أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-11-2016
588
التاريخ: 11-2-2020
681
التاريخ: 15-11-2016
749
التاريخ: 11-2-2020
449
|
شبهتهم في ذلك :
انّ العلم يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية متساوية لها مرتسمة في العالم ، ولا خفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة مختلفة ، فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات الأحدي من كلّ وجه.
والجواب عنه عند القائلين بالعلم الحضوري : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء ليس بارتسام صورها فيه ، بل بحضورها عنده ، وهو أقوى من العلم بارتسام صورها ضرورة انّ انكشاف الشيء على آخر لأجل حضورها بنفسه عنده أقوى من انكشافه عليه لأجل حضور مثاله عنده ؛ وعند القائلين بالعلم الحصولي انّ معقولاته صور متباينة متقرّرة في ذاته ـ تعالى ـ وذلك لا ينافي وحدته الذاتية.
وقد عرفت انّ الشيخ لقوله بالعلم الحصولي أجاب عن هذه الشبهة بهذا الجواب في الاشارات نظرا إلى أنّ ارتسام الصور في ذاته لا يوجب تكثّر الجهات فيه عنده حتّى يلزم التركيب المنافي لبساطته ووحدته. والشارح المحقّق ردّ عليه بأنّ ذلك مخالف لقواعدهم من أنّ العلم لا يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية بقوله : « العاقل كما لا يحتاج في ادراك ذاته إلى صورة » ـ ... إلى آخر ما نقلناه سابقا مع توضيح وتنقيح ـ. وقد عرفت انّ حاصله : انّ الانسان قد يدرك ذاته وهو ليس بصورة مغايرة وكذا ادراكه للصور الّتي يعقل بها الأشياء ليس بصور مغايرة. وليس محلّية الانسان للصورة شرطا للتعقّل ، بل هو شرط لحصول تلك الصورة وهذا الحصول شرط للتعقّل ، فالمناط في تعقّل الشيء هو حصوله للمدرك بأيّ نحو كان ، فلو حصلت الصورة بوجه آخر غير الحلول حصل التعقّل ولا ريب في أنّ حصول المعلول لعلّته في معنى الحصولية أشدّ من حصول الشيء لقابله ـ أعني : الصورة لمحلّها ـ ، فاذن المعلولات للفاعل العاقل لذاته حاصلة له من غير أن تحلّ فيه ، فيكون عاقلا لها من غير أن يكون حالّة فيه. وإلى هذا المطلب أشار في التجريد بقوله : « ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات عنده ، لانّ نسبة الحصول إليه أشدّ من نسبة الصور المعقولة لنا » (1).
ولمّا كان بيان عدم استدعاء العلم صورا مغايرة سهل المأخذ ممكن الدرك بأدنى توجّه لم يلتفت إليه في التجريد. ودفع اشتراط التعقّل بالمحلية بقوله : « لانّ نسبة الحصول إليه أشدّ ـ ... الى آخره ـ ». فانّ حصول المعلول للعلّة إذا كان في باب الحصول اتمّ من حصول المقبول لقابله ومنشأ العلم ليس إلاّ حصول الشيء للعاقل فلا يجب أن يكون محلاّ له.
وإنّما توجّه لدفع هذا الاشتراط لانّ القول به هو منشأ للحكم المردود عنده ـ أعني : كون علمه تعالى بالأشياء بطريق الارتسام وتقرير صور المعقولات في ذاته تعالى ـ ثمّ انّه لا يخفى انّ عبارة التجريد ـ أعنى : « ولا يستدعي العلم ـ ... الى آخره ـ » ـ كما يمكن أن تكون ردّا على من نفى علمه ـ تعالى ـ بالغير مع كونه عالما بذاته يمكن أيضا ان يكون ردّا على من التزم انّ علم الواجب بالغير يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية ـ أعني : القائلين بالعلم الحصولي ، كالشيخ وغيره ـ. بل قال بعض المشاهير : انّ حمله على ردّ من ذهب إلى أنّ علمه بالمعلولات بطريق الحصول وارتسام صورها في ذاته ـ كما ذهب إليه صاحب الاشارات ـ أنسب من حمله على ردّ من نفى علمه بالغير بعد تسليمه بانّه عالم بذاته كما ـ فعله الشارح الجديد ـ ، لانّ المحقّق في شرح الاشارات خالف صاحبه في هذا الأمر وقال : انّ علمه بالأشياء بنفس ذواتها من غير ارتسام صورها فيه ، فهذا الحمل أنسب بالنظر إلى ما اختاره في شرح الاشارات.
ثمّ أشدية نسبة الحصول إلى الفاعل من نسبة الصور المعقولة لنا يحتمل معنيين :
أحدهما : انّ حصول مجموع المعلولات الّتي منها الصور الإدراكية لفاعلها العاقل لذاته المستقل في الفاعلية أشدّ تأثيرا في الانكشاف من حصول الصور الادراكية
لعلّتها القابلية الّتي ليس علّيتها إلاّ بمشاركة غيره من المبادي العالية المفيضة للصور ؛
وثانيهما : انّ حصول المعلولات للفاعل المستقلّ بالاقتضاء أشدّ وأولى في كونه حصولا ـ لا في الانكشاف ـ من حصول الشيء لقابله ، وإذا كان في كونه حصولا أولى نقول : شرط الادراك ليس إلاّ وجود الشيء وحصوله للمجرّد القائم بالذات ، وذلك الحصول ـ الّذي هو الوجود الرابطي ـ امّا يكون ارتباطه بالمجرّد القائم بالذات بـ « اللام » ـ كحضور شيء عند هذا المجرّد ، سواء كان الشيء الحاضر هو ذات هذا المجرّد القائم بالذات أو لا ، ويكون ارتباطه به بـ « من » ـ كصدور شيء منه بأن يكون علّة مفيدة لوجوده ـ ، أو يكون ارتباطه به بـ « في » ـ كارتسام الصور الكلّية العقلية في النفس ، وارتسام الصور الخيالية والحسّية في قواها ـ ، أو يكون بـ « عند » ـ كالصور الخيالية والحسّية المرتسمة في القوى ، فانّ تلك الصور مع القوى حاضرة عند النفس ـ ، وشرط الادراك انّما هو الحصول للمدرك أو منه أو فيه أو الحضور عنده ولا ينحصر شرطه بحصوله فيه. والظاهر عدم الفرق بين الحصول له والحضور عنده حقيقة ـ كما لا يخفى ـ.
