أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-12-2021
2656
التاريخ: 2024-07-30
422
التاريخ: 21-12-2021
1808
التاريخ: 2024-07-30
400
|
[ والكلام في القاعدة يكون فيما يأتي ] :
- مدرك القاعدة من كتاب اللّه .
- مدركها من السنة .
- مدركها من الإجماع .
- دليل العقل وبناء العقلاء .
- أنحاء الملكية في الإسلام .
- حدود قاعدة التسلط .
- هل القاعدة مختصة بالأموال أو تشمل «الحقوق» وغيرها أيضا .
- نسبة هذه القاعدة مع غيرها .
- نسبة قاعدة التسلط مع الواجبات المالية .
من القواعد المشهورة بين الفقهاء، قاعدة تسلط الناس على أموالهم، ولا يزالون يستدلون بها في مختلف أبواب المعاملات بالمعنى الخاص، والعام، بل لعله هو المدرك الوحيد في بعض مسائلها، وبيان «محتواها» و«مداركها» و«ما يتفرع عليها» و«ما يستثنى منها» يتم في مقامات.
الأول : في مدرك القاعدة :
يمكن الاستدلال عليها بالأدلة الأربعة :
1- كتاب اللّه :
اما من كتاب اللّه العزيز فبآيات مختلفة، وردت في موارد خاصة، يستفاد من مجموعها ان كل إنسان له سلطة على أمواله الخاصة، لا يجوز لأحد مزاحمته الا من طرق معينة وردت في الشرع، فمما يدل على هذا المعنى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] .
دل على عدم جواز أكل أموال الناس الا من طرق خاصة مشروعة، تبتنى على رضا الطرفين، وجعل حرمته كحرمة قتل الأنفس، وكأنه الى هذا ينظر الحديث المعروف «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» «1».
ومثله قوله تعالى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] .
وهو دليل على ان الإنسان لو لم يكن قادرا على حفظ أمواله لا بد أن تحفظ من طريق من يقدر على ذلك، وان الولي يجب عليه كمال الاحتياط فيه، والا ارتكب اثما عظيما.
ومن الجدير بالذكران التعبير بأموالكم وأموالهم دليل واضح على الملكية الخاصة في هذه الأموال لا ملكية المجتمع كما قد يتوهمه من لا خبرة له بشيء من الاثار الإسلامية والمتون الدينية.
وأيضا قوله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [النساء: 4] .
دلت على انه لا يجوز التصرف في شيء من أموالهم الحاصلة من طريق الصداق، إلا بإذنهن ورضاهن، وأيضا قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
الى غير ذلك من الايات الكثيرة الواردة في أبواب الإرث والصداق والوصية وسائر العقود، وما دل على مطلوبية الإنفاق في سبيل اللّه، حتى ما دل على حرمة الربا وانه { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } [البقرة: 279] وبالجملة لا يبقى شك لأحد بعد ملاحظة هذه الايات ان كل إنسان مسلط على أمواله التي اكتسبها من طرق مشروعة، وانه لا يجوز مزاحمته فيها ، ولا التصرف إلا بإذنه ورضاه ، ولو جمعنا هذه الايات مع تفسيرها كان كتابا ضخما.
2- السنة :
و اما من السنة فهي روايات كثيرة عامة وخاصة :
1- الرواية المعروفة المشهورة في ألسن الفقهاء، المرسلة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله انه قال:
ان الناس مسلطون على أموالهم رواها العلامة المجلسي قدس سره في الجلد الثاني من البحار عن غوالي اللئالى «2» وهي وان كانت مرسلة لكنها مجبورة بعمل الأصحاب قديما وحديثا، واستنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه، وسيأتي الإشارة إلى بعضها.
قال في الرياض في مسألة تضرر الجار بتصرف المالك في ملكه ان حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لرب الأموال وهو أيضا معمول به بين الفريقين «3» وهناك روايات أخر لا تشتمل على هذا العنوان ولكنه تحتوي معناها ومغزاها.
2- ما رواها سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يكون له الولد أ يسعه ان يجعل ماله لقرابته؟ قال: هو ماله يصنع به ما شاء الى ان يأتيه الموت «4».
3- رواية أخرى عن سماعة عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام مثله، وزاد :
ان لصاحب المال ان يعمل بماله ما شاء، ما دام حيا ان شاء وهبه، وان شاء تصدق به، وان شاء تركه الى ان يأتيه الموت «5».
و من الواضح ان ذكر الهبة والصدقة من باب المثال لما وقع التصريح فيها بان له ان يصنع بماله ما شاء، وليست السلطة على المال غير هذا.
4- مرسلة إبراهيم ابن ابي سماك عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال: الميت اولى بماله ما دامت فيه الروح «6».
5- وبمعناه رواية أخرى عن «عمار بن موسى» انه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شيء من الروح يضعه حيث يشاء «7».
6- وروى عثمان بن سعيد عن ابى المحامد عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال الإنسان أحق بماله ما دام الروح في بدنه «8».
وهناك روايات أخرى واردة في نفس هذا الباب، ومن الواضح ان إطلاق قوله «اولى» و«أحق» يشمل أنواع التصرفات الناقلة وغير الناقلة.
وتقيد روايات الوصية بالثلث كتخصيص هذه الإطلاقات بغير مرض الموت، بناء على كون منجزات المريض من الثلث لا من الأصل، لا يضر بالمقصود، فإن إطلاق السلطنة على المال كسائر الإطلاقات يقبل التقييد مهما ورد دليل عليه.
