلال الوراثة .

وفي نفس هذا المجال ورد النهي عن الزواج من الحمقاء لأن ذلك سيؤدي حتما الى أن تكون النتيجة ولدا أحمقا فقد رود عن أمير المؤمنين (عليه السلم) :(إياكم وتزويج الحمقاء فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع)(12) .

فمعنى أن يكون ولدها ضياع أنهم سيكونون حمقى كأمهم وهذا الذي يدعو للنهي عن الزواج منها ومن الأمور التي نهي عنها مسألة النهي عن الزواج ممن يرتكب الموبقات لأن ذلك سينعكس على الولد تلقائيا وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن للوارثة أثر كبير في تكوين شخصية الطفل من دون أن يكون للتربية أي تأثير وإلا لما نهي عن الزواج منهم باعتبار تأثير ذلك على الاولاد فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله :(من زوج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها)(13) .

ومعنى قطعه لرحمها هو أنه من واجبات صلة الرحم أن يؤمن لابنته زيجة سليمة ومن زوج ابنته من شارب خمر فإن آفة ذلك ستنتقل الى أولادها وهذا قطع للرحم أولاد منها لابنته كونه أساء إليها وثانيا من خلال أولادها الذي سيسيئون إليها ولأبيها لانتقال الطبائع إليهم وهو قطع لرحم ابنته أيضا وهو في الحالين غير جائز.

والأمر لم يقتصر على النهي الشرعي, بل إن الكثير من علماء النفس والاجتماع والأطباء نهوا عن الاقتران من شارب خمر المدمن خاصة لما لذلك من تأثير على الاولاد (14) .

2- ادلة اصحاب رأي التأثير المطلق للتربية :

ذهب البعض الى أنه على العكس من الرأي السابق لا أثر أبدا للوراثة في عملية بناء شخصية الطفل, بل الذي له التأثير المطلق هو التربية, وقد استندوا في ذلك الى آيات وروايات كثيرة  منها ما ورد في قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].

وهذه الآيات الكريمة دليل على أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق البشر خلقهم مع إمكانية أن يكونوا سعداء أو أشقياء وأن الذي يجعلهم في أي من الصنفين هم البشر أنفسهم فإن زكوا أنفسهم كانوا من المفلحين, وإن دسوها أي عملوا على إغوائهم كانوا من الاشقياء, وبالتالي فإن الذي يؤثر في سعادة, أو شقاء المرء هو التربية والتعليم والتزكية للنفس, ولا علاقة بالمطلق للوراثة في ذلك .

وقد ورد في الروايات الشريفة أحاديث كثيرة عن هذه المسألة أيضا, منها ما ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (السعيد من وعظ بغيره واتعظ , روضوا انفسكم على الأخلاق الحسنة فإن العبد المؤمن يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(15) .

وهذه الرواية دليل على أن الإنسان يتعظ بغيره وليس كما يقول أصحاب الرأي الأول إن الأمر مرتبط كليا بالوراثة , بل إن الإنسان يستطيع أن يتعظ بغيره ,وأن يروض نفسه على الأخلاق الحسنة , مما يعني أن هذه النفس قابلة للترويض والتعديل وكما تروض بالأخلاق الحسنة ممكن أن تُربى على الأخلاق السيئة , فهذا دليل على أن الأمر يعود الى التربية مطلقا ولا أثر للوراثة في ذلك .