وعلى ما ذكر فالفرق بين المعنيين : انّ الأشدّية على المعنى الأوّل يكون وصفا للحصول بحال متعلّقه ـ أي : هذا الحصول تأثيره في الانكشاف أشدّ من تأثير ذلك ، وهذا لا يقتضي كون نفس هذا الحصول أشدّ في كونه حصولا لغيره من ذلك ، إذ ربما يكون الشيء أضعف من شيء من جهة مع أنّ تأثيره في تحصيل أمر أشدّ من تأثير ذلك القويّ في تحصيل ذلك الأمر لمناسبة خاصّة ـ ؛ وعلى المعنى الثاني تكون الأشدّية وصفا للحصول نفسه.
ثمّ الدليل على المعنى الأوّل ـ أعني : كون حصول المعلول للفاعل أشدّ تأثيرا في الانكشاف من حصول الصور لمحلّها ـ هو أنّ المعلول الحاصل لعلّته يكون حاضرا عندها بذاته وبصورته ، والأشياء الّتي ترتسم صورها في النفس انّما تكون حاضرة عندها بصورها فقط ، ولا ريب في أنّ الحضور بالذات وبالصورة أتمّ في الانكشاف من الحضور بالصورة فقط.
وأمّا الدليل على المعنى الثاني ـ أعني : كون حصول المعلول للفاعل أولى في كونه حصولا من حصول الشيء لقابله ـ فهو انّ حصول الأشياء المعلولة للفاعل بالاقتضاء والوجوب ، وحصول الصور المعقولة لقابلها بالإمكان ، والوجوب أشدّ من الامكان. ولمّا كان الحصول للقابل علما أو مستلزما له فيكون الحصول للفاعل علما أو مستلزما له بالطريق الاولى ، إذ عرفت انّ مدار العلم على الحصول ، فكلّما كان أشدّ كان أولى بأن يكون علما ، وقد علم أنّ الحصول بالوجوب أشدّ من الامكان.
وأورد عليه :
بأنّ لزوم كون الحصول للفاعل مستلزما للعلم من كون الحصول للفاعل مستلزما له ممنوع ، لانّ كون الشيء عالما بالشيء يقتضي وجود ذلك للعالم في الشهود العلمي ، ووجود المعلول في الخارج وإن كان لازما لوجود العلّة فهو لا يرتبط بالعلّة بحسب هذا النحو من الوجود ، ولا نسلّم انّ هذا الارتباط مصحّح للعلم ؛ إذ العلم بالشيء يقتضي نسبة مخصوصة ، فلا يجدي تحقق نسبة أخرى وان كانت أوكد من تلك النسبة. بل لقائل أن يقول : انّ هذا كما يقال : انّ نسبة السواد إلى قابله بالإمكان وإلى فاعله بالوجوب ، والنسبة الاولى منشأ الاتصاف بالسواد ، فلا بدّ أن تكون الثانية منشأ الاتصاف به بطريق أولى ، وهذا ممّا لا يقول به عاقل!.
والجواب منه ـ كما قرّره بعض المشاهير الأعلام ـ : انّه قد مرّ انّ ما يقتضي العلم بالشيء انّما هو الحصول للمجرّد لا من حيث هو حصول ، بل من حيث هو منشأ الحضور عنده ، وليس لخصوص الوجود العيني والظلّي مدخل في ذلك الاقتضاء. ولا خفاء في أنّ صدور المعلولات عن العالم بذاته الفاعل بلا اشتراك الغير يقتضي الحصول والحضور اقتضاء أتمّ وأعلى من اقتضاء قبول القابل للعالم بذاته للصور الإدراكية لها ومن اقتضاء تعلّق النفس المجرّدة بالقوى الحسّية المصورة بالصور الإدراكية الحسّية لهما. والحاصل : انّ منشأ العلم ليس إلاّ الحصول للمجرّد والحضور عنده ، واقتضاء نسبة الفاعلية لهما أتمّ من اقتضاء نسبة القابلية وتعلّق المدبّرية لهما.
وأمّا منشأ اتصاف الشيء بأمثال السواد فانّما هو القيام بالموصوف ، لا مطلق الحصول سواء ارتبط بـ « في » أو بـ « اللام» أو بـ « من » ؛ بخلاف منشأ العالمية ، فانّه ليس الحصول المخصوص بالحلول في المجرّد ، بل هو شامل له وللحصول له وللحصول عنده.
والحاصل : انّ اتصاف الشيء بالسواد وصدق الأسود عليه لا يحصل بمحض الوجود الرابطي ـ سواء كان الارتباط بـ « في» أو بـ « اللام » أو بـ « من » أو بـ « عند » ـ ، بل لا بدّ فيه من ارتباط خاصّ هو الارتباط بـ « في » بالقياس إلى محلّ مادّي لا غير.
وهذا لا يتصوّر إلاّ في قابل السواد لا في فاعله المجرّد ؛ بخلاف العلم ، فانّ منشأه هو الارتباط بحصول المعلوم للذات المجرّدة القائمة بذاتها أيّ حصول كان. ولا ريب في أنّ الارتباط الحاصل من حصول المعلول للعلّة أشدّ من سائر الارتباطات، فيكون حصول العلم منه أتمّ وآكد.