اما الروايات الخاصة فهي كثيرة جدا لا يمكن استقصاء جميعها، بل ولا نحتاج الى الاستقصاء بعد ما عرفت.
3- الإجماع :
واما الإجماع فهو ظاهر كلمات القوم حيث أرسلوها إرسال المسلمات، واستدلوا بقاعدة التسلط في أبواب مختلفة نشير إلى جملة منها.
1- قال في «الخلاف» في كتاب البيوع في مسئلة 290 في بحث إقراض الجواري: «دليلنا ان الأصل الإباحة والحظر يحتاج الى دليل. وأيضا روي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله انه قال: الناس مسلطون علي أموالهم، وقال لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفس منه» «9».
ومنه يظهر ان حديث عدم جواز التصرف في مال كل إنسان إلا بطيب نفسه يتحد معناه مع حديث التسلط.
2- قال في «السرائر في باب حريم البئر: وان أراد الإنسان ان يحفر في ملكه أو داره بئرا، وأراد جاره ان يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر لم يمنع منه بلا خلاف في جمع ذلك وان كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى لأن الناس مسلطون على أملاكهم «10».
وقال في «جامع المقاصد» في أبواب الاحتكار في شرح قول العلامة (قدس سره): «و يجبر على البيع لا التسعير» ما نصه: «اى هذا أصح لأن الناس مسلطون على أموالهم الا ان يجحف في طلب الثمن أو يمتنع من تعيينه» «11».
وقال في «جامع المقاصد» أيضا: في جواز التفريق بين الطفل وامه في المملوكة ما نصه: «يجوز التفريق بعد سنتين في الذكر، وبعد سبع في الأنثى (في الحرة) على المشهور بين المتأخرين فليجز ذلك في الأمة لأن حقه لا يزيد على الحرة، ولان الناس مسلطون على أموالهم «13».
وقال هو أيضا في مسألة وطي الأمة من جانب المشتري، في مدة الخيار المشترك أو المختص بالبائع، انه ليس له ذلك على اشكال، ثمَّ ذكر ان منشأ الاشكال من عموم «الناس مسلطون على أموالهم» ومن «انه ربما أفضى إلى الاستيلاد الموجب لسقوط خيار البائع.
وقال في مفتاح الكرامة، في أبواب الاحتكار بعد نقل كلام القواعد في نفي التسعير: «إجماعا واخبارا متواترة كما في السرائر وبلا خلاف كما في المبسوط وعندنا كما في التذكرة، للأصل وعموم السلطنة» «14».
وقال في جامع المقاصد أيضا في شرح مسئلة تأجيج النار وإرسال الماء في ملكه «انه لما كان الناس مسلطين على أموالهم كان للإنسان الانتفاع بملكه كيف شاء» «15».
وهذا صاحب الجواهر الفقيه المتضلع استدل بهذه القاعدة وأرسله إرسال المسلمات في أبواب البيع، والرهن، والصلح، والشركة، والمزارعة، والمساقاة، والوديعة، والعارية، وكتاب السبق، والوصايا، والغصب، والأطعمة والأشربة، واحياء الموات، الى غير ذلك ما لو نقلنا كلها لطال بنا البحث ولكن نذكر شطرا منها:
1- قال في كتاب البيع في جواز الولاية من قبل الجائر إذا كان مكرها ما نصه : «لا بأس بجواز تحمل الضرر المالي في رفع الإكراه، ولعموم تسليط الناس على أموالهم» «16».
2- وقال في مبحث الاحتكار: «المسئلة الثانية الاحتكار مكروه، وقيل حرام، والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها الأصول وقاعدة تسلط الناس على أموالهم» «17».
و كلامه شاهد على ان القاعدة من القواعد المسلمة في مذهبنا.
3- وقال: في حكم التفرقة بين الأطفال وأمهاتهم قبل استغنائهم منهن بعد نقل كلام الشرائع انه محرمة وقيل مكروهة، وهو الأظهر ما نصه: جمعا بين ما دل على الجواز من الأصل وعموم تسلط الناس على أموالهم «18».
وقال في الشرائع في كتاب الرهن لو غصبه ثمَّ رهنه صح ولم يزل الضمان.
ولو أسقط عنه الضمان صح وزاد في الجواهر ودعوى عدم صحة إسقاط مثل ذلك يدفعها عموم تسلط الناس على حقوقهم وأموالهم «19».
واضافة الحقوق في كلامه هنا من باب إلغاء الخصوصية عن الأموال والا فالظاهر انه لم يرد هذا العنوان في النصوص.
واستدل به أيضا في أبواب الصلح في مسئلة صلح الشريكين عند ارادة الفسخ على ان يأخذ أحدهما رأس ماله والأخر الباقي، ربح أو توى، جاز. ولعل عموم تسلط الناس على أموالهم يقتضيه «20».
واستدل به أيضا في جواز الاعتماد على القرعة في القسمة في كتاب الشركة وقال: انما الكلام في اعتبارها في القسمة كما عن ظاهر كثير أو الجميع نعم عن الأردبيلي الاكتفاء بالرضاء من الشركاء. لعموم الناس مسلطون عن أموالهم «21».
واعتمد عليه في أبواب المزارعة والمساقاة قال: في المسئلة الرابعة في جواز شركة غير المزارع (بالفتح) معه وعدم توقفه على اذن المالك بعد التمسك بعدم الخلاف بانتقال المنفعة إليه بعقد المزارعة والناس مسلطون على أموالهم «22».
