أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
7157
التاريخ: 28-2-2017
12390
التاريخ: 18-10-2017
10046
التاريخ: 19-10-2017
3596
|
قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة : 15- 16] .
لما ذكر سبحانه ، أن اليهود والنصارى نقضوا العهد ، وتركوا ما أمروا به ، عقب ذلك بدعائهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكرهم ما أتاهم به من أسرار كتبهم ، حجة عليهم ، فقال : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يخاطب اليهود والنصارى {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني ما بينه صلى الله عليه وآله وسلم من رجم الزانين ، وأشياء كانوا يحرفونها من كتابهم بسوء التأويل ، وإنما لم يقل يا أهل الكتابين ، لأن الكتاب اسم جنس ، وفيه معنى العهد ، فسلك طريقة الإيجاز في اللفظ ، من حيث كانوا كأنهم أهل كتاب واحد {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} معناه : يترك كثيرا لا يذكره ، ولا يؤاخذكم به ، لأنه لم يأمر به ، عن أبي علي الجبائي .
وقيل : معناه يصفح عن كثير منهم بالتوبة ، عن الحسن .
والوجه في تبيين بعضه ، وترك بعضه أنه يبين ما فيه دلالة على نبوته من صفاته ونعته والبشارة به ، وما يحتاج إلى علمه ، من غير ذلك مما يتفق له الأسباب التي يحتاج معها إلى استعلامه ، كما اتفق ذلك في الرجم ، وما عدا هذين مما ليس في تفصيله فائدة ، كفى ذكره في الجملة {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} يعني بالنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يهتدي به الخلق ، كما يهتدون بالنور ، عن قتادة ، واختاره الزجاج . وقيل : عنى به القرآن لأنه يبين الحق من الباطل ، عن أبي علي الجبائي .
والأول أولى لقوله {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} فيكون اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين .
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} أي : الكتاب المبين ، وهو القرآن . وقيل : بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} أي : من اتبع رضاء الله في قبول القرآن ، والإيمان ، وتصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واتباع الشرائع {سُبُلَ السَّلَامِ} قيل : السلام هو الله تعالى ، عن الحسن ، والسدي ، ومعناه سبل الله ، وهو شرائعه التي شرعها لعباده ، وهو الإسلام . وقيل : إنه السلامة من كل مخافة ، ومضرة ، إلا ما لا يعتد به ، لأنه يؤول إلى النفع في العاقبة ، عن الزجاج . أي : يهدي إلى طرق السلامة من اتبع ما فيه رضاء الله ، فالسلام والسلامة ، كالضلال والضلالة ، والمراد بقوله {يَهْدِي} أنه يفعل اللطف المؤدي إلى سلوك طريق الحق {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (2) لأن الكفر يتحير فيه صاحبه ، كما يتحير في الظلام ، ويهتدي بالإيمان إلى النجاة ، كما يهتدي بالنور {بِإِذْنِهِ} أي : بلطفه {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي : ويرشدهم إلى طريق الحق ، وهو دين الإسلام ، عن الحسن . وقيل إلى طريق الجنة ، عن أبي علي الجبائي .
_____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 301-302 .
2. [معناه من الكفر إلى الإيمان] .
أمر اللَّه سبحانه نبيه ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين جميعا أن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، ثم ضرب لهم أمثلة من هذا الجدال ليكونوا على بينة من معناه ومفهومه ، من ذلك أن يقول المسلمون لأهل الكتاب : { آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وإِلهُنا وإِلهُكُمْ واحِدٌ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت : 46] :
{ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهً ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [آل عمران : 63] . .
وهناك آيات تحصي على أهل الكتاب بعض آثامهم ، ومنها هذه الآية التي نفسرها ، فقد ذكرتهم بتحريف التوراة والإنجيل ، وعنادهم لمحمد الذي جاءهم بالهدى والنور .
{ يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ } . المراد بالرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنه بيّن لليهود والنصارى فيما بيّن بعض ما أخفوه من الكتاب الذي معهم ، فالنصارى أخفوا التوحيد ، وهو أساس الدين ، واليهود أخفوا من العقيدة خبر الحساب والعقاب يوم القيامة ، ومن الشريعة تحريم الربا ، ورجم الزاني ، كما أخفى اليهود والنصارى معا بعثة محمد : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ } [الأعراف : 156] .