ثمّ اعلم! ، انّه على ما اخترناه ليس الحصول بالفعل للمعلول في الخارج شرطا للانكشاف ، بل الربط الحاصل بينه وبين العلّة وكونه بحيث من شأنه أن يحصل منها كافّ لانكشافه عندها في مرتبة ذاتها ، لما عرفت من أنّ المناط في الانكشاف إمّا حضور المعلوم بنفسه عند المدرك ، أو حضور ما هو أقوى منه في باب الانكشاف ـ أعني : حضور علّته ـ ، ومناط انكشاف الأشياء عنده ـ تعالى ـ هو الثاني ـ أعني : ذاته بذاته من حيث انّه علّة ومقتض لها ـ. ولمّا كان الاقتضاء ثابتا له في مرتبة ذاته فيكون الانكشاف ثابتا له أيضا في هذه المرتبة ، ولا يتوقّف على سبق صورة خارجية أو عقلية كما لا يتوقّف ايجاده للأشياء وابداعه إيّاها على سبق مادة خارجية ، فانّ الذات إذا كانت بحيث تصدر عنه الأشياء من غير مادّة نظرا إلى اقتضائه التامّ لها واندراجها فيه ، فيكون بحيث ينكشف له الأشياء أيضا لذلك ؛ كما لا يخفى.
ثمّ اعلم! ؛ انّ للعلم ثلاثة معان :
أحدها : المعنى الإنتزاعي الاضافي المصدري الّذي اشتقّ منه « علم » و « يعلم » و «عالم»، وهو الاضافة الاشراقية ؛
وثانيها : ما ينكشف به الشيء ، وهو المعبّر عنه عندهم « بالعلم الحقيقي » ؛
وثالثها : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات.
وإذا علمت ذلك فنقول : على ما اخترناه لا ريب في أنّ العلم بالمعنى الثالث لا يجوز تحقّقه في الواجب ، لانّه بمعنى الملكة الّتي يقتدر بها على استحضار الأشياء. نعم! ، لمّا كان العلم بهذا المعنى هو العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ كما مرّ ـ فيكون ثابتا له ـ تعالى ـ عند القائل به.
وأمّا الأوّلان فموجودان فيه ـ تعالى ـ ، وكلاهما عين ذاته ـ سبحانه ـ ؛ وأمّا الثاني فلأنّ ذاته بذاته هو الّذي ينكشف به الأشياء من غير توقّف على شيء آخر من الصور أو نفس وجودات الأشياء ـ كما قرّرناه ـ. فالعلم بهذا المعنى هو عين ذاته المقدّسة من دون تغاير أصلا ، فيتّحد العلم والعالم والمعلوم ؛
وأمّا الأوّل ـ وهو الاضافة الاشراقية ـ فتحققها له ـ تعالى ـ ظاهر ، لما ذكرنا مرارا من وجوب وجود الانكشاف له ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته. وأمّا كونها عين ذاته فلأنّ مرادنا من عينية الصفات الانتزاعية الاضافية أن يكون منشأها ومبدأ انتزاعها مجرّد الذات ، ولا ريب في أنّ مبدأ انكشاف الأشياء ومنشأها ليس إلاّ ذاته بذاته من دون مدخلية شيء آخر من صورة أو عين خارجية ، فيتّحد العلم والعالم بهذا المعنى أيضا على النحو المذكور.
وبما ذكر يندفع سؤال مشهور ممّا يورد في هذا المقام ، وهو : انّ صيغة العالم مشتقّ من العلم، فوجب أن يكون العلم قائما بالعالم ، فلا يصحّ أن يكون عين العالم.
ووجه اندفاعه : انّ صيغة العالم انّما يشتقّ من العلم الانتزاعي المصدري وعينيته للذات انّما بمعنى كون الذات وحدها منشأ لانتزاعه ومبدأ له ، وقيام المعنى الانتزاعي بالشيء معناه أن ينتزع منه ، ومعلوم انّ القيام والعينية بهذا المعنى غير متنافيان، فيمكن اجتماعهما. وأمّا العلم الحقيقي الّذي هو عين العالم بالذات فلا يشتقّ منه شيء ، وإن جعل صفة العالم مأخوذة منه كان اشتقاقه جعليا ، وهو ما لا يقوم مبدأ الاشتقاق بذات المشتقّ بل يكون المشتقّ بمعنى ما ينسب إليه المبدأ ـ سواء كان عين المبدأ القائم بنفسه ، أو ارتبط المبدأ به (2) ـ ؛ فالعالم بمعنى ما ينسب إليه العلم الحقيقي ـ سواء كان عين العلم القائم بنفسه أو ارتبط به ـ. نظير ذلك ما قيل في صفة الموجود المأخوذ من الوجود الحقيقي.
والحاصل : انّ المشتقّ الجعلي هاهنا ـ أعني : العالم المأخوذ من العلم الحقيقي ـ امّا أن يكون عين العلم ـ كما في اطلاق العالم بهذا المعنى على الشيء باعتبار علمه بذاته ـ ، كإطلاق العالم على الواجب ـ سبحانه ـ باعتبار علمه بذاته ، فانّ العلم الحقيقي والعالم حينئذ متحدان بالذات ولا يكون عين العلم ، بل يكون العلم مرتبطا به ، كما في اطلاق العالم على الشيء باعتبار قيام العلم ـ لا بالمعنى المصدري ـ بذاته أو بشيء من قواها ، كإطلاق العالم على النفس باعتبار قيام الصورة العلمية بذاتها ، أو باعتبار ارتسامها في شيء من قواها. ومن هذا القبيل اطلاق العالم على الواجب ـ سبحانه ـ باعتبار علمه ـ تعالى ـ بالأشياء الموجودة الحاضرة عنده ـ تعالى ـ عند من يجعل مصحّح الانكشاف ومنشأه نفس وجودات الأشياء ، فانّ العلم الحقيقي عنده حينئذ هو اشياء العينية وهي ليست عين العالم بل مرتبط به وكذا الحالّ في علمه ـ سبحانه ـ بالغير باعتبار قيام الصور في موجود آخر.
ثمّ جعل العالم باعتبار قيام الصور بذاته جعليا مع أنّ المبدأ حينئذ قائم بالمشتقّ مبني على أنّ (3) المشتقّ الجعلي هو أن لا يقوم بذاته مبدأ الاشتقاق المصدري ـ سواء لم يقم به مبدأ الاشتقاق أصلا أو قام به مبدأ اشتقاق لم يكن مصدريا ـ ، فاطلاق العالم على الشيء باعتبار قيام الصورة العلمية به أو باعتبار كونه صاحب الملكة الراسخة الّتي يقتدر بها على استحضار العلوم المفصّلة اشتقاقه جعلي أيضا. وكون اشتقاقه واقعيا حقيقيا غير جعلي انّما ينحصر بصورة كون العلم ـ بالمعنى المصدري الانتزاعي ـ قائما به.
ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو على ما اخترناه ، وامّا على ما ظهر من كلام الشيخ الاشراق وذهب إليه العلاّمة الطوسي من كون الحصول بالفعل للأشياء شرطا لانكشافها عنده ، وكون المناط في معقولية الأشياء هو نفس وجوداتها ، فلا يكون ذات الواجب هو العلم بالمعنى الثاني ـ أعني : العلم الحقيقي ـ ، بل العلم الحقيقي حينئذ هو ذات الأشياء العينية ؛ ولذا قيل : انّ العلم الحقيقي مفسّر عندهم بالحاضر بالذات عند المدرك أو غير الغائب عنه ، أو غير مخفيّ عنه. وعلى القول بالعلم الحصولي لمّا كان مناط الانكشاف وما ينكشف به الشيء هو الصورة فيكون العلم الحقيقي هو الصورة الحاصلة الّتي هي معلومة بالذات ، فعلى القول بالعلم الحضوري ـ على نحو ما ذكروه ـ يكون العلم الحقيقي الّذي هو الحاضر بالذات هو الموجود العيني الّذي هو المعلوم بالذات ؛ وعلى القول بالحصولي يكون العلم الحقيقي الذي هو الحاضر بالذات هو الصورة الحاصلة الّتي هي المعلومة بالذات ، والأمر العيني معلوم بالعرض ؛ ولذا قيل : العلم بهذا المعنى هو الصورة الحاصلة عند المدرك ، بل الشيء الحاضر عنده ، أو غير الغائب عنه.
وهو بهذا المعنى قد يكون جوهرا ـ ان كان المعلوم جوهرا ـ ؛ وقد يكون مندرجا في مقولة الكيف أو في أيّة مقولة كانت بحسب اندراج المعلوم فيها ـ على اختلاف القولين في تعاريف المقولات ـ ؛ وقد لا يكون مندرجا في مقولة أصلا ، كعلم المبدأ ـ تعالى ـ بذاته ، فانّه عين ذاته ، فلا يندرج في مقولة أصلا. وذلك لأنّ الجوهر ماهية إذا وجدت كانت لا في موضوع ، ولمّا كانت ذات واجب الوجود عين الوجود القائم بالذات لا ماهية يعرض لها الوجود لا يكون مندرجا تحت مقولة. وبالجملة على مذهب الشيخ الالهي والمحقّق الطوسي يتّحد العلم والمعلوم لا العلم والعالم ، فيكون علم الواجب بذاته ـ عين ذاته ـ لكون المعلوم نفس ذاته وعلمه بمعلولاته عين معلولاته. وقد صرّح بذلك المحقّق في شرح الاشارات حيث قال : « قد علمت انّ الأوّل ـ تعالى ـ عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلاّ في اعتبار المعتبرين ـ على ما مرّ ـ ، وحكمت بأنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل. فاذا حكمت بكون العلّتين ـ أعني : ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا ـ أعني : المعلول الأوّل وعقل الأوّل تعالى له ـ شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير. وكما حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك ، فانّ وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل ـ تعالى ـ إيّاه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة ـ جلّ ذات الأوّل تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ.
ثمّ لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها لحصول صور فيها ولا موجود إلاّ وهو معلول للأوّل الواجب وكان جميع صور الموجودات الكلّية والجزئية ـ على ما عليه الوجود ـ حاصلة فيها كان الأوّل الواجب تعقل تلك الجواهر مع تلك الصور ، لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه. فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة. فهذا أصل إن حقّقته وبسطته انكشف لك كيفية احاطته ـ تعالى ـ بجميع الأشياء الكلّية والجزئية ـ إنشاء الله تعالى ـ ؛ و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] (4) ؛ انتهى.
وهذه العبارة وان نقلناها سابقا إلاّ أنّا نقلناها هاهنا أيضا لتوقّف بيان ما نحن بصدده عليه.
فنقول : يرد على ما ذكره ـ ; ـ : انّ هذا ـ كما مرّ ـ يقتضي عدم تحقّق الانكشاف له ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته مع كونه من الصفات الكمالية ، بل يلزم على هذا أن لا يكون علم عين ذات الواجب أصلا ، لأنّ العلم بالمعنى الثاني ليس إلاّ عين المعلولات ـ على ما ذكره ـ ، ومعلوم انّ ذات الواجب ليس عين معلولاته. وأمّا العلم بالمعنى الأوّل وهو الاضافة فليس عنّا لشيء من المدرك والمدرك. نعم! ، على ما ذكرناه من أنّ المراد من عينية الصفات الاضافية الانتزاعية لشيء هو كون ذات هذا الشيء بذاته من دون مدخلية شيء آخر مبدأ ومصحّحا لها ومنشأ لانتزاعها يكون العلم بالمعنى الاضافي المصدري ـ على ما ذكروه ـ عين المعلوم ، لا عين العالم ، لعدم كون ذاته ـ تعالى ـ منشأ للانكشاف حينئذ ؛ بل المبدأ والمصحّح عندهم هونفس وجودات الأشياء. نعم! ، إن قالوا بالعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني يكون ذاته ـ تعالى ـ عين العلم بالمعنى الثالث ـ أعني : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات ـ ، وقد عرفت انّ كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم يدلّ على ذلك ، إلاّ أنّك قد عرفت ما يرد على هذا القول.
