أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-5-2016
3390
التاريخ: 4-5-2017
3217
التاريخ: 2-5-2016
3093
التاريخ: 22-10-2015
3483
|
قبل إعلان الحرب بعث الإمام الممتحن جمهرة من الرسائل إلى معاوية يدعوه فيها إلى بيعته والدخول فيما دخل فيه المسلمون في طاعته وأن لا يفرّق كلمة المسلمين ويشتّت شملهم فأجابه معاوية مراوغا ومنافقا ومطالبا بدم عثمان والاقتصاص من قتلته ونعرض لبعض تلك الرسائل :
روى ابن أبي الحديد أنّ الإمام (عليه السلام) لمّا بويع كتب إلى معاوية : أمّا بعد ؛ فإنّ النّاس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّي وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع فإذا أتاك كتابي فبايع لي وأوفد إليّ أشراف أهل الشّام قبلك .
حكت هذه الرسالة براءة الإمام من دم عثمان وأضافته إلى الناس وأنّهم اجتمعوا على مبايعته والواجب أن يدخل فيما أجمع عليه المسلمون من مبايعتهم للإمام.
ولمّا انتهت رسالة الإمام إلى معاوية وقرأها دعا بطومار وكتب فيه : من معاوية إلى عليّ أمّا بعد , فإنّه
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرّقاب
ومعنى هذا الجواب أنّ معاوية مصمّم على حرب الإمام ومناهضته لحكمه ولم يعرض في هذه الرسالة إلى اتّهام الإمام بقتل عثمان.
روى ابن قتيبة أنّ الإمام (عليه السلام) لمّا فرغ من وقعة الجمل واستقام له الأمر كتب إلى معاوية هذه الرسالة : أمّا بعد فإنّ القضاء السّابق والقدر النّافذ ينزل من السّماء كقطر المطر فتمضي أحكامه عزّ وجلّ وتنفذ مشيئته بغير تحابّ المخلوقين ولا رضا الآدميّين وقد بلغك ما كان من قتل عثمان وبيعة النّاس عامّة إيّاي ومصارع النّاكثين لي فادخل فيما دخل النّاس فيه وإلاّ فأنا الّذي عرفت وحولي من تعلمه والسّلام .
حكت هذه الرسالة :
1 - أنّ مجريات الأحداث كلّها بيد الخالق العظيم وليس للمخلوقين فيها أي شأن.
2 - مبايعة عموم المسلمين للإمام بعد مقتل عثمان ومناهضة الناكثين له وهم الزبير وطلحة وعائشة وقضاءه عليهم.
3 - دعوة الإمام لمعاوية بالبيعة له والدخول في طاعته وإذا لم يستجب له فقد هدّده بالحرب والقتال.
وأجاب معاوية عن هذه الرسالة برسالة كتب فيها البسملة ولم يسجّل فيها أي شيء ولمّا قرأها الإمام عرف أنّ معاوية مصمّم على حربه.
وأرسل الإمام (عليه السلام) إلى معاوية بيد جرير بن عبد الله البجلي رسالة جاء فيها بعد السلام : أمّا بعد , فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشّام ؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه فلم يكن للشّاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك لله رضا وإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى ويصليه جهنّم وساءت مصيرا , وإنّ طلحة والزّبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي فكان نقضهما كردّتهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية إلاّ أن تتعرّض للبلاء فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه النّاس ثمّ حاكم القوم إليّ يعني الذين قتلوا عثمان أحملك وإيّاهم على كتاب الله فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصّبيّ عن اللّبن ؛ ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجليّ وهو من أهل الإيمان والهجرة فبايع ولا قوّة إلاّ بالله .
وفي هذه الرسالة دعوة الإمام (عليه السلام) إلى معاوية بمبايعته ولزوم طاعته ولا سبيل لنقضها فقد بايعه المهاجرون والأنصار الذين بايعوا قبله من الخلفاء , وعرض الإمام إلى نقض طلحة والزبير لبيعته وأنّ ذلك كردّتهما عن طريق الحقّ فجاهدهما الإمام حتى ظهر أمر الله وهم له كارهون ؛ وأعرب الإمام في رسالته إلى معاوية أنّه إن لم يستجب لبيعته فسوف يقاتله حتّى يفيء لأمر الله تعالى وأنّه لا يستحقّ الخلافة لأنّه من الطلقاء الذين لا نصيب لهم بالحكم كما لا نصيب لهم لأن يكونوا من أعضاء الشورى , وعلى أي حال فإنّ معاوية أخذ يماهل جريرا حتّى سئم منه وقال له : يا معاوية إنّ المنافق لا يصلّي حتّى لا يجد من الصلاة بدّا ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بدّا فردّ عليه معاوية : إنّها ليست بـ خدعة الصبيّ عن اللبن ! إنّه أمر له ما بعده , وفي يوم رفع معاوية عقيرته ليسمع جريرا وهو ينشد هذه الأبيات :
تطاول ليلي واعترتني وساوسي لات أتى بالتّرّهات البسابس
أتاني جرير والحوادث جمّة بتلك الّتي فيها اجتداع المعاطس
اكايده والسّيف بيني وبينه ولست لأثواب الدّنيء بلابس
فإنّ الشّام أعطت طاعة بمنيّة تواصفها أشياخها في المجالس
وحكى هذا الشعر تصميمه على حرب الإمام لأنّ الشام انقادت له وأطاعته إطاعة عمياء وإنّه ليطمع في حكم العراق والاستيلاء عليه.