وقد استدل هؤلاء أيضا على صحة نظريتهم بعدم جريان النظرية الأولى دائماً , بل هناك أدلة على أنه حتى في الوراثة في الأمور العضوية والشكلية هناك طفرة تخرج فيها العملية الوراثية عن جريانها الطبيعي, وإذا كان هذا صحيح في الوراثة الطبيعية فهي أشد صحة في الأمور المتعلقة بالأمور التربوية والنفسية, وقد سجلت محاولات لأحد العلماء المتخصصين في هذا المجال وهو العالم مولر في عام 1927 حيث حاول العمل على إحداث الطفرة تدريجيا بإنجاب طفل أشقر لأب وأم أسودين, وهناك محاولات علمية أخرى نجح بعضها في إحداث طفرة وراثية من خلال إطلاق إشعاع معين على الخلايا التناسلية, وهذا إن دل على شيء فهو دليل على الوراثة التي ثبت أنه ليس لها ذلك التأثير المطلق في تكوين شكل الطفل وخصائصه الوراثية الأخرى, فكذلك وبطريق أولى ليس لها ذلك التأثير المطلق في تكوين شخصيته القابلة أصلا للتكيف والتغيير بإرادة الإنسان من خلال التعلم والتربية ..

وفي هذا المجال أي مجال الوراثة الجينية فإنه يوجد الكثير من الروايات الشريفة التي تدل على أنه من الناحية الشرعية يمكن أن تتغير هذه الامور الوراثية, فيمكن أن يلد لامرأة بيضاء ولد أسود ولا إشكال من الناحية الشرعية في ذلك, ويدل على هذا الموضوع أحاديث كثيرة منها ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:(اتى رجل من الأنصار رسول الله (صلى الله عليه اله) فقال: هذه ابنة عمي وامرأتي لا أعلم منها إلا خيرا , وقد اتتني بولد شديد السواد, منتشر المنخرين, جعد قطط أفطس الأنف لا أعرف شبهه في أخوالي ولا أجدادي, فقال لامرأته: ما تقولين ؟, قالت : لا, والذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت مقعده مني منذ ملكني احداً غيره , قال : فنكس رسول الله (صلى الله عليه واله) رأسه مليا ثم رفع بصره الى السماء ثم أقبل على الرجل فقال : يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقا كلها تضرب في النسب فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق تسأل الله الشبه لها , فهذا من تلك العروق التي لم تدركها من أجدادك ولا أجداد أجدادك , خذي إليك ابنك , فقالت المرأة: (فرّجت عليَّ يا رسول الله)(16) .

وقد نقلت هذا الحديث الطويل للتأكيد على عدم قطعية الانتقال الوراثي للصفات الشكلية في الإنسان من الناحية الشرعية , إذ يمكن أن يأخذ الإنسان بعض الصفات الوراثية ممن ينحدر منهم في النسب على مدى تسعة وتسعين جيلا, وبالتالي فإن انتقال الصفات الوراثية في الأخلاق والتصرفات أمر مستبعد بشكل أكبر, وعليه فإنه ومن الناحية الشرعية لا عبرة بالانتقال الوراثي  للصفات الأخلاقية, بل العبرة أولا وآخرا بحسب رأي أصحاب هذه المدرسة هو للتربية والاكتساب من خلال التعليم وخلافه .

وفي هذا المجال ورد أيضا أحاديث تنهى عن أن يمتعض الأب من عدم شبه ابنه له , أو لأمه  أو لأحد من أقاربها , فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:(إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كل صورة بينه وبين آدم ثم خلقه على صورة إحداهن فلا يقولن أحد لولده هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئا من آبائي)(17) .

ومن خلال هذا الحديث الشريف يمكن لأصحاب هذه النظرية أن ينفوا أية علاقة للوراثة في عملية تنشئة الطفل .

3- أدلة من ذهب بأن لكل من التربية والوراثة أثر في تنشئة الطفل :

عرض أصحاب هذا الرأي لكل من أدلة الطرفين وتبنوها واعتبروا أنه مع صحة كلا الطائفتين من الاحاديث لا نستطيع أن نضربها بعرض الحائط كلها ولكن يمكن لنا أن نجمع بينهما مما يوصلنا الى الرأي الأصوب الذي يقول : بأن لكل من التربية والوراثة أثر في عملية تنشئة الولد بحيث لا يكون لأحدها مرجح على الاخر , بل إن قوة أحدهما في نفس الإنسان تجعله ينقاد إليها ولا يوجد مرجح خاص ينطبق على تلك الحالات, فإن كانت قوة العامل الوراثي أقوى من العامل التربوي الذي توفر لهذا الإنسان فإن المؤثر سيكون هو العامل الوراثي دون غيرها والعكس صحيح .