واستند اليه في كتاب السبق أيضا «23».
واستدل به أيضا في كتاب الوصية إذا اوصى بالثلث «24».
وقال: في كتاب الغصب بعد قول الشرائع «و لو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره أو أجج نارا فيه فأحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا».
بلا خلاف أجده فيه. للأصل بعد عدم التفريط وعموم تسلط الناس على أموالهم «25».
واستدلاله هنا بقاعدة التسلط دليل على عمومها عنده، حتى إذا أوجب الضرر على غيره، ما لم يتجاوز عن حده وعن قدر حاجته.
وقال في كتاب الأطعمة والأشربة في مسئلة الاضطرار إلى أكل الميتة وان كان هناك من له مال حلال ولكن لا يبذله ما لفظه: «نعم يتجه ذلك (جواز أكل الميتة) إذا لم يبذل، لعموم الناس مسلطون على أموالهم، من غير فرق بين كونه قويا أو ضعيفا «26».
وهذا دليل ان عموم السلطة على المال يشمل حتى فرض الاضطرار من بعض الجهات وهو دليل على قوة العموم فيها عندهم.
واستدل به في كتاب احياء الموات أيضا «27».
و قال في ذلك الكتاب أيضا: فيما إذا تصرف الإنسان في داره بما يوجب تضرر الجار تضررا فاحشا بعد الحكم بمنعه استنادا الى حديث نفي الضرر والضرار المعمول به بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم ما نصه:
«وقد يناقش بان حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لرب المال، وهو أيضا معمول به بين الفريقين والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه والترجيح للثاني بعمل الأصحاب» «28».
أقول: كلامه هنا دليل واضح ان هذا الحديث المرسل بلغ من ناحية عمل الأصحاب بحد من القوة بحيث يعارض «حديث لا ضرر» المستفيض المروي من طرق الفريقين بإسناد شتى.
وهذا شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري استدل به في كثير من المسائل الفقهية في مكاسبه وأرسله إرسال المسلمات بحيث لا يشوبه شائبة وإليك نماذج منها.
منها في مسألة:
1- قال في بحث قبول الولاية من قبل الجائر مع وجود الضرر المالي في تركه مما لا يضر بالحال ان تركه رخصة لا عزيمة فيجوز تحمل الضرر لان الناس مسلطون على أموالهم «29».
2- وقال في مبحث المعاطاة ردا لمن استدل بقاعدة الناس مسلطون على أموالهم على ان المعاطاة توجب الملك: «اما قوله الناس مسلطون على أموالهم فلا دلالة فيه على المدعى لان عمومه باعتبار أنواع السلطنة، فهو انما يجدي فيما إذا شك في ان هذا النوع من السلطنة ثابتة للمالك وماضية شرعا في حقه أم لا» «30».
و ظاهر كلامه هذا مفروغية القاعدة بين الجميع، وبحيث لا يتطرق إليه إشكال، ولو كان هناك إيراد، فإنما هو تطبيقها على بعض الموارد التي يشك فيها.
3- وقال ان الاستدلال على أصالة اللزوم في كل عقد شك في لزومه: «و يدل على اللزوم مضافا الى ما ذكر عموم قولهم الناس مسلطون على أموالهم» «31».
4- وقال في رسالته في قاعدة نفى الضرر المطبوعة في ملحقات مكاسبه وينبغي التنبيه على أمور: الأول ان دليل هذه القاعدة حاكم على عموم أدلة إثبات الأحكام الشامل لصورة التضرر بموافقتها- الى ان قال: خلافا لما يظهر من بعض من عدهما من المتعارضين حيث انه ذكر في مسئلة تصرف الإنسان في ملكه مع تضرر جاره ان عموم نفي الضرر معارض بعموم الناس مسلطون على أموالهم.
ثمَّ أورد عليه بحكومة قاعدة نفى الضرر على قاعدة التسلط، واستدل على الحكومة بجريان سيرة الفقهاء في مقامات مختلفة عليه منها استدلالهم على ثبوت خيار الغبن وبعض الخيارات الأخر بقاعدة نفى الضرر مع وجود عموم الناس مسلطون على أموالهم «32».
ويظهر من كلامه هذا تسالم القوم على هذه القاعدة في محلها وان قدموا قاعدة نفى الضرر عليها لحكومتها.
5- واستدل أيضا بها في طيات مكاسبه في أبواب «ضمان المثلي والقيمي» و« مسقطات خيار المجلس» و«احكام الخيار» وغيرها مما يطول المقام بذكرها جميعا.
فتحصل من جميع ما ذكرنا انه لا ينبغي التأمل في كون القاعدة مجمعا عليها بين فقهاء الفريقين، لاستنادهم إليها في كثير من المباحث المتخلفة، إرسالا له إرسال المسلمات من غير رد ولا إنكار، وما أوردناه هنا من أقوالهم شطر من كلماتهم المشتملة على الحديث بعنوانه، والا فما ذكروه بغير هذا العنوان مما يعطى معناه أكثر وأظهر.
4- دليل العقل وبناء العقلاء :
هذه القاعدة قاعدة عقلائية قبل ان تكون شرعية، ولم يزل بناء العقلاء عليها من قديم الزمان الى عصرنا هذا، ولا فرق فيها بين أرباب الملل الإلهية وغيرهم، حتى ان من أنكرها بلفظه لا ينكرها في عمله، وان الذين ادعوا إلغائها بالمرة في كتبهم وفي مدارسهم لم يوفقوا له في العمل، وكلهم يرون أن للإنسان التصرف في ملكه بما يراه، الا ما منعه الشرع أو نهى عنه القوانين المعتبرة عندهم، ولا يشك في هذا احد منهم، ومن أنكره فإنما ينكره باللسان {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] .
