أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-07-06
1251
التاريخ: 2023-07-20
972
التاريخ: 2024-02-21
969
التاريخ: 2024-01-27
1089
|
أجمع اهل مصر (1) أن أول من ملك مصر بعد الطوفان مصرايم بن بيصر (2) ابن حام بن نوح عليه السلام وذلك بدعوة سبقت له من جده.
والسبب في ذلك أن فيلمون الكاهن سأل نوحا أن يخلطه بأهله وولده، وقال له: يا نبي الله إنني تركت أهلي وولدي فاجعل لي رفقة أذكر بها بعد موتي، فزوج عليه السلام مصرايم بن بيصر بن حام بنت فيلمون، فولدت له ولدا فسماه فيلمون باسم جده.
فلما أراد نوح عليه السلام قسمة الارض بين بنيه، قال له فيلمون: ابعث معي يا نبي الله ابني، حتى أمضي به إلى بلدي وأظهره على كنوزه، وأوقفه على علومه وأفهمه رموزها، فبعثه مع جماعة من أهل بيته، وكان غلاما مراهقا.
فلما قرب من مصر بنى له عرشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش ثم بنى له بعد ذلك مدينة في الموضع بنفسه وسماها درمان (3) أي باب الجنة وزرعوا وغرسوا الاشجار.
وكان بين درمان إلى البحر زروع وأجنة وعمارة، وكان القوم الذين كانوا مع مصرايم جبابرة، فقطعوا الصخور وبنوا المصانع والمعالم، وأقاموا في أرغد عيش.
ونكح مصرايم بنتا من بنات الكهنة، فولدت له ولدا فسماه قبطيما، وتزوج بعد تسعين سنة من عمره مرأة أخرى فولدت له أربعة نفر: يقطويم، واشمون، وابريت، وصابي، فكثروا وعمروا الارض وبورك لهم فيها.
وقيل ان عدد من كان مع مصرايم ثلاثون رجلا من الجبابرة، فبنوا مدينة سموها ناقة، بلغتهم معناها ثلاثون، وهي مدينة منف.
وكشف فيلمون الكاهن لمصرايم عن كنوز مصر وعلمه قراءة خط البرابي وما زبر على الحجارة، وعرض عليهم معادن الذهب والفيروزج والزبرجد وغير ذلك، ووصف لهم عمل الصنعة فجعل الملك أمرها إلى رجل يقال لسنطاس (4) ثقة من أهل بيته، فكان يعملها في الجبل الشرقي، فسمي الجبل به المقطم.
وعلمهم أيضا عمل الطلسمات وكانت تخرج من البحر دواب وتفسد زروعهم، وما قارب البحر من جهاتهم فعملوا لها الطلاسم فغابت ولم تظهر بعد.
وبنوا على غير البحر مدنا منها رقوده بمكان الاسكندرية، وجعلوا وسطها قبة من نحاس مذهب والقبة مذهبة, ونصبوا فوقها مرآة معموله من أخلاط شتى قطرها خمسة أشبار، وكان ارتفاع القبة من الارض خمسمائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصديهم بأذاهم من البحر عملوا لتلك المرآة عملا فألقت شعاعها إلى ذلك القاصد ومراكبه فأحرقتهم اجمعين، ولم تزل على حالها حتى غلب عليها البحر فهدمها.
ويقال ان منارة الاسكندرية إنما عملت تشبيها بها، وقد كانت أيضا عليها مرآة يرى فيها من يقصدها من بلاد الروم، فاحتال عليها بعض الملوك، فوجه إليها من أزالها، وكانت من زجاجة مدبرة.
ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد إلى ابنه، وقد كان قسم أرض مصر بين بنيه فجعل نم قفط إلى اسوان لقبطيم، وجعل لا شمون من أسوان إلى منف، ولا بريت الحوف كله، ولصابي ناحية البحر إلى قرب برقة والغرب، فهو صاحب افريقية وولده الافارق، وأمر كل واحد من بنيه أن يبني مدينة لنفسه في موضعه وأمرهم عند موته أن يحفروا في الارض سربا ويفرشوه بالمرمر، ويدفنوه فيه ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه من الذهب والفضة والجوهر.
ويزبروا على ذلك أسماء الالهة العظام المانعة من الحوادث.
فحفروا له سربا، طولا مائة وخمسون ذراعا، وجعلوا في وسطه مجلسا مصحفا بصفائح الذهب، وجعلوا للمجلس أربعة أبواب على كل باب تمثال من ذهب عليه تاج مرصع بالجوهر، جالس على كرسي من ذهب قدامه آنية زبرجد، ونقشوا في صدر كل تمثال آيات مانعة، واجلسوا جسده في مجلس زبرجد أخضر، وزبروا عليه " مات مصرايم بن بيصر بن حام بعد سبعمائة سنة مضت لايام الطوفان، مات ولم يعبد الاصنام، فصار إلى حيث هو لا يوم هرم ولا سقم ولا حزن، وجعل جسده وماله في هذا السرب وحصنه بأسماء الله العظام، وبما لا يصل إليه بعده إلا ملك له من جدوده سبعة ملوك يأتي في آخر الزمان، يدين للملك الديان، ويؤمن بالمبعوث بالقرآن، الداعي إلى الايمان في عواقب الازمان ".
وجعلوا معه في ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية ذهب مملوءة درايق سما، وألف آنية مملوءة بالصنعة الالهية والعقاقير السرية، وجعلوا مع ذلك طلسمات عجيبة، وسبائك ذهب مكدسة بعضها على بعض، وسقفوا ذلك بالصخور العظام، وهالوا عليه التراب والرمال حتى سدوا ما بين جبلين متقابلين، وجعلوا عليه علامات لا تخفى.
وولي الملك بعده ابنه قبطيم الملك، ويقال ان القبط منسوبون إليه وهو أول من عمل العجائب، واثار المعادن، وشق الانهار، ويقال انه [ لحق ] (5) البلبلة، وخرج منها بهذا اللسان القبطي، وعمل ما لم يعمله أبوه من العمارات، ونصب الاعلام والمنارات والعجائب والطلسمات.
وملكهم قبطيم ثمانين سنة، وهلك فاغتم عليه بنوه وأهله، ودفن في سرب تحت الجبل الكبير الداخل، وصفح بالمرمر الملون، وجعل فيه منافذ للريح فهي تتخرق فيه بدوي عظيم هائل، وجعل فيه كروس نحاس مطلية بأدوية تضئ أبدا كأنها سرج لا تطفأ، ولطخوا جسده بالمرمر والكافور والمومياء وجعلوه في جرن من ذهب وثياب منسوجة بالمرجان والدر، وكشفوا عن وجهه في جرنه تحت قبة على عمد من مرمر ملون وفي وسط القبة جوهرة معلقة تنير كالسراج، وبين كل عمودين تمثال في يده أعجوبة، وجعل تحت الجرن توابيت حجارة مملوءة جوهرا وذهبا وغير ذلك من التماثيل والصنعة، وحول ذلك مصاحف الحكمة، وسدوا عليه، وزبروا عليه كما زبروا على تابوت أبيه.
وتولى الامر بعده ابنه قفطويم الملك، وكان أكبر ولد أبيه، وكان جبارا عظيم الخلق، وهو الذي وضع أسرار الاهرام بالدهشور وغيرها، ليعمل ما عمله الاولون، وهو الذي بنى مدينة زرنده.
وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه، وأثار من المعادن ما لم يثره أحد، وكان يجد الذهب على قدر الرحى والزبرجد مثل الاسطوانة، وغرس الا سارح في صحراء الغرب مثل النخلة.
وعمل من العجائب كثيرا، وعمل منارا عاليا في جبل قفط يرى منه البحر الشرقي، ووجد هنالك معادن زئبق فعمل منه بركة عظيمة، فقيل إنها هناك إلى اليوم.
وفي زمانه أثار ابليس وأعوانه الاصنام التي كان الطوفان أغرقها، وزينوا أمرها وعبادتها.
ويقال ان قفطويما بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائبا، منها الماء الملفوف القائم كالعمود ولا ينحل ولا يذوب ويسمى فلطيس، وصيادة الطير (6) إذا نصبها ومر عليها الطير سقط فيها ولم يقدر أن يبرح منها حتى يؤخذ.
وعمل بها أيضا عمودا من نحاس عليه صورة طائر، فإذا قرب الوحش والاسد والحيات من المدينة صفر ذلك الطائر صفيرا عاليا، فترجع تلك الدواب هاربة.
وكان للمدينة أربعة أبواب جعل لها أربعة أصنام، على كل باب صنم من نحاس لا يعبر غريب الا ألقى عليه النوم والسبات، فينام عند الباب فلا يبرح نائما حتى يأتيه أهل تلك المدينة، فينفخوا في وجهه فيقوم، فان لم يفعلوا ذلك لم يزل نائما حتى يهلك.
وعمل منارا لطيفا من زجاج ملون على قاعدة من نحاس، وعلى رأس المنارة صورة صنم من زجاج كبيرة، وفي يده كالقوس، وكأنه يرمي به، فان عاينه غريب وقف في موضعه ولم يبرح حتى يجيئه أهل المدينة.
وكان ذلك الصنم يتوجه من ذات نفسه إلى مهب الرياح الاربع، وقيل ان هذا الصنم على حاله إلى اليوم، وإن الناس تحاموا تلك المدينة على ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفا من ذلك الصنم، فإذا وقع عين انسان عليه لا يزال نائما حتى يهلك.
وقد كان بعض الملوك عزم على قلعه بما أمكنه، فهلك في ذلك خلق كثير، ولم يقدر عليه.
وقيل إنه عمل في بعض المدن الداخلة مرآة يرى الانسان فيها جميع ما يسأل عنه.
وعمل من خلف الجبل وبين الواحات الداخلة مدنا، وعمل فيها عجائب كثيرة، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها، فلا يستطيع أحد أن يدنو منها ولا يدخلها حتى يعمل عقدا بين أولئك الروحانيين، فيصل حينئذ إليها ويأخذ من كنوزها ما أحب من غير مشقة ولا ضرر.
فأقام قفطويم ملكا أربعمائة سنة، وأكثر العجائب انما عملت في وقته ووقت أبيه.
وأمر قفطويم فعمل له ناووس في الجبل الغربي قريب من المدينة مدينة العمد، وقد كان عمل لنفسه قبة قبل موته في سرب تحت الارض معقود على أرج تحت الارض على هيئة الدار في سعة كثيرة، وعمل حول دورها خزائن واسعة منقورة في الجبل أيضا، وجعل في سقوفها مسارب للريح، وبلطت مع السرب وجميع الدار بالمرمر، وجعل في وسط الدار مجلسا على ثمانية
أركان مصفحا بالزجاج الملون المسبوك، وجعل في سقفه جواهر وحجارة تسرج.
وفي كل ركن من أركان المجلس تمثال ذهب بيده كالبرق الذي يبرق، وعمل في وسط المجلس بركة مصفحة بالذهب، وعمل لها حواشي زبرجد وفرش حرير، وجعل على جسده بعد أن لطخ بالأدوية المجففة، وجعل حواليه ألف آنية من كافور، وأسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب ووجهه مكشوف، وعلى رأسه تاج مكلل، وعن جوانب البركة أربعة تماثيل من زجاج مسبوك في صورة النساء وفي ألوانهن، وبأيديهن كالمراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب سيف فاخر من أفخر الحديد قائمه من زبرجد.
وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب والتيجان والجواهر، وأواني الحكم وأصناف العقاقير، ومن الطلسمات العجيبة، والمصاحف الحاوية لجميع العلوم ما لا يحصى قدره كثرة.
وجعل على باب المجلس صورة ديك من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر، وهو ناشر الجناحين مزبور عليه آيات عظام مانعة، وجعل على كل مدخل أزج صورتين من نحاس مشوهتين، بأيديهما سيفان كالبرق وبين أيديهما بلاطة تحتها لوالب لابد من وطئها إذا أراد أن يدنو منها، فإذا وطأها ضرباه بسيفهما فقتلاه.
وفي كل أزج كوة فيها لطوخ مدبرة تسرج وتضئ طول الزمان، وسدت أبواب الازج بالأساطين المرصعة ورصوا على السقف البلاطات العظام، وردموا فوقها بالرمال, وزبروا على باب الازج الاول في حجر عظيم " هذا المدخل إلى جسد الملك العظيم المهيب الكريم قفطويم ذي الايد والقوة والفخر والغلبة والقهر، حل هذا الموضع بجسده وبقي ذكره وعلمه فلا يوصل إليه، ولا يقدر عليه بحيلة إلا بعد مدد ودورات تمضي من السنين ".
وملك بعده ابنه البودشير (7) الملك فتجبر وتكبر، وعمل بالسحر، واحتجب عن العيون، وقد كان أعمامه صابي وأبريت ملوكا على مواضعهم، إلا أنه كان أكبرهم سنا، فلذلك أذعنوا له.
فيقال إنه أرسل إلى هرمس المصري فبعثه إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته، حتى عمل له هناك هيكلا للتماثيل من نحاس، وعمل البطيحة التي ينصب عليها ماء النيل.
ويقال انه هو الذي عدل جنبي النيل، وقد كان يفيض في بعض مواضع وربما انقطع في مواضع، وأمره البودشير أن يسير مغربا لينظر ما هناك، فوقع إلى أرض واسعة متخرقة بالمياه والعيون كثيرة العشب، فبنى بها منائر ومتنزهات وأقام بها، وحول البودشير جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي وبنوا فيها حتى صارت أرضا عامرة كلها، وأقاموا بذلك مدة كبيرة، وخالطهم البربر ونكح بعضهم في بعض.
ثم انهم تحاسدوا وتباغوا وكانت بينهم حروب افنتهم، فحينئذ خرب البلد وباد أهله الا بقية منازل تسمى الواحات.
ويقال إنه عمل في وقته كثيرا من العجائب، فمنها قبة لها أربعة أركان في كل واحد منها كوة يخرج منها دخان ملتف (8) في ألوان شتى في يوم معلوم في السنة من أول سنتهم فإذا خرج الدخان أخضر دل على العمارة والخصب وحسن الزرع وصلاح النبات، وإن خرج الدخان أبيض دل على الجدب وقلة الخيرات، وإن خرج أحمر دل على الدماء والحروب وقصد الاعداء، وإن كان أسود دل على كثرة الامطار والسيول وفساد بعض الارض بذلك، وان كان أصفر دل على النيران وعلى آفات تحدث في الفلك, وما كان منه يخرج مختلط اللون دل على مظالم الناس وفساد بعضهم لبعض وإهمال ملوكهم الامور، وأشياء تدل على هذا الضرب، وكانت هذه القبة على منارة أقامت زمانا من ملكه ثم هدمها..... .