ولكن أصحاب هذا الرأي لم يستطيعوا الإجابة الدقيقة عن كل الإشكالات الواردة على هذا الرأي, من قبيل رسم حدود دقيقة أو شبه دقيقة لتأثير أي من العاملين على الإنسان في كل الموارد , بمعنى أنه ما الذي يجعل احد هذين العاملين أقوى تأثيرا من الآخر, بل جعلوها عامة غير محددة بإطار دقيق مما أفقد هذه النظرية قوتها وجعلها غير قادرة على تقديم الإجابات الكافية لكل ما أشكل على الناس في هذا المجال .

4- أدلة المدرسة الإسلامية :

وهو بحسب اعتقادنا الرأي الأصوب كونه ينطلق من فهم دقيق للنفس الإنسانية انطلاقا مما ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على أساس نظرية متكاملة لا على أساس الانتقاء كما فعل أصحاب الآراء السابقة. ومن المعروف أن الاقدر على تحديد ما هو الأصح في التعامل مع أي مخلوق هو خالقه الذي يعرف ما استودع فيه من الناحية النفسية والجسمانية, وفي مجال المقارنة لا يمكن لنا أن نقارن بين هذا الرأي والآراء الأخرى حيث إن تلك الآراء هي آراء ناتجة عن تجربة بشرية تحاول استكشاف النفس البشرية غير أنها لا تستطيع بحسب قدراتها المحدودة أن تدرك حقيقتها وكنهها في حين أن الرأي الإسلامي ينطلق من معرفة إلهية نستنطقها من الأحاديث الشريفة لا من خلال التجارب البشرية القاصرة.

وسنبين هذا الرأي من خلال جملة عناوين ثم نصل الى الخلاصة المفيدة وهذه العناوين هي على الشكل التالي :

أ‌- عندما يولد الإنسان يولد صفحة بيضاء :

عندما تحدث الله سبحانه وتعالى عن الإنسان عندما يخلق تحدث عنه بطريقة واضحة أنه يُخلق من بطن امه لا يعلم شيئا , وهذا المولود مع أنه خلقه لا يعلم شيئا إلا أنه خلق معه كل الوسائل التي تساعده على التعلم والاكتساب مما يعني أنه خلقه لا يعلم  شيئا ليسعى للتعلم عبر الوسائل التي وفرها له , فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 78] .

ومن خلال هذه الآية الكريمة يتأكد لنا أن الأساس في عملية تكوين الشخصية الإنسانية هو الاكتساب من خلال التعلم , ولا يوجد أي معلومات مسبقة يمتلكها الإنسان من غير اكتساب , أما القول أنه ما نفع الاكتساب طالما أن الإنسان كما وفي الروايات الشريفة شقي من بطن أمه بمعنى أن لا قيمة أبدا لأية عملية اكتساب ولا نفع من ورائها , فإن الرد على هذا القول يكون من خلال فهم هذه الأحاديث الشريفة بالطريقة الصحيحة إذ لا يعقل أن لا يكون قيمة لسعي الإنسان في تكوين شخصيته , أو في سعيه نحو الله عز وجل لأنه إن كان الأمر كذلك فهذا هو الجبر الباطل بحسب عقيدتنا , وهذا الأمر مناف للعدالة وحاشا لله أن يعاقب إنسانا على ما لا اختيار له فيه , وأما حديث ان الشقي شقي من بطن أمه فقد فسره الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث روى عنه محمد بن أبي عمير , فقال: (سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلى الله عليه واله) (الشقي شقي في بطن امه والسعيد سعيد في بطن أمه)) فقال : الشقي من علم الله وهو في بطن امه أنه سيعمل أعمال الأشقياء والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء , قلت له : فما معنى قوله (صلى الله عليه واله) :(اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فقال : إن الله عز وجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه , وذلك قوله عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فيسر كلا لما خلق له فالويل لمن استحب العمى على  الهدى)(18) .