جواب معاوية :
وأجاب معاوية على رسالة الإمام (عليه السلام) بهذا الكتاب : من معاوية بن صخر إلى عليّ بن أبي طالب أمّا بعد , فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم أجمعين) ولكنّك أغريت بدم عثمان المهاجرين وخذّلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف وقد أبى أهل الشام إلاّ قتالك حتّى تدفع إليهم قتلة عثمان فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين وإنّما كان الحجازيون هم الحكّام على الناس والحقّ فيهم فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام , ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير لأنّهما بايعاك ولم ابايعك وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة لأنّ أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام فأمّا شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه واله) وموضعك من قريش فلست أدفعه ؛ ثمّ ختم رسالته بأبيات لكعب بن جعيل :
أرى الشام تكره ملك العراق وأهل العراق لهم كارهينا
وكلاّ لصاحبه مبغض يرى كلّ ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم ودنّاهم مثل ما يقرضونا
وليس في هذه الوثيقة إلاّ المغالطات السياسية والتمرّد على الحقّ والإصرار على الباطل وهي من سمات معاوية ومن عناصره وذاتياته.
ردّ الإمام على معاوية : ولمّا وردت تلك الرسالة على الإمام (عليه السلام) قرأها فرأى الباطل ماثلا في كلّ كلمة منها فأجابه بهذه الرسالة : من عليّ بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر , أمّا بعد , فقد أتانا كتابك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده دعاه الهوى فأجابه وقاده فاتّبعه زعمت أنّك إنّما أفسد عليك بيعتي خفوري لعثمان ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا وما كان الله ليجمعهم على ضلالة ولا ليضربهم بالعمى وما أمرت أي بقتل عثمان فلزمتني خطيئة الأمر ولا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل ؛ وأمّا قولك : إنّ أهل الشّام هم حكّام أهل الحجاز فهات رجلا من قريش الشّام يقبل في الشّورى أو تحلّ له الخلافة فإن سمّيت كذّبك المهاجرون والأنصار ونحن نأتيك به من قريش الحجاز ؛ وأمّا قولك : ادفع إليّ قتلة عثمان فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة الّتي لزمتك وحاكم القوم إليّ , وأمّا تمييزك بين أهل الشّام والبصرة وبينك وبين طلحة والزّبير فلعمري فما الأمر هناك إلاّ واحد لأنّها بيعة عامّة لا يتأتّى فيها النّظر ولا يستأنف فيها الخيار , وأمّا قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه واله) وقدمي في الإسلام فلو استطعت دفعه لدفعته .
وحفل هذا الكتاب بالردّ على أباطيل معاوية وزيف أضاليله التي ذكرها في رسالته وأنّها لا تحمل أي طابع من الصدق وأنّها جاءت تمثّل أمويّته وما تحمله من خبث وسوء.
ورفع معاوية رسالة للإمام (عليه السلام) جاء فيها بعد البسملة : سلام الله على من اتّبع الهدى أمّا بعد , فإنّا كنّا وإيّاكم يدا جامعة والفة أليفة حتى طمعت بابن أبي طالب فتغيّرت وأصبحت تعدّ نفسك قويا على من عاداك بطغام أهل الحجاز وأوباش أهل العراق وحمقى الفسطاط وغوغاء السّواد وأيم الله لينجلينّ عنك حمقاها ولينقشعنّ عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء , قتلت عثمان بن عفّان ورقيت سلّما أطلعك الله عليه مطلع سوء عليك لا لك وقتلت الزبير وطلحة وشرّدت امّك عائشة ونزلت بين المصرين فمنّيت وتمنّيت وخيّل لك أنّ الدنيا قد سخّرت لك بخيلها ورجلها وإنّما تعرف امنيّتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام بقيّة الإسلام فيحيطون بك من ورائك ثمّ يقضي الله علمه فيك والسلام على أولياء الله .