وعمل أيضا قدحا لطيفا على مثل العمد، وأهداه حويل الملك إلى الاسكندر اليوناني، وملكهم مائة سنة وأربعين سنة، ومات وهو ابن تسعمائة سنة وثلاثين سنة.
وقيل إنه دفن في إحدى المدن ذوات العجائب في أزج من رخام ملون مبطن بزجاج أصفر، وطلي جسمه بما يمسكه، وجعل حوله كثير من ذخائره، وذلك في وسط المدينة وهي محروسة بمن يمنع منها من الروحانيين.
وذكر بعض أهل القبط أن ناووس عديم عمل له في صحراء قفط على وجه الارض، وهو قبة عظيمة من زجاج أخضر براق معقود على ثمانية آزاج
من صنفها، وعلى رأسها كرة من ذهب عليها طائر من ذهب ناشر الجناحين موشح بجواهر تمنع من الدخول، وفي قطرها مائة ذراع في مثلها.
وجعل جسده في وسطها على سرير من ذهب مشبك بجوهر عقيق، وعليه ثياب منسوجة بالذهب مكشوف الوجه.
والآزاج مفتوحة، طول كل أزج منها ثمانية أذرع، وارتفاع القبة أربعون ذراعا، يلقي نورها على ما حولها من الارض، لصفاء لونها وبريقها، وجعل معه في القبة مائة وسبعون مصحفا من مصاحف الحكمة، وسبع موائد عليها أوانيها منها.... .
ثم رجع إلى أبيه فولاه الملك بعده وعهد إليه بما أراد ووصاه، ثم مات أبوه فلما أودعه الناووس، وفرغ منه جلس على سرير الملك شدات (9) الملك، وهو الذي بنى الاعلام بالدهشور بالأحجار التي قطعت في زمان أبيه.
وقال الذين ينكرون أن العادية دخلت مصر انما غلط الناس في اسم شدات فقالوا شداد بن عاد لكثرة ما يجري على ألسنتهم شداد وقلة ما يجري شدات.
وما قدر أحد قط من الملوك أن يدخل مصر الا عبد لبخت نصر بما قدمه من الحيل في افساد طلسماتها.
وشدات الملك هو الذي عمل مصاحف الزيجات التي يذكر فيها الملوك، ويقال انه وجد في بعض رموزهم ومصاحف كهانهم ان الملك بودشير بن قفطويم لما أجهد نفسه في عبادة الانوار العلوية، وعرف ان روحانياتها قد صارت فيه حبب إليها نفسه، وجوعها واستغنى جسده عن الطعام والشراب، فلما أدمن ذلك اشتاقته الانوار العلوية واشتاقها، فرفعته إلى مواضعها، وبرأته من شرور الارض المؤلمة، وجعلته نورا سابحا داخلا في نورها، يتصرف بتصرفها، فطوبى له من كاهن عرفت له كهانته، وأكرم بها وصير ملكا، فسبيل من بعده ان يبلغ خطته ويجعل بمثابته.
وهذا الكلام وشبيهه تضليل للناس لانهم كانوا يتعبدون للكواكب، فيقولون مثل هذا ترغيبا في دينهم. وقد قالوا أيضا انهم على توحيد الله وان مدحهم لهذه الوسائط المدبرات لا يضر خالقها، وانهم يعظمونها تقربا إليه، كما قالت الهند والعرب وكثير من الامم.
وعمل شدات هيكل أرمنت وأقام فيه أصناما للكواكب من ذهب وفضة وحديد ابيض ورصاص مصفى وزئبق معقود، وهذه الاجساد المعدنية في طباع الكواكب وقسمتها.
فلما فرغ منه زين بأحسن الزينة، ونقش بأحسن النقوش، وأمر فزين بالجواهر الملونة، والزجاج الملون، وكسي بالوشي والديباج، ولم يترك شيئا من الغريب الا عمله فيه، وكذلك عمل في المدن الداخلة من جزء صابي هيكلا مثله، والقبة التي عملها بجزء ابريت، وعمل هيكلا بشرف الاسكندرية، وعمل لزحل صنما من صوان اسود على عبر النيل من الجانب الغربي.
وبنى شدات في الجانب الشرقي مدائن، وجعل في أحدهما صورة صنم قائم له احليل ظاهر إذا اتاه المعقود والمسحور والعنين الذي لا ينتشر احليله بكلتا يديه زال عنه ذلك وانتشر وقوي على الباه.
وعمل في احداها بقرة لها ضرعان كبيران إذا مسحتهما المرأة التي نقص لبنها وتعقد ضرعها در وصلح. وفي أيامه بنيت العالية، بناها لابن له كان سخط على أمه فحولها إليها، وأسكنها قوما من أهل الحكمة ومن أهل الصناعات.
وقيل ان سفط بنيت في أيامه والصورتين اللتين بها الملتصقتان للمهل، وكانت الحبشة والسودان عاثوا في بعض بلده فأخرج ابنه منقاوس (10) في جيش عظيم إليهم فقتل منهم وسبا، وكل من سباه استعبده فصار ذلك سنة فيهم.
واقتطع معدن الذهب، وأقام فيه من سباه منهم يعملون الذهب ويحملونه إليه، وألزم المقام معهم من يحرسهم من جيشه.
وهو أول من أحب الصيد واتخذ الجوارح وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الاهلية، وعمل البيطرة وجميع ما يعالج به الدواب، وعمل من العجائب والطلاسم لكل شئ ما لا يحصى كثرة.
وجمع التماسيح في بركة في ناحية اسيوط بطلسم لها، وكانت تنصب إليها من النيل انصبابا فيقتلها، ويستعمل جميع جلودها في السفن وغيرها، ويدخل لحومها وشحومها في الاغذية ومؤلفات العقاقير.
والقبط تحكي انه عمل بمصر اثنتي عشرة اعجوبة وطلسما، ولم يعمل في بلد ما عمل فيها ولا تهبأ ذلك له، وقد بقيت آثار أكثرها قائمة بعد خرابها وإفساد معالمها.
واقام شدات بن عديم تسعين سنة ملكا، وخرج فطرد صيدا فأكب به فرسه في هوة فقتله.
وفي بعض كتبهم أنه أخذ بعض خدمه، وقد خالفه في امر من الامور، فألقاه من اعلى الجبل إلى اسفله فتقطع ثم ندم على ذلك من فعله، ورأى انه سيصيبه مثل ذلك، وكان يتوقى ان يصعد جبلا، وأوصى ان اصابه شئ ان يجعل ناووسه في الموضع الذى يلحقه فيه ما يلحقه، وان يزبر عليه " ليس ينبغي لذي القدرة ان يخرج عن الواجب، وان لا يفعل ما لا يجوز له فعله، وهذا ناووس شدات بن عديم بن قفطويم الملك، عمل ما لا يحل فكوفئ عليه ".
ولما هلك عمل سرب في سفح الجبل عليه قبة على مجلس قد صفح بالفضة واجلس فيه على سرير ملكه، وجعل معه من المال والجوهر والتماثيل واصناف الحكم والمصاحف شئ كثير، ومات وله أربعمائة واربعون سنة.
وولي الامر من بعده ابنه منقاوس الملك فقام مقام أبيه، وملك بحزم وحكمة فأظهر مصاحف الحكمة، وأمر بالنظر فيها وان تنسخ بخط العامة ليفهموها، ورد الكهنة إلى مراتبهم.
وهو أول من عمل الحمام من ملوك مصر وكان كثير النكاح، وتزوج عدة نسوة من بنات عمه ومن بنات الكهنة، وجعل لكل امرأة منهن مكانا قد أصلحه بالبنيان العجيب والصور المؤنقة والفرش الحسنة، والآلات العجيبة، وأسكنهن فيها.
وقال بعض أهل الاثر إنه هو الذي بنى منف لبناته، وكن ثلاثين بنتا ورحلهن إليها، وعمل مدنا غيرها ومصانع، وبنى هيكلا لصور الكواكب وأصنامها على ثمانية فراسخ من منف، وعمل بتلك الناحية طلسمات كثيرة وغرائب أغرب فيها بفضل حكمته على أبيه وجده، وعمل للسنة اثني عشر عيدا يعمل في كل عيد من الاعمال ما كان موافقا لبرج الشهر، وكان يعظم الناس في تلك الاعياد ويوسع عليهم في أحوالهم وأرزاقهم، ورأوا معه من الخير ما لم يروه مع غيره، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح على أحد قبله.
وألزم أصحاب الكيمياء العمل، فكانوا لا يفترون ليلا ولا نهارا، فاجتمعت عنده أموال عظيمة وجوهر كثير وزجاج مسبوك من الادرك وغيره، فأحب كنزها، فدعا أخا له كان يكرمه ويحبه، فقال له قد كثر ما عملناه من التماثيل، وعظم ما ادخرناه من الذهب والجواهر، ولست آمن أن يتسامع الملوك بكثرة ذلك، فيتألفوا على غزونا فخذ ذلك كله، وتوجه به فأمعن في أرض الغرب، ثم انظر مكانا حريزا خفي الاثر فأحرزه فيه, وأسس عليه وعلمه بعلامات واكتب صفة المكان وعلاماته ومن أين الطريق إليه.
فيقول أهل الاثر انه حمل مع نفسه إثنا عشر الف عجلة، منها من الجواهر النفيسة ثلاثمائة، وسائرها ذهب إبريز، وصفائح مضروبة، وطرائف الملوك من آلاتهم وسلاحهم وأوانيهم، وسار في الجنوب يوما واحدا، ثم سار في الغرب يوما كاملا وبعض آخر، فانتهى في اليوم الثالث إلى جبل أسود منيع ليس له مصعد بين جبال مستديرة به، فعمل تحت ذلك الجبل أسرابا ومغاير فدفن فيها ما كان معه، وردم عليه كما أمره أخوه، وعلم وزبر وأتقن ذلك جهده، ورجع إلى أخيه فأعلمه.
فمكث بعد ذلك أربع سنين يبعث في كل سنة عجلا كثيرا فيدفن فيها في أكواخ شتى، وهو الذي عمل بيتا فيه تماثيل تنفع من جميع العلل، وكتب على رأس كل هيكل تمثال ما يعالج به، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك بالحكمة.
وفي هذه المدينة صورة امرأة من حجر مبتسمة لا يراها مهموم إلا تبسم ونسي همه، وكان الناس يتناوبونها، ويطوفون حولها، ثم عبدوها من بعد.
وعمل تمثالا طائرا روحانيا من ظفر مذهب كأنه يشير بجناحيه، ووضعه على اسطوانة في وسط المدينة، وكان لا يمر به زان ولا زانية إلا كشف عورته بحضرته، وكان الناس يمتحنون به فامتنع الناس من الزنا فرقا منه، فأقاموا كذلك إلى زمان فاكن (11) الملك ففسد أمره وبطله.
وذلك أن امرأة من نسائه وكانت حظية عنده عشقت رجلا من خدام الملك وخافت أن يرقى ذلك إلى الملك فيمتحنها من ذلك الصنم فتفتضح فيقتلها، فأقامت مفكرة في الحيلة في ذلك، إلى أن خلا بها في بعض الليالي وهما يشربان فأخذت في ذكر الزواني وسبهن وذمهن، فذكر الملك ذلك للصنم، وما فيه من المنافع للناس وما يستحق من فعله من الثناء والذكر الحسن، فقالت له إنه لكذلك وقد صدق الملك غير أن منقاوس لم يصب الرأي في أمره، فقال: وكيف ؟ قالت: لانه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لصلاح أمر العامة دون أمر نفسه، وهذا أكبر العجز، وإنما كان حكم هذا التمثال أن ينصب في دار الملك حيث يكون نساؤه وجواريه، فان اقترفت إحداهن
ذنبا علم الملك به وجازى عليه في ستر، ولم تعلم العامة شيئا منه، فيكون ردعا لمن في قصره عماتهم به مغتلمة، وقد غلبتها شهوتها مرة ربما في عمرها لان شهوات النساء أكثر من شهوات الرجال، وأغلب لنقصان عقولهن عن عقول الرجال، وأما الآن فلو حدث شئ من ذلك في قصر الملك، وأعوذ بالنور الاعلى منه، وأحب امتحانه فضح نفسه، وشاع في العامة والخاصة امره، فان عاقب بغير امتحان كان متعديا، وإن صبر صبر على المكروه.
قال الملك صدقت فيما قلت وأنزل قولها على النصيحة والصدق، وعلم أنها لم تشر بذلك إلا لأمر وقفت عليه، ولم ترد كشفه، فلما أصبح نزع الصنم من موضعه ووضعه في قصره في مكان أعد له بلا مهلة ولا مشاورة حكيم ولا عالم، فلما نصب في القصر امتحن مرارا فلم يصنع شيئا عند الامتحان.
وندم الملك على تحريكه وأقبلت جارية الملك على ما كانت همت به من الفجور وانهمكت فيه.
وهذه الاعمال إنما تعمل بعد رصد الكواكب واختبارات أماكنها في الواجب من أوقات المعمول له ذلك.... .
وأقام مناوس ملكا خمسا وثلاثين سنة، وهلك من سل أصابه، وعمل له ناووس تحت الجبل الغربي وجعل في جرن من حجارة.
وجعل وصيه من بعده ابنه مريدس الملك، فجلس على سرير ملكه بعد أبيه وملك أحدى وعشرين سنة، وكان مضعفا فلم يبن بنيانا ولا ينصب منارا، ولا عملت في وقته أعجوبة، فمات ودفن مع أبيه في جرن من رصاص.
وولي بعده اشمون الملك، واشمون أخو قبطيم الملك وكان وحده من اشمون إلى منف، وفي الشرق إلى البحر المالح إلى ما حاذي برقة الحمراء، وهي آخر حد مصر، وفي الصعيد إلى حدود اخميم.
وكان ينزل اشمون لانه سماها باسمه عند بنيانها، ونقل إليها أهله وولده وطولها اثنا عشر ميلا في مثلها.
وأشمون أول من اتخذ الملاعب بالكرة والصولجان وغير ذلك، وبنى القصور وغرس الاجنة وأقام المنائر ونصب الاعلام وبنى المدن وأكثر فيها من العجائب. والقبط تزعم ان خبر اشمون كان أكثر الاخبار ذكرا وعجائبا وسحرا.
منها انه بنى مدينة في سفح الجبل سماها أفطراطس وجعل لها أربعة أبواب جعل على الشرقي صورة عقاب، وعلى الغربي صورة ثور، وعلى الجنوبي صورة كلب، وعلى الشمالي صورة أسد. وأسكن الكهنة بسحرهم في تلك الصور روحانية، وكانت تنطق إذا قصدها القاصد الغريب، ولا يقدر على الدخول إليها إلا بإذن الموكلين بها، وجعل فيها شجرة تثمر كل لون من الفاكهة.