وهذا الحديث الشريف واضح الدلالة على أن معنى ذلك ليس أن الإنسان مجبر على أفعاله ولا قيمة لسعيه وما سيكتسبه, بل معناه أن الله سبحانه وتعالى يعلم لأنه عالم الغيب والشهادة بأن هذا الإنسان سيختار طريق الاشقياء فيكون شقيا, أو يختار طريق السعداء فيسعد, وكذا أوضح الإمام الكاظم (عليه السلام) معنى قول الرسول : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) بنفس الطريقة بان الله سبحانه وتعالى يسر للإنسان إمكانية أن يختار نهج الكفر أو نهج الإيمان, فالويل لمن استحب العمى على الهدى, وبالتالي نستنتج أن التعلم والاكتساب وبالتالي التربية لها الأثر الأبلغ في بناء الإنسان كون الإنسان عندما يولد صفحة بيضاء لا تحتوي شيئا, وأهلنا ونحن نعمل على ملئها فلنملأها بالخير والإيمان لا بالشر والكفر .

ب‌- الفطرة :

في الوقت نفسه الذي خلق فيه الله سبحانه وتعالى الولد صفحة بيضاء لا يعلم شيئا وأعطاه إمكانية أن يتعلم من خلال إعطائه وسائل التعلم من الحواس والعقل , فإنه خلق معه فطرة تدله على الله سبحانه وتعالى كخالق , وتدله على الخير والصواب وتكرهه بالباطل والظلم , فالإنسان يمتلك فطرة تدله على نهج الحق ولكن لا تكرهه عليه فهو الذي يختار ان يسير على طبق فطرته , وهو الذي يرفض ما تدله عليه فطرته فيصبح من أهل الباطل والضلالة , فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم: 30] ،وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أن الدين الحق تدل عليه الفطرة السليمة ,وبالتالي فإن انتهاج دين آخر غير الإسلام أمر ينافي الفطرة السليمة, وسبب هذا الاعتقاد الخاطئ هو إما انتهاج خاطئ من نفس هذا الإنسان , أو أن الأبوين هم الذين أوقعوه بذلك من خلال التربية الخاطئة ودفعه نحو الإيمان بدين يخالف فطرته التي فطره الله سبحانه وتعالى عليها, وهذا ما ورد في كثير من الروايات الشريفة, منها ما ورد عن رسول الله محمد (صلى الله عليه واله) أنه قال:(كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)(19).

ومعنى هذا الحديث الشريف أنه لو ترك كل واحد منا من وقت ولادته وما يؤدي إليه نظره لأداه الى الدين وهو التوحيد , وهذا ما يدل عليه ما ورد في القرآن الكريم حيث قال الباري سبحانه وتعالى :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[العنكبوت: 61]. فالوصول الى الله سبحانه وتعالى ممكن من خلال الفطرة وهذا مقتضى الحكمة والرحمة الإلهية وبالتالي فإن الجامع بين الفطرة والصفحة البيضاء هو أن الله سبحانه وتعالى انطلاقا من نفس الحكمة التي بسببها أعطى الإنسان الحواس والعقل ليدرك ما حوله ولكي لا يضيع عن الوصول الى الله عز وجل فطره على معرفته وعلى معرفة الحق والخير وبغض اليه الكفر والباطل وهذا ما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[الحجرات: 7].

فالله سبحانه وتعالى حَبَبَ إلينا الإيمان به كي يكون هذا الحب دافعا إضافيا نحو معرفة الله سبحانه وتعالى وزاد على ذلك أنه زينه لنا أيضا, في حين أن كرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان كي يكون عاملا إضافيا آخر نحو الإيمان والبعد عن الكفر .