لقد أطلع اللَّه سبحانه محمدا ( صلى الله عليه وآله ) على كل ما أخفاه وحرّفه اليهود من التوراة ، والنصارى من الإنجيل ، ثم أخبرهم محمد ( صلى الله عليه وآله ) بكثير مما كانوا يخفون ، وسكت عن كثير مما يعلم من تحريفهم ، وهذا معنى قوله تعالى :
{ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ } . أي يسكت عنه .
وجاء هذا الإخبار من محمد ( صلى الله عليه وآله ) دليلا قاطعا على نبوته ، ومعجزة من معجزات القرآن التي لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيها ويشك ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أميا لم يقرأ كتابا ، ولم يخبره أحد عما في كتب اليهود والنصارى .
وتسأل : لما ذا أخبرهم النبي بالبعض فقط ، دون الجميع ؟
الجواب : ان الغاية هي إعلامهم بأن الرسول عالم بما يخفون ، وهذه الغاية تحصل بالأخبار عن البعض ، كما تحصل بالأخبار عن الكل . . هذا ، إلى انهم إذا علموا بأنه ( صلى الله عليه وآله ) عالم ببعض ما أخفوه فقد علموا بأنه عالم بالكل .
الإسلام وأنصار السلام :
{ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ } . قيل : النور محمد ، والكتاب القرآن . وقيل : هما وصفان للإسلام . . ولا اختلاف بين القولين إلا في التعبير ، فان محمدا والإسلام وكتاب اللَّه معان متلازمة متشابكة ، لا ينفك بعضها عن بعض .
{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ } . أي من رغب في مرضاة اللَّه وحده ، وطلب الحق لوجه الحق فإنه يجد في الإسلام بغيته ومرامه ، لأن فيه ثلاث فوائد :
1 - { سُبُلَ السَّلامِ } . وليس المراد بالسلام خصوص السلام الذي ينشده وينادي به أنصار السلام من طلب الأمن على الأرواح والأموال للشعوب ، وإنما المراد به السلام الكامل الشامل لجميع الشعوب ، والأفراد ، وسلام البيت والأسرة من التربية الفاسدة ، وسلام العقل من الجهل والإيمان بالخرافات والأساطير ، وسلام النفس من الطمع والحقد والكذب والمكر .
2 - { ويُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ } . أي يخرجهم اللَّه بأمره تعالى من ظلمات التعبد للأصنام إلى نور التوحيد الذي يحررهم من كل قيد إلا التعبد للَّه الواحد القهار .
3 - { ويَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } . والصراط المستقيم عند اللَّه هو السبيل الذي يجعل الحياة ، هذه الحياة ، متعة وهناء لا عذابا وشقاء .
وبعد ، فهل عند أنصار السلام وغيرهم من الذين ينادون بتنمية الإنتاج ، وتوفير العيش للجميع ، هل عند هؤلاء وغير هؤلاء منهج أفضل وأجدى مما عند الإسلام ؟ . وهل يحبون عباد اللَّه أكثر من حب اللَّه لعباده ، أو انّهم أعلم منه بما يصلح خلقه ويفسده ؟ وبالتالي ، هل في عقيدة الإسلام ، وشريعة الإسلام ، وأخلاق الإسلام ، أو في حكم واحد من أحكام الإسلام ما يتنافى مع زيادة الإنتاج وتوزيعه بالحق والعدل ؟ . ان القرآن أول الدعاة إلى حياة أفضل ، قال سبحانه في الآية 9 من الإسراء : { إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .
قال المفسرون : أي للحالة الأفضل .
ومهما شككت ، فاني على علم اليقين ان ما من أحد يدرس الإسلام دراسة صحيحة ، أي بكفاءة وتجرد ، إلا آمن به وأذعن له ، من حيث يريد ، أو لا يريد .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 33-35 .
لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله وتعزيرهم وعلى حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى الإيمان برسوله الذي أرسله وكتابه الذي أنزله ، بلسان تعريفهما لهم وإقامة البينة على صدق الرسالة وحقية الكتاب ، وإتمام الحجة عليهم في ذلك : أما التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً } (إلخ) ، وقوله : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ } (إلخ).
وأما إقامة البينة فما في قوله : { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ } (إلخ) فإن ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للأخصاء من علمائهم ، وكذا قوله : { يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ } (إلخ) فإن المطالب الحقة التي لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة وحقية الكتاب .