وبما ذكرناه ظهر انّ قوله ـ ; ـ : « فإذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه » ليس على ما ينبغي ، لانّ مناط تعقّل الأشياء إذا كان ذاته بذاته فلا يكون وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل ـ تعالى ـ إيّاه ، بل يكون ذاته بذاته هو نفس تعقّله للمعلول الأوّل إذا حمل التعقّل على المعنى الأوّل الاضافي وحمل التعقّل على المعقول حتّى يكون المراد أنّ وجود المعلول الأوّل هو نفس المعلول له ـ تعالى ـ من دون أن تحلّ صورة منه فيه توجيه بما لا يرضى الخصم ، لأنّ مذهبه ـ ; ـ انّ ما ينكشف به الأشياء هو نفس تلك الأشياء ويلزمه كون وجود المعلول نفس تعقل الواجب ايّاه. وممّا يرد عليه ـ ; ـ ؛ انّ قوله : « فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة » وقوله : « انكشف لك كيفية احاطته بالأشياء الكلّية والجزئية » يدلّ على أنّ الواجب ـ سبحانه ـ عالم بالجزئيات لارتسام صورها في الجواهر العقلية ـ لتصريحه بأنّ علمه بالأشياء الّتي غير الجواهر العقلية انّما هو بارتسام صورها في تلك الجواهر ـ ، فيلزم كون صور الجزئيات ـ سواء كانت مجرّدة أو مادّية ، متشكّلة أو غير متشكّلة ـ مرتسمة في تلك الجواهر ، وهو خلاف ما تقرّر عند الحكماء من امتناع حصول صورة المتشكّل إلاّ في آلة جزئية متجزّئة جسمانية ؛ فلا بدّ له إمّا القول بالاكتفاء بالعلم الاجمالي ؛ أو مخالفته للمشهور والتزام حصول صور المتشكّلات في الجواهر العقلية ، وإرادة ما يتناول النفوس أيضا من الجواهر العقلية.
ثمّ لمّا كان مذهب شيخ الاشراق ـ على ما عرفت ـ هو أنّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء بأسرها إنّما هو بحضور ذواتها ، ومذهب المحقّق إنّ العلم بالصادر الأوّل انّما هو بحضور ذاته وبما عداه من المعلولات البعيدة إنّما هو بارتسام صورها فيه ، فيرد على الأوّل ـ كما عرفته مرارا ـ عدم تحقّق علمه بشيء في مرتبة ذاته ؛ وعلى الثاني يرد ذلك مع لزوم افتقار الواجب في العلم بالمعلولات البعيدة الى الصادر الأوّل والى الصور المرتسمة فيه ؛ وأيضا لا يكون صدور الصادر الأوّل عنه بالاختيار لعدم كونه مسبوقا بالعلم حينئذ ومسبوقيته بالعلم الاجمالى بمعنى تمكّنه من العلم به بعد ايجاده لا يفيد ، لأنّ التمكّن غير الانكشاف بالفعل الّذي يجب تحقّقه في الصدور بالاختيار.
ثمّ الظاهر من كلام المحقّق في شرح رسالة العلم التزام عدم كون العلم سببا للمعلوم وعدم توقّف الصدور بالقدرة والاختيار على مسبوقيته بالعلم ، حيث قال في مسئلة أن العلم هل يصلح ان يكون مؤثّرا كالقدرة أم لا : « الايجاد هو اصدار وجود الشيء عن علّته ، والعلم ـ كما سبق بيانه ـ هو حضور الشيء عنده ، وإذا كان الشيء قد صدر وجوده عن الشيء فقد حضر عنده ، فيكون باعتبار صدوره مقدورا له وباعتبار الحضور عنده معلوما له ، والجهة الّتي باعتبارها صدر يسمّى بالقدرة والّتي باعتبارها حضر يسمّى بالعلم. والاعتباران عقليان مضافان إلى شيء واحد من جهتين ». ثمّ قال : « وفرق بين القدرة وبين الايجاد والتأثير ، فانّ القدرة لا يقال إلاّ عند كون المؤثّر بحيث يصحّ منه التأثير ، والايجاد والتأثير يعمّ ذلك ويشمل كون الموجد والمؤثّر بحيث يجب عنه الايجاد والتأثير. فاذا لوحظ الايجاد من غير اعتبار العلم والإرادة فالأولى أن يوصف بالقدرة، فانّ الايجاد عندنا يصحّ وعند اعتبار العلم والإرادة يجب » (5) ؛ انتهى.
وهذا الكلام ـ كما ترى ـ يدلّ على أنّ العلم لا يجب أن يكون سابقا على الايجاد ؛ وقد عرفت فساد ذلك.
وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره العلاّمة الخفري في توجيه كلام المحقّق حيث قال ما توضيحه : انّه من السؤالات المشهورة انّ التحقيق الّذي هو مختار المحقّق الطوسي يقتضي أن يكون الصادر الأوّل غير مسبوق بالعلم ، فيلزم أن لا يكون صدوره عنه بالاختيار ـ لأنّ الصدور الاختياري متوقّف على تقدّم القصد المستلزم للعلم ـ ؛ فيحتاج في دفع هذا الفساد أن يقال: هو ـ أي : الصادر الأوّل ـ من حيث هو علم متقدّم عليه وسبب له من حيث هو معلول في الخارج وفيه تكلّف ، بل هو محال! ، لاستلزامه كون الشيء علّة لنفسه. والتغاير الاعتباري لا يكفى في ذلك. مع أنّ هذا القول لدفع هذا الفساد أولى ممّا يقال في دفعه من : أنّ وجود الصادر الأوّل في الخارج وإن كان عين العلم بالذات لكنّه يغايره بالاعتبار ، فهو من حيث انّه علم متقدّم عليه وسبب له من حيث كونه وجودا في الخارج. ووجه الأولوية انّ حيثية المعلولية مغايرة لحيثية المعلومية مغايرة ظاهرة ، فالقول بتقدّم إحدى الحيثيتين على الأخرى ـ كما هو مبنى القول الأوّل ـ يكون له وجه. وأمّا حيثية الوجود في الخارج فعلى تحقيق المحقّق عين حيثية المعلومية ، وليس بينهما مغايرة أصلا. فالقول بتقدّم إحداهما على الأخرى ـ كما هو مبنى القول الثاني ـ لا يكون له وجه ». ثمّ قال : « واندفاعه بأن يقال : الصادر الأوّل إنّما كان مسبوقا بالعلم الاجمالي المذكور الّذي هو علم بجميع المعلولات » ؛ انتهى.