بل يمكن ان يقال انها من القواعد الفطرية قبل ان تكون عقلائية فإن ما عند العقلاء من القوانين لها أصولا وجذورا في أعماق فطرياتهم ما لم ينحرف عنها بأمور قسرية.
كما ان احكام الشرع أيضا تنطبق على الفطريات، فيطابق «التشريع» «التكوين»، ولا بد ان يتطابق، لان كل واحد منهما من صنع اللّه، ولا يضار صنعه صنعه ، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.
وان شئت اختر حال من لم تشب فطرته بأي شائبة، أو تقاليد اجتماعية، من الصبيان غير العارفين بما عند آبائهم وأمهاتهم من الاحكام والقوانين، فان كلا منهم إذا ظفر بشيء، ورآه ماله، احتفظ به، ورد كل من يزاحمه في ما كسبه، ويرى لنفسه التسلط عليه بجميع أنواع التسلط، الا ان يمنعه مانع من فطرته أو من الخارج.
بل قد يقال ان هذه الفطرة والسائقة النفسية لا تنحصر بالإنسان، بل تشترك فيها أنواع الحيوان، فهي تعتبر المالكية لأنفسها فيما كسبت، وتسيطر عليها، ولا يرى لغيره حقا في المزاحمة، تدافع عن وكرها، وعشها، وطعمتها، وغيرها مما يتعلق بها كما يدافع الإنسان عن أمواله، بل قد يكون عندها ما يشبه الملكية التعاونية عندنا كما في النمل والنحل وغيرهما من أشباههما فهي تدافع جميعا عما تتعلق بشركائها ضد الأجانب، وترى لنفسها السلطة على ما تزودها.
فاذا يكون حكم الشرع في هذه القاعدة من قبل إمضاء ما عند العقلاء، لا تأسيس قاعدة حديثة جديدة، مما ليس عندهم، كما هو كذلك في أكثر ما عند الشرع في أبواب المعاملات أو في جميعها، وان ورد فيها شرائط خاصة، وقيود مختلفة لهذا الإمضاء، دفعا لهم عن مفاسد كثيرة لا يعلمونها، ولا يهتدى إليها عقولهم، أو ما يعلمونه ولا يعتنون به اتباعا لا هوائهم وغفلة عما فيه صلاحهم وفسادهم.
فاذا لا يبقى شك في عموم هذه القاعدة لجميع الأموال، وجميع الناس، وان كان هذا العموم مشروطا بشرائط وقيود كثيرة واستثنائات مختلفه ، ولا ينافي ذلك وجود المالكية العامة في الشرع بالنسبة إلى أموال أخر.
ولا بأس بالإشارة هنا الى نبذ مما يدل على مالكية كل إنسان لما كسبه، من طرق مشروعة، ونفوذ تصرفاته فيه، وعدم جواز مزاحمته بغير إذنه، التي تدل بالدلالة الالتزامية البيّنة على ثبوت قاعدة التسلط ومضيها.
ومما يجب ذكره قبلا انه قلما يوجد في لسان أدلة الشرع تعرض صريح لأصل هذا الموضوع- اى جواز المالكية الفردية- بل ذكر فيها أحكامها بعد الفراغ عن ثبوتها، ولو لا وسوسة بعض من لا خبرة له بأحكام الشرع والعقل، ممن خدعتهم الأفكار المادية الالحادية لكنا في غنى عن مثل هذه الأمور، مما هو من الوضوح بمكان لا يرتاب فيه ذو فضل.
واما الروايات الدالة على هذا المعنى :
فهي أكثر من أن تحصى نشير الى بعض ما هو أوضح وأظهر:
1- ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ان حرمة مال المسلم كحرمة دمه «33».
2- وانه لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفسه «34».
بلغ احترام أموال المسلمين الى حد يعادل دمائهم، ومن الواضح انه لا يعادل في الشريعة الإسلامية دم المسلم شيء، إلا ما يكون مهما جدا.
3- وقال الصادق عليه السّلام: من أكل مال أخيه ظلما، ولم يرد عليه، أكل جذوة من النار يوم القيامة «35».
4- وفي غير واحد من الروايات ان الدفاع لحفظ الأموال جائز وان بلغ ما بلغ، وانه يجوز دفع المهاجم، وان دمه هدر، وان من قتل دون ماله فهو شهيد.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد «36».
وعنه صلّى اللّه عليه وآله في حديث آخر من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد «37».
وقال الباقر عليه السّلام لمن سأله ان اللص يدخل على بيتي يريد على نفسي ومالي :
اقتله فاشهد اللّه ومن سمع ان دمه في عنقي! «38» وقال أمير المؤمنين عليه السّلام إذا دخل عليك اللص المحارب فاقتله فما أصابك فدمه في عنقي «39».
5- وهناك روايات كثيرة دالة على كون اليد دليلا لملكية الإنسان على ما في يده، بل يجوز الشهادة على الملكية بمجرد كون شيء في يد إنسان.