فالطريق الى الله سبحانه وتعالى يُدرك بكثير من الطرق بحيث لا يستطيع أي إنسان أن يتحجج غدا بأنه لا يعرف , أو لم يتعرف لكيفية الوصول الى الله عز وجل , وقد بين لنا الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الصورة بشكل رائع عندما قال ردا على أحد الأشخاص عندما قال له:(يا بن رسول الله دلني على الله ما هو فقد أكثر علي المجادلون وحيروني , فقال له يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ قال : نعم . قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم , قال فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك ؟ قال : نعم , قال الصادق (عليه السلام) : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي, وعلى الإغاثة حيث لا مغيث)(20) .

فالطريق الى الله سبحانه وتعالى متعدد وفطري ويبرز في كل الموارد التي نحتاج فيها الله سبحانه وتعالى فيبدو لنا من خلال الفطرة المودعة فينا , هذا الرأي في هذا المجال لم يذهب إليه علماء الإسلام فقط , بل ذهب إليه مفكرون غير إسلاميين أمثال جان جاك روسو الذي قال : (ليس طريق الإيمان بالله منحصرا في العقل وشكوكه وأوهامه , بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لإثبات هذا الموضوع)(21) .

ج- التربية :

بعد الكلام عن الوسائل التي زود الله سبحانه وتعالى به الإنسان لملء الصفحة البيضاء التي خلقه فيها, وبعد الكلام عن الفطرة التي فطره عليها ليعرف الله والحق ويحب الإيمان ويكره الباطل والكفر يأتي الكلام عن التربية التي  لها الأثر البالغ في تنشئة الطفل منذ صغره, وهذا ما اشار إليه رسول الله (صلى الله عليه واله)عندما قال: (إن أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه) ما يعني أن للتربية الأثر البالغ في تكوين وتنشئة شخصية الطفل ونفسيته, وبعد أن يمتلك الولد القدرة على الاختيار بعد بلوغه سن الرشد فإن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الضمير الذي يمنعه من اتخاذ القرارات الخاطئة والاتجاه في اتجاهات كذلك, فقد ورد ذلك في قوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1، 2]. وعليه فإن التربية لها دور كبير في تنشئة الإنسان وفي نوعية الشخصية التي سيمتلكها .

د - العامل الوراثي :

بالنسبة الى العامل الوراثي فإنه ومن وجهة نظر إسلامية لا يوجد دليل شرعي على أن الإنسان يرث كل الأمور الأخلاقية والنفسية والعقلية بشكل أنه غير قادر على تغييرها بالمطلق, بل يمكن له أن يغير ما يرثه من أبويه من طباع , فكل شيء قابل للتعديل والتغيير بالتربية, نعم ورد أن بعض الأمور يمكن ان تنتقل من خلال وراثة الطباع ولكن هذا لا يشمل كل الطباع , بل بعضها , وأيضا فإن الانتقال ليس ضروريا وحتميا , بل يغلب حصول هذا الأمر فاحتياطا نهي عن الزواج من الحمقاء مثلا خوفا من انتقال الحمق للولد على نحو الترجيح ولكن ليس على نحو الامر الحتمي, بل إن ما أوردناه من أدلة على أنه يمكن أن تنتقل بعض الصفات من خلال تسعة وتسعين جدا هو خير دليل على عدم حتمية الانتقال الوراثي من الوالد أو الأم القريب.

وعليه فإن للوراثة دور غير كبير في تكوين الشخصية ولكنه ليس مطلقا ولا دائما, وهذا ما سنعرض له في فقرة الطبع والتطبع التالية .