وجعل فيها منارا طوله ثمانون ذراعا، على رأسه قبة تتلون كل يوم لونا حتى تمضي سبعة أيام بسبعة ألوان، ثم تعود إلى اللون الاول.
وكانت تلك الالوان تكسو المدينة لونا شعاعيا، وأجرى حول ذلك المنار ماء ساقه من النيل وجعل في ذلك الماء سمكا من كل لون.
وجعل حول المدينة طلسمات رؤسها رؤوس القرود وأبدانها أبدان الناس، كل منها لدفع مضرة واجتلاب منفعة, ودفن تحت كل صنم من الاصنام المبنية الاربعة على أبوابها صنفا من الكنوز ولكل واحد منها قربان وبخور، وكلام يوصل به إليه، وأسكن فيها السحرة.
وبنى بالقرب منها مدينة تعرف في كتبهم ذات العجائب في وسطها قبة عليها أبدا مثل السحابة تمطر مطرا خفيفا شتاء وصيفا، وتحت كل قبة مطهرة فيها ماء أخضر يتداوى به من كل داء فيبريه.
وفي شرقها بربا لطيف له أربعة أبواب لكل باب منها عضادتان، في كل عضادة منها صورة وجه كأنه يخاطب صاحبه، وهو يكلمه بكلام يفهمه، ويخبره بما حدث في يومه.
ومن دخل ذلك البربا على غير طهارة نفخا عليه فأصابته فظيعة لا تفارقة أبدا إلى أن يموت.
ويقال ان في وسطها ابدا مهبط نور كأنه عمود من اعتنقه لم يعزب عن نظره شئ من الروحانيات، وسمع كلامهم ورأى ما يعملون.
وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب في يده كالمصحف فيه علم من العلوم، فمن أحب ذلك العلم أتى تلك الصورة فمسحها بيده وأمرها على صدره فيثبت ذلك العلم في صدره.
ويقال ان هاتين المدينتين سميتا على اسم هرمس وهو عطارد وإنهما إلى الآن على حالهما.
وحكي عن رجل أتى عبد العزيز بن مروان وهو والي مصر، فعرفه انه رأى في صحراء الغرب وقد أوغل في طلب جمل له ضل، فوقع إلى مدينة خراب وانه وجد منها شجرة عظيمة تحمل من كل صنف من الفاكهة، وانه قد أكل منها وتزود، فقال له رجل من القبط هذه إحدى مدن (12) هرمس وفيها كنوز كثيرة، فوجه عبد العزيز جماعة من ثقاته، ووجهه معهم، وتزودوا زاد شهر ومشوا يطوفون تلك الصحارى زمانا، فما وجدوا لها أثرا.
وكان اشمون أعدل ولد أبيه وأرغبهم في صنيعه، وأحبهم في عمل يبقي ذكره وهو الذي بنى المجالس المصفحة بالزجاج الملون في وسط النيل.
وتقول القبط إنه بنى سربا تحت الارض من أشمون إلى انصباب النيل، وقيل إنه عمله لنسائه لانهن كن يمضين إلى هيكل الشمس، وكان هذا السرب مبلط الارض، والحيطان بالزجاج الملون العجيب.
وقيل إن أشمون كان أطول إخوته ملكا، وقال أهل الاثر إن ملكه ثمانمائة سنة، وإن قوم عاد انتزعوا الملك منه بعد ستمائة سنه من ملكه، وأقاموا تسعين سنة ثم كرهوا البلد واستوبؤوه (13) فرحلوا عنه إلى الراهبة من طريق الحجاز إلى وادي القرى، فعمروها واتخذوا المنازل والمصانع والقرى، وسلط الله عليهم القر فأهلكهم.
وعاد ملك مصر إلى أشمون بعد خروجهم من البلد، ويقال إنه عمل في وقته وزة من نحاس، وكان الغريب إذا جاء ليدخل صاحت الوزة وصفقت بجناحيها فيعلم به أهل البلد، فان أحبوا أدخلوه، وإن أحبوا تركوه.
وكثرت الحيات في وقته فاحتال لها بحيلة كانوا يأخذونها بأيديهم، ويعملون من شحومها ولحومها أدوية ودرياقات, وهو أول من عمل النيروز بمصر، يقيمون سبعة أيام يأكلون ويشربون إكراما للكواكب بزعمهم.
وفي زمانه بنيت البهنسا، وأقام بها مطرانا، وجعل فوقها مجلسا من زجاج أصفر وعليه قبة مذهبة، وكانت الشمس إذا طلعت ألقت شعاعها على المدينة.
ويقال إنه ملكهم ثمانمائة سنة وثلاثين سنة، ومات ودفن في احدى الاهرامات الصغار [القبلية] (14), وقيل بل عمل له طاووس في آخر أشمون ودفن معه مال كثير وعجائب كثيرة ومن الذخائر ما لا يحصى كثرة، ودفنت معه أصنام الكواكب السبعة التي كانت في هيكله، وعشرة آلاف سرج من ذهب وفضة وعشرة آلاف جام ونضار من ذهب وفضة، وزجاج مسبوك وألف برنية من العقاقير المدبرة لقبول الاعمال، وزبر على ذلك كله اسمه ومدة ملكه.
وخلف على الملك ابنه الشاد الملك، فولي وهو غلام ابن خمس وأربعين سنة وكان متجبرا معجبا طماح العين، فابتز امرأة من نساء أبيه، فانكشف أمره وعرف خبره، وكان أكبر همه اللهو واللعب، فاجتمع إليه كل مله كان في ملكه وقصده كل من كان في يده شئ من أنواع الملاهي والملاعب، وانفرد للعب بهم وترك النظر في أمور الناس.
وعمل قصورا من خشب عليها قباب منقوشة مموهة بالذهب، وكان يحملها على المراكب في النيل ويتنزه فيه مع من يحب من نسائه وخدمه ومن يلهيه.
وعمل عليه الاروقة المذهبة وفرشها بأحسن الفرش وفاخره، وكان يتنزه عليها وتجرها البقر، ويقيم في نزهته شهورا لا يمر بموضع إلا أقام فيه، وولد من السحر توليدا كثيرا واستنفذ أكثرها في خزائن أبيه، وذهب خراجه في جرائد الملهين والنفقات في غير وجوهها، فلما اسرف في ذلك اجتمع الناس إلى وزيره فأنكروا حاله عنده، وسألوه مسألته والاشارة عليه بالإقلاع عما هو عليه، فضمن لهم ذلك، ثم فاوضه فيه وبين له ما يجب تبينه وحذره من العواقب اللاحقة من التفريط بما يكره فلم ينته، وسلط أصحابه على الناس فأساؤا إليهم وأضروا بهم.
وخرج الملك ذات يوم إلى متنزه له قد صفح مجالسه بصفائح الذهب والفضة وغرائب الجوهر الملون، وأجرى إليه المياه وغرس فيه نفيس الرياحين، وفرشه بأصناف الفرش الملونة.
وكان إذا أحب ان يخلو بامرأة من نسائه خلى بها هناك، وأنه في ذلك المتنزه، وقد أقام فيه أياما إذ خرج غلام من بعض خدمه، فأتى بعض التجار في حاجة له، وكانت له خادم فأراد أخذها منه بغير ثمن فمنعه منها فوثب عليه يريد ضربه، فاجتمعوا عليه وضربوه حتى أسالوا دمه وحمل وقيد, واتصل خبره بالوزير وصاحب الجيش فركبا إلى الموضع وانكرا على الناس ما فعلوه وأسمعاهم فأغلظوا لهما وأسمعوهما، فانصرفا مغضبين وقالا ما نرى ستر هذا عن الملك وعرفاه الخبر، فلم يحفل بهما وأمر بالنداء في الناس من تعرضكم من خدم الملك وأصحابه فاقتلوه، فحمد الناس أمره وشكروا فعله وتواصوا بالوثوب على أصحابه، حتى إذا مضى لذلك اسبوع وجه إلى وزيره وصاحب جيشه أنه عزم أن يركب إلى صحراء الغرب يتصيد هناك، وأمر أن يركب معه جيشه، وأن يتزودوا لثلاثة ايام ففعلوا، واجتمعوا إلى بابه فاستدعى الوزير، وأسر إليه أنه يريد الانتقام من العامة، وخرج الملك وجيشه في أحسن زي وهيئة وسار إلى موضع غير بعيد, فلما اختلط الظلام رجع بالجيش حتى وافى باب المدينة، وأمر أصحابه أن يضعوا أيديهم في الناس فقتلوا خلقا كثيرا، وأمر بحرق الموضع الذي قتل فيه الغلام.
ثم أمر ان ينادى: هذا جزاء من أقدم على الملك من رعاياه وأصحاب مهنتهم من العامة وغيرهم، فاستغاث الناس، فأسر إلى وزيره ان يطرح نفسه بين يديه ويسأله فيهم ففعل فأمنهم، وقال لهم، من عاد منكم فقد أحل دمه فشكروا فعله وانصرفوا ورجع إلى ما كان عليه وأعظم.
واحتجب عن الناس واستحلت الهياكل والكهنة فأبغضه العامة والخاصة وابتغوا له الغوائل، فاحتال عليه خاصته بطباخه وسقاته فسماه، فمات وهو ابن مائة وعشرين سنة، فكان ملكه خمسا وسبعين سنة.
وصار الملك بعده إلى ابنه صاصا، وأكثر القبط تزعم ان صاصا هذا اخو الشاد وانه ابن مربيس الملك.
ولما جلس صاصا على سرير الملك دخل الناس عليه يهنئونه، فوعدهم العدل فيهم وحسن النظر لهم، وسكن منف ونفى الملهين وأهل المجالات وأهل الشر ومن كان يصحب أباه.
وأصلح الهياكل ورد الكهنة إلى مراتبهم، وعمل بمنف عجائب كثيرة وطلسمات، وأجرى فيها الانهار، ونصب العقاب الذي كان عمل قبله على موضعه وشرف هيكله ودعى إليه.
وعمل بمنف مرآة يعرف بها زمان الخصب والجدب وما يحدث ببلده، وبنى داخل الواحات مدائن، وغرس فيها نخلا كثيرا، ونصب غرب البحر اعلاما كثيرة، وعمل خلف المقطم صنما يقال له صنم الحيلة، فكان كل من أعجزه امر أتاه يسأله، فيخبره ويبين له ما عزب عن معرفة منه.
وجعل على أطراف مصر أصحابا يرفعون له ما يجري في حدود أرضه، وعمل على غربي النيل منابر إذا قصدهم قاصد يوقد عليها فيصل إليه الخبر من ليله أو من يومه، وجعل على البحر المالح مثل ذلك، ووكل بجمعها جماعة يحرسونها. وهو أول من اتخذها، ويقال إنه بنى أكثر منف، وكان له بنيان عظيم بالإسكندرية.
ولما ملك واستولى على البلد بأسره، جمع إليه حكماء أهل بلده ونظر في النجوم وكان بها حاذقا، ورأى أن بلده لابد له من أن يدخل إليه طوفان عظيم من نيلها فيكاد يغرقها، ورأى أنه يحدث على يدي رجل يأتي من ناحية الشام.
فجمع كل فاعل بمصر وجهاتها وبنى في ألواح الاقصى مدينة، جعل طول حصنها في الارتفاع خمسين ذراعا، وأودعها جميع الحكم والاموال، وهي المدينة التي وقع عليها موسى بن نصير في زمن بني أمية لما قلد المغرب، لانه لما دخل مصر، أخذ على الواح الاقصى بالنجوم وكان عنده علم منها.
فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين سمت الغرب والجنوب، إلى ان ظهرت له مدينة فيها حصن وأبواب حديد، فرام أن يفتح بابا من أبوابها، فأعياه ذلك لغلبة الرمل عليها، وعلى ما حولها، فأصعد إليها الناس، فكل من صعد منهم وأشرف، وثب داخلها لا يعلم كيف يقع، ولا على ما يسقط، ولا ما يصيب, ولما لم يجد فيها حيلة تركها ومضى، وقد فقد فيها جماعة من أصحابه، وحرروا عرض حصنها عشرين ذراعا، وهلك في طريقه منصرفا عنها جماعة من أصحابه، ولم يسمع أن أحدا قبل موسى بن نصير، ولا بعده وقع عليها.
وفي تلك الصحاري اكثر متنزهاتهم ومدائنهم العجيبة وكنوزهم العظيمة، إلا أن الرمان غلبت عليها. ولم يكن لمصر ملك، الا وقد عمل للرمل طلسما يبعدها ويوقفها، ثم تفسد طلسماتها على تقادم الايام ولا ينبغي لاحد أن ينكر كثرة بنيانهم ومدائنهم. وما نصبوه من الاعلام العظام, فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم، وفيما يظهر من آثارهم بيان تحقيق ما يذكر عنهم.
وأقام ملكا سبعا وستين سنة، وهلك ودفن بمنف في ناووسه الذي كان عمل له في وسط المدينة من تحت الارض، وجعل الدخول إليه من خارج المدينة من الجهة الغربية، وحمل إليه أموالا عظيمة، وجواهر كثيرة وطلسمات وتماثيل كما فعل أجداده من قبله.
وكان فيه أربعة آلاف تمثال على صور شتى برية وبحرية، وتمثال عقاب من جوهر أخضر عند رأسه، وتمثال تنين أخضر من ذهب مسبوك عند رجليه، وزبر عليه اسمه وسيرته وجميع أموره.
وعهد ابنه إلى بداونس الملك وهو أول من ملك الاجناد وصفا له ملك مصر وكان بداونس الملك محنكا مجربا ذا أيد وقوة ومعرفة بالأمور، فأظهر فيهم العدل، واقام الهياكل ورد أهلها وأكرم الكهنة، وزاد في ألطافهم، وبنى بغربي منف بيتا عظيما للزهرة، وزبر فيه كتبا كثيرة من العلوم وكساه الحرير وعمل عيدا كبيرا اجتمع اتليه جميع الاجناد.
وكان صنم الزهرة من اللازورد موشحا بذهب يبرق مسورا بسواري زبرجد أخضر، وكان في صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبر، وفي رجليها خلخالان من حجر أحمر كالياقوت، ونعلان من ذهب، وفي يدها قضيب مرجان وهي تشير بسبابتها كالمسلمة على من في الهيكل, وجعل حذاءها من الجانب الآخر بقرة ذات قرنين وضرعين من نحاس أحمر مموه بالذهب موشحة بحجر اللازورد ووجه البقرة محاذ إلى وجه صنم الزهرة، وجعلوا بينهما مطهرة من أخلاط الاجساد على عمود رخام مجزع فيها ماء مدبر بقوة من الزهرة يستشفى بها من كل داء، وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة تنالوها في كل سبعة أيام. وجعل فيها كراسي الكهنة مصفحة بالذهب والفضة، وقرب فيها ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضره يوم الزهرة ويطوف به، وكان قد فرش الهيكل وستره عن يمين الزهرة وشمالها.