حكت هذه الرسالة الأكاذيب والدجل والنفاق بجميع ما له من معنى وليس عند ابن هند من أرصدة سوى ذلك , وردّ الإمام (عليه السلام) على رسالة معاوية بهذا الكتاب جاء فيه بعد البسملة : أمّا بعد , فقدّر الامور تقدير من ينظر لنفسه دون جنده ولا يشتغل بالهزل من قوله فلعمري! لئن كانت قوّتي بأهل العراق أوثق عندي من قوّتي بالله ومعرفتي به ليس عنده بالله تعالى يقين من كان على هذا فناج نفسك مناجاة من يستغني بالجدّ دون الهزل فإنّ في القول سعة ولن يعذر مثلك فيما طمح إليه الرّجال , وأمّا ما ذكرت من أنّا كنّا وإيّاكم يدا جامعة فكنّا كما ذكرت ففرق بيننا وبينكم أنّ الله بعث رسوله منّا فآمنّا به وكفرتم , ثمّ زعمت إنّي قتلت طلحة والزّبير فذلك أمر غبت عنه ولم تحضره ولو حضرته لعلمته فلا عليك ولا العذر فيه إليك , وزعمت أنّك زائري في المهاجرين وقد انقطعت الهجرة حين اسر أخوك فإن يك فيك عجل فاسترقه وإن أزرك فجدير أن يكون الله بعثني عليك للنّقمة منك والسّلام .
وفنّد الإمام (عليه السلام) مزاعم معاوية وأباطيله ورويت رسالة معاوية للإمام وجوابه عنها بصورة اخرى ذكرهما ابن أبي الحديد .
ووجّه الإمام (عليه السلام) رسالة لمعاوية يعظه فيها ويحذّره من عذاب الله تعالى وعقابه على تمرّده وهذا نصّها : من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان , أمّا بعد فإنّ الدّنيا دار تجارة وربحها أو خسرها الآخرة فالسّعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصّالحة ومن رأى الدّنيا بعينها وقدّرها بقدرها وإنّي لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك ممّا لا مردّ له دون نفاذه ولكنّ الله تعالى أخذ على العلماء أن يؤدّوا الأمانة وأن ينصحوا الغويّ والرّشيد فاتّق الله ولا تكن ممّن لا يرجو لله وقارا ؛ ومن حقّت عليه كلمة العذاب فإنّ الله بالمرصاد وإنّ دنياك ستدبر عنك وستعود حسرة عليك فاقلع عمّا أنت عليه من الغيّ والضّلال على كبر سنّك وفناء عمرك فإنّ حالك اليوم كحال الثّوب المهيل الّذي لا يصلح من جانب إلاّ فسد من آخر , وقد أرديت جيلا من النّاس كثيرا خدعتهم بغيّك وألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظّلمات وتتلاطم بهم الشّبهات فجاروا عن وجهتهم ونكصوا على أعقابهم وتولّوا على أدبارهم وعوّلوا على أحسابهم إلاّ من فاء من أهل البصائر فإنّهم فارقوك بعد معرفتك وهربوا إلى الله من موازرتك إذ حملتهم على الصّعب وعدلت بهم عن القصد ؛ فاتّق الله يا معاوية في نفسك وجاذب الشّيطان قيادك فإنّ الدّنيا منقطعة عنك والآخرة قريبة منك والسّلام .
وحكت هذه الرسالة دعوة الإمام (عليه السلام) إلى معاوية أن يثيب إلى الحقّ ، ويجتنب الخداع والتضليل ولم تنفع مواعظ الإمام مع هذا الإنسان الممسوخ الذي ران الباطل على قلبه فأنساه ذكر الله ولم يعد أي بصيص من النور في ضميره.
ولم يعن معاوية بوعظ الإمام ونصيحته وإنّما عمد إلى السباب والتهديد فقد أجابه : أمّا بعد : فقد وقفت على كتابك وقد أبيت على الفتن إلاّ تماديا وإنّي لعالم أنّ الذي يدعوك إلى ذلك مصرعك الذي لا بدّ لك منه وإن كنت موائلا فازدد غيّا إلى غيّك فطالما خفّ عقلك ومنّيت نفسك ما ليس لك والتويت على من هو خير منك ؛ ثمّ كانت العاقبة لغيرك واحتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك والسلام .
حكت هذه الرسالة تمادي معاوية بالإثم والعدوان وإصراره على الغيّ.