هـ - الطبع والتطبع :

يُتداول كثيرا فيما بين الناس المثال المعروف : (الطبع يغلب التطبع) , وهم يستعملونه دائما في الشخص الذي لا ينفع معه التأديب, فإذا ما أغضب عصبي المزاج الذي روضه مربوه على عدم الانصياع لأهوائه وعصبيته وقام بالثورة على من أغضبه قيل له بأن طبعه غلب تطبيع أهله أو مربوه له .

ونحن هنا نريد أن نُدخل هذا الموضوع في هذا البحث لإعطاء الرأي الإسلامي في هذا المجال, وهل صحيح من الناحية الشرعية أنه لا مجال للتطبع وتغيير الصفات الموجودة في الشخص, أو الولد أصلا , أو أنه هناك إمكانية لتغيير الطباع من خلال التربية والتأديب ؟.

في الحقيقة إن الرأي الإسلامي مبني على عدم استحالة أية طباع على التغيير ولكن ضمن شروط نبينها لاحقا, ولكن وقبل ذلك لا بد من الإشارة الى أنه ورد العديد من الروايات التي تقول إنه يمكن تغيير الطباع في الإنسان من خلال التربية والتأديب وانطلاقا منذ بداية الولادة وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) عندما قال: (تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح , فإن الرضاع يغير الطباع)(22) .

وهذا الحديث يدل بشكل وضاح وصريح على أنه يمكن أن تتغير الطباع التي يمكن أن يكتسبها الإنسان بالوراثة من خلال تغيير المرضعة واختيار المرضعة ذات المواصفات الجيدة التي يمكن أن يؤثر حليبها على طباع الولد فتتغير, وهذا يعني ان التغيير ممكن من خلال عملية الإرضاع .

في حين أنه في أحاديث أخرى تم التأكيد على أن الطباع يمكن أن تتغير بعدة أمور منها أن نصاحب من تكون مصاحبته مدعاة لنا لان نتأدب ونتجاوز طباعنا السيئة الى الطباع الحسنة فقد ورد عن امير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) انه قال:(أحيوا الطباع بمجالسة من يُستحيا منه)(23) .

فالحديث يرشد لتحسين الطباع أن يجالس من كان ذا طباع سيئة من يستحي منه إذا صدرت منه

هذه الامور أمامه فيكون ذلك مانعا له من ارتكابها ومشجعا له على عدم الوقوع في مثل ذلك

مستقبلا .

وفي نفس هذا المعنى ورد عن الإمام علي بن الحسين السجاد(عليه السلام) قوله:(مجالسة الصالحين داعية الى الصلاح , وآداب العلماء زيادة في العقل ...)(24) .

فالظاهر من خلال هذا الحديث الشريف يظهر بشكل واضح أنه يمكن تغيير الطباع من خلال مجالسة الصالحين , خاصة  أنهم لا يزكون لنا أعمالنا إن كانت خاطئة , بل ينهونا عنها حتى لو أدى ذلك الى إشكال على المستوى الشخصي, في حين أنهم يدعوننا الى فعل الخير والأعمال الصالحة وقد ورد في هذا المعنى ما رواه صالح عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (يا صالح اتبع من يبكيك وهو لك ناصح , ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش, وستردون على الله جميعا فتعلمون) (25) . ففي الخلاصة لا يوجد طبع لا يمكن تطبيعه وتغييره .

و- تأثير البيئة والمحيط :

في نفس الوقت يُطرح موضوع تأثير البيئة والمحيط على الخصال التي سيتحلى بها الطفل مستقبلا , وهنا يوجد نوعان من التأثير التي يمكن أن يكون لهما علاقة بهذا النوع وهما المحيط البشري والبيئة الجغرافية, فذهب البعض الى أنه للمحيط الإنساني أثر في تكوين شخصية الإنسان وهذا صحيح من حيث المبدأ إذ إن مخالطة الأشرار يمكن أن تجعلك شريرا خاصة إذا لم يتوافق الأمر مع توجيه وإشراف تربوي , ولأجل ذلك ورد النهي عن مصاحبة بعض الناس لما في ذلك من تأثير على شخصية المصاحب فقد ورد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ما نصه: قال (عليه السلام) لبعض بنيه : يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم , ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق , فقال يا أبه من هم ؟ قال (عليه السلام) إياك ومصاحبة الكذاب, فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد , ويبعد لك القريب. وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك بأكلة أو أقل من ذلك, وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه, وإياك ومصاحبة الاحمق , فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصاحبة القاطع رحمه , فإني وجدته ملعونا في كتاب الله)(26) .