فقد قال الصادق عليه السّلام فيما رواه حفص بن غياث عنه قال : قال له رجل إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي ان اشهد انه له؟ قال نعم، قال الرجل: أشهد انه في يده، ولا أشهد انه له، فلعله لغيره، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام أ فيحل الشراء منه؟
قال نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فلعله لغيره، فمن اين جاز لك ان تشتريه، ويصير ملكا لك، ثمَّ تقول بعد الملك هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز ان تنسبه الى من صار ملكه من قبله إليك؟
ثمَّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق «40».
هذا قليل من كثير مما ورد في هذا الباب، وما يدل عليه بالالتزام هو أكثر وأوفر، وقد ضمت أبواب التجارات والأوقاف والهبات والمهور والنفقات والإرث والضمانات والديات والقضاء والإجارات وغيرها ما لا يحصى في هذا المعنى.
أنحاء الملكية في الإسلام :
ومما ينبغي ان يذكر انه لا تنحصر الملكية في التشريع الإسلامي بالملكية الفردية، بل المعروف انها على أنحاء ثلاثة :
1- الملكية الفردية .
2- الملكية للمسلمين جميعا.
3- ملك الحكومة الإسلامية.
ولكن في الواقع لها شقوق أخر تنقسم هذه الأقسام إليها ربما تبلغ ستة أنحاء.
فإن الملكية الشخصية قد تكون على نحو المشاع، وهو اشتراك جماعة في ملك على سهام متساوية، أو مختلفة، ولهذا النوع من الملكية أحكام خاصة مذكورة في أبواب البيع، والإجارة، والشركة، والمضاربة، والمزارعة، وغيرها. أضف الى ذلك الوقف الخاص، فإنه أيضا قسم آخر من الملكية المشتركة، ولكن ليس كالمشاع وله أيضا أحكام خاصة مذكورة في أبواب الوقف.
وهنا نوع آخر من الملكية في الموقوفات العامة كالمساجد والقناطر الموقوفة والخانات وشبهها، فعلى القول بأنها من قبيل فك الملك، وانها خارجة عن ملك كل احد حتى المسلمين جميعا فهي خارجة عن المقسم في هذا البحث.
ولكن ذكرنا في محله ان هذا القول وان اشتهر في ألسنة المعاصرين ولكنها لا تساعده الأدلة فإنه لا شك انه إذا خربت بعض ابنية المسجد وبقي منها أخشاب وأبواب وأحجار، لا تنفع في تعميره وتجديد بنائه، وليس هنا مسجد آخر يستفاد منها فيه، انه يجوز بيعها وصرف ثمنها في تعميره وتجديد بنائه، ولو كان من قبيل فك الملك لم يصح هذا فإنه لا بيع إلا في ملك.
والفرق بين ارض المسجد وبناؤها بعيد عن الصواب لعدم الدليل عليه.
فلا مناص عن قبول كونه ملكا اما لجميع المسلمين، ولكن لا كالأراضي المفتوح عنوة، فإن لها أحكاما خاصة لا ترتبط الا بها.
أو يقال ان المساجد وأشباهها ملك تشريعي للّه وان كان هو مالك الملوك وله ملك السموات والأرض، لكنها مالكية تكوينية ناشئة عن خلقها وتدبيرها وفقرها اليه تعالى، فله جل شأنه ملك تشريعي وان كان هو مالك تشريعا أيضا لجميع الاملاك لكنها ملك طولي فوق ملك العباد.
ولهذا البحث صلة يذكر في مقامه ان شاء اللّه، والمقصود من جميع ذلك تشعّب أنواع الملكية واختلاف أحكامها.
ولكن قاعدة التسلط لا تختص بالملكية الشخصية الفردية، بل الظاهر انها تشمل كل ملك طلق، فاذا كان هناك ملك مشاع فلا ربابه جميعا السلطة عليها بما لا يزاحم حق كل واحد منهم للآخر.
وهذا المعنى اما داخل في عموم هذه القاعدة بعينها أو لا أقل من دخوله في ملاكها ومناطها للعلم بعدم الخصوصية.
«تنبيهات» :
وهنا أمور ينبغي التنبيه عليها :
1- حدود قاعدة التسلط :
قد ثبت من جميع ما ذكرنا ان لكل إنسان سلطة على أمواله، يفعل فيها ما يشاء ويقلبها كيف يريد، ولكن هذا المعنى لا ينافي تحديدها بحدود خاصة وقيود مختلفة بل لا ينافي استثنائات كثيرة واردة عليها من طريق بناء العقلاء، وطبقا لأحكام الشرع.
نعم حددها الكتاب والسنة من حيث متعلقها تارة، ومن ناحية طرق كسبها اخرى، وكيفية مصرفها ثالثة، والحقوق التي تتعلق بها رابعة، وغير ذلك.
اما من ناحية المتعلق فقد حرم الشرع كل ما فيه وجه من وجوه الفساد، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ولحوم السباع والخمر وكل شيء من وجوه النجس وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير اللّه عز وجل، كالأصنام وكل بيع ملهو به كآلات القمار وآلات اللهو وكل ما يقوي به الكفر والشرك مثل كتب الضلال وما أشبه ذلك، الى غير ذلك مما ورد في رواية تحف العقول المشهورة.
فإن شيئا من هذه لا يدخل في ملك احد، ولا يصح بيعه ولا شرائه.