وعلى هذا التوجيه فيكون المراد من العلم الّذي صرّح المحقّق في شرح الاشارات بانّه عين الصادر الأوّل والتغاير بينهما اعتباري كالتغاير بين ذات العلّة والعلم بنفسها هو العلم التفصيلى الّذي هو مع الايجاد دون العلم المتقدّم على الايجاد ، إذ العلم المتقدّم هو الاجمالي. وأنت قد عرفت فساد القول بالعلم الإجمالي ، سيّما الاجمالي على الاحتمال الثاني الّذي قال به الخفري ونسبه الى المحقّق أيضا.
ثمّ قال : « والتحقيق أن يقال : إنّ العلم الّذي هو عين ذاته علم تفصيلي بالنسبة إلى الصادر الأوّل واجمالي بالنسبة إلى الجميع؛ أمّا الأوّل فلأنّ نسبة العالم بذاته المقتضى لخصوصية الشيء إلى الشيء الّذي يتميّز به كنسبة الصور الإدراكية المخصوصة للشيء الّذي يتميّز بها إليه ؛ وأمّا الثاني فلما مرّ. قال الشيخ في الشفا : واعلم! ، انّ المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود وقد تكون الصورة المعقولة غير مأخوذة عن الموجود ، بل بالعكس ؛ كما انّا نعقل صورة بنائية بجزء منها ثمّ تكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن يوجد ، فلا يكون وجدت فعقلناها ولكن عقلناها فوجدت ، ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود ـ كنسبة البنّاء إلى الصور البنائية ـ سواء ؛ هذا. فاعلم ذلك فانّ الغائب في ظنّ الشاهد الحاضر » ؛ انتهى.
وأنت خبير بأنّ ما ذكره هنا من أنّ نسبة العالم بذاته المقتضي لخصوصية الشيء إلى الشيء الّذي يتميّز به كنسبة الصور الإدراكية إلى ذوات الصور العينية الّتي يتميّز بها رجوع إلى الحقّ الصراح الّذي نحن قرّرناه واخترناه ؛ الاّ أنّ ذلك ـ كما علمت ـ لا تخصيص له بالصادر الأوّل، فانّ الواجب ـ تعالى ـ عالم بذاته ومفيض لخصوصيات جميع الأشياء ، فنسبته إلى الأشياء بأسرها كنسبة الصور الادراكية للأشياء الّتي يتميّز بها إلى تلك الأشياء ، بل نسبة الواجب إلى الأشياء أشدّ في باب التميّز والانكشاف من نسبة الصور إلى ذوات الصور لما عرفت من أنّ حضور العلّة أقوى في انكشاف المعلول من حضور نفس المعلول فيه ، فضلا عن صورته. فعلم الواجب بذاته مستلزم للعلم بجميع معلولاته مفصّلة ، ولا تفاوت بالنسبة إلى معلوم دون معلوم. نعم! ، التفاوت انّما هو في المعلومات بأن يكون بعض منها سببا لبعض آخر ، وليس بالتفاوت فيما بينها بحسب الانكشاف. فما ذكره من أنّ علمه بذاته الّذي هو عين ذاته علم تفصيلي بالنسبة إلى الصادر الأوّل صحيح ، وأمّا ما ذكره من أنّه علم اجمالي بالنسبة إلى الجميع غير صحيح ـ لما عرفت من فساده ـ. وأيّ فرق في ذلك بين الصادر الأوّل وبين غيره مع اشتراك المصحّح؟!.
فان قيل : المصحّح هو الاقتضاء التامّ والعلّية المستقلّة وما هو إلاّ الاقتضاء بلا واسطة ، فلمّا كان الواجب علّة للصادر الأوّل بلا واسطة فكان العلم بذاته علما تفصيليا بالنسبة إليه بخلاف سائر المعلولات ، فانها لتوقّفها على غيره ـ سبحانه ـ لا يكون الواجب مقتضيا لها بلا واسطة ، فلا يتحقّق الاقتضاء التامّ الّذي هو مناط الانكشاف بالنسبة إليها ؛ قلنا : لا ريب في أنّ الواجب ـ تعالى ـ علّة مستقلّة ومفيض تامّ لجميع الأشياء ، وتخلّل الوسائط في بعضها لنقصان ذاته وجوهره لا ينافي تمامية الاقتضاء. مع أنّ مجرّد الاقتضاء مصحّح للانكشاف كما انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ولو توقّف المعلول على غير علّته من الشروط والآلات.
ثمّ من الأفاضل من قال في هذا المقام : « انّ كون ذاته ـ تعالى ـ علما تفصيليا بالصادر الأوّل ليس بمعقول أصلا ، لانّ المراد بالعلم التفصيلي هو العلم الحقيقي المفسّر بالحاضر بالذات ، أمّا ذات الشيء الخارجي إن كان العلم حضوريا أو صورة مطابقة له إن كان حصوليا وذاته ـ تعالى ـ لا يمكن أن يكون عين ذات الصادر الأوّل وصورة مطابقة له فكيف يكون علما تفصيليا به؟. نعم! ؛ ذاته ـ تعالى ـ علم بالصادر الأوّل وبجميع الموجودات بالمعنى الثالث من المعاني المذكورة ـ وهو ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات ـ ، لكنّه هو معنى العلم الاجمالي ولا اختصاص له بالصادر الأوّل. وقياس ذاته ـ تعالى ـ المقتضية لخصوصية الصادر الأوّل إلى الصورة العلمية المتميّزة للشيء المعلوم بها باطل ، لانّ ذاته ـ تعالى ـ مقتضية للتميّز بمعنى أنه موجد للتميّز ومفيد له ، لا بمعنى انّه ما به التميّز. وفرق بين مفيد الخصوصية وما به الخصوصية. والصورة العلمية متميّزة للشيء بمعنى ما به التميز لا بمعنى مفيد التميّز ، فانّ مفيد التميّز والتشخّص ليس إلاّ موجده وخالقه. ولو كان لما ذكره في المعلول الأوّل وجه صحيح لأمكن اجراء مثله في جميع الموجودات بأن يقال : ذاته ـ تعالى ـ مع العقل الأوّل علم تفصيلي بالعقل الثاني ـ لما ذكره بعينه ـ ، وهو ـ سبحانه ـ معهما علم تفصيلي بالعقل الثالث ، وهكذا إلى جميع الموجودات. وتوهّم جماعة من الطلبة ممّا ذكره الخفري في المعلول الأوّل بعينه انّ ذاته ـ تعالى ـ علم تفصيلي بجميع الموجودات لكونه ـ تعالى ـ بذاته مقتضيا لكلّ موجود من الموجودات الكلّية والجزئية ، ولخصوصيته وتميّزه ، وكان نسبة ذاته ـ تعالى ـ إلى كلّ موجود نسبة الصورة العقلية للشيء إليه ؛ وزعموا انّ هذا معنى كون العلم ـ الّذي هو من جملة صفاته تعالى ـ عين ذاته. وأنت بما ذكرنا في المعلول الأوّل خبير بأنّ أيّ شناعة في هذا » ؛ انتهى.