وأجاب الإمام (عليه السلام) معاوية بهذه الرسالة : أمّا بعد فإنّ ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشّبه ممّا أتى به أهلك وقومك الّذين حملهم الكفر وتمنّي الأباطيل على حسد محمّد (صلى الله عليه واله) حتّى صرعوا مصارعهم حيث علمت لم يمنعوا حريما ولم يدفعوا عظيما وأنا صاحبهم في تلك المواطن الصّالي بحربهم والفالّ لحدّهم والقاتل لرؤوسهم ورؤوس الضّلالة والمتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محلّه ومحطّه النّار والسّلام .
ومعنى هذه الرسالة أنّ ما قام به معاوية من مجانبة الحقّ ومحاربة العدل كان بذلك شبيها بأسلافه وقومه في محاربتهم لرسول الله (صلى الله عليه واله) حتّى حصد الإمام رؤوس أعلامه بسيفه وأنّه سيتبع خلفهم بهم ويوردهم جميعا نار جهنّم.
وأجاب معاوية عن رسالة الإمام بهذا الجواب الذي هدّد الإمام بإعلان الحرب عليه : أمّا بعد فقد طال في الغيّ ما استمررت أدراجك كما طالما تمادى عن الحرب نكوصك وإبطاؤك فتوعّد وعيد الأسد وتروغ روغان الثعلب فحتّام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية والأفاعي القاتلة ولا تستبعدنّها فكلّ ما هو آت قريب إن شاء الله والسلام .
حكت هذه الرسالة تطاول معاوية على الإمام وتهديده بأبطال أهل الشام.
وردّ الإمام على معاوية بهذه الرسالة التي أعربت عن استعداده للحرب وعدم اكتراثه بأبطال أهل الشام وهذا نصّها : أمّا بعد فما أعجب ما يأتيني منك وما أعلمني بما أنت إليه صائر وليس إبطائي عنك إلاّ ترقّبا لما أنت له مكذّب وأنا به مصدّق وكأنّي بك غدا وأنت تضجّ من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال وستدعوني أنت وأصحابك إلى كتاب تعظّمونه بألسنتكم وتجحدونه بقلوبكم والسّلام .
أشار الإمام (عليه السلام) في آخر رسالته إلى ما سيقوم به معاوية من رفع المصاحف لينجو بها من الحرب التي كادت أن تلفّ وجوده وتقضي عليه وأنّ تلك المصاحف التي يتّقي بها يعظّمونها بألسنتهم ويجحدون بها في قلوبهم وهذا من إخبار الإمام (عليه السلام) بالمغيّبات.
وأجاب معاوية عن رسالة الإمام (عليه السلام) بهذه الرسالة : أمّا بعد فدعني من أساطيرك واكفف عنّي من أحاديثك وأقصر عن تقوّلك على رسول الله (صلى الله عليه واله) وافترائك من الكذب ما لم يقل وغرور من معك والخداع لهم فقد استغويتهم ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ويعلموا أنّ ما جئت به باطل مضمحلّ والسلام .
وليس في رسالة معاوية إلاّ التمادي في الباطل والعداء للحقّ والتنكّر للقيم والأعراف والمثل التي تؤمن بها الامم والشعوب.
وأجاب الإمام (عليه السلام) عن هذا الكتاب بما يلي : أمّا بعد فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشّيطان الرّجيم الحقّ أساطير الأوّلين ونبذتموه وراء ظهوركم وجهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون , ولعمري ليتمّنّ النّور على كرهك ولينفّذنّ العلم بصغارك ولتجازينّ بعملك فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك فكأنّك بباطلك وقد انقضى وبعملك وقد هوى ثمّ تصير إلى لظى لم يظلمك الله شيئا وما ربّك بظلاّم للعبيد , وقد أسهبت في ذكر عثمان ولعمري ما قتله غيرك ولا خذله سواك ولقد تربّصت به الدّوائر وتمنّيت له الأمانيّ طمعا فيما ظهر منك ودلّ عليه فعلك وإنّي لأرجو أن الحقك به على أعظم من ذنبه وأكبر من خطيئته فأنا ابن عبد المطّلب صاحب السّيف وإنّ قائمه لفي يدي وقد علمت من قتلت من صناديد بني عبد شمس وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم وأيتمت أبناءهم وأيّمت نساءهم , وأذكّرك ما لست له ناسيا يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب وأسرت أخاك عمرا فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا وطلبتك ففررت ولك حصاص فلولا أنّي لا أتبع فارّا لجعلتك ثالثهما وإنّي أولي لك بالله أليّة برّة غير فاجرة لئن جمعتني وإيّاك جوامع الأقدار لأتركنّك مثلا يتمثّل به النّاس أبدا ولأجعجعنّ بك في مناخك حتّى يحكم الله بيني وبينك وهو خير الحاكمين , ولئن أنسأ الله في أجلي لأغزينّك سرايا المسلمين ولانهدنّ إليك في جحفل من المهاجرين والأنصار ثمّ لا أقبل لك معذرة ولا شفاعة ولا اجيبك إلى طلب وسؤال ولترجعنّ إلى تحيّرك وتردّدك وتلدّدك فقد شاهدت وأبصرت ورأيت سحب الموت كيف هطلت عليك