كما انه لا يجوز تحصيل ما يباح ملكه من طريق معاونة الظلمة، وأخذ الرشوة والغش والخيانة، والسحر والشعبدة، والقمار، وتعليم ما يحرم تعليمه، والفحشاء واللعب بآلات اللهو وغير ذلك مما يحرم فعله فان اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
اما من ناحية طرق اكتسابها، فلا شك انها مقيدة بقيود شتى كأن يكون تجارة عن تراض من دون اكراه ولا إجبار، وصدور العقد عن البالغ العاقل المتمكن شرعا من التصرف في أمواله، وكون البيع غير غرري ولا ربوي، وغير ذلك من شروط البيع والشراء والهبة والمزارعة وغيرها، بل وكذا بالنسبة إلى الحيازة والاحياء وأمثالهما مما ورد من طيّات أبواب الفقه.
وكذا عدم كون التسلط على المال موجبا للضرر على المسلمين كما سيأتي الإشارة إليه عن قريب ان شاء اللّه.
واما من ناحية المصرف فهو أيضا ليس مطلقا، بل لا بد ان لا يكون فيه إسراف ولا تبذير ولا ان يصرف في وجوه المعاصي وطرق الفساد، ولا الإضرار بالغير، ولا بالنفس إجمالا.
والحاصل ان كون الإنسان مسلطا على أمواله يتقلب فيه كيف يشاء لا ينافي تقييده بقيود مختلفة من شتى الجهات، بل احكام أبواب المعاملات على سعتها انما شرعت لبيان تلك القيود.
كما ان هذا العموم لا ينافي تعلق حقوق الفقراء وغيرهم بها على حسب ما ورد في أبواب الزكاة والخمس وغيرهما، ولكن مع ذلك كلّه هي قاعدة عامّة تؤخذ بها ما لم يرد دليل على تخصيصه وتقييده، وهي حجة في جميع أبواب المعاملات فيما لا يوجد هناك دليل خاص يخالفه.
2- هل القاعدة مختصة بالأموال أو تشمل «الحقوق» وغيرها :
قد عرفت ان ما ورد في الاخبار هو عنوان «الأموال» فقط، وان الناس مسلطون على أموالهم، ولكن قد يضاف اليه «و على حقوقهم» ولكن لم نجد به رواية عدا ما أشار إليه في الجواهر في كتاب الرهن عند الاستدلال على جواز إسقاط الضمان في الرهن بقوله «و دعوى عدم صحة إسقاط مثل ذلك يدفعها عموم تسلط الناس على حقوقهم وأموالهم» «41» وقد عرفت انه لم ينقل هذا العنوان في سائر أبواب الفقه، وكأنه أخذه من بناء العقلاء وقبولهم سلطنة كل ذي حق على حقوقه، بعد عدم ردع الشارع عنه.
أو أنه تمسك في ذلك بقياس الأولوية، فإن الإنسان إذا كان مسلطا على أمواله كان مسلطا على حقوقه بطريق اولى.
واما تسلط الناس «على أنفسهم» فلم يرد في نصوص الباب، ولا كلمات الأصحاب، في شيء من أبواب الفقه فيما تصفّحناه.
فان كان المراد تسلط الإنسان على نفسه في أبواب الإجارات، فيجوز له ان تكون أجيرا على كل أمر مشروع بأي أجرة أرادها وأمثال ذلك، فلا شك في ثبوت هذه السلطنة له، بل يمكن ان يقال انه من قبيل الأموال لأن أفعال الإنسان الحر وان لم يكن أموالا بالفعل ولكنها أموال بالقوة، فتأمل.
وان أبيت عن ذلك فعمدة ما يدل على تسلط الإنسان على أمواله من بناء العقلاء يدل على تسلطه على نفسه من هذه الناحية.
وكذلك بالنسبة إلى عقد النكاح وأشباهه فإنه مسلط على نفسه من هذه الناحية في كل أمر مشروع وجميع ما يدل على اشتراط الاختيار وعدم الإكراه والإجبار في أبواب النكاح وشبهها تدل على عموم هذه السلطنة. فتسلط الناس على أنفسهم من هذه الجهات ممّا لا يرتاب فيه.
وكذلك بالنسبة إلى إرادته في طريق طاعة اللّه وفعل ما يجوز له فعله بحسب حكم الشرع بل قد يعبّر عن هذه السلطة بالملكية كما ورد في قوله تعالى حكاية عن موسى عند عصيان بني إسرائيل وخروجهم عن امره {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] .
وان كان المراد تسلط الإنسان على نفسه بان يقتل نفسه من دون اي مبرّر أو إلقاؤها في التهلكة في غير ما هو أهم منه بل إيراد نقص على أعضائه وضرر عظيم على جسمه أو عقله فإن شيئا من ذلك غير جائز وهذا النوع من التسلط لم يثبت لأحد على نفسه.
ولكن قد عرفت انّه لم يثبت مثل هذا في باب الأموال أيضا فلا يجوز لأحد إتلاف ماله بغير مبرر ولا إحراقه ولا إفساده فلو كان هناك دليل على عموم التسلط على الأنفس كان قابلا للتخصيص بمثل هذه الأمور كما هو كذلك في باب الأموال والحقوق.
و الحاصل ان تسلط الناس على أنفسهم- بهذا العنوان- لم يرد في آية ولا رواية ولكن مفادها ومغزاها ثابتة بحسب بناء العقلاء فيما عرفت توضيحه.
3- نسبة هذه القاعدة مع غيرها :
وأول ما نتكلم فيه هنا نسبتها مع قاعدة لا ضرر والا فقد عرفت ان عموم قاعدة التسلط مخصصة بكل ما ورد في أبواب المعاملات من الشرائط والقيود وكذلك كل ما ورد في أبواب المحرمات من تحريم بعض التصرفات في الأموال من الإسراف والتبذير وإنفاقها في طرق الحرام والفساد.