وهذا الحديث الشريف يؤكد على أهمية اختيار الصاحب لما له من تأثير على شخصية المصاحب, ولذلك لا بد من الحذر في اختيار الأصحاب .

وفي مجال آخر هناك تأثير آخر مدعى للبيئة على الإنسان فالبيئة ذات المناخ القاسي كالباردة شديدة البرد, أو الحارة الصحراوية تؤثر في قساوة الذين يعيشون فيها فتراهم أجلافا قساة القلب, في حين أنه من يسكن في المناطق ذات المناخ المعتدل يكونون ظرفاء لطفاء طيبي القلب, وكذلك أدعي أن للتضاريس دخلا في تكوين شخصية الإنسان الذي يعيش فيها فسكان الجبال العالية يختلفون عن سكان المناطق الساحلية, وسكان الصحراء يختلفون عن سكان المناطق المزروعة , وكلما كانت التضاريس قاسية تكون الشخصية كذلك والعكس صحيح وكذلك يختلف سكان الحضر عن سكان البدو.

كل هذا الكلام غير دقيق والتأثير إن كان يكون شكليا وطفيفاً , فإذا ما توفر جوٌ تربويٌ مناسب ينعدم هذا التأثير ويصبح لا قيمة له , وأكبر دليل على ذلك هو أن نبينا محمد (صلى الله عليه واله) كان يعيش في بيئة صحراوية شديدة الحرارة قاسية المناخ وكان أن أصبح سيد العالمين على الإطلاق. لذلك فإنه ومن الناحية الشرعية لا نرى أي تأثير مهم على الشخصية الإنسانية مرتبط بطبيعة البيئة والمناخ والتضاريس , وإن كان هناك من تأثير فهو شكلي لا قيمة له , أو أنه ناتج عن طبيعة التعاطي مع هذه البيئة فإن البيئة الجبلية التي تحتاج من المرء الذي يعيش فيها أن يبذل جهدا أكبر ممن يعيش في بيئة سهلة التضاريس مما ينعكس على شخصيته , ولكن التأديب والتعلم والتربية على الأخلاق الحميدة يمنع هذا الأمر من التأثير البالغ , نعم من يترك نفسه من دون تأديب , أو يتركه أهله كذلك فمن الطبيعي ان تفعل الطبيعة فعلها فيه فيصبح جلفاً قاسياً أرعناً .

_____________

1ـ الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1 ص6 .

2ـ عوالي اللآلئ الجزء 1 ص 35 .

3ـ مكارم الأخلاق ص 197 .

4ـ النهاية في غريب الحديث الجزء 1 ص333 .

5ـ عيون الحكم والمواعظ ص228 .

6ـ شرح نهج البلاغة الجزء 1 ص 243 .

7ـ غرر الحكم ودرر الكلم ص 144 .

8- عيون الحكم والمواعظ ص342 .

9ـ الكافي الجزء 5 ص322 .

10- نهج البلاغة الجزء 3 ص91 .

11- الكافي الجزء 5 ص354 .

12- تهذيب الأحكام الجزء 7 ص406 .

13- تهذيب الأحكام الجزء 7 ص398 .

14- الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1 ص 78 .

15- تحف العقول ص111 .

16- وسائل الشيعة الجزء 15 ص 218 – 219 .

17- من لا يحضره الفقيه الجزء 3 ص 484 .

18- التوحيد ص 356 .