بصيّبها حتّى اعتصمت بكتاب أنت وأبوك أوّل من كفر وكذّب بنزوله ولقد كنت تفرّستها وآذنتك أنّك فاعلها وقد مضى منها ما مضى وانقضى من كيدك فيها ما انقضى وأنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب فاختر لنفسك وانظر لها وتداركها فإنّك إن فرّطت واستمررت على غيّك وغلوائك حتّى ينهد إليك عباد الله ارتجت عليك الامور ومنعت أمرا هو اليوم منك مقبول , يا ابن حرب إنّ لجاجك في منازعة الأمر أهله من سفاه الرّأي فلا يطمعنّك أهل الضّلال ولا يوبقنّك سفه رأي الجهال فو الّذي نفس عليّ بيده! لئن برقت في وجهك بارقة من ذي الفقار وهو سيف الإمام لتصعقنّ صعقة لا تفيق منها حتّى ينفخ في الصّور النّفخة الّتي يئست منها{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] .
حكت هذه الرسالة دعوة الإمام (عليه السلام) لمعاوية بالاستجابة لنداء الحقّ ورضا الله تعالى ولكنّ ابن هند أعار ذلك اذنا صمّاء وعينا عمياء فأصرّ على الغيّ والعدوان ومناجزة وصيّ رسول الله (صلى الله عليه واله) وباب مدينة علمه.
وأجاب معاوية عن رسالة الإمام (عليه السلام) بما يلي : أمّا بعد , فما أعظم الرّين على قلبك! والغطاء على بصرك! والشّره من شيمتك! والحسد من خليقتك! فشمّر للحرب واصبر للضرب فو الله! ليرجعنّ الأمر إلى ما علمت والعاقبة للمتّقين هيهات هيهات أخطأك ما تتمنّى وهوى قلبك مع من هوى فاربع على ظلعك وقس شبرك بفترك لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه ويفصل بين أهل الشكّ علمه والسلام .
وهدّد معاوية الإمام بإعلان الحرب واستعداده الكامل لمناجزته.
كتب الإمام (عليه السلام) رسالة فندّ فيها أباطيل معاوية التي احتواها كتابه جاء فيها بعد البسملة : أمّا بعد ؛ فإنّ مساويك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك وأن يرعوي قلبك , يا ابن الصّخر اللّعين زعمت أن يزن الجبال حلمك ويفصل بين أهل الشّكّ علمك وأنت الجلف المنافق الأغلف القلب القليل العقل الجبان الرّذل , فإن كنت صادقا فيما تسطر ويعينك عليه ابن أخي بني سهم فدع النّاس جانبا وتيسّر لما دعوتني إليه من الحرب والصّبر على الضّرب واعف الفريقين من القتال ليعلم أيّنا المرين على قلبه المغطّى على بصره فأنا أبو الحسن قاتل جدّك وأخيك وخالك وما أنت منهم ببعيد .
وحكت رسالة الإمام (عليه السلام) نزعات معاوية وصفاته الشريرة فليس له صفة شريفة وليس له قدم في الإسلام وإنّما له قدم ثابتة في الباطل والنفاق.
وبعث معاوية رسالة للإمام قبل مسيره إلى صفّين وقد حملها أبو مسلم الخولاني وهذا نصّها : من معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب , سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو أمّا بعد , فإنّ الله اصطفى محمّدا بعلمه وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه واجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم وكانوا في منازلهم على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده ثمّ خليفة الخليفة ثمّ الخليفة الثالث المظلوم عثمان فكلّهم حسدت وعلى كلّهم بغيت عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفّسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء وأنت في كلّ ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش حتى تبايع وأنت كاره ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا منك لابن عمّك وكان أحقّهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته وصهره فقطعت رحمه وقبّحت محاسنه وألّبت عليه الناس وبطنت وظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل وشهر عليه السلاح في حرم الرسول فقتل معك في المحلّة وأنت تسمع في داره الهائعة لا تؤدّي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل واقسم قسما صادقا لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه واخرى أنت بها عند أولياء ابن عفّان ضنين ايواؤك قتلة عثمان فهم بطانتك وعضدك وأنصارك وقد بلغني أنّك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ثمّ نحن أسرع الناس إليك وإلاّ فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلاّ السيف فو الذي نفس معاوية بيده! لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبرّ والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله .
حكت هذه الرسالة أباطيل معاوية وعدم تحرّجه من الإفك والكذب فقد اتّهم الإمام بتحريضه على سفك دم عثمان وهو افتراء محض بريء من دمه وإنّما الذي أجهز عليه سوء سياسته وتلاعبه بمقدّرات الأمّة وهباته لبني اميّة وآل أبي معيط ومنحهم الثراء العريض وتقليدهم المراكز الحسّاسة في الدولة وقد شذّ هؤلاء الأرجاس في سلوكهم وانحرفوا عن الطريق القويم وقد عرضنا لذلك بالتفصيل في البحوث السابقة وقد استنجد عثمان بمعاوية حينما أحاط الثوّار به فلم يسعفه وبقيت قوّاته المسلّحة مرابطة حتّى قتل عثمان فأي علاقة للإمام بسفك دمه أو التحريض على قتله؟
وأجاب الإمام (عليه السلام) معاوية بجواب حاسم فنّد فيه مزاعمه وأباطيله وجاء فيه بعد البسملة : من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان , أمّا بعد فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمّدا (صلى الله عليه واله) وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي , والحمد لله الّذي صدقه الوعد وتمّم له النّصر ومكّن له في البلاد وأظهره على أهل العداء والشّنئان من قومه الّذين وثبوا به وشنفوا له وأظهروا التّكذيب وبارزوه بالعداوة وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه وأهله وألّبوا عليه العرب وجامعوهم على حربه وجهدوا في أمره كلّ الجهد وقلّبوا له الأمور حتّى ظهر أمر الله وهم كارهون وكان أشدّ النّاس عليه ألبة اسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلاّ من عصمه الله , يا بن هند فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا ولقد قدمت فأفحشت إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيّه محمّد (صلى الله عليه واله) وفينا فكنت في ذلك كجالب التّمر إلى هجر أو مسدّده إلى النّضال , وذكرت أنّ الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم زعمت في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله الخليفة وخليفة الخليفة ولعمري إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم وإنّ المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء , وذكرت أنّ عثمان كان في الفضل ثالثا فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه وإن يك مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره , ولعمر الله إنّي لأرجو إذا أعطى الله النّاس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك أهل البيت الأوفر .
إنّ محمّدا (صلى الله عليه واله) لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتّوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به وصدّق بما جاء به فلبثنا أحوالا مجرّمة وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا فأراد قومنا قتل نبيّنا واجتياح أصلنا وهمّوا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل فمنعونا الميرة وأمسكوا عنّا العذب وأحلسونا الخوف وجعلوا علينا الأرصاد والعيون واضطرّونا إلى جبل وعر وأوقدوا لنا نار الحرب وكتبوا بينهم كتابا لا يواكلوننا ولا يشاربوننا ولا يناكحوننا ولا يبايعوننا ولا نأمن فيهم حتّى ندفع النّبيّ (صلى الله عليه واله) فيقتلوه ويمثّلوا به فلم نكن نأمن فيهم إلاّ من موسم إلى موسم فعزم الله لنا على منعه والذّبّ عن حوزته والرّمي من وراء حرمته والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف باللّيل والنّهار فمؤمننا يرجو بذلك الثّواب وكافرنا يحامي عن الأصل , فأمّا من أسلم من قريش بعد فإنّهم ممّا نحن فيه أخلياء فمنهم حليف ممنوع أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التّلف فهم من القتل بمكان نجوة وأمن فكان ما شاء الله أن يكون ؛ ثمّ أمر الله رسوله بالهجرة وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين فكان إذا احمرّ البأس ودعي للنّزال أقام أهل بيته فاستقدموا فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة والسّيوف فقتل عبيدة يوم بدر وحمزة يوم احد وجعفر وزيد يوم مؤتة وأراد