وكان في أعلى قبة الهيكل صورة رجل راكب على فرس له جناحان ومعه حربة سنانها رأس إنسان معلق، وبقي هذا الهيكل إلى زمان بخت نصر وهو الذي هدمه.
ويقال ان بداونس هو الذي حفر خليج بخارى (15) فارتفع له من الخراج في بلده مائة الف الف وخمسون الف الف.
وقصده بعض العمالقة غازيا له من الشام، فلما سمع به جيش وخرج إليه، ولقيه وهزمه ودخل فلسطين فقتل فيها وسبا خلقا كثيرا، وسبا بعض حكمائها واسكنهم مصر فهابته الملوك.
وعلى راس ثلاثين سنة من ملكه طمع السودان من الزنج والنوبة في ارضه، فهجموا على بعض الاطراف فعاثوا وافسدوا.
فأمر بجمع الجيوش من اعمال مصر، وأعد المراكب ووجه قائدا من قواده يقال له بلوطس.
وفي ثلاثمائة ألف بين راكب وراجل، واتبعه بقائد آخر في مثلها ووجه في البحر ثلاثمائة سفينة وجعل في كل سفينة كاهنا يعمل أعجوبة.
وسار هو في أثرهما فيمن بقي من الجيوش، فلقوا جيوش السودان وكانوا زهاء الف الف فهزموهم وقتل اكثرهم، فأسر منهم كثيرا، وتبعهم الجيوش حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من أرض الزنج فأخذوا منها عدة كثيرة، وأخذ معها كثيرا من النمور والوحش وسيقت إلى مصر.
ونصب على حدوده منارات وزبروا عليها مسيرة وظهوره والوقت الذي غزا فيه السودان، وذكر كل ما عمل في أيامه.
ولما انصرف إلى مصر واستقر بها، اعتل ورأى رؤيا تدل على موته، فعمل لنفسه ناووسا ونقل إليه من أصنام الكواكب كثيرا، ومن الذهب والجوهر الملون والتماثيل الغريبة الصنعة والآلات والذخائر ما لا يعلم جودته وكثرته، فلما هلك دفن فيه وزبر على بابه في الحجارة اسمه وتاريخ الوقت الذي مات فيه، جعلت عليه طلاسم تمنع منه.
وكان قد عهد إلى ابنه بعده مماليك الملك، وكان أديبا عاقلا كريما حسن الوجه مجربا مخالفا لأبيه في عبادة الكواكب والبقر، ويقال إنه موحد على دين قبطيم ومصرايم، فكانت القبط تذمه بذلك.
وكان سببه فيما ذكر، أنه رأى رؤيا فيما يراه النائم، كأنه أتاه رجلان لهما أجنحة فاختطفاه واحتملاه إلى الفلك، وأوقفاه حذاء شيخ أسود أبيض الرأس واللحية، فقال له هل تعرفني ؟ فدخلته منه روعة لحداثته، وكان سنه نيفا وثلاثين سنة، فقال له: ما أعرفك، فقال له أنا بشر، يعني رجلا، فقال قد عرفتك، قال أنت إلا هي، فقال إنك وإن كنت تدعوني إلها فاني مربوب ملك، وإلهي وإلهك الذي خلق السموات والارض وخلقني وخلقك، قال: فأين هو ؟ قال: في العلو الاعلى، [ تعالى ] لا تلحقه الظنون ولا تراه العيون، ولا يشبهه شئ، وهو الذي جعلنا سببا لا قامة العالم الاسفل وتدبيره، قال: كيف نعمل إذا ؟ قال: تضمر في نفسك ربوبيته وتخلص وحدانيته تعترف بأزليته، ثم أمر الرجلين فانزلاه إلى موضعه، فاستيقظ مذعورا وهو على فراشه.
فدعا رأس الكهنة فقص عليه رؤياه، فقال له: عاهدتك أن لا تتخذ الاصنام آلهة فانها لا تضر ولا تنفع، قال فمن أعبد ؟ قال: الله الذي خلق السموات والارض وخلق جميع ما فيها من أموال وغيرها.
قال وكيف أقدر على رد نفوس العالم عما هم عليه ؟ قال اعقد على ذلك نيتك، وأخلص ضميرك وصف به قلبك، وإذا غبت عن عيون الناس وانفردت فاعمل ما أمكنك، ودم للناس في الظاهر على ما كان عليه جدودك، فقبل الملك ذلك القول منه واعتقده وعمل به.
فكان يحضر للهيكل ويسجد للصنم، منحرفا عنه بقلبه مبغضا له كافرا به، وهو يضمر أن سجوده لله عزوجل.
واستعمل كثرة الغزوات وموالاة الاسفار والجولان في البلاد، وكل ذلك لتطول غيبته عن مصر ويبعد عن الهيكل.
وقال بعض أهل مصر إن الله أيده بملك من الملائكة يعضده ويرشده، وربما أتاه في نومه فأمره ونهاه، وأخبره بما يريد معرفته، فأمر الناس عند ذلك باتخاذ كل جادة من الخيل وكل جيد وجميل من السلاح، وأعد الزاد، واتخذ في بحر المغرب مائتي سفينة.
وخرج في جيش عظيم في البر وفي البحر، فلقيه جموع البربر فهزمهم وقتل أكثرهم.
وبلغ أفريقية، واستأصل أكثرها، وخرج منها، وكان لا يمر بأمة إلا أبادها إلى أن غزا من ناحية الاندلس يريد الافرنجة.
وكان بها ملك عظيم يقال له افريوس، فحشد إليه من كل النواحي، فأقام يحاربه شهرا ثم طلب صلحه، وأهدى إليه هدايا كثيرة، فقبل ذلك منه وسارعنه ودعا الامم المتصلة بالبحر الاخضر فأطاعوه، ومر بأمة لها حوافر ولهم قرون صغار، ولهم شعور كشعور الذئبة، ولهم أنياب دلف بارزة من أفواههم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى اثخنهم، فنفروا عنه إلى غيران لهم مظلمة، فلم يمكن لهم دخولها عليهم.
والقبط تزعم أنه رأى سبعين أعجوبة ، وعمل على البحر أعلاما وزبر عليها اسمه، وخرب مدن البربر حيث كانت، وألجأهم إلى قرون الجبال، ورجع فتلقاه أهل مصر بصنوف اللهو والطيب والرياحين، وفرشوا له الطرق، ودخل قصره موفورا ظاهرا، وأخرج إليه ابنه، وكان ولد له من بعده فسر به وابتهج وكمل فرحه، واتصل خبره بالملوك فهابوه، وحملوا إليه الهدايا من كل جهة.
وبلغه ن قوما من البربر والسحرة لهم تماثيل وبخورات عجيبة يضلون بها، وتخاييل وهم في مدينة لهم يقال لها قرمودة في المغرب من أرض مصر، وقد ملكوا عليهم امرأة منهم ساحرة يقال لها سطا.
واتصل به كثرة أذاهم للناس، فعزاهم حتى إذا قرب منهم ستروا عنهم مدينتهم وسحروه، فلم يرها وطمسوا مياههم، فلم يعرفها، فهلك كثير من أصحابه عطشا، فلم يجد لهم حيلة في الوصول إليهم، فزال عنهم ثم صعد إلى ناحية الجنوب.
ثم رجع إليهم على غير الطريق الذي سار إليهم عليها أولا، فمر بهم بهيكل كانوا يحضرونه في بعض أعيادهم، فأمر بهدمه فهدم بعضه، وسقط منه موضع على جماعة من أصحابه ممن تولى هدمه فأهلكهم، فلما رأى ذلك تركهم وانصرف عنهم، وخرجوا إلى هيكلهم فبنوه وأصلحوا ما فسد منه وحرسوه بطلسمات محكمة، ونصبوا في قبته صنما من نحاس مذهب.
وكان إذا قصدهم أحد صاح الصنم صياحا عظيما منكرا يرعب منه كل ذي روح ويبهت، فيخرجون إليه فيصطلمونه.
وكانت ملكتهم أحذق منهم بالسحر فقالوا لها نعمل الحيلة في افساد مصر وإيذاء أهلها ؟ فقالت لهم نعم، فقالوا أنت أقدر منا، فاعملي فيها ما رأيتيه.
فعملت لهم أدوية سحرت فيها النيل ودفعتها إلى بعضهم، وأمرتهم أن يمضوا بها إلى مصر، والزرع في حقله على أن تؤخذ فيطرحون منها في النيل في أعلى مصر، ويغرق بعضهم على أقطار مصر، وحيث زروعهم الكثيرة، فيفرقونها في كل جهة، قليل غبار في كل جهة.
فلما فعلوا ذلك فاض النيل في غير وقته وزاد على المعهود، وأقام الماء طويلا على مزارعهم، وأفسد زروعهم وغلاتهم، وكثر فيه التماسيح والضفادع وكثرت العلل في الناس وانبثت فيهم الثعابين والعقارب.
فأحضر الملك الكهنة والحكماء، وقال لهم أخبروني عن هذه الحوادث التي حدثت في بلادنا، ولم تذكروه في الطالع الذي وضعتموه لهذه السنة، فكنا نتأهب لها.
فاجتمعوا في دار الكهنة، ونظروا وبحثوا حتى علموا أنهم أوتوا من قبل ناحية المغرب، وأن امرأة عملته وألقته في النيل، وفرقته على الجهات.
فعلم الملك أنه من قبل تلك الساحرة، فقال لهم أجهدوا أنفسكم في هلاكها فقد بلغت فيكم من أذائها.
فاجتمعوا إلى الهيكل الذي فيه صور الكواكب وسألوه أن يحضر معهم فلم يمكنه الخلاف، فلما أمسى لبس مسحا، وفرش رمادا، واستقبل مصلاه، وأقبل على الدعاء والابتهال والتضرع إلى الله تعالى، وقال: يا رب أنت إله الآلهة وملك الملوك، وخالق الكل، ولا يكون شئ مما دق وجل إلا بأمرك وحولك، أسألك بجميع فضائلك وآياتك وأسمائك أن تكفينا أمر هؤلاء القوم.
فلم يزل كذلك حتى غلبته سنة من النوم، فنام مكانه فرأى كأن آتيا أتاه، فقال له قد رحم الله تضرعك، وعلم ضميرك وأجاب دعوتك، وهو مهلك هؤلاء القوم ومدمرهم وصارف عنك الماء المفسد والدواب المضرة، والامراض المهلكة.
فلما أصبح الكهنة غدوا عليه وسألوه حضور هيكلهم على ما وجههم به, فقال لهم قد كفيتم أمر عدوكم، وأزيل الماء المفسد والدواب المضرة عنكم، ولن تروا بعدها شيئا تكرهونه، فسكتوا ونظر بعضهم إلى بعض كالمنكرين لما سمعوه، ثم قالوا له قد سررنا بما ذكره الملك دام عمره، وهم يضمرون التكذيب والاستهزاء.
وخرجوا عنه فقال بعضهم لبعض الرأي أن لا تقولوا شيئا في هذا، فان كان حقا ظهر سريعا، وإن كان باطلا اتسع لكم اللفظ في ذمه، وسيتبين أمره.
فلما كان بعد يومين انكشف ذلك الماء المفسد، وجففته الشمس، وهلكت تلك الدواب المضرة فعلم القوم صدق ما أخبرهم به.
وأمر الملك قائدا من قواده ورجلا من الكهنة أن يمضوا بجيش حتى يعلموا علم تلك المدينة، فخرجوا إليها فأتوها، فلم يروا مكروها ولا وجدوا مانعا. فلما وصلوا إليها وجدوا حصنها قد سقط، وأهلها عن آخرهم موتى، واحترق بعضهم، واسودت وجوههم، ووجدوا بعض الاصنام ساقطة على وجوهها، وأموالهم ظاهرة بين أيديهم, فطافوا المدينة وفتشوها فلم يجدوا فيها غير رجل واحد حيا، كان مخالفا لدينهم بسبب رؤيا رآها، ووجدوا من الاموال والجواهر وأصناف الذهب والتماثيل ما لا يحصى كثرة، ولا يعرف له قيمة.
ووجدوا صورة كاهن لهم كانوا يتعبدونها، وهي من زبرجد أخضر على قائمة من حجر البسد، ووجدوا صورة روحاني من ذهب ورأسه من جوهر أحمر وله جناحان من در، وفي يديه مصحف فيه كثير من علوم مصر في دفتين من ذهب مرصعتين بذهب ملون.
ووجدوا مطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة من زجاج أخضر مسبوك، وفيها فضلة من الماء الدافع للاسقام. ووجدوا فرسا من فضة من عزم عليه بعزائمه ودخنه بدخنه وركبه طار به فيما زعموا.
ووجدوا غير ذلك من العجائب والآلات التي يستعملها السحرة والاصنام التي يتخذونها، فجمعوا من ذلك ما خف حمله وثقل ثمنه، وأوقروا به دوابهم من جميع العجائب والتماثيل وغرائب ما كان فيها من الاشكال، وحملوا جميعه إلى الملك، وحمل الرجل الذي وجد حيا، ووصلوا بذلك كله إلى الملك، فابتهج بذلك وحمد الله تعالى على ما أولاه، وسر الناس.
وبهت منه كهنة مصر، ولم يعرفوا أصله، فوجه الملك دوابا وعسكرا ونهض معهم من شاء من العامة بأشمون ومصر، فنقلوا جميع ما كان تبقى في المدينة من شئ له خطر، فصار بأيدي الناس منه شئ كثير، واستغنى فيها كثير من مساكين العامة وسوقتهم وسيق منه إلى الملك شئ كثير جدا.
وصار الموضع بعد ذلك زمانا طويلا مطلبا لمن أمكنه المسير إليه، وقل من مشى إليه ورجع خائبا.
واستحضر الملك ذلك الرجل الذي وجد حيا فاستخباره عن أحاديثهم، فحدثه بأشياء معجبة، ثم قال: وأعجب ما رأيت منهم أنه قصد المدينة منذ دهر ملك من ملوك البربر جبار من أهل بيت تجبر، فجاء بجموع كثيرة وجيوش كثيفة وتخاييل هائلة فأغلق أهل مدينتنا حصنهم، ورتبوا المراهقين على أسوارها ولجأوا إلى أصنامهم وشيوخهم وكهنتهم يخضعون لها ويتضرعون إليها.
وكان لهم كاهن عظيم الشأن لا يكاد أن يخرج من منزله، فسار إليه رؤساؤهم، وشكوا إليه ما دهاهم من عدوهم، فخرج معهم إلى بركة لهم عظيمة بعيدة القعر، كانوا يشربون منها الماء، فجلس على حافتها، وأحاط الكهنة بها، وأقبل يزمزم على ماء البركة، فلم يزل كذلك حتى فاض الماء وفار، وخرج من وسطه نار تتأجج وخرج من وسطها وجه كدائرة الشمس وعلى ضوئها فخرت الجماعة سجودا لذلك الوجه وجللهم نوره، وجعل يعزم حتى ملا البركة وارتفع حتى صعد على أعلى القبة ثم ارتفع إلى السماء فسمعوه يقول قد كفيناكم أمر عدوكم، فاخرجوا فخذوا أموالهم.