وفي نسبته مع قاعدة لا ضرر خلاف بينهم فيظهر من بعض المحققين كونهما من قبيل متعارضين.
قال المحقق السبزواري قدس سره صاحب الكفاية في مسألة جواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الجار، بعد الاعتراف بأنه معروف بين الأصحاب، ما هذا نصه: ويشكل جواز ذلك في ما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا كما إذا حفر في ملكه بالوعة فعد بها بئر الغير أو جعل حانوتة في صف العطارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة (انتهى).
وان اعترض عليه في الرياض بما حاصله انه لا معنى للتأمل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلا وتحصيلا، والخبر المعمول عليه بل المتواتر من «ان الناس مسلطون على أموالهم»، واخبار الإضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها تلك الأدلة محمولة على ما ذا لم يكن غرض إلا الإضرار، بل فيها كخبر سمرة إيماء الى ذلك، سلمنا لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح للمشهور، للأصل والإجماع «42».
وظاهر كلام الرياض وغيره معلومية تقديم قاعدة التسلط على قاعدة لا ضرر، اما من جهة حكومتها عليها، أو من جهة كونهما متعارضين بالعموم من وجه وتقديمها عليها بحكم الأصحاب.
والانصاف انه ليس قاعدة التسلّط حاكما على لا ضرر، بل ولا مقدما عليه عند التعارض، بل ولا من قبيل المتعارضين بل الحق هنا قول ثالث وهو القول بالتفصيل في المسألة.
توضيحه: ان الضرر الحاصل من عموم تسلط الناس على أموالهم على أنحاء:
1- إذا لزم من ترك التصرف المالك في ملكه ضرر عليه يعتد به.
2- إذا لم يلزم من تركه التصرف ضرر ولكن يفوت بعض منافعه.
3- إذا لم يلزم شيء منهما ولكن بدا له التصرف عبثا، أو لبعض المنافع الجزئية التي لا يعتد بها.
4- إذا كان قصده من ذلك التصرف الإضرار بالغير فقط من دون ان ينتفع به.
لا ينبغي الإشكال في عدم جواز الأخير فإنه القدر المتيقن من عموم لا ضرر، بل الظاهر ان مورد رواية سمرة هو بعينه هذه الصورة كما أشرنا إليه في بيان قاعدة لا ضرر.
واما الصور الثلاثة الأخرى فظاهر المحكى عن المشهور الحكم بالجواز فيها مطلقا، بل ادعى الإجماع عليه في الصورة الاولى.
ولكن صريح بعضهم كالمحقق، وظاهر اخرين كالعلامة في التذكرة والشهيد في الدروس (رضوان اللّه عليهم) استثناء الصورة الأخيرة حيث قيد الأول منهم الجواز بصورة دعاء الحاجة اليه، والباقي بما جرت به العادة. ومن المعلوم انه لم تكن هناك حاجة في الصورة الأخيرة، ولا جرت به العادة، ولعل كلمات غير هؤلاء الاعلام أيضا منصرفة عن هذه الصورة، فيبقى الكلام في الصورتين الأولتين.
وشيخنا العلامة الأنصاري (ره) حكم بتقديم جانب المالك فيهما، نظرا الى عموم قاعدة تسلط الناس على أموالهم، وقاعدة نفى الحرج، بعد سقوط لا ضرر من الجانبين.
والانصاف انّ قاعدة التسلط حيث انها متخذة من بناء العقلاء بإمضاء من الشرع، في حد ذاتها قاصرة عن شمول كل تصرف.
فأيّ عاقل يجوّز للمالك التصرف في ماله بما يوجب ضررا على جاره من دون عود منفعة اليه أو دفع ضرر منه، بل عبثا وتشهيا؟! بل ايّ عاقل يرخّص للمالك ان يجعل داره مدبغة بين دور المسلمين، وحانوتة حداد في صف العطارين بما يوجب فساد أمتعتهم وبضاعتهم، وعدم قدرتهم على المكث هناك؟
ومن هنا يظهر ان قاعدة التسلط بذاتها قاصرة عن شمول الصورة الرابعة من صور المسألة، حتى مع قطع النظر عن ورود أدلة لا ضرر، فدليل لا ضرر هنا تأكيد أخر على هذا الحكم.
والوجه في جميع ذلك ان تسلط المالك على ماله ليس إلا كسائر الاعتبارات العقلائيّة، لها حدود وشرائط معلومة، لا يتعدى منها، فانتفاع المالك بماله لا بد ان يكون في هذا المجال فقط.
إذا عرفت هذا يبقى الكلام فيما إذا تعارض ضرر المالك والجار، فيما لا يخرج تصرف المالك في ملكه عن الحدود العقلائية، وكذلك إذا لزم من ترك تصرفه فوت منفعة منه، من دون ورود ضرر عليه.
فالأول مثل ما إذا رفع جداره على جانب جدار جاره بما يتضرر منه كما إذا أوجب انخفاض قيمة داره، مع انه إذا لم يرفع المالك جداره تضرر من ناحيته، أو فات بعض منافعه.
ففي الصورة الاولى الذي هو من باب تعارض الضررين تتساقط قاعدة لا ضرر من الجانبين، لأنه من باب المنّة على العباد، ولا منّة في إضرار بعض المؤمنين بنفي الضرر عن بعض آخر، وحينئذ يرجع الى قاعدة التسلط.