وأنت خبير بضعف ما ذكره هذا الفاضل ؛ امّا أوّلا : فلأنّ من يقول إنّ ذات الواجب ـ تعالى ـ علم تفصيلي حقيقي بالأشياء يفسّر العلم الحقيقي بالحاضر بالذات ، ولكن الحاضر بالذات عنده أعمّ من ذات الشيء الخارجي ومن علّته المقتضية ـ لأنّ حقيقة العلم الحقيقي هو ما ينكشف به الشيء ـ ، وإذا كان ذاته ـ سبحانه ـ لكونه مقتضيا للأشياء ممّا يكشف به الأشياء فيكون علما حقيقيا بالنسبة إلى الأشياء ، وإذا كان ذاته بذاته علما حقيقيا بالأشياء يكون مستلزما للعلم بمعنى الاضافة الاشراقية بالنسبة إليها أيضا.
وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من انّ الواجب مفيد التميّز والصورة ما به التميّز ففيه : إنّ هذا ممنوع، إلاّ انّ العلم بمفيد التميّز يستلزم العلم بالتميز لأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ؛ وهو ظاهر. وبذلك يظهر انّ ما ذكره الخفري ـ ; ـ في المعلول الأوّل يجري في جميع الموجودات ولا تخصيص له في المعلول الأوّل ـ كما ذكره هذا الفاضل ـ أيضا. واجرائه في الجميع لا مفسدة فيه ، بل هو الصحيح المطابق للقواعد العقلية والملية ؛ فما توهّمه بعض الطلبة حقّ ولا شناعة فيه!.
ثمّ نقل العلاّمة الخفري كلام الشيخ متّصلا بما ذكره في توجيه كلام المحقّق إنّما هو لاستشهاد انّه لا بدّ من العلم المتقدّم البتّة ، وإنّ القوم قالوا به ؛ فلا بدّ حينئذ من القول به على وجه يكون صحيحا. ولا يصحّ بوجه إلاّ بأن يكون تفصيليا بالنسبة إلى الصادر الأوّل وإجماليا بالنسبة إلى غيره. ويمكن أن يكون النقل لمجرّد استشهاد انّ العلم الاجمالي ممّا قال به الشيخ أيضا ، لأنّه صريح بأنّ نسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود كنسبة البناء إلى الصور البنائية ، ولا ريب في أنّ الصورة البنائية صورة واحدة بسيطة. فيكون علما إجماليا بالبناء الخارجي. فكما انّ البناء في وجوده الخارجي صادر عن تلك الصورة الواحدة المرتسمة في البناء كذلك يصدر من الواجب كلّ شيء فالواجب ـ تعالى ـ مبدأ تفصيلات الممكنات ، فهو بذاته مع وحدته مبدأ لتلك التفصيلات ، فعلمه بذاته علم اجمالي بالنسبة إليها بأسرها كالعلم البسيط بالنسبة إلى العلوم المفصّلة مع كونه في غاية التجرّد ونهاية البراءة من القوّة.
وقيل إنّ غرض العلاّمة من نقل كلام الشيخ الاستشهاد على كلا الأمرين ـ أعني : كون علمه تعالى بالصادر الأوّل تفصيليا وبما عداه إجماليا ـ ؛ أمّا الأوّل : فلأنّ المعنى المعقول إذا لم يؤخذ من الموجود الخارجي وكان من مخترعات النفس العاقلة إيّاه لم يكن اختصاصه وتميّزه بمطابقته للموجود الخارجي ، بل بمحض اقتضاء النفس العاقلة ايّاه ، وكان بما اقتضته النفس بخصوصه علما تفصيليا به سابقا عليه ؛ فكذا الحال في المعلول الأوّل بالنسبة إلى الواجب ؛
وامّا الثاني : فلأنّ نسبة الكلّ إليه إذا كانت كنسبة البناء إلى الصورة البنائية فكما أنّ الصورة البنائية علم تفصيلي بالبناء وعلم اجمالي بجميع جزئيات ما في البناء كذلك ذاته ـ تعالى ـ علم تفصيلي بالمعلول الأوّل وعلم اجمالي بجميع ما ارتسم صورته فيه من حقائق الموجودات ؛ انتهى.
والحقّ ـ كما افاده بعض المحقّقين ـ : إنّ مراد الشيخ ليس شيئا ممّا ذكر ، بل مراده إنّ عقله ـ تعالى ـ للأشياء بالعلم الحضوري التفصيلي بسبب وجود الأشياء ، يعنى إنّ علمه فعلي بمعنى انّه يعقل أوّلا نظام الخير في الأشياء فيوجدها على طبقه في الخارج. ويدلّ على ذلك ما قاله متّصلا بالقول المذكور تعليلا له : « فانّه يعقل ذاته وما توجبه ذاته ـ تعالى ـ ويعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكلّ ، فتتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول » (6).