وأما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله : { أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وقد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض : { إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } وقول اليهود والنصارى. { نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }.
قوله تعالى : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ } أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة وبشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ } : الآية ( الأعراف : 157 ) وقوله تعالى : { يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ } الآية : ( البقرة : 146 ) وقوله : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ } الآية ( الفتح : 29 ) وكبيانه صلى الله عليه وآله حكم الرجل الذي كتموه وكابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي : { لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } الآيات : ( المائدة : 41 ) وهذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم .
وأما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب ، ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين ، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسيم والحلول في المكان ونحو ذلك ، وما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات ، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد ، وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية.
قوله تعالى : { قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ } ظاهر قوله : { قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ } كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين والمتكلم وهذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن ، وعلى هذا فيكون قوله : { وَكِتابٌ مُبِينٌ } معطوفا عليه عطف تفسير ، والمراد بالنور والكتاب المبين جميعا القرآن ، وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } : ( الأعراف : 157 ) وقوله : { فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا } : ( التغابن : 8 ) وقوله : { وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً } : ( النساء : 174 ) .
ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلى الله عليه وآله على ما ربما أفاده صدر الكلام في الآية ، وقد عده الله تعالى نورا في قوله : { وَسِراجاً مُنِيراً } : ( الأحزاب : 46 ) .
قوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } الباء في قوله : { بِهِ } للآلة والضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي صلى الله عليه وآله أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي صلى الله عليه وآله أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية ، وكذا القرآن وحقيقة الهداية قائمة به قال تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ } : ( القصص : 56 ) ، وقال : { وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } ( الشورى : 53 ) والآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وآله في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة وغيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.
وقد قيد تعالى قوله : { يَهْدِي بِهِ اللهُ } بقوله : { مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ } ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه ، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب ، وهو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر.
وقد أطلق تعالى السلام فهو السلامة والتخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة ، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام لله والإيمان والتقوى بالفلاح والفوز والأمن ونحو ذلك ، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ } : ( الحمد : 6 ) في الجزء الأول من الكتاب أن لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى : { وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } : ( العنكبوت : 69 ) ، وقال تعالى : { وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } : ( الأنعام : 153 ) فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها ويبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.
فمعنى الآية ـ والله العالم ـ : يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة ، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة.
فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله ، وقد قال تعالى : { وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ } : ( الزمر : 7 ) ، وقال : { فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } : ( التوبة : 96 ) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والانخراط في سلك الظالمين ، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله : { وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } : ( الجمعة : 5 ) فالآية أعني قوله : { يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } تجري بوجه مجرى قوله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } : ( الأنعام : 82 ) .
قوله تعالى : { وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ } في جمع الظلمات وإفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه ولا تفرق وإن تعددت بحسب المقامات والمواقف بخلاف طريق الباطل.
والإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته ورضاه كما قال تعالى : { كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } : ( إبراهيم : 1 ) فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه وقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ } : ( إبراهيم : 5 ) فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.
وإذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه وقد جاء الإذن بمعنى العلم يقال : أذن به أي علم به ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ } : ( التوبة : 3 ) { فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ } : ( الأنبياء : 109 ) ، وقوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } : ( الحج : 27 ) إلى غيرها من الآيات .
وأما قوله تعالى : { وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله : { وَيُخْرِجُهُمْ } ، بين قوله { يَهْدِي بِهِ اللهُ } ، وبين هذه الجملة ، ولأن الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.
ولا ينافي تنكير قوله : { صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه ـ إلا في سورة الفاتحة ـ لأن قرينة المقام تدل على ذلك ، وإنما التنكير لتعظيم شأنه وتفخيم أمره .
__________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 207-211 .
بعد أنّ تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم ، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامّة وتدعوهم إلى الإسلام الذي طهر الديانتين اليهودية والمسيحية من الخرافات التي لصقت بهما ، والذي يهديهم إلى الصراط السّوي المستقيم ، والذي ليس فيه أي انحراف أو اعوجاج .
وتبيّن الآية ـ في البداية ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصّة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس ، وإن هذا الرّسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها ، فتقول الآية في هذا المجال : {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ . . .} .