فخرجنا بأجمعنا متخوفين حتى وصلنا مضربهم، فوجدناهم أمواتا لم يبق منهم حي، فأخذنا جميع ما تركوه من مال وثياب ودواب، وآلة وانصرف أهل المدينة إلى مدينتهم فرحين، وكانوا يأكلون
ويشربون، فقلت لبعض الكهنة لقد رأيت عجبا من ذلك الوجه فما هو ؟ قال ملك الشمس تبدت فماتوا عن آخرهم كما رأيت، قال له الملك فما الذي أهلكهم الآن ؟ قال لا أدري، غير أني أفقت من نومي في الليل فسمعت هدة عظيمة إذ تهدم الحصن فأردت الخروج ولا علم لي بذلك فإذا بأصوات انكرتها وضوء نار وروائح حريق، وكنت ساكنا في موضع كالخان فيه خلق كثير، فصحت بكثير منهم فلم يستجب لي أحد، فسرت أفتقد باب المنزل فوجدته مغلقا فدخلت بيتي وأوقدت سراجا بنار كانت عندي، ثم مشيت على جميع من في الدار رجالا ونساء صغارا وكبارا، فلم أجد احدا منهم حيا فأقمت في نهاية من الرعب ابتهل إلى الله عزوجل وأدعو، فلما أصبحت أقمت حتى طلعت الشمس و [ بدا ] النهار، فلم أسمع صوتا ولا حركة، فخرجت فوجدت المدينة على ما وجدها أصحاب الملك.
وكان هذا الرجل عاقلا مجربا فاتخذه الملك صاحبا ووزيرا وأنيسا، ولم يزل مماليك الملك على التوحيد لله تعالى والايمان به، وهو يسايس أهل بلاده ويداريهم عما في نفسه خوفا من اضطراب ملكه عليه.
وأمر فبني له ناووس، وأمر أن يدفن فيه إذا مات وحده ولا يدفن معه أحد من أهله، وأمر أن لا يدفن معه ذهب ولا فضة ولا تمثال، وكتب بخطه صحيفة " هذا ناووس مماليك الملك، ملك مصر وأعمالها، مات وهو يؤمن بالله لا يعبد معه غيره، ومتبرئ من الاصنام وعبادتها، ومؤمن بالبعث والحساب والمجازاة على الاعمال عاش بكذا وكذا، فمن أحب النجاة من عباد الله، فليدن بما دان به "، وقد كان دفن بموضع آخر كنوزا كثيرة وزبر عليها انه لا يخرجها إلا أمة النبي المبعوث في آخر الزمان يعني محمدا [ عليه وعلى آله الصلاة والسلام ] ودفع الصحيفة التي كتبه إلى الآمر بعده وأمره بسترها والاحتفاظ بها فإذا هو مات زبر ما فيها على ناووسه.
وكان طول حياته يقصد ناووسه يتعبد فيه مستترا عن جميع العالم ولما أيقن بالموت دعا ابنه فأسر إليه التوحيد وأعلمه انه دينه، ولم ير منه إلا الخير وأمره أن يدين به ونهاه عن عبادة الاصنام، فدان بذلك مدة حياة أبيه، ومات فدفنه ابنه في ناووسه وزبر عليه ما في الصحيفة.
فلما فرغ من أمره جلس على سرير الملك ابنه اخريتا الملك، وتقلد الامر
* (يوجد نقص في أصل الكتاب من صفحة 225 إلى صفحة 241) *
ودخل مصر الوليد بن دومع العمالقي وملكها فاستباح أهلها وأخذ أموالها، وتتبع ما أمكنه الوصول إليه من كنوزها، وهبط إليه أيمن بالطاعة من الصعيد ومدنها سامعا له إذ كان عسكره من قبله، ومن أعانه بملكه وجيشه حتى أخذ بثأر خاله انداحس وتم الامر للوليد على أعظم أمر.
ثم سنح له ان يمشي حتى يقف على مخرج النيل، ويغزو من بناحيته من الامم فأقام ثلاث سنين يستعد لذلك، حتى اصلح جميع ما احتاج إليه.
واستخلف عبده عونا على البلد وخرج في جيش كثيف، وعدد عظيمة، فلم يمر بأمة إلا أبادها.
فيقال انه اقام في سفره سنين كثيرة وأنه مر على امم السودان وجاوزهم ومر على ارض الذهب، فوجد فيها مواضع فيها قضبان ثابتة وهي بلاد عانة.
ولم يزل الوليد يسير حتى بلغ البطيحة التي ينصب ماء النيل إليها من الانهار التي تخرج من جبل القمر، وجبل القمر جبل شامخ عريض طويل، وإنما سمي جبل القمر لان القمر لا يطلع عليه لانه خرج كثيرا عن خط الاستواء، ونظر إليه كيف يخرج النيل من تحته فيمر في طرائق كثيرة كالانهار الرقاق، فيصير بعضها إلى حظيرة عظيمة يجتمع فيها، ويصير بعضها إلى حظيرة عظيمة، ثم يخرج من كل حظيرة نهر عظيم ينصب إلى حظيرة عظيمة يجتمع النهران فيها وهي البطيحة الكبيرة، وهي بعد خط الاستواء، وقبل الاقليم الاول، ويخرج من تلك البطيحة نهر واحد، ويجوز خط الاستواء ويجري إلى مصر ويمده نهر آخر من ناحية مكران يصب فيه عند اول جبل معظم في ثلث الاقليم الاول.... .
ونرجع إلى ذكر الوليد لما بلغ جبل القمر رأى جبلا عظيما، فأعمل الحيلة إلى أن صعد عليه ليرى ما خلفه فأشرف منه على البحر الاسود الزفتي النتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كالانهار الرقاق، فأتته من ذلك البحر روائح منتنة، هلك بها كثير من أصحابه فأسرع بالنزول بعد ان كاد يهلك.
وذكر قوم أنه لم يرهناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر كنور الشمس عند غروبها وقالوا إنه أقام في غيبته مدة عشرين سنة, وان عونا علامة تجبر بمصر بعد سبع سنين من مسيره، وادعى انه الملك، وادعى انه لم يكن عبد الوليد، وانه أخوه وله الملك من بعده وريب على الناس، واستعان بالسحرة عليهم وأسنى جوائز السحرة والكهنة، ولم يمنعهم محابهم، فمال إليه الناس ووثقوا بأمره ولم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه.
وكان مع ذلك يكرم الهياكل والكهنة، فكان الناس يمسكون عنه اشفاقا منهم من السحرة الذين أطافوا به إلى ان رأي في منامه الوليد، وكان يقول له من أمرك أن تتسمى باسم الملك ؟ وقد علمت أنه من فعل استحق القتل، ونكحت إلى ذلك بنات الملوك، وأخذت الاموال بغير واجب، وكأنه أمر بقدور فملئت زفتا ثم غليت على النار وأحميت، وكأنه يغمسه فيها فلما غليت أمر بنزع ثيابه، فأتى طائر في صورة عقاب فاختطفه من أيديهم وعلق به في الجو، فجعله في هوة على رأس جبل، وكأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حمأة منتنة.
فانتبه مذعورا طائر القلب، وكان في طول فعله ذلك في تملكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة يكاد عقله أن يزول فرقا منه، لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوته.... .
أقام الوليد بمصر فاستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم مائة سنة وعشرين سنة، فأبغضوه وشتموه. وأنه ركب في بعض الايام متصيدا، فألقاه فرسه في هوة من الارض فقتله، وأراح الله الناس منه.
وكان ابنه الريان ينكر فعله ولا يرضاه منه، فلما هلك عمل له ناووسا قرب الاهرام، وقيل انه دفن في أحد الاهرام.
ثم ملك بعده ابنه الريان الملك، وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه نهراوس، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق جميل الوجه، عاقلا متمكنا من العلم، فدخل عليه الناس وهنأوه ودعوا له، فتكلم بجميل، ومنى الناس ووعدهم بالاحسان، وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، فدعوا له وأثنوا عليه وشكروه.
فأمر بفتح الخزائن وفرق ما فيها على الخاص والعام ممن حضر مجلسه، فخرجوا عنه شاكرين له محبين فيه، فملك وأحسن.
وتمكنت منه أريحية الصبا، فملك على البلد رجلا من أهل بيته يقال له المعين (16) وهو الذي يسميه اهل الاثر العزيز، وكان من أولاد الوزراء عاقلا متمكنا من عقله حصيف الرأي، كثير نزاهة النفس، مستعملا للعدل والصلاح، وأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه. وكان يغدو ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال وجميع الوزراء والكتاب بين يديه عند مسيره وعند رجوعه.
فقام بالملك، وكفى الملك مهمه، وأصلح جميع الامور، ووطأ البلاد، وأمن الناس، وأقام سوق العدل.
والملك نهراوس منغمس في لذاته، معتكف على لهوه، لا ينظر في عمل ولا يفكر في أمر ولا يخاطبه أحد، فأقاموا لذلك حينا من الدهر، والبلد عامر، والخراج مدر.
يقال انه بلغ في وقته تسعة وتسعون ألف ألف مثقال (17) فجعلها أقساما فما كان له ولنسائه ولمائدته حمل إليه، وما كان في أرزاق الجيوش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصانع البلد وإصلاح العقار والحرث والغرس وأصحاب المهن حمل إليهم، وما فضل عن ذلك كله حمل إلى خزائن الملك في قصره.
ونهر اوس مع ذلك غير ناظر في شئ من ذلك ولا سائل عنه، وقد عملت له عدة متنزهات على عدة أيام السنة، فكان في كل يوم في موضع منها، فإذا كان من الغد انتقل إلى موضع آخر في كل يوم في موضع من الفرش والآنية ما ليس في غيره.
فلما اتصل ذلك بملوك النواحي طمعوا فيه واستضعفوه، فقصده رجل من العمالقة يقال له عابد بن سجوم، ويكنى بأبي قابوس، فسار قاصدا إلى مصر حتى نزل على حد من حدودها.
فأنفذ إليه العزيز جيشا وجعل عليه قائدا يقال له دوناس، فقتله ذلك الملك وهزم عسكره، ودخل حدود مصر فهدم أعلاما ومصانع كثيرة، واشتد طمعه في مصر وجهاتها.
واتصل خبره بأهل مصر فأعظموا ذلك وأكبروه واجتمعوا إلى العزيز، فأمرهم أن يسيروا إلى قصر الملك، فأتوا إلى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون، فسمعهم نهراوس، فسأل عن حالهم، فأخبر خبر العمالقي وأنه قد دخل حدود مصر وعاث فيها، وأفسد مزارعها وغير مصانعها، وهدم أعلامها وأنه مقبل بجيوشه يريد قصر الملك، فارتاع لذلك وأنف منه، وانتبه من غفلته.
وتذكر القبط أنه سمع نياح الجن على أبيه، فارتاع لذلك فعرض جيشه وأصلح أمره، وخرج إلى العمالقي واتبعه إلى حدود الشام, وقتل أكثر أصحابه، وأفسد الزرع وقطع الاشجار، وأحرق الديار، وصلب من أسره من الجيوش، ونصب أعلاما على الموضع الذي بلغه أي لمن جاوز هذا المكان.
وقيل إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجا، وبنى عند العريش مدينة عظيمة وشحنها بالرجال وملا تلك النواحي بالجنود، وانصرف إلى مصر، فلما فعل ذلك هابته الملوك، وفزعوا منه وأعظموه وهادوه وصالحوه.
ولما استقر بمصر حشد جنوده من جميع الاعمال، واستعد لغزو ملوك الغرب، فخرج في تسعمائة ألف [مقاتل] واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحى عن طريقه، ومنهم من دخل في طاعته، ومنهم من بذل الاموال والذخائر وصالح بلده، ومنهم من قهره واستباحه.
ومر بأرض البربر فأخذ كثيرا منها، ووجه قائدا يقال له مريطس، فركب في سفن كثيرة، وأخذ سواحل البحر فقتل بعض البربر، ودخل أرضهم وصالحه بعضهم، وحملوا إليه الاموال.
ومضى الملك إلى إفريقية وقرطاجنة، فصالحوه على ألطاف وأموال كثيرة حملوها إليه.
ومر حتى بلغ مصب البحر الاخضر إلى بحر الروم، وعمل هناك صنما من نحاس وهو الموضع الذي فيه الاصنام القديمة، وأقام تحته علما عظيما زبر عليه اسمه وتاريخ الوقت، وصفة الامر الذي خرج إليه، وضرب على أهل تلك النواحي خراجا.
وعبر إلى الارض الكبيرة وسار إلى الافرنجة وسار إلى الاندلس، وصاحبها عند ذلك اللاذريق، فحاربه أياما، وقتل من أصحابه خلقا كثيرا.
وصالحوه بعد ذلك على ذهب كثير في كل سنة يحمل إليه، وعلى أن لا يغزو أحدا في البحر ولا في البر شيئا من حدوده، من جميع من في تلك النواحي، وعلى أن يمنع من رام شيئا منهم من ذلك ويغالبهم عنه.
وانصرف راجعا عنه، فسار على عبر البحر مشرقا على بلاد البربر.
فلم يمر بموضع إلا خرج إليه أهله وأهدوه ودخلوا في طاعته، ومشوا بين يديه.
وأخذ إلى ناحية الجنوب، فمر بناحية الكوفاس (18) وهي أمة عظيمة فحاربوه فقتل منهم خلقا كثيرا.
وبعث قائدا له إلى مدينة على ساحل البحر المظلم، فخرج إليه ملك المدينة وأهلها يسألونه ما هو وما قصده ؟ فعرفهم القائد بحال الملك الريان وإذعان الملوك له ومصالحتهم إياه, فقالوا له أما نحن فما بلغنا أحد قط ولا رأيناه ولا ضرنا أحد ولا ضاررناه وأخرجوا إليه مالا وجوهرا وصالحوه على مدينتهم فقبل ذلك منهم.
وسألهم هل ركب هذا البحر أحد قط ؟ فقالوا جميعهم إنه ما يستطيع أحد أن يركبه، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياما.
ثم أتاهم الملك الريان فتلقوه بهدايا وفاكهة أكثرها التوت وحجارة سود فإذا جعلت في الماء صارت بيضاء.
وسار على أمم السودان حتى بلغ إلى مملكة الزموم (19) الذين يأكلون الناس، فخرجوا إليه عراة بأيديهم حراب الحديد، وخرج ملكهم على دابة عظيمة الخلق لها قرون، وكان جسيما أحمر العينين فصبر للحرب صبرا عظيما ثم ظفر به الريان، فانهزموا في أوحال وأدغال وغيران وجبال وعرة، فلم يتهيأ له أتباعهم فيها.
فجاوزهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة خفاف يلتفون بها من غير ريش، ومر على البحر المظلم، فلما أمعن في السير فيه غشيهم منه غمام فرجع متيامنا، حتى انتهى إلى جبل نبارس، فرأى فوقه تمثالا من حجر أحمر يومئ بيده، أن ارجعوا وعلى صدره مزبورا " ما وراثي أحد".
وانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل إليها، ثم مضى في الوادي المظلم، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة، ولا يرون شيئا منه لشدة ظلمته.
ثم سار حتى انتهى إلى وادي الرمل فرأى على عين أصناما عليها اسماء الملوك قبله، فأقام صنما وزبر عليه اسمه، فلما عدا وادي الرمل جاز إلى الخراب المتصل بالبحر الاسود المظلم، فسمع جلبة وصياحا هائلا، فخرج في شجعان من أصحابه يتبعون ذلك الصياح حتى أشرف على سباع عظيمة غريبة الخلق مخزمة الانوف وبعضها يغير على بعض فيأكل بعضها بعضا، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع وعدى وادي الرمل، فمر بأرض العقارب فأهلكت بعض أصحابه فرجعوها عن أنفسهم بالنار وبالرقا والعزائم التي كانوا قد عرفوها حتى جاوزها.
وسار حتى انتهى إلى أرض سلوقة (20) وكانت بها حية تخرج عن الحد والمقدار، فرأوها ممتدة فظنوها ميتة، فهمموا عليها فوجدوها حية فرجعوا عنها هاربين وتعوذوا منها بالرقا.
وتزعم القبط أنه سحرها، ومنعها من الحركة، وتركها على حالها، فلم تتحرك حتى هلكت ويقال إن طول هذه الحية ميل وإنها كانت تبتلع الفيلة.
وسار إلى مدينة الكند وهي مدينة الحكماء، فهربوا إلى جبل وعركان لهم صعدوا إليه من داخل مدينتهم من مواضع لا يقدر هو ولا أصحابه على الصعود فيها، فأقام على تلك الطريق يحرسها حتى عدم الماء، ولم يجد منه شيئا وضاع أصحابه، وكادوا أن يهلكوا عطشا.
فنزل إليه رجل منهم يقال له ميدوش وكان من أفاضل الحكماء وقد غطى شعره جسده، فقال له أيها الملك المغرور أين تريد، وقد مد لك في الاجل، ورزقت فوق الكفاية ؟ ففيم تتعب نفسك وجيشك، هلا قنعت بما تملكه، واتكلت على خالقك الذي وهبك الغنى، وأعانك بهذا الخلق ! فعجب نهراوس من قوله وسأله عن الماء فدله عليه.
وسأله عن موضعهم إذ لم يكن إصاب في جيشهم أثرا لسكناهم.
قال نحن في موضع لا يصل إليه أحد.
قال فما معاشكم ؟ قال من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع فيقيتنا ويكفينا اليسير منه.
قال فمن أين تشربون ؟ قال من غدران لنا في الارض يجتمع إليها الماء من الامطار والثلوج.
قال فلم هربتم عنا ؟ قال رغبة عن جواركم، وزهادة في خلطتكم وكراهة لقربكم، وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه.
قال فأين تكونون إذا حميت الشمس ؟ قال في غيران لنا تحت هذا الجبل.
قال فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم ؟ قال إنما يحتاج إلى هذا المال أهل
ونحن لا نستعمل شيئا منه فاستغنينا عنه بما قد اكتفينا به.
ومع ذلك فانا قد رزقنا منه ما لو رأيته لحقرت ما عندك.
قال فأرنيه ! قال فسر معي، قال فانطلق الملك ونفر من أصحابه معه إلى أرض في سفح جبل يتصل بهم فرأوا فيه قضبان الذهب نابتا، وأروه واديا لهم على حافتيه حجارة الزبرجد والفيروزج فأمر نهراوس أصحابه أن يتخيروا من جياد تلك الحجارة، ويحملوا منها ما يقدروا عليه ففعلوا، ورجع بهم إلى مصر فرأوا قوما من اهل العسكر يحملون صنما لهم ويعظمون امره، فجزع من ذلك، وسأل [ الرجل ] الملك أن يقيم بأرضهم، ونهاه عن عبادة الاصنام وخوفهم منها.
فسأله نهراوس أن يدله على الطريق، ففعل وودعه وسار على السمت الذي وصفه له، فلم يمر على امة إلا أثر فيها اثرا إلى أن بلغ إلى ارض النوبة، فصالح أهله على ما يحملونه إليه ثم أتى إليه دنقلة فأقام بها علما وزبر اسمه عليه ومسيره وجميع ما عمله في سفرته تلك.
ثم سار منها يريد منف فلم يبق احد إلا خرج إليه مع العزيز، وتلقوه بأصناف الطيب والرياحين والبخورات والملاهي وغرائب الالعاب.
وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الغريب الابيض الصنعة الملون، وجعل فيه صهريجا من زجاج سماوي، وجعل في ارضه سمكا من الزجاج الغريب فلما دخل منف أنزله العزيز في ذلك المجلس، وأقام الناس أياما في لهو وسرور يأكلون ويشربون.
وأمر بعرض جيشه ففقد سبعين ألفا، وقد كانوا خرجوا في ألف ألف، وكانت غيبته أحد عشر عاما.
ولما سمع الملوك بذكر ما عمل في سفره، وما غلب من الامم، وما فتح من البلاد، وقتل وأسر من الخلق هابوه وخافوه، لشدة بأسه وعظيم سلطانه.
وتجبر نهراوس فبنى في الجانب الغربي قصورا من رخام، ونصب عليها أعلاما فكان يغشاها أبدا، ويقيم فيها اياما كثيرة، وكان الخراج في وقته تسعة وتسعين ألف ألف، فأمر بالزيادة في طلب العمارات، وطلب وجوه الزيادة فيها من احسن الطرقات لا من رديئها.
وأمر باصلاح الجسور في الجهات، والتحمل في أن يزيد الماء في انبساطه في الارض، ففعل ذلك كله حتى وافى الخراج مراده وزاد عليه.
قصة يوسف عليه السلام:
وقالت القبط: إن في مدته دخل البلد غلام من الشام له أخوة يحسدونه، فاحتالوا عليه حتى بيع من تجار يقصدون مصر، وكانت قوافل الشام تعرس بمصر بناحية الموقف اليوم، فأوقف الغلام للبيع ونودي عليه، وهو يوسف الصديق عليه السلام، فبلغ وزنه ذهبا ووزنه فضة، فاشتراه العزيز ليهديه للملك، فلما أتى به إلى منزله رأته زليخا امرأته، وكانت ابنة عمه فقالت له اتركه عندنا نربيه ففعل، وكان من أمره معها وعشقها له ما قصه الله تعالى في كتابه، وكانت تكتم حبها عنه، حتى غلبها الامر، فتزينت له وجاءته فعرفته عشقها له، وأنها مطاوعة له في كل ما يريده منها، وأنها لابد لها منه، وحبته بمال عظيم، فامتنع عليها، ولم يجد عنها مهربا، فرامت تقبيله فأبى عليها، فهجمت عليه ولم تزل تعاركه وهو يمتنع إلى أن دخل زوجها فوجده هاربا
عنها وكان عنينا لا يأتي النساء، فقال لهما ما هذا فجعل يوسف عليه السلام يعتذر إليه، وقالت هي كنت نائمة فأتاني يراودني عن نفسي، ففطن أن الامر كان منها.
فقال ليوسف عليه السلام أعرض عن هذا أي عن اعتذارك، وقال لزليخا استغفري لذنبك، فانك قد أخطأت.
واتصل خبر الغلام وجماله بالملك، وأن العزيز ابتاعه له، فلما لم يره سأله عنه انكر المعين أمره وغير له خبره، وغلظ فيه عليه، وثقف الغلام عنده في القصر ومنعه الخروج فنسي خبره.
وكان نهراوس قد عاود الانعكاف على اللذات، والاحتجاب عن الناس لما كان العزيز كفاه من أمر الملك والرعية.
واتصل خبر زليخا مع يوسف عليه السلام بنساء من نساء أصحاب الملك فعيرنها بذلك.
فأحضرت منهن جماعة وعملت لهن طعاما، فلما أكلنه أحضرت لهن شرابا، وأجلستهن مجلسين مجلسا حذاء مجلس، مذهبين جميعا، وفرشتهما بالديباج الاصفر المذهب، وأرخت عليهما ستور الحرير والديباج.
وجلسن فيهما للشراب وقدمت بين ايديهن فاكهة كثيرة، وسكاكين أنصبتها من الجوهر، وقالت لهن اقطعن من هذه الفاكهة بهذه السكاكين، ويقال إن الذي كان ينزل بين أيديهن أترج وهو المتكأ، فأمرت المواشط بتزيين يوسف عليه السلام وإخراجه إلى المجلس الذي كانت تجلس هي فيه والنسوة للشراب وكانت الشمس ذلك الوقت محاذية لذلك المجلس فأخذته المواشط ونظمن شعره بأصناف الجوهر وألبسنه ثوب ديباج أصفر منسوج بدوائر مذهبة وفيها صور خضر صفار وعدلن شعره على جبينه إلى قرب حاجبيه ووصلن جبهته، وعقربن على خديه صدغيه، ورددن ذؤابته على صدره ودفعن إليه بمذبة ذهب شعرها أخضر.
فلما فرغ النسوة من أكلهن وجلسن للشراب، وأحضرت الفواكه وسقتهن أقداحا دفعت اليهن السكاكين، وقالت لهن قد بلغني ما أخذتن فيه من أمري مع عبدي.
فقلن لها إن الامر على ما بلغك إلا أنك أعلى عندنا قدرا من هذا ومثلك يرتفع عن اولاد الملوك لحسنك وشرفك وعقلك، فكيف كنت ترضين بعبدك ؟ قالت لم يبلغكن الصدق عني ولم ارض لنفسي بذلك، فلو رضيته لكان هو اهلا لذلك، وشارت إلى المواشط بإخراجه، فرفعت ستور المجلس الذي يحاذي مجلسها واقبل يوسف عليه السلام والمذبة بيده، وهن يرمقنه، محاذيا للشمس, فأشرق المجلس وما فيه بوجه يوسف عليه السلام وارسل مع نور الشمس شعاعا فكاد يخطف ابصارهن.
واقبل يوسف عليه السلام والمذبة بيده وهن يرمقنه حتى وقف على رأسها يذب عنها، وهن لا يعقلن، وقد وضعن تلك السكاكين على أيديهن وأصابعهن، فقطعنها مكان الفاكهة ولا يشعرن بذلك ولا يجدن ألما وهي تخطبهن فلا يفهمن خطابها للذي أدهشهن من النظر إلى وجه يوسف عليه السلام.
فقالت لهن زليخا ما لكن قد اشتغلتن عن فهم خطابي بالنظر إلى عبدي ؟ فقلن معاذ الله أن يكون هذا عبدك أو يكون هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم، ولم تبق منهن واحدة الا أنزلت وحاضت من محبته.
فقالت لهن زليخا عند ذلك فهذا الذي لمتنني فيه، فقلن لها ما ينبغي لاحد أن يلومك بعد هذا، ومن لامك فقد ظلمك فدونكه، وقالت قد فعلت فأبى على فخاطبنه إن قدرتن واعدنه الخير مني وحذرنه عقوبتي على رده لي، فكانت كل واحدة منهن تدعوه إلى نفسها سرا، وتبذل له ما قدرت عليه وهو يمتنع، فإذا قطعت رجاءها منه لنفسها حينئذ خاطبته عن زليخا، وقالت له مولاتك تحبك وأنت تكرهها، وما ينبغي أن تخالفها وهي تبلغك إلى افضل المنازل، وتعطيك من الاموال والجواهر فوق ما يرضيك، فيقول ما لي بذلك من حاجة، فلما رأين ذلك منه أجمعن على أخذه غصبا.
فقالت زليخا ما يجوز ذلك ولا يمكن، ولكنه ان لم يفعل لامنعنه اللدات، ولانزعن عنه جميع ما أعطيته ولاسجننه.
فقال يوسف عليه السلام رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فأقسمت بالهها، وكان صنما من زبرجد أخضر باسم عطارد أنه إن لم يجبها إلى ما تريده لتعجلن له ذلك وكشفت عن الصنم واستعانته على أمره، ثم أمرت بنزع ثيابه وألبسته الصوف وسألت زوجها أن يحبسه لها ليزول عنها ذكرها به فمال إلى قولها لئلا يظن الناس بأهله القبيح، وعسى [ أن ] ينفي عنها القالة بذلك.... .
ويقال إن نهراوس أول من بنى بمصر (21) وبنى اللاهون، وجعل الماء فيه مقسوما موزونا، ثم مات نهراوس.
واستخلف ابنه دريموس، ويسميه أهل الاثر داروم (22) بن الريان وهو الفرعون الرابع عندهم.
ولما ملك خالف سنة أبيه، وكان يوسف خليفته، لان أباه أمره بذلك وأكد عليه فيه، فكان يوسف عليه السلام يسدده فربما قبل منه وربما خالفه.
وظهر في وقته معدن فضة على ثلاثة أميال من النيل، فأثار منه شيئا عظيما، وعمل منه صنما على اسم القمر، لان طالعه كان على السرطان، ونصبه على قصر الرخام الذي كان ابوه بناه في شرقي النيل ونصب حوله أصناما كلها من فضة وألبسها الحرير الاحمر، وعمل للصنم عيدا في كل شهر، وهو إذا دخل القمر بالسرطان.
وكان ينتقل إلى مواضع شتى يتنزه، وكلما أراد أن يضر الناس منعه يوسف عليه السلام من ذلك ودفعه عن رأيه بأي وجه أمكنه، إلى ان مات يوسف عليه السلام وله مائة وثلاث وعشرون سنة، فأمر به داروم فكفن في ثياب الملوك، وجعل في تابوت رخام، ودفن في الجانب الغربي من النيل وخصب، ونقص الجانب الشرقي فاخرج تابوته من الجانب الغربي ونقل إلى الجانب الشرقي فدفن فيه ونقص الجانب الغربي فاتفق رأيهم أن يجعلوه في الجانب الغربي سنة وفي الشرقي سنة، ثم حدث لهم من الرأي أن شدوا حول التابوت حلقا من نحاس وثاقا ثم ربطوه بحبال وشدوه شدا وثيقا محكما ولووه لويا وثيقا ثم دلوه في وسط النيل، وتركوه هناك فأخصب الجانبان جميعا وقيل إن داروم استوزره بعد بلاطس (23) الكاهن، فكان بلاطس يطلق له ما كان يوسف عليه السلام منعه عنه، وعمله على أذى الناس وأخذ اموالهم، فبلغ بهم من ذلك مبلغا كبيرا.