والله! من لو شئت ذكرت اسمه مثل الّذي أرادوا من الشّهادة مع النّبيّ (صلى الله عليه واله) غير مرّة إلاّ أنّ آجالهم عجّلت ومنيّته اخّرت والله مولى الإحسان إليهم والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصّالحات فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه ولا أصبر على اللأواء والضّرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النّبيّ (صلى الله عليه واله) من هؤلاء النّفر الّذين سمّيت لك وفي المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم الله بأحسن أعمالهم , وذكرت حسدي الخلفاء وإبطائي عنهم وبغيي عليهم فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون ؛ وأمّا الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى النّاس لأنّ الله جلّ ذكره لمّا قبض نبيّه (صلى الله عليه واله) قالت قريش : منّا أمير وقالت الأنصار : منّا أمير فقالت قريش : منّا محمّد رسول الله (صلى الله عليه واله) فنحن أحقّ بالأمر فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لهم الولاية والسّلطان فإذا استحقّوها بمحمّد (صلى الله عليه واله) دون الأنصار فإنّ أولى النّاس بمحمّد (صلى الله عليه واله) أحقّ بها منهم وإلاّ فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا , فلا أدري أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقّي أخذوا أو الأنصار ظلموا بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم , وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه وتأليبي عليه فإنّ عثمان عمل ما بلغك فصنع النّاس ما قد رأيت وقد علمت لتعلم أنّي كنت في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى فتجنّ ما بدا لك , وأمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإنّي نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك , ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك ولا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر ولا جبل ولا سهل , وقد كان أبوك أتاني حين ولّى النّاس أبا بكر فقال : أنت أحقّ بعد محمّد (صلى الله عليه واله) بهذا الأمر وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك ابسط يدك ابايعك فلم أفعل , وأنت تعلم أنّ أباك قد كان قال ذلك وأراده حتّى كنت أنا الّذي أبيت لقرب عهد النّاس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام فأبوك كان أعرف بحقّي منك فإن تعرف من حقّي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسّلام .
وحفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية فقد عرضت إلى ما لاقاه المنقذ العظيم الرسول (صلى الله عليه واله) من الجهد الشاقّ والعسير من الاسر القرشية التي هبّت في وجهه لإطفاء نور الله تعالى وإعادة الجاهلية الرعناء بآثامها إلى مسرح الحياة وقد انبرت الاسرة الهاشمية إلى اعتناق الإسلام والإيمان بالدعوة المباركة العظيمة فلاقت أقسى الأزمات وأكثرها محنة وأعظمها بلاء فحبست مع النبيّ (صلى الله عليه واله) في شعب أبي طالب وحرمت عليهم قريش جميع وسائل الحياة حتّى منّ الله عليهم بالخروج من ذلك السجن الرهيب ولمّا أمر الله تعالى نبيّه الكريم بالهجرة من مكّة إلى المدينة أضرمت عليه قريش أخزاها الله نار الحرب وجنّدت الجيوش للقضاء عليه فقدّم النبيّ (صلى الله عليه واله) اسرته الممجّدة للدفاع عن حياض الإسلام فاستشهد عبيدة يوم بدر وعمّه حمزة في يوم احد وابن عمّه جعفر في واقعة مؤتة فاسرة النبيّ (صلى الله عليه واله) هي المحامية عن الإسلام والمناصرة له في أيام محنته وغربته فهي أولى بمركز النبيّ (صلى الله عليه واله) وأحقّ بمقامه من غيرها الذين ليس لهم أيّة سابقة أو جهاد يذكر في سبيل الله تعالى , كما ذكرت هذه الرسالة موقف الإمام (عليه السلام) من الخلفاء وكان متّسما بالكراهية وعدم الرضا لأنّهم تقمّصوا حقّه ونهبوا تراثه والله تعالى هو الذي يحكم بينهم وبين الإمام حينما يعرضون عليه .