وتدلّ هذه الجملة القرآنية على أنّ أهل الكتاب كانوا قد أخفوا وكتموا الكثير من الحقائق ، لكن نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم قد أظهر من تلك الحقائق ما يفي منها بحاجة البشرية في عصر الإسلام ، مثل بيان حقيقة التوحيد وطهارة الأنبياء وتنزههّم عمّا نسب إليهم في التوراة والإنجيل المزورين ، كما بيّن تحريم الربا ، والخمرة وأمثالهما ، بينما بقيت حقائق تخص الأمم السابقة والأزمنة الغابرة ممّا لا أثر لذكرها في تربية الأجيال الإسلامية ، فلم يتمّ التطرق إليها .
وتشير الآية الكريمة ـ أيضا ـ إلى أهمية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية ، فتقول : {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} النور الذي يهدي به الله كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل السلام ، كما تقول الآية الأخرى : {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ . . .} وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها . . .) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والاتحاد ، حيث تقول الآية : {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ . . .} .
وإضافة إلى ذلك كلّه يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبدا ، كما تقول الآية : {وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
لقد اختلف المفسّرون في المعنى المراد من كلمة «النّور» الواردة في الآية ، فذهب البعض منهم إلى أنّها تعني شخص النّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال مفسّرون آخرون : إنّ المعنى بالنور هو القرآن المجيد .
وحين نلاحظ آيات قرآنية عديدة تشبه القرآن بالنور ، يتبيّن لنا أنّ كلمة «النور» الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ إنّما تعني القرآن ، وعلى هذا الأساس فإنّ عطف عبارة «كتاب مبين» على كلمة (النور» يعتبر من قبيل عطف التوضيح ، كما نقرأ في الآية (٥٧) من سورة الأعراف : {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي الآية (٨) من سورة التغابن نقرأ ما يلي: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا . . .} وآيات عديدة أخرى تشير إلى نفس المعنى ، بينما لا نجد في القرآن آية أطلقت فيها كلمة النور على شخص النّبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وإضافة إلى ما ذكر فإنّ الضمير المفرد الوارد في عبارة «به» الواردة في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، يؤكّد هذا الموضوع أيضا ، وهو أن النور والكتاب المبين هما إشارتان لحقيقة واحدة .
ومع إنّنا نجد روايات عديدة تفسّر كلمة «النّور» على أنّها إشارة إلى الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام أو الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام جميعهم ، لكن الواضح هو أنّ هذا التّفسير يعتبر من باب بيان بواطن الآيات ، لأنّنا كما نعلم أنّ للآيات القرآنية ـ بالإضافة إلى معانيها الظاهرية ـ معان باطنية يعبّر عنها بـ «بواطن القرآن» أو «بطون القرآن» ، ودليل قولنا هذا أنّ الأئمّة عليهم السلام لم يكن لهم وجود في زمن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لكي يدعو القرآن أهل الكتاب للإيمان بهم .
أمّا الأمر الثّاني الوارد في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، فهو أنّ القرآن يبشر أولئك الذين يسعون لكسب مرضاة الله بأنّهم سيحظون في ظل القرآن بنعم عظيمة ثلاثة هي :
أوّلا : الهداية إلى سبل السلامة التي تشمل سلامة الفرد والمجتمع ، والروح والجسد والعائلة ، والسلامة الأخلاقية ، وكل هذه الأمور تدخل في الجانب العملي من العقيدة .
وثانيا : نعمة النجاة من ظلمات الكفر والإلحاد .
وثالثا : الهداية إلى النور ، وفي هذا دلالة على الطابع العقائدي ، ويتمّ كل ذلك من خلال أقصر وأقرب الطرق وهو الذي أشارت إليه الآية ب {الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
وبديهي أن هذه النعم لا يحظى بها إلّا من أسلم وجهه لله ، وخضع للحق بالعبودية والطاعة ، وكان مصداقا للعبارة القرآنية القائلة : {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ} بينما لا يحضى المنافقون والمعاندون وأعداء الحق بأيّ فائدة مطلقا ، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنية عديدة .
وبديهي ـ أيضا ـ أنّ كل هذه النتائج والآثار ، إنّما تحصل بمشيئة الله وإرادته وحده دون سواه ، كما تشير عبارة «بإذنه» الواردة في الآية الأخيرة .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 464-466 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|