فكان لا يسمع بامرأة حسناء إلا وجه إليها فحملت إليه وفشا ذلك في المملكة واضطرب الناس من فعله.
فخاف بلاطس ان يفسد أمن المملكة، ويتلف الملك من فعله، فدخل إليه وأشار عليه أن يتودد إلى الناس، ويعتذر منهم ويرد نساءهم، فأمره الملك أن ينادي في الحضور ثم لبس افخر ثيابه، ودخل الناس إليه فشكوا إليه ما حل بهم، فاعتذر إليهم وأسقط عنهم خراج ثلاث سنين.
ثم أمر بعمل قصر من خشب فيه عجائب كثيرة، وكان يركب فيه هو ونساؤه وحشمه، ورجع إلى ما كان عليه من ابتزاز النساء، ونهب الاموال، واستخدام الاشراف والوجوه، من القبط من بني إسرائيل.
إلى أن ركب في ذلك القصر يوما، فلما كان في بعض الليالي وقد أحدق النيل بالبلد، وكان الماء من الجبل إلى الجبل، وامتد القمر على الماء وهو في قصره الخشب، فأراد أن يعدي من العدوة إلى العدوة الاخرى، فلم يتهيأ له سوق القصر بسرعة لعظمه، فركب مركبا لطيفا مع ثلاثة نفر من خدمه وامرأة أبيه الساحرة.
فلما توسط البحر هاجت ريح عاصفة، فانقلب المركب وغرق هو ومن معه، وأصبح الناس شاكين في امره إلى أن وجدت جثته بشطنوف فعرف بخاتمه، وبجوهر كان يتقلد به، فحمل إلى منف.
وقدم الوزير ابنه معازيوس (24) وأجلسه على سرير الملك، وكان صبيا فبايع له الجيش وأسقط عن الناس الخراج الذي كان أبوه أسقطه وزادهم سنة وضمن لهم الاحسان فأطاعوه ورد نساءهم، وهو خامس الفراعنة، وكان في زمنه طوفان آخر ببعض البلد.
وكان وزير أبيه قد هلك، فاستوزر كاهنا يقال له أملادة، فلما رأى من الاسرائيليين ما فعلوه أنكره، وأشار أن يفرد لهم من البلد [ مكانا لئلا ] بهم يختلط غيرهم، فأقطعوا موضعا من قبلي منف، وعملوا لأنفسهم متعبدا كانوا يتلون فيه صحف ابراهيم عليه السلام.
وان رجلا من أهل بيت المملكة عشق امرأة من الاسرائيليين، وأراد أن يتزوج، فأبوا عن ذلك.
وتغلب احد ملوك الكنعانين على الشام وامتنع أهله ان يحملوا الضريبة إلى ملك مصر، وأقبل على ملازمة الهياكل والتعبد فيها، فأعظم الناس أمره فتجبر في نفسه، وأمر الناس أن يسموه ربا، وترفع ان ينظر في شئ من أمر المملكة، فجمع الناس وقال لهم قد رأيت أن أجعل امر الملك إلى ابني اقسامس وأكون من ورائه إلى أن يغيب شخصي عنكم كما وعدت، فرضوا ذلك، وقالوا الامر أمر الملك ونحن عبيده، ومن رضيته الآلهة فحكم الخلق أن يرضوه ولا يخالفوه.
فأقام ابنه أقسامس (25) الملك، وجلس أقسامس على سرير الملك، وتوج بتاج أبيه وأقام الناظرون (26) بين يديه ورتب الناس مراتبهم، وقسم الكور والاعمال، نوأمر بأبساط العمارات، وأوسع على الناس في أرزاقهم، وعلا أمره وطال ملكه، وعمل مدنا كثيرة أسفل الارض وعجائب كثيرة يطول ذكرها، ويقال إن بخت نصر لما ظفر بمصر أخذ من عمله عجائب كثيرة، فأقام أول ولايته سبع سنين بأجمل أمر وأصلح حال.
ومات وزير أبيه فاستخلف رجل من أهل بيت المملكة، يقال له طلما (27) وكان يقوم بأمر البلد كما كان العزيز مع الوليد.
وقيل سبب استخلافه الملك أنه كان عطارا بأصبهان فأفلس وركبه الدين فخرج هاربا من الدين واتى الشام فلم يستقم حاله، فجاء إلى مصر فرأى على باب المدينة حمل بطيخ فسأل عن سعره فقيل بدرهم، فدخل المدينة فسأل عن سعره فقيل كل بطيخة بدرهم، فقال: من هنا أقضي ديني ! فاشترى حملا بدرهم وأتى المدينة فنهبه البوابون فما بقي منه الا بطيخة واحدة فباعها بدرهم، فقال ما هذا ؟ ما هنا أحد ينظر في مصالح الناس ؟ فقالوا: ملكنا مشغول بلذات نفسه وفوض الامر إلى الوزير، ولا ينظر في شئ فخرج فرعون إلى المقابر، فجعل لا يمكن احدا من الدفن الا بخمسة دراهم فأقام على ذلك مدة لم يتعرض له أحد فماتت بنت الملك، فقال: هاتوا خمسة دراهم، فقالوا ويحك هذه بنت الملك، فقال: هاتوا عشرة درهم، فلم يزل يضاعفها إلى أن وصلت إلى مائة درهم، فأخبروا الملك بحديثه، قال: ومن هذا ؟ قالوا: عامل الاموات فأرسل (*) ابن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما ذهنيا متصرفا في كل فن, فصلح أمر المملكة بمكانه وأحبه الناس، فعمل معالم كثيرة وعمر الخراب، وبنى مدنا، ورأى في نجومه أنه سيكون جدب وشدة، فاستعمل ما استعمله نهراوس الملك وقد.
وبنى الهياكل، وقيل إن منارة الاسكندرية بنيت في زمانه، وفي زمانه هاج البحر المالح فغرق كثير من القرى والاخبية والمصانع.
وحكي أن أقسامس تغيب عن الناس مدة، وقيل مات وكتموا موته، وكان ملكه إلى أن غاب عنهم إحدى وثلاثين سنة، وأقاموا إحدى عشرة سنة يدبر ملكهم طلما الكاهن.
ولما افتقد الناس الملك اضطربوا وتغيروا على طلما، واتصل بهم أنه سمه وقتله، فقالوا لابد لنا من النظر إلى الملك، فعرفهم أنه قد تخلى عن الملك وولى ابنه لاطس، فما قبلوا منه، وأمر الجيش فركبوا في السلاح.
وكان لاطس الملك جلس على سرير الملك ولبس التاج وكان جريئا معجبا خلقا، فوعد الناس جميلا وقال أنا مستقيم لكم ما استقمتم، وإن ملتم عن الواجب ملت عنكم، وألزم الناس اعمالهم، وحط جماعة من الوجوه عن مراتبهم، وصرف طلما بن قومس عما كان عليه من خلافته.
إلى الوزير فسأله عنه، فأنكر حاله فأحضره الملك وقال: من أنت ؟ فاخبره بخبر البطيخ، وقال ما عملت عامل الموتى الا حتى يصل خبري اليك وتحضرني لأنصحك لتستيقظ من نومك، وتحفظ ملكك والا ذهب عنك، فاستوزره فسار في الناس سيرة حسنة، وفي زمانه شكى القبط إليه حال الإسرائيليين، فقال: هم عبيدكم فافعلوا بهم ما بدا لكم.
فكان القبطي يضرب الاسرائيلي فلا يقدر ان يغير عليه احد، وان ضرب الاسرائيلي القبطي قتل.
وبنى في زمانه مدنا كثيرة، وأعلاما ومصانع وطلسمات، ومن أعجب ما عمل التنور الذي يشوى فيه بغير نار، والسكين تنصب فإذا رآها شئ من البهائم أقبل عليها حتى يذبح نفسه بها، والماء الذي يستحيل هواء وأشياء من النيرنج.
واستخلف رجلا يقال له لا هوق من ولد صا الاكبر بن تدارس، ودفع إليه خاتمه، وكان كاهنا وأنفذ طلما عاملا على الصعيد، وأنفذ مع جماعة من الاسرائيليين، وجدد بناء الاعلام وأصلح الهياكل، وبنى قرى كثيرة، وأثيرت في وقته معادن كثيرة وكنوز.
وكان محبا [ للخلق ] (28) ثم تجبر وعلا، وأمر أن لا يجلس أحد في قصر الملك لا كاهن ولا غيره، بل يقومون على ارجلهم إلى أن ينصرفوا، وزاد في أذى الناس والعنف بهم، ثم جمع أموالهم وكنزها، وطلب النساء فابتز منهن خلقا كثيرا، وقصد الناس بسطوته وفظاظته.
واستعبد بني اسرائيل، وقتل جماعة من الكهنة فبغضه الخاص والعام، ثم حشد عليه طلما الذي صرفه وولاه الصعيد فجاءه بجيش كثيف، وخرج إليه بلاطس (29) الملك، فحاربه طلما فظفر ببلاطس وقتله، وسار حتى دخل منف فعاث فيها.
ونزل قصر المملكة طلما بن قومس، فجلس على سرير الملك وحاز جميع ما كان في خزائنهم، فهذا الذي تذكر القبط أنه فرعون موسى صلى الله عليه وعلى نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وأما أهل الاثر فيزعمون انه الوليد بن مصعب، وأنه من العمالقة وذكروا أن الفراعنة سبعة.
وكان طلما فيما يحكى عنه قصيرا طويل اللحية، أشهل العينين صغير العين اليسرى، في جبينه شامة، وأنه كان أعرج, وزعم قوم انه كان لقيطا، والدليل على ذلك ميله إليهم ونكاحه فيهم، ولما جلس في الملك اضطرب الناس عليه، فبذل الاموال ورغب من أطاعه، وقتل من خالفه فاعتدل أمره.
وكان أول ما عمله أن رتب المراتب وشيد الاعلام وبنى المدن، وخندق الخنادق، وعمل بناحية العريش حصنا، وكذلك على حدود مصر، واستخلف هامان وكان يقرب منه في نفسه.
وأثار بعض الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات، وحفر خلجانا كثيرة، ويقال أنه الذي حفر خليج سودوس، فكان كلما عرجه إلى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالا، فاجتمع من ذلك شئ كثير، فأمر برده على أهله.
وبلغ الخراج في وقته سبعا وستين ألف ألف، وكان ينزل الناس على منازلهم وهو أول من عرف العرفاء على الناس.
قصة موسى عليه السلام:
وكان ممن صحبه من الاسرائيليين رجل يقال له إمرى وهو عمران أبو موسى عليه السلام، فجعله حرسا لقصره يتولى حفظه وإغلاقه بالليل.
وكان قد رأى في كهانته أنه يجري هلاكه على يد مولود من الاسرائيليين فمنعهم المناكحة ثلاث سنين لانه رأى أن ذلك المولود يكون فيها، وأن امرأة إمرى يعني عمران أتته بعض الليالي بشئ أصلحته له فواقعها فحملت بهارون، ثم واقعها في السنة الثالثة فحملت بموسى عليهما السلام، فرأى في كهانته أنه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح المولودين الذكور من بني إسرائيل، ولم يتعرض لامرى لقربه منه، ولحراسته قصره.
الا ان موسى كان من أمره ما قصه الله عزوجل في كتابه من أمر التابوت وقذف أمه في النيل إلى أن صار إلى تحت قصره، وأخذ امرأته له واسترضاعها لامه.
وامتنع فرعون من قتله إلى أن كبر وعظم شأنه، ورد فرعون كثيرا من أمره وجعله من قواده، وكانت له سطوة، ثم وجهه لغزو الكوشانيين، وكانوا قد عاثوا في أطراف مصر، فخرج في جيش كثيف ورزقه الله الظفر، فقتل منهم خلقا وأسر خلقا وانصرف غانما سالما، فسر به فرعون وامرأته.
فاستولى وهو غلام على كثير من أمر فرعون، وأراد أن يستخلفه حتى قتل رجلا من أشراف القبط، وكان يقرب من فرعون فهرب منه.
وخرج إلى ناحية مدين، وتزوج ابنة ثيرون، وهو شعيب عليهما السلام، على ان يرعى غنمه وأنسأه بأجلين فقضى أتمهما وأرسله الله إلى فرعون.
وولدت امرأته فذهب يقتبس لها نارا، فكلمه الله تعالى في جبل الطور، وقال له: امض إلى فرعون، وأيده بأخيه فترك امرأته محلها ومضى لرسالة ربه.
وولدت امرأته فأرسل الله تعالى جبريل بما يصلحها من آلة الولادة وختن ابنها، وكانت الغنم تغدو من عندها وترجع إليها بغير راع.
وحمل جبريل عليه السلام الغلام حتى أراه موسى وهو سائر إلى مصر فقبله، وتفل في فيه ورده إلى امه، ومر بها رجل من آل شعيب فردها إلى مدين، وسار موسى إلى مصر ولقي اخاه هارون ولم يثبته لطول غيبته، وكان يغتسل على شاطئ النيل، فاستضافه فأضافه وأطعمه جلبانا مطبوخا قد ثرد فيه ثريد، وتعارفا وسر بعضهما ببعض وعرفه ان الله عزوجل أرسله ونبأه هو وأخوه، وجعله له عضدا.
وغدوا إلى فرعون وأقاما اياما، وعلى كل واحد منهما جبة صوف، ومعه عصاه التي أخذها من شعيب عليهما السلام ومنها كانت احدى آياته، فكانا يأتيان في كل يوم ويجلسان ببابه فلا يصلان إلى فرعون لشدة حجابه، إلى ان دخل إليه مضحك كان له فعرفه حالهما، وقال بالباب رجلان يطلبان الاذن عليك، ويزعمان أن إلههما أرسلهما اليك، فأمر بإدخالهما وخاطبه موسى وأراه آية العصا، وآيته في بياض اليد، وهما آيتان من تسع، وكان من خطابه إياه ما قصه الله في كنابه.
فغاظ فرعون أمره وهم بقتله، فمنعه الله تعالى منه وشغله عنه، ورأى طلما فرعون كأن على صورة غمامة قد اقبلت، فمسحت على عيونهم فعموا.
ثم أمر قوما آخرين بقتله، فرأى كأن نارا قد أتت فأحرقتهم، فازداد عليه غيظا، وقال له من أين لك هذه النواميس العظام ؟ أسحرة بلدي علموك هذا، أم تعلمته بعد خروجك من عندنا ؟ قال هذا من ناموس السماء، وليس من نواميس الارض.