19- عوالي الآلي الجزء 1 ص35 .

20- معاني الأخبار الصفحتان 4 – 5 .

21- الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1 ص 258 .

22- وسائل الشيعة الجزء 15 ص 188 .

23- نهج السعادة الجزء 7 ص252 .

24- الكافي الجزء 1 ص 20 .

25- تهذيب الأحكام الجزء 6 ص 377 .

26- بحار الأنوار الجزء 75 ص 137 .




احدى اهم الغرائز التي جعلها الله في الانسان بل الكائنات كلها هي غريزة الابوة في الرجل والامومة في المرأة ، وتتجلى في حبهم ورعايتهم وادارة شؤونهم المختلفة ، وهذه الغريزة واحدة في الجميع ، لكنها تختلف قوة وضعفاً من شخص لآخر تبعاً لعوامل عدة اهمها وعي الاباء والامهات وثقافتهم التربوية ودرجة حبهم وحنانهم الذي يكتسبونه من اشياء كثيرة إضافة للغريزة نفسها، فالابوة والامومة هدية مفاضة من الله عز وجل يشعر بها كل اب وام ، ولولا هذه الغريزة لما رأينا الانسجام والحب والرعاية من قبل الوالدين ، وتعتبر نقطة انطلاق مهمة لتربية الاولاد والاهتمام بهم.




يمر الانسان بثلاث مراحل اولها الطفولة وتعتبر من اعقد المراحل في التربية حيث الطفل لا يتمتع بالإدراك العالي الذي يؤهله لاستلام التوجيهات والنصائح، فهو كالنبتة الصغيرة يراقبها الراعي لها منذ اول يوم ظهورها حتى بلوغها القوة، اذ ان تربية الطفل ضرورة يقرها العقل والشرع.
(أن الإمام زين العابدين عليه السلام يصرّح بمسؤولية الأبوين في تربية الطفل ، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى ، وأن التقصير في ذلك يعرّض الآباء إلى العقاب ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : « وتجب للولد على والده ثلاث خصال : اختياره لوالدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في تأديبه » من هذا يفهم أن تأديب الولد حق واجب في عاتق أبيه، وموقف رائع يبيّن فيه الإمام زين العابدين عليه السلام أهمية تأديب الأولاد ، استمداده من الله عز وجلّ في قيامه بذلك : « وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم »)
فالمسؤولية على الاباء تكون اكبر في هذه المرحلة الهامة، لذلك عليهم ان يجدوا طرقاً تربوية يتعلموها لتربية ابنائهم فكل يوم يمر من عمر الطفل على الاب ان يملؤه بالشيء المناسب، ويصرف معه وقتاً ليدربه ويعلمه الاشياء النافعة.





مفهوم واسع وكبير يعطي دلالات عدة ، وشهرته بين البشر واهل العلم تغني عن وضع معنى دقيق له، الا ان التربية عُرفت بتعريفات عدة ، تعود كلها لمعنى الاهتمام والتنشئة برعاية الاعلى خبرة او سناً فيقال لله رب العالمين فهو المربي للمخلوقات وهاديهم الى الطريق القويم ، وقد اهتمت المدارس البشرية بالتربية اهتماماً بليغاً، منذ العهود القديمة في ايام الفلسفة اليونانية التي تتكئ على التربية والاخلاق والآداب ، حتى العصر الاسلامي فانه اعطى للتربية والخلق مكانة مرموقة جداً، ويسمى هذا المفهوم في الاسلام بالأخلاق والآداب ، وتختلف القيم التربوية من مدرسة الى اخرى ، فمنهم من يرى ان التربية عامل اساسي لرفد المجتمع الانساني بالفضيلة والخلق الحسن، ومنهم من يرى التربية عاملاً مؤثراً في الفرد وسلوكه، وهذه جنبة مادية، بينما دعا الاسلام لتربية الفرد تربية اسلامية صحيحة.