واما في الصورة الثانية فتتعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة التسلط، ولكن المرتكز في الأذهان، بل قد عرفت دعوى الشهرة أو الإجماع من الأصحاب، على تقديم قاعدة التسلط، والظاهر انّه ليس من باب التعبد ووصول روايات خاصة إليهم لم تصل إلينا، بل من ناحية ان منع المالك عن التصرف في ماله إذا ينتفع به منفعة معتدا بها خلاف المنّة، فلا يدخل تحت قاعدة لا ضرر، وإذا سقطت تلك القاعدة لم يبق إلا قاعدة تسلط الناس على أموالهم.
هذا كله إذا لم نقل بان منع المالك عن ترك الانتفاع بماله يكون دائما من قبيل الضرر، فان كل مال معد للانتفاع وإذا منع منه كان ضررا فتأمّل.
4- نسبة قاعدة التسلط مع الواجبات المالية :
يبقى الكلام في النسبة بين هذه القاعدة وما دل على وجوب الزكاة والخمس في أموال الناس وما دل على ان للميّت حق في ثلث ماله إذا اوصى به، وكذا ما دل على حجر المفلّس بحكم الحاكم وغير ذلك من أشباهها.
لا ينبغي الشك في ورود بعض ما ذكر على قاعدة التسلط، فان ما يدل على تشريك اللّه ورسوله وذوي الحقوق الأخر في أموال الناس ينفي ملكية المالك بالنسبة الى هذا المقدار، وإذا انتفت الملكية انتفت السلطنة، وقال اللّه تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
وقال {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج: 24، 25] بناء على كونه ناظرا الى الحقوق الواجبة.
وكذا ما دل على ان اللّه عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم ان ذلك لا يسعهم لزادهم.» و«لو ان الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير» «43».
فان ظاهره ان الزكاة ليست واجبا تكليفيا فقط، بل هو حكم وضعي وحق للفقراء في أموال الأغنياء فقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103] وان كان ظاهرا في ان المال لهم ولكن كونهم مالكين انما هو بحسب الظاهر وقبل فرض الزكاة، لا أقول انهم شركاء على نحو الإشاعة، بل أقول ان لأرباب الزكاة حقا وضعيا فيها، وقد أوضحنا حال هذا الحق وآثاره في أبواب الزكاة، وانه حق لا كسائر الحقوق له أحكام خاصة واخترنا هذا القول من بين الأقوال الثمانية الموجودة في المسألة في كيفية تعلق حق الفقراء بأموال الأغنياء.
اما إذا لم يكن من هذا القبيل فلا شك ان أدلة تعلق هذه الواجبات المالية حاكمة على قاعدة التسلط لأنها ناظرة إليه، فلا يبقى شك في تخصيصها بها ولو لم تكن النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا.
الى هنا تمَّ الكلام في «قاعدة التسلط» ...
9 جمادى الأولى 1404 .
_____________
(1) مسند احمد ج 1 ص 446.
(2) بحار الأنوار ج 2 ص 273 (من الطبعة الجديدة).
(3) الرياض- كتاب «احياء الموات» ج 3 ص 377.
(4) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا- الباب 17- الحديث 1.
(5) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا- الباب 17- الحديث 2.
(6) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا- الباب 17- الحديث 3.
(7) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا- الباب 17- الحديث 4.
(8) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا- الباب 17- الحديث 8.
(9) الخلاف ج 2 ص 278.
(10) «السرائر» كتاب المتاجر باب بيع الماء وحريم الحقوق 249.
(11) جامع المقاصد ج 1 ص 207.
(13) جامع المقاصد ج 1 ص 224.
(14) مفتاح الكرامة ج 4 ص 111.
(15) حكاه الشيخ الأعظم في رسالة نفى الضرر في ملحقات المكاسب ص 375.
(16) الجواهر ج 22 ص 168.
(17) الجواهر ج 22 ص 478.
(18) الجواهر ج 24 ص 220.
(19) الجواهر ج 25 ص 228.
(20) الجواهر ج 26 ص 221.
(21) الجواهر ج 26 ص 310.
(22) الجواهر ج 27 ص 141.
(23) الجواهر ج 28 ص 237.
(24) الجواهر ج 28 ص 314.
(25) الجواهر ج 37 ص 59.
(26) الجواهر ج 36 ص 439.
(27) الجواهر ج 38 ص 123.
(28) الجواهر ج 38 ص 50.
(29) المكاسب المحرمة ص 59.
(30) المكاسب- البيع ص 83.
(31) المكاسب- البيع ص 85.
(32) ملحقات المكاسب ص 373.
(33) مستدرك الوسائل ج 3 ص 145.
(34) مستدرك الوسائل ج 3 ص 146.
(35) الوسائل ج 11 ص 342 أبواب جهاد النفس الباب 78.
(36) النسائي ج 7 ص 115.
(37) الوسائل ج 11 ص 93.
(38) الوسائل ج 11 ص 92 (أبواب جهاد العدو الباب 46).
(39) الوسائل ج 11 ص 92 (أبواب جهاد العدو الباب 46).
(40) الوسائل ج 18 أبواب كيفية الحكم ص 215.
(41) الجواهر ج 25 كتاب الرهن ص 228.
(42) الرياض كتاب احياء الموات ج 2 ص 377.
(43) الوسائل أبواب الزكاة الباب 1 الحديث 2.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|