قال ومن صاحبه ؟ قال صاحب البنية العليا، قابل بل علمتها من بلدي، وأمر بجمع السحرة والكهنة واصحاب النواميس فقال أخرجوا علي أرفع اعمالكم، فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدا، فعرضوا عليه اعمالهم فسره ذلك، وأحضره وقال له فقت على سحرك وعندي من يوفي عليك، فواعدهم يوم الزينة، وهو يوم عيد كان لهم، على ان من غلب منهما اتبعه الآخر، وكان جماعة من أهل البلد اتبعوا موسى عليه السلام ، وكانت السحرة مائة الف وأربعين الفا، فعملوا من الاعمال ما يرى الوجوه ملونة ومشوهة، ومنها الطويل ومنها العريض، ومنها المقلوب جبهته إلى اسفل ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون ومنها ما هو عظيم على قدر الترس ومنها ما له آذان عظام، ومنها ما يشبه وجوه القرود وفي كل فن وفي كل صورة، وأجساما عظاما ما تبلغ السحاب، وحيات عظيمة بأجنحة تطير إلى الهواء، ويرجع بعضها على بعض وحيات يخرج من أفواهها نار يخيل للعالم انها تكاد تحرقه، وحيات برؤوس وشعور، وأذناب فيها رؤوس، وتماثيل في طرق الشياطين.
ثم عملوا دخانا يغشى أبصار الناس، فلا يرى بعضم بعضا، ودخانا يظهر صورا مثل النيران في الجو، على دواب مثل ذلك يصدم بعضها بعضا، وتسمع لها قعاقع وضجة، وصورا اخرى على دواب خضر، وصورا سودا على دواب سود.
فلما رأى فرعون ذلك سر هو وجماعته ممن حضر معه، واغتم موسى عليه السلام، ومن كان آمن به وكفر [ بفرعون ] (30) خوفا على فتنة الناس بذلك وضلالهم.
وكان للسحرة ثلاث رؤوس، فلما رأى موسى صلوات الله عليه ذلك وضاق به ذرعا أتاه جبريل عليه السلام، وقال له لا تخف إنك انت الاعلى وألق ما في يمينك، فسر بذلك موسى عليه السلام، وطمع في إيمان الناس وسكن خوفه فأسر إلى عظماء السحرة وقال قد رأيت ما صنعتم، فان قهرتكم أتؤمنون بالله ؟ قالوا نشهد لنفعلن، فرآه فرعون، وقد اسر إليهم فغاظه وهم بمعاجلة (31) الجميع، ثم توقف ليعلم آخر القضية، والناس يهزؤون منه ومن أخيه وعليهما دراعتان من صوف، وقد احتزما بالليف، ومع موسى عليه السلام عصاه.
فسمى موسى عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم ثم حلق العصا ورفعها في الجو ورفعها جبريل عليه السلام حتى غابت عن عيونهم، ثم اقبلت في صورة ثعبان عظيم له عينان كالترس تتوقدان نارا، وتخرج من فيه ومن منخره، وهو يزيد غضبا لله تعالى، فلا يقع من زبده شئ على احد إلا ابرصه، وبرصت من ذلك ابنة فرعون والثعبان فاتح فاه.
وذكر أن امه كانت حاضرة قريبا منهم، فابتلع الثعبان جميع ما عملته السحرة ومائتي مركب كانت مملوءة عصيا وحبالا، وجميع من كان فيها من الملاحين.
وكان في النهر الذي يتصل بدار فرعون عمد كبيرة وحجارة، وكانت قد حملت إلى هناك ليبني بها، وأقبل الثعبان إلى قصر فرعون ليبلعه، وكان في قبة له على جانب القصر يشرف على عمل السحرة، فوضع الثعبان نابه تحت القصر، ورفع بابه الآخر إلى اعلى القبة ولهب النار يخرج من فيه، وقد احرق مواضع من القصر، فصاح فرعون عند ذلك، واستغاث بموسى عليه السلام فزجره فعطف على الناس ليبتلعهم، وبلع بعضهم فسقط بعضهم على وجوه بعض.
وذهب ليبتلعهم فأمسكه موسى عليه السلام، وعاد في يده عصا كما كانت ولم يروا لتلك المراكب أثرا، وكان فيها من الحبال والعصي والناس والاعمدة والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أرضه ترابا.
فلما رأى السحرة ذلك، ولم يروا لتلك الاعيان اثرا قالوا ما هذا عمل الآدميين ! وانما نصنع مخاييل لا تغيب عن الاعيان، فقال لهم موسى أوفوا يوعدكم وإلا سلطته عليكم فيبتلعكم كما ابتلع غيركم.
فعندها آمن السحرة بموسى عليه السلام، وجاهروا فرعون،، وقالوا هذا من فعل إله السموات وليس من فعل إله الارض.
(32) فقال فرعون قد علمت أنكم واطأتموه علي وعلى ملكي حسدا منكم لي، وأمر مثل ذلك، وجاهره فقطعت ايديهم وأرجلهم من خلاف.
وكانوا يرون مساكنهم من الجنة قبل أن يموتوا، وجاهرته امرأته ففعل بها المؤمن ففعل به مثل ذلك.
وكان الروحاني قد قال له إني رب السماء وأنت رب الارض قد استخلفتك فيها، فأنت رب كل من سكنها من الخلق، فتجبر وادعى الربوبية وشق الانهار وغرس الاشجار.
فلما كان من امر موسى عليه السلام ما كان، فسد ذلك الروحاني وسقطت الطلسمات، وبعض الهياكل والمنارات وخرت الاصنام على وجهها، وعلت آيات موسى، وبطل ما كان من الطوفان والجراد والقمل والضفادع، فتحول ماؤهم دما، فكانت الاسرائيلية تسقي القبطية من فمها ماء فيعود في فم القبطية دما عبيطا، وتعض على الرغيف لتأكل منه فتعض على الضفدع، واتلف الجراد والقمل جميع ذروعهم، وهدم الماء ابنيتهم، وبعض منازلهم وتبين للناس أنه لا ينفعهم.
وضاق صدر فرعون من ذلك، فرجع إلى مداراة موسى عليه السلام، ووعده أن يستخلفه على ملكه، وأشار عليه هامان والكهان أن لا يفعل.
ثم أمر الرعية أن يقتلوا موسى، فخرج جماعة [ إلى ] (33) الموضع الذي فيه لذلك، فأتت نار فأحرقتهم.
ورأى فرعون كأنه أخذ برجليه، ونكس على رأسه في حظيرة نار، وكأنه يستغيث، ويقول إني لمؤمن بموسى وربه فخلوا عنه، فدعا هامان وعرفه ذلك، وقال له لم يبق بعد هذا شئ، وأريد أن أو من بموسى، فقال له هو الذي عمل لك الرؤيا ليهولك، فتريد أن تكون عبدا بعد أن كنت ربا ! وتستتخف بك رعيتك، وتسلب ملكك ! قال فتلطف به وبعد ذلك منعه منه، وكان يبعث إليه سرا ويستنظره، فلما تم الاجل ولم يفعل فرعون شيئا كثر البلاء عليهم، وتهدمت منازلهم وفسدت زروعهم وكثرت الآيات في منازلهم.
وكان الناس قد خافوا موسى وهابوه، وكانوا يؤمنون به سرا، فمن آمن به زال عنه الاذى فلما زاد الامر على فرعون أحضر موسى وقال له إن أحببتك ما لي عندك ؟ قال أردد شبابك، وأضعف عمرك، وآمنك من جميع العلل، ومن زوال ملكك، وأعلي يدك على من ناوأك من الملوك، وأكثر فيك نشاطك، وأكلك وشريك.
قال له فرعون إن فعلت ذلك فقد أنصفت فأنظرني إلى غد، ثم شاور هامان فمنعه، وقال له نموت غدا أصلح لنا، قال فلما يئس منه قال فأطلق لي بني اسرائيل قال انما تربد اخراجهم من بلدي لتكون عليهم أميرا ملكا، وانا انتفع بخدمتهم، وهذا حسد منك لي.
قال له موسى عليه السلام فأنتقل على ان لا تدعي الربوبية، قال إذا انقص من أعين الناس، قال فان الله سيهلكك ويهلك قومك، وتصير ارواحكم إلى نار حامية، قال فإني أفعل ذلك معك سرا ولا افعله جهرا، وأقرب للآلهة (34) القرابين العظام.
قال موسى عليه السلام إن إلهي لا يرضيه إلا أن يؤمن به الناس أجمعون، فأما أن تؤمن به وحدك سرا دون الناس، فلا يرضيه ذلك ولا يقبله منك سرا حتى تظهره.
قال وإن لم تفعل ذلك فان الله مهلك واهلك، وعلامة هلاكك أن لا يبقى لك هيكل إلا تهدم ولاصنم إلا خر، وقد خالفت ما دعوتك إليه مرارا كثيرة، وأنا أحذرك الخلاف، وإن الله سيعجل لك العقوبة ولا ينظرك.
ثم إن فرعون طول مطل موسى عليه السلام بما وعده في امر بني إسرائيل، ولم ينجزه، ورأى موسى عليه السلام أنه لا يرجع إلى خير ولا ينفع فيه وعظ، وخاف أن يفجأ بني إسرائيل بإيذاء كثير، فعزم على الخروج عنه ببني إسرائيل.
وحضر لبني إسرائيل عيد كانوا يجتمعون فيه، فأمر موسى عليه السلام نساء بني إسرائيل أن يستعرن حلى نساء القبط، ويأخذن منه ما يقدرن عليه من ثيابهن، ويتزين به في عيدهن، ففعلن ذلك، ثم دعونهن في عيدهن فأكلن معهن وشربن.
وكان موسى عليه السلام أبعدهم قليلا إلى المشرق، وأمر أن يبعدوا هنالك، فلما أكلوا وشربوا ألقى الله تعالى على القبطيين رجالا ونساء السبات حتى منعهم من كل شئ.
ثم سار موسى عليه السلام بجميع بني إسرائيل من أول الليل، وكان عددهم ستمائة ألف وأربعين ألفا ونيفا.
وأخرجوا تابوت يوسف عليه السلام من النيل وحملوه معهم، دلتهم على موضعه عجوز مؤمنة من القبط، ومضت معهم.
فسار ببني إسرائيل إلى ناحية بحر القلزم ليخفي آثارهم، فلما كان من آخر الليل عرف فرعون بخروجهم، وما فعلوه بنساء القبط من إعارة حليهن إلى الاسرائيليات ودعائهن به، فجلس لوقته ونادى في الناس، فلما اجتمعوا أمرهم أن يتأهبوا للركوب في آثارهم وأجلهم ثلاثة أيام.
وخاطب كل من قرب منهم وبعد من جيوشه وحشوده أن لا يتأخروا عن لحاقه طرفة عين، فلما أصبح في اليوم الرابع ركب الناس، وركب معهم يتقدمهم واتبعوا آثار بني إسرائيل، ولم يبق أحد من اولاد الملوك ولا من أتباعهم ولا من فيه فضل إلا سار معه، فيقال إنه كمل عددهم، وزاد على موسى عليه السلام ستة آلاف ألف.
فلم يمر موسى عليه السلام بعلم من أعلامهم إلا سقط، ولا بصنم إلا سقط لوجهه، وساروا مقربين حتى لحقوهم على ساحل البحر.
فلما أحس موسى عليه السلام بهم، قال لأخيه هارون تقدم إلى البحر وكنه بأبي العماس، ومره أن يكف عنا موجه، ويسكن عنا حركته، حتى أصل أنا ومن معي.
فمضى هارون لذلك، وركب موسى عليه السلام، فلما وقف موسى على البحر ضربه بعصاه، فانشق لوجهه، وظهرت فيه اثنتي عشرة طريقة، فدخل كل سبط على طريق، وجعل بينهم طاقات رقيقة من الماء ليرى بعضهم بعضا، فدخل القوم، ودخل موسى عليه السلام في آخرهم.
فلما رآهم في البحر هم بتركهم خوفا من البحر، فأقبل جبرئيل عليه السلام بفرس بلقاء، فدخل في أثرهم، فلما رآها فرس فرعون اقتحم به في أثرها، فلم يقدر فرعون على إمساكه، لانه كان حصانا، وقد كان طال عمره.
فلما دخل فرعون اتبعه قومه عن آخرهم، فلم يبق في البر أحد منهم فتوسطوا البحر، وقد خرج موسى عليه السلام ومن معه من الناس، فأمر الله تعالى جل جلاله جبريل عليه السلام أن يطبق البحر على فرعون وقومه ففعل.
فلما رأى ذلك فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، ولم يقلها صحيح النية... .
فغرق الجميع ولم يفلت منهم أحد، وحملت أرواحهم إلى النار، ولما هلكوا طرح الله تعالى [ جملة منهم ] على عبر البحر، منهم فرعون في موضع مرتفع من الارض، حتى رأوه وعرفوه وبين الله ذلك في كتابه الكريم الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه[وآله] وسلم.
______________
1) في ق: أهل الاثر.
2) في ب: مصريم بن تنصر، والتصحيح عن ق.
3) في ق: درسان.
4) في ق: وكان عنده رجل ماهر يقال له مقيطام يعمل لهم الكيمياء والطلسمات الغريبة.
5) زيادة عن ق.
6) في ق: والبركة التي تسمى فلسطين أي صيادة الطير، لا يمر عليها طير الا سقط فيها.
7) في ق: البودسير.
وفي ب: في هذا الموضع فقط البودشيم.
8) في ق: ملفف.
9) في ق: شداد.
10) في ق: منقاوش.
11) هكذا في الاصل، ولعله كلكن.
12) في ب: احدى مدينة.
13) في ب: واستوزروه.
14) زيادة عن ق.
15) هكذا في الاصول.
16) في ق: يقال له قطفير.
17) في ق: سبعة وستين ألف ألف مثقال من الذهب.
18) في ق: الكوشانيين على معبر البحر الاسود.
19) في ق: الدمدم.
20) في ق: صلوفه. وهي حية عظيمة كأنها جبل.
21) هكذا بالأصول، ولعل الصواب من بنى الجسور بمصر، أو بنى خزانا بمصر.
22) في ق: دارم.
23) الصواب: استوزر بعده بلاطس.
24) في ق: معدان.
25) في ق: كاشيم.
26) لعل الصواب وأقام القاطرون.
27) في ق: ظلما، وقد جاء فيه زيادة لا بأس من ايرادها ههنا وهي " وكان يقال له ظلما، وكان شجاعا كاهنا حكيما متصرفا في كل فن، وكانت نفسه تنازعه الملك، قيل هو من ولد اشمون وقيل من ولد صاو، وقيل من العمالقة.
28) في ب: للحكم.
29) في ق: لا طيس.
30) في ب: وكفر ايمانه.
31) في ب: بمعالجة.
32) هكذا في الاصل، والصواب: وليس من السحر أو ما يشبه ذلك.
33) في ب: فخرج جماعة من الموضع.
34) في ب: وأقرب للاهل.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|