ولو أراد أحد الاستشهاد من كلام الشيخ للعلم الاجمالي فينبغى أن يستشهد بما ذكره قبل قوله المذكور بقوله : « فهو كذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثّر بها في جوهره أو تتصوّر في حقيقة ذاته بصورها ، بل تفيض عنه صورها معقولة. وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليته ، لأنّه يعقل ذاته وانّه مبدأ كلّ شيء ، فيعقل من ذاته كلّ شيء» (7) ؛ انتهى. فلأنّ قوله : « فهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة » صريح في كون ذاته علما إجماليا بالكلّ.
ثمّ قوله : « فإنّ الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر » معناه : انّه يعلم من الصور البنائية بالنسبة إلى البناء ما هو المطلوب من علم واجب الوجود بالنسبة إلى الكلّ الّذي هو الغائب.
ثمّ المطلوب إمّا مجرّد التقدّم ، أو الإجمال بالنسبة إلى الكلّ ، أو التفصيل بالنسبة إلى البعض والإجمال بالنسبة إلى بعض آخر، أو الفعلية ـ كما احتمله بعض الأفاضل حيث قال : معناه إنّ هذا ليس من باب قياس الغائب على الشاهد ، بل الغائب في طي الشاهد ومن جملته ، لأنّه كما انّ الصورة البنائية الّتي في ذهن البنّاء سبب لوجود البناء وعلم فعلي له كذلك علم الغائب وهو الواجب جل شانه بمعلولاته علم فعليّ وسبب بالقياس إلى المعلولات ، وليس انفعاليا. غاية ما في الباب يكون علم الحاضر وهو البنا علما حصوليا وعلم الغائب وهو الواجب جلّ شانه ليس حصوليا ، لكن علم الغائب والحاضر لا تفاوت بينهما في كونهما فعليين ـ.
ثمّ قال العلاّمة الخفري متّصلا بما نقلنا عنه : وبذلك التحقيق ـ أعني : كون العلم الّذي عين ذاته تعالى تفصيليا بالنسبة إلى الصادر الأوّل ـ يندفع سؤالات مشهورة :
أحدها : إنّ العلم الاجمالي الّذي نسبته إلى جميع المعلولات على السواء لا يصحّ أن يكون منشأ لصدور خصوص الصادر الأوّل.
ووجه الاندفاع : إنّ العلم الّذي يقتضي الصدور إنّما هو العلم التفصيلي وهو إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الصادر الأوّل فقط.
وأنت خبير بما في هذا الجواب!.
والصحيح في دفع هذا السؤال أن يقال : انّ العلم الاجمالي عند القائلين بتقدّمه ليس منشأ للصدور وعلّته ، وكذا العلم التفصيلي عند من قال بتقدّمه ؛ بل المنشأ لصحّة الصدور ليس إلاّ القدرة. وما يقال : « إنّ العلم الفعلي سبب للإيجاد » مبني على لابدّيته في القدرة الّتي هي علّة الايجاد.
ثمّ اقتضاء القدرة لخصوصية المعلول الأوّل إنّما هو بمناسبة ذاته ـ تعالى ـ له بخصوصه ، ثمّ مناسبة ذاته مع المعلول الأوّل للمعلول الثاني وهكذا على الترتيب.
على انّا لو سلّمنا إنّ العلم المقدّم سواء كان حصوليا أو حضوريا أو إجماليا أو تفصيليا علّة للصدور فوجه خصوصية الاقتضاء هو ما ذكر ، ولا مدخلية بما ذكره العلاّمة الخفري ؛ فانّه لا ريب في انّ اعتبار العلم الاجمالي ليس لتصحيح الصدور ، بل لبيان إنّ كماله إنّما هو بذاته لا بأمر زائد.
ثمّ قال : وثانيهما انّه كيف يصحّ أن يكون أمر واحد علما بالأمور الغير المتناهية!؟.
واندفاعه بأن يقال : إنّ ذلك حاضر في العلم الاجمالي ، وقد عرفت إنّ ذلك جائز في العلم التفصيلى أيضا بمعنى إنّ ذاته ـ تعالى ـ ما ينكشف به الأشياء انكشافا تفصيليا ، فهو عين العلم الحقيقي وملزوم للعلم الاضافي بالأشياء على التفصيل على وجه لا يلزم تكثّر في بساطته الحقّة ووحدته الصرفة ـ على ما علمت مفصّلا ـ.
ثمّ قال : وثالثها إنّ القوم قد صرّحوا بأنّ العلم الفعلي هو ايجاد المنكشف بذاته ، وكلام المحقّق الطوسي يدلّ على أنّ الموجود المنكشف بذاته هو العلم ـ لما صرّح بأنّ العلم لا يجب أن يكون سابقا على الايجاد ـ ، فيكون الموجودات الخارجية عين العلم ويكون انكشافها معها. ويتحد العلم والمعلوم حينئذ ، فلا تكون الموجودات منكشفة قبل الوجود ، فلا يكون ايجادها ايجاد المنكشف بذاته ، فلا يكون العلم ايجاد المنكشف بذاته عنده ، بل الموجود المنكشف بذاته.
ووجه اندفاعه ظاهر ؛ وهو : انّ مراد المحقّق انّ العلم التفصيلي هو الوجود المنكشف والعلم الفعلي ـ الّذي صرّح القوم بتقدّمه وعبّروا عنه بإيجاد المنكشف بذاته ـ هو العلم الاجمالي ؛ فلا منافاة.
وقيل : وجه الاندفاع انّ ما صرّح به القوم في معنى العلم هو معنى العلم المصدري ، ومراد المحقّق هو العلم الحقيقي ؛ فلا منافاة.
وقيل : وجه الاندفاع انّ مراد القوم من ايجاد الموجودات في تعريف العلم هو الموجودات الموجدة ، كما وقع في عباراتهم من أنّ المراد من حصول القدرة في تعريف العلم هو الصورة الحاصلة.
_________________
(1) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 221.
(2) الاصل : المبدئية.
(3) الاصل : السبب.
(4) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ج 3 ص 306.
(5) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 41.
(6) راجع : الشفا / الإلهيات ، ص 363.
(7) راجع : نفس التعليقة السالفة.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|