وأرسل معاوية إلى الإمام (عليه السلام) هذه الرسالة مع أبي امامة الباهلي وليس في أي بند من بنودها موطن حقّ وصدق وهذه نسختها : من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب , أمّا بعد , فإنّ الله تعالى جدّه اصطفى محمّدا عليه الصلاة والسلام لرسالته واختصّه بوحيه وتأدية شريعته فأنقذ به من العماية وهدى به من الغواية ثمّ قبضه إليه رشيدا حميدا قد بلغ الشرع ومحق الشرك وأخمد نار الإفك فأحسن الله جزاءه وضاعف عليه نعمه وآلاءه ثمّ إنّ الله سبحانه اختصّ محمّدا عليه الصلاة والسلام بأصحاب أيّدوه ونصروه وكانوا كما قال الله سبحانه لهم : {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] فكان أفضلهم مرتبة وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة الخليفة الأوّل الذي جمع الكلمة ولمّ الدعوة وقاتل أهل الردّة ثمّ الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصر الأمصار ثمّ الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملّة وطبق الآفاق بالكلمة الحنيفيّة , فلمّا استوثق الإسلام وضرب بجرانه عدوت عليه فبغيت له الغوائل ونصبت له المكايد وضربت له بطن الأمر وظهره ودسست عليه وأغريت به وقعدت حيث استنصرك عن نصره وسألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته وما يوم المسلمين منك بواحد لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورمت إفساد أمره وقعدت في بيتك واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخّروا عن بيعته ثمّ كرهت خلافة عمر وحسدته واستطلت مدّته وسررت بقتله وأظهرت الشماتة بمصابه حتّى أنّك حاولت قتل ولده لأنّه قتل قاتل أبيه ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمّك عثمان نشرت مقابحه وطويت محاسنه وطعنت في فقهه ثمّ في دينه ثمّ في سيرته ثمّ في عقله وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك حتّى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان ولا يد وما من هؤلاء يعني الخلفاء إلاّ بغيت عليه وتلكّأت في بيعته حتى حملت إليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار كما يساق الفحل المغشوش ثمّ نهضت الآن تطلب الخلافة وقتلة عثمان خلصاؤك وسجراؤك والمحدقون بك وتلك من أماني النفوس وضلالات الأهواء , فدع اللجاج والعبث جانبا وادفع إلينا قتلة عثمان وأعد الأمر شورى بين المسلمين ليتّفقوا على من هو لله رضا فلا بيعة لك في أعناقنا ولا طاعة لك علينا ولا عتبى لك عندنا وليس لك ولأصحابك عندي إلاّ السيف , والذي لا إله إلاّ هو! لأطلبن قتلة عثمان أينما كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم أو تلحق روحي بالله فأمّا ما تزال تمنّ به من سابقتك وجهادك فإني وجدت الله سبحانه يقول : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشدّ الأنفس امتنانا على الله بعملها وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد ويجعله كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين .
أوليس في هذه الرسالة إلاّ الكذب والافتراء وهي من سمات هذا الجاهلي الذي تربّى بآثام الجاهلية وشرورها.
وقد ردّ عليه الإمام (عليه السلام) بهذه الرسالة وجاء فيها بعد البسملة : أمّا بعد , فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمّدا (صلى الله عليه واله) لدينه وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ونعمته علينا في نبيّنا فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر أو داعي مسدّده إلى النّضال , و زعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه وإن نقص لم يلحقك ثلمه وما أنت والفاضل والمفضول والسّائس والمسوس وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتّمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظّافر وإنّك لذهّاب في التّيه روّاغ عن القصد ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله احدّث أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ولكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء وخصّه رسول الله (صلى الله عليه واله) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ! أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل الطّيّار في الجنّة وذو الجناحين! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السّامعين , فدع عنك من مالت به الرّميّة فإنّا صنائع ربّنا والنّاس بعد صنائع لنا لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك أن اخلطناكم بأنفسنا ؛ فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب ؟ ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ؟ ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النّار ومنّا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب في كثير ممّا لنا وعليكم! فإسلامنا قد سمع وجاهليّتكم لا تدفع وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا وهو قوله سبحانه وتعالى : {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وقوله تعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] فنحن مرّة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطّاعة ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله (صلى الله عليه واله) فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم , وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك.
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها *
وقلت : إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع ؛ ولعمر الله! لقد أردت أن تذمّ فمدحت وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ولا مرتابا بيقينه! وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها , ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه حتّى أتى قدره عليه , كلاّ والله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18] ,وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا ؛ فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له ؛ فربّ ملوم لا ذنب له , وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب , وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السّيف فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين وبالسّيف مخوّفين؟! لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل فسيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتّابعين لهم بإحسان شديد زحامهم ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت ؛ أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة وسيوف هاشميّة قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك وما هي من الظّالمين ببعيد .
وضارعت هذه الرسالة بعض الرسائل المتقدّمة في كثير من بنودها وليس من المستبعد أنّها رويت بطريقين مختلفين مع وحدتهما , وعلى أي حال فقد فنّد الإمام (عليه السلام) في هذه الرسالة أغاليط معاوية التي ليس فيها أي بصيص من نور الحقّ وبيّن زيفها كما عرض الإمام (عليه السلام) بصورة لا تقبل الشكّ أنّه أولى بمقام النبيّ (صلى الله عليه واله) وأحقّ بمركزه من غيره من الخلفاء وبيّن أنّ ما لاقاه منهم من الاعتداء والغضّ من شأنه فإنّه بعين الله وليس عليه أي غضاضة لأنّه لم يكن ظالما ولا شاكّا في دينه وسيجمع الله تعالى بينهم وبينه وهو الحاكم الفصل .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|